من هدى القرآن - ج ١

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ١

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-04-1
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٧٣٦

والقمر يبليان كل جديد ويقربان كل بعيد ، ويأتيان بكل موعود ، فأعدوا الجهاز لبعد المجاز».

فقام المقداد ، فقال : يا رسول الله ما دار الهدنة فقال : «دار بلاء وانقطاع» ، ثم أضاف النبي (ص) قائلا : «فاذا التبست عليكم الفتن كقطع الليل المظلم فعليكم بالقرآن فانه شافع مشفع وما حل مصدق».

«الماحل الذي يخبر السلطان عن رعيته سعاية (وشاية) فاذا أخبر القرآن ربنا المتعال عن عمل سيء قام به أحد العباد فان الرب سبحانه يصدقه».

ثم أضاف النبي (ص) : «من جعله امامه قاده الى الجنة ، ومن جعله خلفه ساقه الى النار. وهو الدليل يدل على خير سبيل ، وهو كتاب تفصيل وبيان تحصيل ، وهو الفصل ليس بالهزل ، له ظهر وبطن ، فظاهره حكمة وباطنه علم ، ظاهره أنيق ، وباطنه عميق ، له تخوم على تخومه تخوم ، لا تحصى عجائبه ، ولا تبلى غرائبه. فيه مصباح الهدى ومنازل الحكمة ودليل على المعروف لمن عرفه

ويأتي رجل الى الامام الصادق (ع) ويسأل : ما بال القرآن لا يزداد على النشر والدرس الا غضاضة؟ فيجيبه الامام ابو عبد الله (ع) قائلا : «لان الله تبارك وتعالى لم يجعله لزمان دون زمان ، ولا للناس دون ناس ، فهو في كل زمان جديد ، وعند كل قوم غض الى يوم القيامة»

قال الرسول (ص): «فضل القرآن على سائر الكلام كفضل الله على خلقه» ، وقال : «القرآن غنى لا غنى دونه» وقال : «القرآن مؤدبة الله فتعلموا مؤدبته ما استطعتم»

وقال الرسول (ص): «ان أردتم عيش السعداء وموت الشهداء والنجاة يوم الحسرة ، والظل يوم الحرور ، والهدى يوم الضلالة ، فادرسوا القرآن فانه كلام

٢١

الرحمن وحرز من الشيطان ورجحان في الميزان»

ووصف الامام علي (ع) القرآن مرة فقال : «عليكم بكتاب الله فانه الحبل المتين ، والنور المبين ، والشفاء النافع ، والرأي الناقع ، والعصمة للمتمسك ، والنجاة للمتعلق ، لا يعوج فيقوم ، ولا يزيغ فيستعتب ، ولا تخلقه كثرة الرد ، وولوج السمع. من قال به صدق ومن عمل به سبق»

وقال أمير المؤمنين (ع): «كتاب الله تبصرون به ، وتسمعون به ، وينطق بعضه ببعض ، ويشهد بعضه على بعض»

والحارث الأعور من أصحاب الامام علي (ع) يقول : دخلت عليه فقلت : يا أمير المؤمنين إنّا إذا كنا عندك سمعنا الذي نسر به ، وإذا خرجنا من عندك سمعنا أشياء مختلفة ، مغموسة ، لا ندري ما هي فقال : أو قد فعلوها ، قلت : نعم ، قال «سمعت رسول الله يقول : أتاني جبرئيل فقال : يا محمد سيكون في أمتك فتنة. قلت : فما المخرج منها؟ قال : كتاب الله فيه بيان ما قبلكم من خبر ، وخبر ما بعدكم ، وحكم ما بينكم ، وهو الفصل ليس بالهزل ، من وليه جبار فعمل بغيره قصمه الله ، ومن التمس الهدى في غيره أضله الله ، وهو حبل الله المتين ، وهو الذكر الحكيم ، وهو الصراط المستقيم ، لا تزيغه الأهواء ، ولا تلبسه الا لسنة ، ولا يخلق عن الرد ، ولا تنقضي عجائبه»

هكذا تصف الأحاديث الشريفة المروية عن الرسول (ص) ، وعن الائمة الهداة تصف القرآن الحكيم.

نرجو من الله ان يوفقنا لاستيعاب هذه النصوص الكريمة والتفاعل مع القرآن انه ولي التوفيق وصلى الله على محمد واله الطاهرين.

٢٢

لماذا ندعوا الى القرآن

في سياق حديثنا عن البحوث التمهيدية لتفسير القرآن الحكيم ، نطرح السؤال التالي : لما ذا ندعوا الى القرآن؟

أول سؤال يطرح علينا هو السؤال عن السبب الذي ندعوا من اجله للقرآن الحكيم ، والواقع ان هناك عدة أسباب تفرض علينا العودة الى القرآن والتدبر فيه ، ونحن إذ نذكر بعضها بصورة مقتضبة لا نملك سوى الاعتراف بعجزنا عن الاحاطة بها جميعا.

اولا : لكل منا رغباته المشروعة التي يتمنى ان يجد سبيلا مستقيما إليها ، والقرآن الحكيم هو ذلك السبيل المستقيم المؤدي الى مصالح كل شخص ورغباته المشروعة.

وليست اهمية القرآن وعظمته منحصرة في انه يحقق للناس رغباتهم ومصالحهم المشروعة ويهديهم إلى سبل السلام المؤدية الى مصالحهم ، بل وأهم من ذلك ، لأنه

٢٣

يرسي قواعد للشخصية المتكاملة التي تستطيع بلوغ مآربها المشروعة بسهولة بالغة.

ثانيا : ومصالح الإنسان بدورها ليست سوى بعض تطلعاته الكبيرة ، واما البعض الاخر فيمكن الحصول عليه في بحث الإنسان الدائم عن الحق والخير وسعيه المستمر لتحقيقهما.

ان الإنسان يبتغي إقرار دعائم الحق كما يريد الوصول الى المصالح.

وأهم ما يصبوا اليه الإنسان هو التوفيق بين هدفيه هذين وهو تحقيق الحق ، ووصول المصلحة.

والقرآن هو ذلك الحق الذي يبتغيه البشر ويسعى من أجل معرفته وتنفيذه ، وهو اضافة الى ذلك يهدي الإنسان الى التوفيق بينه وبين المصالح الخاصة.

ونعود ونتساءل ، من منا لا يريد ان يكون إنسانا طيبا يبتعد عن الجريمة والفحشاء ، ويلتزم الطرق المستقيمة ويتحلى بالسلوك الممتازة ، ولكن كم واحد منا يستطيع ان يفعل ذلك؟ طبعا القليل فقط يستطيع ذلك لماذا؟

لان ضرورات العيش لا تدع فرصة للفرد للتفكير في الخير والحق ، ولكن القرآن يوفر هذه الفرصة ، إذ انه يهدي البشر الى السبل القويمة للمصالح والتي لا تتنافى مع الخير والحق ، بل يتكامل معهما.

ثالثا : نصطدم في حياتنا بعدة مشاكل فمن صديق ينقلب علينا ومن قريب يشاكسنا ، ومن خسارة تفاجئنا وقد تصل بنا المشاكل الى حد الخروج عن محور الضبط.

وبالتالي الانهيار في هاوية اليأس والضياع.

٢٤

ولكن القرآن الحكيم يضع الحلول الحاسمة للمشاكل جميعا بل وأكثر من ذلك يصنع الإنسان الذي هو قادر على وضع الحلول المناسبة في الوقت المناسب.

وهذا حول الاجابة عن السؤال التالي :

لما ذا نحن أساسا ندعوا الى القرآن الحكيم؟

ولكن الدعوة الى القرآن شيء. والاستفادة منه شيء أخر ، نحن بالاضافة الى دعوتنا الى القرآن ، ندعوا الى التدبر فيه لماذا؟ لان التدبر في القرآن هو الطريق المستقيم الى العمل به ، ولا يعمل بالقرآن غير ذلك الذي يتدبر في اياته الكريمة فيفهم محتواه.

ان التدبر في القرآن يعطي للإنسان فرصة لفهم محتوى القرآن الحكيم ، لان الله سبحانه وتعالى أودع في كتابه الكريم نورا يهدي البشر الى ربه العظيم فيؤمن به ، وبعد الايمان يطبق شرائعه.

من هنا ليس على الإنسان سوى امر واحد هو الانفتاح على القرآن واستعداد التفهم له وهذا يكون بالتدبر فيه.

يقول الله سبحانه وتعالى :

«قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ».

ان القرآن ذاته نور وليس علينا امام النور ، الا ان نفتح أعيننا ، وان نستقبل أمواج النور ، وان نرى بالنور كل الأشياء.

ان الكفار والفاسقين ، اختاروا لأنفسهم العمى فلم يفتحوا أعينهم على النور

٢٥

المبين ، وعملوا المستحيل في سبيل حجب النور الباهر عن التسرب الى قلوبهم خوفا من امكانية تأثرهم به وتنورهم بشعاعه الكبير.

لقد كان الكفار يتواصون بهذه المقولة التي نقلها القرآن الحكيم عنهم :

«وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ».

انهم كانوا يحذرون من النور ويتهربون منه ولقد جاء أحدهم الى الرسول يسأله عن قرآنه ، فلما تلى النبي بعض آيات الكتاب ضعف الرجل وشد على فم الرسول (ص) بيده قائلا : انا أناشدك الله والرحم الا تسكت.

ثم تولى الى قومه قائلا انه سحر يؤثر.

انه لم يستطع الصبر على تيار النور الذي كاد يلف قلبه لذلك اسكت النبي وتولى هاربا.

ان المطلوب من الإنسان هو الانفتاح على القرآن واستماع آياته بتدبر وتجرد.

اذن سوف يجد المرء كيف تحدث المعجزة.

لقد حاول رجل مجرم ان يتسلق جدارا لينهب المال ويغتصب النساء فسمع صوتا ينبعث من داخل البيت ويتلو هذه الآية الكريمة :

«أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ».

فاستمع الى الآية بضع ثوان ثم انفجر باكيا وقال : بلى آن الوقت الذي يخشع قلبي القاسي لذكر الله. وما نزل من الحق ، بلى آن فهبط من الجدار وتولى بوجهه شطر المسجد واعتكف فيه الى الأبد ، ان تدبر هذا الرجل في آية واحدة حوله من مجرم

٢٦

متمرس بالجريمة الى معتكف في محراب العبادة ، فكيف إذا تدبر الإنسان في كل القرآن أفلا يتحول من رجل الى ملك؟ بل والى من هو فوق درجات الملك.

نرجو من الله ان يجعلنا من الذين يتدبرون في القرآن ، وفي آياته الكريمة ويحصلون منها على النور المبين انه ولي التوفيق.

٢٧
٢٨

الفصل الثاني :

مسائل قرآنية

ـ ضرورة التدبر في القرآن

ـ القرآن والتفسير بالرأي

ـ القرآن بين التزكية والتعليم

ـ القرآن الحكيم بين الظاهر والباطن

ـ القرآن الحكيم بين المحكم والمتشابه

ـ القرآن الحكيم والأحرف السبعة

ـ القرآن الحكيم وإثبات معانيه

٢٩
٣٠

ضرورة التدبر في القرآن

هذه هي فوائد القرآن. وهي بالذات الأسباب التي تدعونا إلى التدبر فيه. لأن القرآن لا يفيد إلا من عمل به .. ولا يعمل به سوى الذي يتدبر فيه فيفهم.

بل ان التدبر في القرآن هي الوسيلة الوحيدة للعمل به. إذ أن الله تعالى أودع كتابه الكريم ـ نورا يهدي البشر إلى ربه العظيم. فيؤمن به ـ وبعد الايمان يطبق شرائعه ، من هنا ليس على الإنسان سوى أمر واحد هو الانفتاح على القرآن.

واستعداد التفهم له. وهذا يكون بالتدبر فيه.

يقول الله سبحانه :

«.. قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ* يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» (١٦).

ان القرآن ذاته نور ، وليس علينا امام النور إلا أن نفتح أبصارنا لنراه ، ونرى به

٣١

الأشياء جميعا.

والتدبر في القرآن. لا يعني تحميل آياته الكريمة ، آراء وأفكارا اضافية كلّا. بل التسليم لعلوم القرآن ، والتأمل في معاني آياته وتبصر الحياة عبرها ، والسعي نحو فهم حقائق الطبيعة ، وآفاق النفس بها.

وهنا يمكن الفرق بين تفسير القرآن بالرأي الذي نهى عنه الدين أشد النهي. وبين التدبر في القرآن الذي أكّد عليه الدين أشد تأكيد.

وقد اختلط على البعض هذان الأمران. فحجب عن نفسه نور الفرقان زاعما أنه فوق مستواه.

بلى إن البشر لا يرقى الى مستوى القرآن ، ولكن شعاعه كما الشمس لا تزال تشرق على العيون البصيرة. فمن احتجب عنه باتباع هوى. أو تفسير برأي ، فقد ضلّ عنه ومن سلم له ، وفرّغ قلبه من كل فكرة سابقة حين يقرأه ، فان الله يهديه سواء السبيل.

يقول العلامة الطبرسي وهو يشرح الفرق بين التفسير بالرأي والتدبر في الذكر.

واعلم ان الخبر قد صح عن النبي (ص) وعن الأئمة القائمين مقامه (ع) ان تفسير القرآن لا يجوز الا بالأثر الصحيح ، والنص الصريح ، وروت العامة أيضا عن النبي (ص) انه قال من فسر القرآن برأيه فأصاب الحق فقد أخطأ ، قالوا وكره جماعة من التابعين القول في القرآن بالرأي كسعيد بن المسيّب وعبيدة السلماني ونافع وسالم بن عبد الله وغيرهم والقول في ذلك ان الله سبحانه ندب الى الاستنباط وأوضح السبيل اليه ومدح أقواما عليه فقال لعلمه الذين يستنبطونه منهم وذم آخرين على ترك تدبره والإضراب عن التفكر فيه فقال (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها) وذكر ان القرآن منزل بلسان العرب فقال (إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا) ، وقال

٣٢

النبي (ص) إذا جاءكم عني حديث فاعرضوه على كتاب الله فما وافقه فاقبلوه وما خالفه فاضربوا به عرض الحائط فبين أن الكتاب حجة ومعروض عليه وكيف يمكن العرض عليه وهو غير مفهوم المعنى فهذا وأمثاله يدل على ان الخبر متروك الظاهر فيكون معناه ان صحّ أن من حمل القرآن على رأيه ولم يعمل بشواهد ألفاظه فأصاب الحق فقد أخطأ الدليل وقد روي عن النبي (ص) انه قال القرآن ذلول ذو وجوه فاحملوه على أحسن الوجوه وروي عن عبد الله بن عباس انه قسم وجوه التفسير على أربعة أقسام تفسير لا يعذر أحد بجهالته وتفسير تعرفه العرب بكلامها وتفسير يعلمه العلماء وتفسير لا يعرفه إلا الله عز وجل ، فأما الذي لا يعذر أحد بجهالته فهو ما يلزم الكافة من الشرائع التي في القرآن وجمل دلائل التوحيد ، وأما الذي تعرفه العرب بلسانها فهو حقائق اللغة وموضوع كلامهم ، وأما الذي يعلمه العلماء فهو تأويل المتشابه وفروع الأحكام ، وأما الذي لا يعلمه إلا الله فهو ما يجري مجرى الغيوب وقيام الساعة. (١)

__________________

(١) مجمع البيان في تفسير القرآن ج ١ ص ١٣.

٣٣

القرآن والتفسير بالرأي

يزعم فريق من المسلمين أن التدبر في القرآن ، غير مسموح به إلا للذي أوتي نصيبا كبيرا من العلم ويستندون ـ في زعمهم هذا ـ الى بعض الروايات المأثورة التي نهت الناس عن تفسير القرآن بالرأي.

ولكن هذا الزعم غير منطقي أبدا. إذ أن الله كان أعلم بكتابه ، وبخلقه حيث أمرهم بالتدبر في آيات القرآن. بل حيث خاطب بالقرآن كل إنسان وفي كل أرض وفي كل عصر.

يقول الله سبحانه في كتابه :

«هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ* وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ» (١٣٨).

وهل يمكن أن يبعث الله بيانا للناس جميعا ، ثم ينهاهم عن التفهم له ، أو التدبر فيه ، إذا فما فائدة البيان؟

٣٤

ان خطابات القرآن ـ تهتف بالناس كافة وتقول يا أيها الناس ـ أو بالمؤمنين جميعا. وتقول يا أيها الذين آمنوا ، وهذا يعني أن الله يريدهم أن يسمعوا كلامه. ويتفهموه. فهل نستطيع أن نزعم أنه لا يجوز التدبر فيه؟

ولا يمكن أن نقول ان الروايات تنهى عن التدبر الذي أمر به الله. بل الأكثر منطقية القول بأن الروايات نهت عن شيء ، والآية أمرت بشيء آخر ، أو أن الروايات بينت حدود التدبر التي لا يجوز التجاوز عنها.

فأي شيء نهت عنه الروايات؟

الواقع أن على الإنسان أن يتبع الحق الذي يعرفه ويدع الذي لا يعرفه ، إن الله سبحانه يقول :

«وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ* إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً» (٣٦).

وكذلك لا يجوز على الإنسان ـ في شريعة الإسلام ـ ان يقول شيئا لا يعلم به.

قال الله سبحانه :

«وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ» (١٦٩).

وقد اعتبر القرآن القول بغير علم كبيرة يعظمها الله ويستحقرها العباد،فقال تعالى :

«وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللهِ عَظِيمٌ» (١٥).

ومن هنا لا يجوز أن ننسب فكرة أو عملا لأحد ، ما لم نتأكد يقينا انتسابهما

٣٥

إليه. كذلك لا يجوز تفسير كلام أي فرد إلا بعد التأكد من إرادته فعلا لما نفسره ، وإلا اعتبر ذلك نوعا من التحريف في كلامه وضربا من التهمة.

وتشتد خطورة الأمر بالنسبة الى الله العظيم ، فأي قول ينسب إليه يجب أن نتأكد بالعلم اليقين أنه قاله والا كنا قد افترينا على الله كذبا ،

«إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ» (١١٦).

وكذلك اي تفسير لكلام الله المجيد لا نعلم يقينا مطابقته للواقع يعد نوعا من الافتراء على الله. لأنه يعتبر ضربا من نسبة القول إليه دون التأكد من ذلك.

وكان في الأمة الاسلامية ـ ولم يزل ـ فريق يريدون أن يستغلوا الدين لمصالحهم الشخصية ـ أو يستخدموه لاثبات أهوائهم المضلة ـ وهكذا يبدءون بتفسير الآيات القرآنية حسب آرائهم الخاصة. إن هؤلاء ـ يريدون أن يجعلوا كتاب الله ـ تابعا لأفكارهم فيحملونها ما لا تحتمل.

وقد أراد الإسلام ـ تطويق هذا الفريق ، فجاء في الكتاب :

«هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ ـ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ. وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ. يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ» (٧) (١).

هكذا وضح القرآن نوايا هذا الفريق الفاسدة ونهى ـ بشكل قاطع ـ عن تأويل القرآن للوصول الى الأغراض الفاسدة.

__________________

(١) سنتحدث ـ بإذن الله ـ عن المحكم والمتشابه في بعض الصفحات القادمة.

٣٦

وجاءت الروايات تنهى عما نهت عنه الآية أيضا. ولكن بتعبير آخر وهو (التفسير بالرأي) والذي يعني القول حسب الهوى الشخصي. وهو يقابل التفسير وفق الحق والواقع. بالرغم من ان القول بالرأي ـ بصفة عامة أو تفسير أي كلام منسوب الى أحد حسب الرأي ـ هو الآخر محرم ـ فان كل ذلك بالنسبة الى كلام الله ـ الحكيم يعتبر أشد حرمة ، لذلك خصت الروايات هذا الأمر بالذكر ـ وهو غير خارج عن القواعد العامة.

وإليك بعض تلك الروايات.

عن الامام الصادق (ع): «من فسر القرآن برأيه إن أصاب لم يؤجر ، وأن اخطأ فهوى ـ أبعد من السماء» (٢).

وروي عن النبي (ص): «من فسّر القرآن برأيه فأصاب الحق فقد اخطأ» (٣).

وروي عنه أيضا أنه قال : «من فسّر القرآن برأيه بوّء مقعده من النار.

» إذا فهناك حقيقة لا ريب فيها هي أن القول بالرأي ـ خصوصا في تفسير القرآن الحكيم ـ حرام أشد ما تكون الحرمة.

ولكن لا يرتبط ذلك بالتدبر في القرآن إذ التدبر ـ هو التفكير المركز في الآية لمعرفة الحقيقة التي تذكر بها معرفة تعيينية.

فالتدبر ـ إنما هو لتحصيل العلم بالقرآن ، حتى لا يقول الإنسان برأيه في تفسير القرآن وإنما بالعلم.

__________________

(٢) تفسير الصافي ـ الجزء الاول ص ٢١

(٣) المصدر

٣٧

القرآن بين التزكية والتعليم

للقرآن الحكيم هدفان اساسيان لو عرفناهما عرفنا بعض الجوانب الغامضة منه ، وهما تزكية الناس وتعليمهم. لقد أشار الكتاب إلى هدفيه هذين ـ في قوله سبحانه :

«هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ» (الجمعة).

فالآيات القرآنية التي تتلى على الأميين تهدف ـ تزكيتهم ـ ثم تعليمهم الكتاب والحكمة.

فما هو الفرق بين «التزكية» و «التعليم» وكيف أن القرآن يجمع بينهما مرة واحدة؟

١ ـ التزكية ـ هي تنظيف النفس البشرية من رواسبها الجاهلية سواء كانت من نوع الأفكار الباطلة ، أو المعتقدات الفاسدة ، أو الأخلاق السيئة.

التزكية هي تربية الإنسان المتكامل الذي يفجّر طاقاته العقلية والجسدية جميعا

٣٨

باتجاه الخير والحق.

وكلمة التزكية مشتقة من الزكاة وهي الطهارة. وأساس التزكية تقوية الارادة البشرية ، وتحكيم حس التحرر من الأهواء والشهوات. تحكيمه في سلوكه.

ولا تهدف التزكية أكثر من تطهير البشر وتنظيفه.

بينما التعليم يهدف ـ إضافة «المعارف» الجديدة للإنسان ـ لدفع عجلة البشر إلى الامام. وهو يعتمد على طاقة العقل الكامنة فيه.

فالعلاقة بين التزكية والتعليم تشبه إلى حد بعيد العلاقة بين تنظيف ماكنة السيارة وبين وضع الوقود فيها. إذ التنظيف يغسل المواد الضارة والوقود يضيف مواد جديدة.

فوقود الانسانية في مسيرتها الحضارية العلم. ولكن هذا الوقود لا ينفع بدون تنظيف ماكنة الإنسان من الأخلاق الفاسدة والأفكار الباطلة.

من هنا تكمّل عملية التزكية ـ عملية التعليم وتأتي الواحدة تتمة للأخرى.

٢ ـ أما كيف يجمع القرآن بين التزكية والتعليم؟ فهذا يجب ان نبحث فيه عبر عدة نقاط :

(أ) : أن القرآن الحكيم يوجه الناس إلى الحق ، بالحق ذاته ، فلا يجعل الباطل وسيلة لدعوة الناس إلى الحق شأن سائر الكتب التربوية التي قليلا ما تنظر إلى الوسيلة التي تحقق الهدف التربوي ، من هنا يبيّن القرآن الحكيم السنن الكونية والقوانين الفطرية التي تحكم الحياة وتوجه الناس إلى معرفتها لكي يزكوا أنفسهم بمعرفتها.

٣٩

وتوجيه القرآن نحو هذه السنن والقوانين يهدف أمرين :

الأول : هداية الناس إلى طريق صلاحهم والذي لا يعدو أن يكون التوفيق بين حياتهم وبين متطلبات السنن العامة.

الثاني : تعليم الناس لتلك السنن. ومن الطبيعي أن يختفي الهدف الثاني من ظاهر القرآن ، إذ أن سياق الكتاب ـ يسير باتجاه التزكية ـ مما ينبئ عن انها الهدف الوحيد الذي ينشده القرآن ولكن بالرغم من ذلك فان نظرة فاحصة تهدينا إلى البيانات العلمية التي تنطوي عليها الآيات. فمثلا في سورة الرعد نجد الآية الكريمة :

«إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ» (١١).

انها حقيقة تربوية يتعرض إليها الكتاب لتثبيت المسؤولية الشخصية في نفوس الأمّة.

وقبل هذه الآية وبعدها ـ تذكرات ـ بهذه الحقيقة.

ولكن النظرة الفاحصة تهدينا إلى وجود ما هو اشمل ـ وأوسع دلالة ـ في هذه الآية. انه القانون الاجتماعي الذي يربط بين الحضارة وبين تطوير الصفات النفسية. ويقول كلما كثر بناء قوم على هدمهم. كلما تقدمت بهم الحضارة ـ ولا يكثر البناء على الهدم على صعيد الواقع إلا بعد وجود قابلية نفسية مناسبة على صعيد الذات.

لقد جعل هذا القانون العلمي في هذه الآية وسيلة ، لتزكية الإنسان وتحميله مسئوليته الكاملة تجاه التطورات الخارجية.

٤٠