من هدى القرآن - ج ١٣

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ١٣

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-16-5
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٥٠٧

١
٢

سورة الدّخان

٣
٤

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

فضل السورة

قال الامام أبو جعفر الباقر (ع): «من أدمن قراءة سورة الدخان في فرائضه ونوافله بعثه الله عز وجل من الآمنين يوم القيامة ، وظلله تحت عرشه ، وحاسبه حسابا يسيرا ، وأعطاه كتابه بيمينه».

تفسير نور الثقلين / ج ٤ / ص ٦١٩

٥
٦

الإطار العام

عبر (٥٩) آية قصيرة نسيبا تطالعنا سورة الدخان الكريمة بثلاث موضوعات أساسية : ليلة القدر ، والفتن الكبرى ، وصور عن الجزاء الأوفى في الآخرة.

ما هي العلاقة بين هذه الموضوعات؟

كل شيء في الخليقة مقدّر سلفا ، ولكل جزئية منها غاية محدّدة سلفا ، أو يمكن لهذا الإنسان الأكمل خلقا بينها أن يترك سدى .. كلا .. الذرة المتناهية في الصغر ـ حسب علمنا ـ مخلوق مقدر بعلم ، ومسير لهدف ، وكذلك المجرة المتناهية في السعة ـ حسب علمنا ـ مخلوق مقدّر بعلم ، ومسير لهدف .. أفلا يكون لهذا الإنسان تقدير وهدف؟

لعل عقلانية الخليقة هي محور السورة. تعالوا إذا نوصل فروع بصائر السورة بهذا المحور.

٧

أولا : القرآن أنزل في ليلة القدر ـ المباركة ـ لأنه ينذر باسم مقدّر هذا الخلق ، وألّا يزيغوا عن ذلك التقدير الحكيم الذي قضي في ليلة القدر ، حيث يفرق فيها كلّ أمر حكيم. امرا من عند الله ، الذي أرسل الأنبياء ينذروا الناس به.

وكانت تلك رحمة من الله ان ينذر الناس ألّا يتجاوزا تلك السنن والأقدار ، فيتعرضوا للخطر.

وبعد أن يذكرنا بعظمة الخالق يقول : «(بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ) (وهو سبب كفرهم بهذه الرسالة وسيبقى ضلالهم حتى يأتيهم العذاب) (فَارْتَقِبْ) (يوم العذاب) (يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ* يَغْشَى النَّاسَ) (حيث يتساءلون ما هذا) (هذا عَذابٌ أَلِيمٌ) (فينادون) (رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ) (وهيهات) (أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ) (بعد أن انذرهم بما فيه الكافية) (وَقالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ) (ويأتيهم الخطاب)(إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عائِدُونَ) (ولعل هذا العذاب هو العذاب الأدنى ، الذي يأخذهم ليكون نذيرا للعذاب الأكبر ، وهذا بدوره من شواهد القيامة) (يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى) (فيومئذ لا ينفع الاستغفار) (إِنَّا مُنْتَقِمُونَ).

ويسوق القرآن قصة فرعون لتكون شاهدة على مجمل هذه البصائر التي سبقت. تقدير الله الحكيم ـ إنذار الرسل ، نزول العذاب ، والجزاء الحسن الذي أتاه بني إسرائيل ـ.

وتلك هي فتنة كبري تعرّض لها قوم فرعون فلم يفلحوا حيث جاءهم موسى بالبلاغ المبين ، فلما رجموه بالتهم دعا عليهم فجاءه النصر ، حيث أغرق الله فرعون وقومه ليتركوا وراءهم ثرواتهم دون أن تذرف السماء عليهم دمعة. أو ليسوا كانوا خاطئين ، حيث زاغوا عن القدر الحكيم ، والصراط المستقيم. تلك هي سنة الجزاء ،

٨

ودليل على ان الله خلق كلّ شيء بالحق؟!

وكذلك فقد نجّى الله بني إسرائيل من العذاب المهين ، واختارهم على علم (واستحقاق لديهم) على العالمين.

كيف يترك الإنسان سدى ، وبلا محاسبة ، وكيف تكون حياته الدنيا خاتمة المطاف ، ولقد أهلك الله قوم تبّع ، حيث كانوا مجرمين ـ وفي هذا دليل على حكومة الله العادلة على مجريات التاريخ ـ كما انه يكشف عن جانب من عقلانية الخليفة ، وأن الله لم يخلق السماوات والأرض وما بينهما إلّا بالحق ، ولكنّ أكثر الناس لا يعلمون ، وعدم علمهم دليل جهلهم لا عدم صحة هذه الحقيقة.

ويفصل الذكر الحكيم جانبا من جزاء الله في يوم القيامة ، ويقول : «إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقاتُهُمْ أَجْمَعِينَ» في ذلك اليوم لا ينفع الأنداد الذين يشركون بهم «يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً» وحتى لو انهم نصروهم فإنهم لا ينصرون.

وبعد بيان طعام شجرة الزقوم ، وكيف يقيد المجرم إلى عذاب النار ، يعرض الرب لنا جانبا من نعيم الله للمتقين ، ويختم القرآن السورة بأن تيسير الكتاب كان بهدف تذكيرهم فمنهم من يتذكر (وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ) فارتقب انهم مرتقبون.

وهكذا ينذر القرآن عباده بالجزاء الأوفى الذي هو رمز حقّانية الخليقة ، وعدالة الله وتقديره الحكيم.

٩
١٠

سورة الدّخان

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(حم (١) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ (٢) إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (٣) فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (٤) أَمْراً مِنْ عِنْدِنا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (٥) رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٦) رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (٧) لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (٨) بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ (٩) فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ (١٠) يَغْشَى

___________________

(٤) (يُفْرَقُ) : يبيّن ويميّز ويفصّل.

(١٠) (فَارْتَقِبْ) : انتظر.

١١

النَّاسَ هذا عَذابٌ أَلِيمٌ (١١) رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (١٢)

١٢

يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ

هدى من الآيات :

إنّ الصيغة التي ورد فيها الحديث عن ليلة القدر لا يختص بها وحدها ، وإنّما ينصرف إلى حقيقة هامة أيضا ، وهي أنّ الإنسان محاط بتدبير الله قضاء وقدرا ، وهاتان الكلمتان تردان في كثير من النصوص الشرعية كتابا وسنة وعلى ألسن المؤمنين ، فما ذا تعنيان؟

القدر هو السنن الإلهية التي تحكم الكون ، فالنار تحرق ، والماء يطفئ النار ، و.. و.. وأمّا القضاء فهو الحكم الإلهي القاطع بإجراء هذه السنن أو تعطيلها ، ففي هذه السنن يظل فراغ لا قانون فيه ، وهو ما نسمّيه اليوم بالصدفة ، ذلك انّ ارادة الله فوق القانون ، وقد أثبت العلم بعد التجارب المتكررة على مختلف القوانين هذه الحقيقة.

فمن واقع الإنسان اكتشف العلماء دواء لعلاج فيروس الانفلونزة ، واعتقدوا

١٣

أنّهم بواسطته يستطيعون السيطرة عليه سيطرة تامة ، ولكنّهم وجدوا أنّ عشرات الألوف من الشعب الأمريكي يموتون بسببه بالرغم من تعاطيهم ذلك الدواء ، والسبب أنّ أجسامهم لا تستجيب لمفعوله .. فالدواء إذن ينفع ولكن ليس إلى الأبد إنّما في حدود معيّنة.

ومثل آخر من واقع الطبيعة أنّ الخبراء بعد التفكير والتجريب والتخطيط أطلقوا (أبولو ١٣) الى الفضاء ، وبعد أن وصل إلى المكان المعيّن تعطل عن العمل ، وعسكريّا حاولوا غزو إيران ، مع الأخذ بعين الإعتبار كل الاحتمالات والاستعداد لمواجهتها ، ولكنّهم عند التنفيذ فشلوا ، وتهاوت طائراتهم كأوراق الخريف في صحراء طبس ... ممّا يدل على وجود هامش لا قدرة للإنسان في السيطرة عليه ، بل قد يبدأ الهامش من الإنسان نفسه فإذا به يفقد السيطرة على ذاته فضلا عن عمله ، فربما يختل توازنه الذهني ، وربما يتعطّل شيء في جسده.

ومن المعايشات اليومية قد يدفع الإنسان صدقة أو يعمل خيرا في أوّل يومه ، فيعرض له حادث مميت ينجو منه ، بينما يموت في يوم آخر بسبب تافه. أليس كذلك؟ إذن فهناك قوة غيبية تدبّر شؤوننا ، ولا يوجد شيء في الحياة يسمّى بالصدفة ، إنّما هي تدابير إلهية فوق الإرادات والسنن.

وروي أنّ أمير المؤمنين (ع) عدل من حائط مائل إلى مكان آخر ، فقيل له : يا أمير المؤمنين تفرّ من قضاء الله؟ فقال (ع) : «أفرّ من قضاء الله إلى قدره» (١) ، فقدر الله أنة الجدار المائل يسقط ، والذي يجلس عنده يتضرّر ، وقد وهب الله للإنسان العقل الذي يتعرّف به على هذه الحقيقة ، أمّا قضاؤه فإنّه تعالى يبعث في

__________________

(١) بح / ج (٥) ص (٩٧).

١٤

عقل الإنسان كشبه الهزّة الكهربائية تثيره وتذكّره ، وابتعاد الإمام (ع) عن الجدار كان بقضاء الله عزّ وجل.

ونقل لي أحد الأشخاص قائلا : كنت واقفا في الشارع أبحث عن سيارة توصلني إلى نقطة معينة في إحدى العواصم ، وفي الأثناء توقفت إلى جانبي سيارة أجرة ، ولكنّ السائق رفض جلوسي في المقعد الأمامي إلى جانبه ، الأمر الذي منعني عن الركوب في هذه السيارة ، فاستقلّيت سيارة أخرى ، وبينما كنّا نسير رأينا جمعا من الناس وكأنّ حادثا ما وقع في الشارع ، وحيث نزلت لمعرفة الخبر وجدتها سيارة الأجرة التي رفض صاحبها ركوبي في المقعد الأمامي ، وقد تحطّمت ومات السائق والراكب الذي الى جانبه .. فالقدر الطبيعي لهذا الشخص أنّه يموت ، ولكنّ القضاء يتدخّل ليبدّل الأمر ، وينقذ هذا الإنسان.

وأمثال هذه القصص والحوادث تتكرّر بكثرة في حياتنا اليومية ، ونحن نعايشها أو نسمع عنها ، ولكنّنا لا نبصر ولا نعتبر. وفي هذه السورة تركيز على هذا الوعي (أنّ في الكون يدا غيبية تدبّر شؤونه) ، وذلك لا يعني أنّها وحدها تفعل كل شيء مباشرة ، وأنّه لا نظام في الحياة ، كلّا .. إنّما النظام موجود ، ولكن هناك أيضا من يجريه ويهيمن عليه فيجريه أو يعطّله متى شاء ، وهو الله عزّ وجل ، فإذا بالنار التي تحرق يتعطّل قانونها في قصة إبراهيم (ع) ، وإذا بالعصا تصير حية كأنّها جان ، وهكذا الكثير من الشواهد الأخرى.

بينات من الآيات :

[١] [حم]

بالإضافة إلى كون الكلمات المقطعة رموزا وإشارات تهدينا إلى القرآن ذاته ، أو أنّها رموز بين الله وأوليائه (وهو أفضل ما قيل فيها) ، فإنّها تنسجم بتناغمها

١٥

وأجراسها اللفظية مع طبيعة السورة ذاتها نفسيّا وأدبيّا.

[٢ ـ ٣] وفي هذه السورة يقسم ربنا بعد تلك الحروف بالقرآن نفسه ، والذي يتألّف منها ومن أشباهها ، للدلالة على مدى عظمته وجلالة قدره.

(وَالْكِتابِ الْمُبِينِ* إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ)

هي ليلة القدر في شهر رمضان ، التي عدلت بخيرها وبركتها ألفا من الشهور .. وإنّما أنزل الله الكتاب لهداية الناس إلى الحق بترغيبهم فيه وتحذيرهم من عواقب الضلال والباطل.

وقد تساءل المفسرون : كيف نزل القرآن في ليلة القدر وقد تنزلت آياته على امتداد ثلاث وعشرين عاما ، وقد بيّن ربنا حكمة تنجيم القرآن بقوله : «وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً». (١)

قالوا ـ حسب النصوص ـ : إنّه أنزل جملة واحدة إلى مقام سام في السماء الرابعة جعله الله مسجدا لملائكته حيث يدخله كل يوم سبعون ألف ملك ثم لا يعودون إليه أبدا ، يسمّى بالبيت المعمور ، وقد جعل الله الكعبة بإزائه. (٢)

وقالوا : إنّ الرسول كان على علم بما في الملأ الأعلى ، ولذلك أمره الله بألّا يعجل في بيان القرآن : «لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ». (٣)

(إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ)

__________________

(١) الإسراء (٣٢).

(٢) راجع موسوعة بحار الأنوار / ج (٩) ص (١٦٣) وما بعد.

(٣) القيامة / (١٦).

١٦

والإنذار هو هدف القرآن وسائر الرسالات الإلهية ، ذلك أنّ الأمم تبدأ بالانحراف عن هدى الله حتى تقف على شفا حفرة من النار والعذاب ، فيبعث الله لها بمنذر وكتاب لإنقاذها.

[٤ ـ ٥] وقد شرّف الله ليلة القدر بأمرين :

أوّلا : حيث أنزل فيها كتابه الكريم الذي بعث به الإنسانية مقاما محمودا أهّلهم به لجناته ورضوانه والزلفى من مقامه الأعلى.

وإنّما شرف الزمان بما يقع فيه من حوادث عظيمة ، وهل هنالك حادثة أعظم من وحي ربّ العزّة؟! أو سمعت كيف كادت السموات يتفطّرن من فوقهن لمّا مرّ بهن وحي الله العظيم؟! أو ما قرأت أنّ القرآن لو انزل على الجبال لتصدّعت؟!

حقّا إنّها ليلة مباركة عظمت وشرّفت في السموات والأرض ، ويحق لنا أن نكرمها بالعبادة.

ثانيا : لقد جعل الله ليلة القدر ليلة الوحي في كلّ عام حيث ينزل فيها ملائكته كل عام والروح من كل أمر ، وحيث يستقبل الأنبياء ومن بعدهم الأوصياء وصيّا بعد وصي رسل الله الذين يفصلون لهم ما قدّره الله لعباده جميعا.

(فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ)

شؤون العباد ليست تماما بأيديهم ، بل لعلّ أغلبها بيد القدر .. والتفريق ـ حسبما قال البعض ـ هو تفصيل ما أجمله الله في غيب علمه من حكم الخلق وأهدافه.

(أَمْراً مِنْ عِنْدِنا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ)

١٧

فالأمر إذن يرسل من عند الله كما القرآن ، أي أنّ القرآن منهاج عملنا في عالم التشريع ، بينما قدر الله وقضاؤه يرسمان خريطة حياتنا في عالم التكوين ، فكما يقدّر الله في ليلة القدر ما يتصل بحياتنا جزء جزء كذلك يرسل الأنبياء ليفصّلوا منهاج حياتنا كلمة كلمة.

[٦] وهذا التدبير الإلهي رحمة بالغة.

(رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ)

إنّ اليد الإلهية التي تسيّر شؤون الكون يد رحيمة وكريمة ، ومن هنا كانت البصيرة القرآنية إلى الحياة توحي بالاطمئنان والثقة ، فالمسلم الصادق يسلم لله ، وتطمئن نفسه لقدره وقضائه «أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ» فهو لا يخشى من الطبيعة والناس من حوله ولا من المشاكل ، لذلك فهو ينفق في سبيل الله ما استطاع دون الخوف من الفقر ، ويرجو من الإنفاق زيادة الرزق ، ويقدم على الأمور ، ولا يخشى العقبات والمشاكل ، بل ويرجو من ذلك تسخير الطبيعة في صالحه ، ولذلك فهو قليل الفشل ، لأنّ الفشل أكثر ما يأتي من خشيته.

ثم إنّ رحمة الله لا تنتهي عند حدّ معيّن ، إنّما تتسع أيضا لحاجات الإنسان المتجدّدة التي تعكسها دعواته.

(إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ)

الذي يسمع دعاء عباده.

(الْعَلِيمُ)

بنو إياهم ، ثم يستجيب لهم ، أو لا يستجيب لحكمة يعلمها.

١٨

[٧ ـ ٨] وربنا هو رب الكون بأسره ، ولكنّ بعض الناس يشرك به ، ويقسم الخليقة على آلهة شتى ، وهذه النظرة الضالة للحياة ليس سببها عدم ظهور آيات الربوبية في الكون من حولهم ، وإنّما لأنّهم لم يرتفعوا إلى مستوى المعرفة العميقة واليقين.

(رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ)

بلى. إنّ الموقنين هم الذين ينظرون للحياة نظرة توحيدية خالصة من الشرك ، فلا يؤمنون بإله إلّا الله عزّ وجل.

(لا إِلهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ)

فهو المتصرّف في مصائر الخلق ، ومن هذه صفته هو الإله ، والأولى بالعبادة من كلّ أحد سواه ، وما دام ربنا هو الذي يملك الموت والحياة فلما ذا نخشى غيره ونخضع له؟! لما ذا نتبع الطاغوت؟! ولماذا نقلّد آباءنا؟!

إنّهم ليسوا بآلهة حتى نعبدهم ، إنّما هم عباد مثلنا خلقهم الله.

(رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ)

سواء عبده الآباء أم أشركوا به ، ونحن يجب أن نتخذ هذه الحقيقة مقياسا لتقييم الأجيال وليس العكس ، وذلك لكي لا يؤثّر علينا انحراف الآخرين تأثيرا سلبيّا.

[٩] والسؤال الذي يطرح نفسه هنا : لماذا يضلّ البشر عن هذه الحقائق ، ويشركون بالله؟

والإجابة : لأنّهم يظنّون أنّ الحياة الدنيا هي نهاية المطاف ، فهي الهدف في

١٩

اعتقادهم ، وهذا يقودهم إلى الشك في المستقبل حيث الدار الآخرة ، ومن فرّغ حياته من الآخرة فقد أفقدها ، هدفها ، وجعلها مجرّد لعب.

(بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ)

إنّ المؤمن لا يتخذ الدنيا دار لعب ولهو ، لأنّه يعتقد بالمسؤولية والحساب عن كل قول وفعل يصدر منه ، بل عن كل حديث له مع نفسه ، بينما الذين يشكّون في الآخرة يقودهم شكّهم إلى النظرة الساذجة والهازلة إلى الحياة الدنيا.

[١٠] والقرآن يحذّر هؤلاء من العاقبة التي سوف يلاقونها نتيجة هذه النظرة للحياة ، فالشك في الآخرة لن يلغي المسؤولية فيها.

(فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ)

فكأنّها تشتعل نارا ولكن من دون ضياء ، وذلك أنّ النار في يوم القيامة لا نور فيها وبالذات في جهنم ، إنّما هي ظلمات فوق ظلمات ، وفي المجمع : إنّ رسول الله (ص) دعا على قومه لمّا كذّبوه فقال : اللهم سنينا كسني يوسف ، فأجذبت الأرض ، فأصابت قريشا المجاعة ، وكأنّ الرجل لما به من الجوع يرى بينه وبين السماء كالدخان ، وأكلوا الميتة والعظام (١). وقد وعد الله رسوله بانزال العذاب على المرتابين والمشكّكين في الجزاء.

[١١] وحين ينزل هذا العذاب فإنّه يغمر الناس من كلّ ناحية.

(يَغْشَى النَّاسَ هذا عَذابٌ أَلِيمٌ)

جزاء لما قدّمتموه في الدنيا من الأعمال والإعتقادات المنحرفة ، فإذا بهم

__________________

(١) مجمع البيان / ج (٩) ص (٦٢).

٢٠