من هدى القرآن - ج ١

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ١

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-04-1
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٧٣٦

سوف يضاعف من قوة الايمان ، وثباته في النفس.

(فَآتَتْ أُكُلَها ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌ)

إذ ان طبيعة الجنّة ، انّها تستدر الرطوبة وتكثفها في الفضاء ، فلا بد ان يصيبها طل ، مطر خفيف ، أو رطوبة مفيدة ، كذلك القلب المؤمن حتى ولو لم يواجه بنجاح تحديات خطيرة (كالانفاق في المجاعة) فانه سوف يمارس الأعمال الصالحة اليومية ، مما يحافظ على ايمانه.

(وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)

فلا تفكروا في الناس ولا تراؤوهم ، كفى بالله رقيبا على أعمالكم ، وكفى به مثيبا.

[٢٦٦] ويضرب الله : مثلا رائعا لما يصيب الإنسان من خيبة أمل بسبب إحباط اعماله ، يوم يحتاج الى الجزاء ، فيكتشف أنّ لذة الشهرة. أو السيطرة التي أرادها من عمله فاتبعه بالمن والأذى ، قد ذهبت بخيراته ، وأصبحت هباء منثورا ، يقول ربنا :

(أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَأَصابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ)

كم يحتاج هذا المسكين الى هذه الجنة ، التي هي خلاصة جهوده في الحياة الدنيا ..؟ ولكن كيف به إذا أحاط الخطر بجنته.

(فَأَصابَها إِعْصارٌ فِيهِ نارٌ فَاحْتَرَقَتْ)

هل يمكن تصور خيبة أمل هذا الشيخ المحروم من جهده ، كذلك هي حالة ذلك

٤٦١

الذي أنفق أمواله رجاء الثواب ، ثم بعث بنار المنّ والأذى ، فالتهمت ثواب إنفاقه ، ويوم احتاج الى ذلك الثواب لم يجده ، ووجد الله هناك أعدّ له نارا لاهبة ، جزاء ريائه وكبريائه السخيفة.

(كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ)

[٢٦٧] إذا الشرط الاول للإنفاق الصالح : ان يكون في سبيل الله ، والشرط الثاني الا يتبع بالمن والأذى ، فلا يستثمر من أجل تكريس الطبقية في المجتمع ، والشرط الثالث يبيّنه القرآن في هذه الآية ويقول :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ)

فعليكم باختيار أفضل ما عندكم ، سواء حصلتم عليه بالجهد ، كما المال والبناء ، وما صنعتم بأيديكم ، أو لم تصرفوا فيه جهدا ، كما الزرع والضرع .. المهم ان تختاروا أفضل أموالكم لتقدموه لله ، ولا تتوجهوا نحو الخبيث ، حتى تختاروه للإنفاق ، وفكّروا لو عكست الآية وكنتم أنتم الفقراء وغيركم ينفق عليكم هل كنتم تقبلون بهذا الخبيث؟

(وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا)

وتتساهلوا.

(فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ)

وليس بحاجة الى انفاقكم ، فهو غني وهو حميد في غناه. يتفضل عليكم من بحر

٤٦٢

غناه فيحمده الجميع وأنتم ـ عباد الله المؤمنين به ـ تخلّقوا بأخلاق ربكم ، وأعطوا من غناكم شيئا يحمدكم الناس عليه.

[٢٦٨] ولا تستجيبوا لصراخ الشيطان الذي يناديكم من داخل أنفسكم : لا تنفقوا لأنكم سوف تصبحون فقراء لو أنفقتم ، كلا .. إنّ الإنفاق يدوّر الثروة بين الناس ، ويسبب انتعاش الاقتصاد ، وبالتالي استفادة الجميع ، وحين يدعوكم الى العطاء ، فانّه يدعوكم الى أفضل منه ، ومن جهة اخرى ، الشيطان يخوفكم من الفقر ، فتمسكون أيديكم فيكرهكم الناس ، وتنتشر البغضاء ، وتتولد منها الفحشاء ، أو ليس الأفضل هو الإنفاق ، حتى ينتشر بدل الحقد : المحبة والوئام.

(الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ)

لانّه يخوفكم منه أجل ، ولكن لماذا يريد الإنسان المال؟ أليس حتى يتصرف فيه بحرية؟ أما إذا جاءه الفقير ، فانه سوف لا يتصرف في المال ، وإذا فما الفرق بينه وبين الفقير الذي لا يملك شيئا ، كلاهما لا يملك قدرة التصرف في المال.

ومن يخشى الفقر يهضم الحقوق ويظلم الناس ويشيع الفحشاء في المجتمع وهذا من عمل الشيطان.

(وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ وَاللهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ)

متمثلة في السلام داخل قنوات المجتمع. بالاضافة إلى تزكية النفس من رواسب الذنوب ، والنجاة من النار في الاخرة.

(وَفَضْلاً)

متمثلا في مردود العطاء في سبيل الله حيث ينزل بالطبع على المنفق بالخير

٤٦٣

الكثير.

(وَاللهُ واسِعٌ)

العطاء .. إذا أنفق في سبيله.

(عَلِيمٌ)

بمن ينفق فيجازيه خيرا من لدنه.

[٢٦٩] هذه حكمة وعلم للحياة ، ومعرفة بالقوانين الثابتة التي تحكمها ، أن العطاء يزيد من المال والبخل ينقصه .. ولكن ليس كل الناس يملكون الحكمة التي هي خير كثير ، لانّ التعرف على الحياة طريق للسيطرة عليها.

(يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ)

الذين أوتوا العقل ، ويستفيدون من عقولهم بالتنبيه والتذكرة ، لان العقل يكتشف الأشياء ويحيط بها علما ، بشرط ان يتوجّه إليها ، ومهمة التذكرة التوجيه الى العقل.

[٢٧٠] تأثير العطاء في الرخاء الاقتصادي ، تأثير فطري ترعاه سنة الله في الحياة ، سواء عرف الناس بالعطاء أم لا ، لان علم الناس أو جهلهم ، بالعطاء ليس له اثر في مدى تأثير العطاء في نمو الاقتصاد ، ويكفي : أنّ الله يعلم بذلك ، وهو الذي يزيد الثروة بالإنفاق لا الناس.

(وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللهَ يَعْلَمُهُ)

٤٦٤

فيجزي به خيرا ، سواء كان انفاقكم بسابق نذر أو لا ، اما الذين لا ينفقون أموالهم ولا يفون بنذورهم ، فحتى لو اعتقد الناس أنّهم فعلوا ذلك ، فلن ينفعهم ادّعاؤهم بالإنفاق ، أو ادّعاؤهم به في نمو أموالهم ، أو في منع الكوارث عنهم.

(وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ)

يمكنهم من نصرة الظالم ، الذي لا يدفع حقوق الناس أو حقوق الله.

[٢٧١] مهدت الآية السابقة للحديث عن كتمان الإنفاق ، وجاءت هذه الآية تشرحه بوضوح أكثر .. ما دام الإنفاق في سبيل الله وليس بهدف الاستعلاء على الناس ، فهو عمل صالح ولا يضره علم الناس به ، ولكن كتمانه أفضل ، لأنّه ابعد عن هواجس النفس ووساوس الشيطان ..

(إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ)

خصوصا إذا كان ذلك يشجّع الآخرين على العطاء.

(وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ)

فلستم بحاجة أبدا الى علم الناس .. بل الله يعلم ، وهو يزيدكم بالإنفاق خيرا ، ويدفع عنكم الضر ، ويكفر بعض السيئات ..

[٢٧٢] والإنفاق انما هو في سبيل الله ، وليست القيادة الاسلامية إلّا قناة للمال المنفق توصله الى مستحقيه ، وليست مسئولة عن إنفاق الأغنياء أكثر من ذلك ..

(لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ)

٤٦٥

انما المسؤول الاول عن اعمال الشخص هو ذاته ، لان فوائده واضراره تصيبه مباشرة.

(وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ)

ولا يحسب إنفاق عند الله ، الا ذلك الإنفاق الخالص لوجه الله.

(وَما تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ اللهِ)

والإنفاق لا يختص بالمال ، بل يمكن ان يشمل اي شيء يملكه المرء كالجاه حين يبذله في خير الضعفاء ، والعلم يدل به الجهال الى الخير ، وكل شيء ينفق فهو محبوب عند الله في كتاب ، مجزي به غدا.

(وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ)

[٢٧٣] الى هنا عرفنا شروط الإنفاق الصالح ، يبقى ان نعرف : اين ننفق الأموال ولمن؟

يجيب السياق على هذا السؤال.

(لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ)

بسبب منع العدو لهم ، كالذين اخرجوا من ديارهم ، لأنهم لم يستسلموا للطاغوت .. أو بسبب الضعف والمرض كالمحاربين القدامى الذين أكلت المعارك شبابهم ، ثم أصبحوا ضعفاء ، لا يستطيعون امتهان عمل ، ولا يمكنهم العودة الى عملهم السابق.

(يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ)

٤٦٦

لأنهم لا يسألون أحدا شيئا لكرامتهم وعفة نفوسهم ..

(تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ)

[٢٧٤] وكلمة اخيرة في الإنفاق في سبيل الله على الإنسان الا يضع حدا لانفاقه بل عليه ان ينفق ، أنى وجد ثغرة في المجتمع يحاول سدها بإنفاقه ، ويكون من

(الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ)

٤٦٧

الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلاَّ كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ ما سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللهِ وَمَنْ عادَ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٧٥) يَمْحَقُ

____________________

٢٧٥ [الربا] الزيادة من قولهم ربا الشيء إذا زاد والربا هو الزيادة على رأس المال وأربى الرجل إذا عامل في الربا

ومنه الحديث «من أجبى فقد أربى».

[يتخبطه] التخبط أصله الخبط وهو الضرب على غير استواء والخبط ضرب البعير الأرض بيده ويقال للذي يتصرف في أمر ولا يهتدي فيه فهو يخبط خبط عشواء. والتخبط المس بالجنون والتخبل لأنه كالضرب على غير استواء في الادهاش.

٢٧٦ [يمحق] المحق نقصان الشيء حالا بعد حال يقال الله يمحقه محقا فانمحق وامتحق أي هلك وتلف بذهابه حالا بعد حال والمحاق آخر الشهر لانمحاق الهلال فيه.

٤٦٨

اللهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ وَاللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (٢٧٦) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٢٧٧) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٢٧٨) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ (٢٧٩) وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٢٨٠) وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٢٨١)

____________________

[أثيم] المتمادي في الإثم.

٢٨٠ [نظرة] تأخير.

[ميسرة] الميسر والميسور بمعنى اليسار والغنى والسعة.

٤٦٩

الربا والفساد الاقتصادي

هدى من الآيات :

من الناس من ينفق في سبيل الله على الضعفاء ، ومنهم من يعكس تماما فيستغل الضعفاء ، ويبني كيانه الاقتصادي على انقاض ثرواتهم المحدودة ، هؤلاء هم المرابون الذين يتحدث عنهم القرآن هنا ، لأنهم الوجه المتناقض مع المنفقين الذين تحدث عنهم الدرس السابق.

والآية الاولى تحدثت عن النتائج المرة للخلط بين البيع والربا ، وبينت الآية الثانية الفرق بين المنفق في سبيل الله والمرابي ، فالأول يضاعف له الله والثاني يمحقه.

وبعد ان وجه القرآن الانظار الى الصلاة والزكاة باعتبارهما وسيلتي خلاص للمؤمن من ضغط الشهوات ومنها شهوة الاثراء السريع بالربا ، بعدئذ وجه نداء آخرا للمؤمنين بترك الربا والاكتفاء فقط برأس المال ، ولم يكتف القرآن بذلك. بل

٤٧٠

امر في الآية التالية بأن يعطي مهلة كافية لمن لا يستطيع تسديد ديونه ، اما الآية الاخيرة فقد ذكرتنا بالتقوى ، تلك الصفة النفسيّة التي يكون تجنب الربا واحدا من مظاهرها.

بينات من الآيات :

آثار الربا :

[٢٧٥] التجارة تزيد العقل ، لأنها تحمل بين طياتها مخاطر الخسارة ، فيفكر صاحب التجارة بكل أسلوب ينجح تجارته ويجنبها الخسارة ، وبالتفكر المستمر ينمو العقل اما لو اطمأن الإنسان الى مصدر ثابت من الربح يأتيه بلا تعب فلما ذا يفكر؟!

انه يعطل عقله لأنه لا يحتاج اليه شيئا فشيئا يضمر العقل حتى ينتهي ، والربا هو ذلك المصدر الثابت الذي ينتظره كل الكسالى حيث يأملون ان تكون لديهم ثروة معينة يقرضونها للفقراء مقابل جزء من جهدهم ، سواء خسر أولئك الكادحون أم ربحوا ، وبذلك فان اخطر إضرار الربا هو تشجيعه على تكوين طبقة من المترفين والمعتوهين في المجتمع.

(الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِ)

لا يجهدون أنفسهم إنما يقومون ويتحركون لمجرد اللهو حيث يخالطهم خبل من الشيطان.

إن هذا الخبل نتيجة طبيعية لاختيارهم السيء منذ البداية ، حيث انهم اختاروا الربا ، وخلطوا بينه وبين البيع ، فخالطهم الخبل وأصبحوا معتوهين طبيعيا ، لخلطهم

٤٧١

الباطل بين البيع والربا.

(ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا) وزعموا انه كما يجوز التعامل بالبيع والاكتساب به ، كذلك يجوز الاكتساب بالربا ، فالبيع عندهم هو الربا بالضبط ، ولكن بصورة اخرى : أنت في البيع تعطي سلعة وتأخذ ثمنا ، وهنا تعطي قرضا وتأخذ إيجاره. كلا ..

(وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا)

بالطبع ليس عبثا انما لهدف محدد هو : منافع البيع وإضرار الربا.

(فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ ما سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللهِ)

له ما سلف من رأس أمواله ، وهو مرجو لأمر الله إن يشأ يعذبه أو يتوب عليه.

(وَمَنْ عادَ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ)

[٢٧٦] والربا يسبب تكوين طبقة من المترهلين والعاطلين عن العمل المنتج ، فيؤخر اقتصاد المجتمع ، وهو في ذات الوقت يمتص جهود الفقراء ، ولا يشجعهم على العمل الجاد ، بينما الإنفاق في سبيل الله ، وإعطاء الفقراء صدقات لرفع عوزهم ، وتهيئة رأس مال لهم ، سوف يسبب في تدوير الثروة ، وتحريك عجلة الاقتصاد ، وتشجيع العاطلين على العمل من هنا تقع الصدقات ، في مواجهة الربا تماما.

(يَمْحَقُ اللهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ)

والصدقات دليل على ايمان المنفقين وشكرهم لنعمة الثروة ، بينما الربا دليل كفر المرابين الحقيقي! بالله ، بالرغم من تظاهرهم بالايمان كما انه عمل اجرامي

٤٧٢

واثيم.

(وَاللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ)

وربما جاءت كلمة الكفار بصيغة المبالغة للدلالة على ان المرابي يكفر مرتين ، مرة حين لا يدفع للفقراء الصدقة ، ومرة حين يمتص جهود الفقراء بالربا.

ما هو العلاج؟

[٢٧٧] كيف نتخلص من الربا؟ ان القلب البشري يهوى الثروة ، ومن الصعب التخلص من هذا الهوى؟

يقول القرآن الحكيم : أن طريقة الخلاص من شهوة الثروة هي الايمان بالله ، والعمل الصالح ، والصلاة ، والزكاة.

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ)

[٢٧٨] ان تنمية التقوى في النفس هي مسئولية المسلم نفسه ، فعليه الا ينتظر شيئا يربيه ، أو شخصا يعظه ، بل ليكن واعظ نفسه ومربيها ، وليتخلص من السلبيات وفي طليعتها الربا.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)

فاذا كانت بينكم وبين الناس ربا ، فارضوا منهم فقط برأسمالكم ، واعفوهم عن الربا.

[٢٧٩] إذ لو لم تتقوا الله ، فان الله يعلن عليكم حربا تتمثل في تخلف

٤٧٣

فتصادكم ، واشاعة الخلاف بينكم ، وتسلط العدو عليكم ، ونزول الكوارث الطبيعية بكم. وغيرها ..

(فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ)

[٢٨٠] يمكنكم استعادة رؤوس أموالكم التي دفعتموها للمقترضين دون أخذ الربا منهم ، ولكن لا يجوز لكم الضغط عليهم.

(وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ)

الذي استدان منكم.

(فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ)

فلا بد من إعطاء مهلة حتى يقدر على الوفاء ، والأفضل من إعطاء المهلة هو التغاضي رأسا عن الدين ، واعتباره صدقة.

(وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ)

[٢٨١] صحيح ان من الصعب عليكم ذلك ، ولكن يجب على الإنسان ان يتجاوز الدنيا في سبيل الحصول على الآخرة ، فغدا لا تنقذ الإنسان من عذاب الله ثروته أو شهرته.

(وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ)

٤٧٤

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا وَلا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلى أَجَلِهِ ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ وَأَدْنى أَلاَّ تَرْتابُوا إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ

٤٧٥

أَلاَّ تَكْتُبُوها وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٢٨٢) وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (٢٨٣)

٤٧٦

العلاقة التكاملية بين

التقوى والأنظمة الاجتماعية

هدى من الآيات :

تكميلا للحديث عن الإنفاق والربا ، تحدث القرآن في الآيتين ما قبل الأخيرتين من سورة البقرة عن التقوى في الدين. مما يحتاج اليه المجتمع ، وأمر ألا يعتمد أحد الطرفين على حسن سلوك الطرف الآخر ، بل يضبط عمله ، فيكتب دينه الى أجله ويستشهد عليه. والكتابة تكون بيد أمين ، يملي عليه صاحب الدين فيكتب. وان لم يكن هناك كاتب ، فلا بد أن يقبض صاحب الحق رهينة.

إن حكم الدّين ، مثل بسيط وواضح للعلاقة التكاملية بين التقوى كرادع نفسي للمسلم عن الظلم ، وبين الأنظمة الاجتماعية التي تمنع الظلم. فلا يمكن أن يكتفي المجتمع بواحد عن الآخر. إذ قد يكون الظلم ناشئا من عامل السهو والغلط والنسيان ، وقد تكون التقوى ليست قوية الى درجة منع الظلم ، ولكنها إذا قرنت بالأنظمة الاجتماعية تصبحان معا عامل ردع ضد الظالم.

لهذا نجد : ان الله يأمر بالتقوى لتكميل ثغرات الانظمة ، فالكاتب والشهيد

٤٧٧

وصاحب الحق ومن يقترض منه ، يجب ان يتزود كل أولئك بالتقوى ، حتى يمكنهم التعامل من دون ظلم. الكاتب يكتب بالعدل ، والشهيد يقوم بالشهادة لله ، وصاحب الحق لا يسأم من كتابة دينه صغيرا أو كبيرا ،

ومن عليه الحق (المقترض) لا يضار بالكاتب والشهيد ، كلّ هذه ثغرات قانونية لا تسد إلّا بالتقوى. وتأتي آية الدين لتكمل حديث القرآن هنا عن التقوى وربطها بالأنظمة الاجتماعية.

بينات من الآيات :

كتابة الدّين :

[٢٨٢] من هنا يقرر القرآن أن من المفروض أن يكون الدين الى أجل مسمى ، وأن يكتب حتى تسهل المطالبة به ، وبالتالي لا يحجم أحد عن إقراض أخيه بحجة الخوف من المماطلة فيه أو إنكاره.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ)

وهنا تلقى المسؤولية على المثقفين ، فعليهم أن يراعوا العدل في الكتابة فلا يزيدوا أو ينقصوا ، وأن يتحملوا مسئوليتهم في الكتابة فلا يحجموا عنها بسبب أو بآخر.

(وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ)

وليتذكر الكاتب ان الله هو الذي زوده بنعمة العلم ، فعليه أن يؤدي شكر هذه النعمة باستثمارها في خدمة المجتمع ، فلا يمتنع عن الكتابة وليكتب.

(كَما عَلَّمَهُ اللهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُ)

أيّ فليكتب الكاتب حسب ما يمليه عليه المقترض لا حسب ما يمليه الدائن ،

٤٧٨

لان المقترض هو الذي سوف يطالب بالمال في الأجل المحدد ، وعليه أن يعترف سلفا بما يمكن فرضه عليه.

(وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً)

وهنا يأتي دور التقوى حيث من الممكن أن يتلاعب المقترض في الأوراق ، فلا يعترف حين الكتابة بكل المال الذي استدانه ، أو بالأجل المحدد له ، فعليه أن يتقي الله ولا يغيّر في الكتابة الرسمية ، منذ البدء ، تمهيدا لأكل أموال الناس بالإثم.

(فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً)

كأن يكون مريضا أو صغيرا.

(أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ)

بأيّ سبب من الأسباب كأن يكون مسافرا ، أو شخصا كبيرا لا يمكن حضوره عند الكاتب أو ما أشبه ، فآنئذ يقوم وكيله ووليه بالإملاء على الكاتب ، ويعتبر إقراره وتعهده كافيين لمطالبة موكله أو وليه بالحق.

(فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ)

على الورقة الرسمية.

(فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ)

من الذين تقبل شهادتهم لمزيد الثقة فيهم ، ولكن لماذا تخلفت المرأة عن الرجل في الشهادة؟

السبب ان المرأة قد لا تضبط الشهادة بسبب انصرافها عنها ، وانشغالها عادة

٤٧٩

بأمور اخرى ، فكان من المفروض أن يزداد العدد لمواجهة النقص في النوعية.

(أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى)

وإذا طلب من الشهداء الحضور فعليهم الحضور لأنه من دون حضورهم قد يضيع الحق.

(وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا)

ويجب أن يكتب دينه أنى كان قليلا أو كثيرا.

(وَلا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلى أَجَلِهِ)

لأنه من دون الكتابة يتعرضون للنزاع ، والنزاع قليله كثير ، وقد يمنع النزاع الصغير من تدوير الثروة في المستقبل.

(ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ وَأَدْنى أَلَّا تَرْتابُوا)

فالله يحب ذلك لأنه يضع حدا لأكل المال الحرام ، وهو يسهل عملية الشهادة ، لأن النص المكتوب دليل قوي على الحق ، وهو بالتالي يمنع انتشار الريب في المجتمع الإسلامي ، واللاثقة التي تتسبب بدورها في تحجيم المعاملات التجارية.

(إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَلَّا تَكْتُبُوها)

فلا يكتب لتسهيل عملية التجارة من يد تاجر الى آخر ، مما يعرف بالطبع مواقع تداول السلعة فلا يتعرض للنسيان ، كما أن الإنكار فيها أو السرقة غير وارد. بسبب طبيعة انكشافها لدى الناس.

٤٨٠