من هدى القرآن - ج ١٤

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ١٤

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-17-3
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٤٧٢

١
٢

سورة الذاريات

٣
٤

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

فضل السورة :

في كتاب ثواب الأعمال بإسناده عن أبي عبد الله ـ عليه السلام ـ قال : «من قرأ سورة «الذاريات» في يومه أو في ليلته أصلح الله له معيشته ، وأتاه برزق واسع ، ونور له في قبره بسراج يزهر إلى يوم القيامة»

تفسسير الثقلين / ج ٥ / ص ١٢٠

٥
٦

الإطار العام

مثلما تذرو الأعاصير الحطام ذروا ، مثلما تحمل السحب وقر الغيث إلى الأرض العطشى ، مثلما تجري السفن الثقيلة في البحر سيرا ، وكما يقسّم ملائكة الله أرزاق العباد أمرا أمرا ، كذلك وعد الله صدق حقّا حقّا. متى؟ في يوم الجزاء الذي لا ريب فيه.

هكذا تنتظم آيات سورة الذاريات حول محور المسؤولية التي يهدينا إليها التدبير القائم في الخليقة ، وأنّ كلّ شيء خلق بقدر ، وإلى أجل ، ولحكمة بالغة. أفيترك هذا الإنسان الذي سخّرت له الأشياء سدى أو يمكن أن يكون خلقه عبثا بلا حكمة ولا هدف؟

كلّا .. قسما بالسماء المنتظمة كحلقات الدرع المتينة إنّ الرسالة حق ، وإنّما اختلفوا فيها أو انحرفوا عنها لأنّهم خرّاصون إن يتبعون إلّا ظنّا ، ولم يأخذوا الأمور بجد ، بل تغمرهم أمواج الأماني ، ساهين عمّا ينتظرهم ، ويسألون باستهزاء : متى يأتي الجزاء؟ هل يدرون أيّان يوم الجزاء عند ما يعرضون على النار عرضا ، وقبل أن

٧

يلقوا فيها يقال لهم : «ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ».

أو ليس هذا الجزاء الحق كان لإيقاظ الإنسان من سباته ، وإنقاذه من غمرات السهو؟ بلى. وفي الجانب الآخر أنظر إلى المتقين الذين آمنوا بالجزاء فتجنّبوا النار وما يجرّهم إليها في الدنيا. أين تراهم اليوم؟ إنّهم في جنّات وعيون ، وكما أحسنوا في الدنيا بالعطاء تراهم اليوم يأخذون عطاءهم من ربّهم. أيّ عمل عظيم قاموا به فبلغوا هذه الدرجات العلى؟ (كانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ) تبتّلا إلى الله ، وبالأسحار هم يستغفرون تطهّرا من الذنوب وتطلّعا إلى المغفرة والرضوان ، وقد وضعوا على أنفسهم في أموالهم حقّا مفروضا للسائل والمحروم غير الواجبات التي فرضت عليهم إحسانا وفضلا.

أفلا يكفي ذلك باعثا للصالحات ، داعيا إلى المكرمات. أفلا يكفينا ذلك باعثا للصالحات ، داعيا إلى المكرمات. أفلا يكفينا سهوا وغفلة وهزلا؟

وإذا نظرت إلى الأرض كيف مهّدت للحياة ، وإلى النفس كيف انطوت على عالم كبير اختصرت آيات الخليقة في كل خلية منها ، وإلى السماء كيف يتنزّل منها رزق الله وما وعده الداعين من فضله .. لعرفت أنّه الحق كما أنّك لا ترتاب في نطقك.

ويضرب القرآن مثلا من ضيف إبراهيم المكرمين : كيف بشّروه بغلام عليم لأنّه أطاع الله ، وحملوا العذاب إلى قوم لوط لأنّهم كذّبوه. أو ليس ذلك دليلا على أنّ وعد الله صادق ، وأنّ الدين لواقع ، وأنّ الرسالة حق لا يحتمل السهو واللهو والسخرية.

كما أنّ استجابة الدعاء لامرأة إبراهيم العجوز العقيم لشاهد صدق على تدبير

٨

الله للخلق ، وأنّ وعده لصادق عند ما أمرنا بالدعاء وضمن الإجابة.

ويقصّ السياق عاقبة فرعون الذي كذّب برسالة موسى الذي جاءه بسلطان مبين فأخذه الله وجنوده فألقاه في اليمّ غير مأسوف عليه .. كذلك يشير إلى قصة عاد الذين أرسل عليهم ريحا مدمّرة ، وقصة ثمود الذين أخذتهم الصيحة ، وقصة قوم نوح الذين لفهم الطوفان ، كلّ أولئك الذين فسقوا عن أمر الله فدمّر عليهم ، فهل هذا سهو أم هزل؟

كلّا .. ما خلق الله السماوات والأرض إلّا بالحق والحكمة. فما هي حكمة خلق الجنّ والإنسان (بما أوتيا من حرية القرار)؟

تعال ننظر إلى السماء التي بناها الله بقوّة وإنّه لموسعها ، وإلى الأرض فرشها برحمته ، وخلق من كلّ شيء زوجين ، لعلّنا نذكر وحدته وحسن تأليفه وتدبيره.

على أيّ بصيرة تشهد كلّ هذه الحقائق؟ أو ليس على أنّه سبحانه المدبّر والسلطان المهيمن؟ ألّا نفرّ إليه لنأمن في كهفه عواصف الفتن ، وقواصف العذاب ، سالمين من فتنة الشركاء والأنداد الذين ينهبون في الدنيا حقوقنا ويقودوننا في الآخرة إلى سواء الجحيم؟

من أجل هذا جاء الرسول وجاءت سائر الرسالات ، ولكنّ الناس تمرّدوا وقالوا عن كلّ واحد منهم شاعرا أو مجنونا ، فهل تواصوا بذلك أم هم قوم طاغون؟

ذرهم في غيّهم غير ملوم عليهم ، وتوجّه للقاء المؤمنين فذكّرهم. إنّ الذكرى تنفعهم.

وكذلك جاء الرسل لتحرير الإنسان من نير العبودية الشركية إلى رحاب عبودية

٩

الربّ الواحد ، وإنّها لحكمة خلق الجنّ والإنس ، فما خلقهم الله ليربح عليهم أو يعطوه شيئا ، تعالى الله ذو القوة المتين أن يصل إليه نفع من عباده أنّى كان صغيرا.

إذا فما هي عاقبة هؤلاء الظالمين والكافرين؟ دعهم يستعجلون العذاب فإنّ نصيبهم منه مضمون ، وإنّهم لمعذّبون مثل سلفهم الغابر ، وإنّ لهم الويل في يوم المعاد عند ما يحيق بهم ما استهزءوا به.

وهكذا تختم السورة بما يبدو أنّه محور السورة الأساس أي حكمة خلق الله للإنس والجن المتمثّلة في عبادته.

١٠

سورة الذّاريات

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالذَّارِياتِ ذَرْواً (١) فَالْحامِلاتِ وِقْراً (٢) فَالْجارِياتِ يُسْراً (٣) فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً (٤) إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ (٥) وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ (٦) وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ (٧) إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (٨) يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ

___________________

(١) [الذاريات] : هي الرياح التي تذروا التراب وغيره.

(٢) [فالحاملات وقرا] : الأشياء التي تحمل حملا ثقيلا سواء كانت تلك الحاملات التي تحمل الأمطار أو السفن التي تحمل الإنسان وغيره أو نحوهما ، تسير بسبب الذاريات.

(٣) [فالجاريات] : أي السفن أو السحب.

(٤) [فالمقسمات أمرا] : هم الملائكة التي خلقها الله وجعلها تقسم أمور الكون.

(٧) [الحبك] : أي الطرائق والطرق الحسنة.

(٩) [يؤفك] : يصرف.

١١

أُفِكَ (٩) قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (١٠) الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ ساهُونَ (١١) يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (١٢) يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (١٣) ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (١٤) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (١٥) آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ (١٦) كانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ (١٧) وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (١٨) وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (١٩)

___________________

(١٠) [الخرّاصون] : الخرّاص الذي يخمّن بدون علم.

(١٧) [ما يهجعون] : الهجوع النوم ، أي قليلا من الليل ينامون ، ف (ما) زائدة أو المراد قليلا من الليل لا ينامون ف (ما) نافية.

(١٨) [بالأسحار] : السحر هو الثلث الأخير من الليل.

١٢

يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ؟!

هدى من الآيات :

في سورة الذاريات المكية التي تحتوي على ستين آية مباركة نقرأ قول الله سبحانه وتعالى في الآية السادسة بعد الخمسين : «وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ» ، وكما سبق ونوّهنا إلى أنّ بعض الآيات القرآنية تعتبر محورا للسياق القرآني في السورة ، وربما تكون الآية الواحدة في السورة مفتاحا لفهم السورة بأكملها ، والآية (المحور) التي جاءت السورة من أجلها ومن أجل تكريس مفهومها ومضمونها ، كما مثلا آية الشورى في سورة الشورى أو آية النور في سورة النور وآية الحديد في سورة الحديد أو ما أشبه.

ولعلّ الآية الكريمة : «وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ» هي الآية (المحور) في سورة الذاريات ، حيث تبعثنا نحن البشر إلى التوجّه بكلّيّتنا لربّ العالمين ، والتخلّص من الأثقال المادية والأصر النفسية والأغلال الاجتماعية ، فارّين إليه من ذنوبنا وجهالتنا ، هاربين إلى قوّته وقدرته من الضعف والعجز اللذين

١٣

نرتكس فيهما ارتكاسا.

وإنّ عبادة الله تعني التحرّر من كلّ عبودية أخرى ، من عبودية الهوى والشهوة والمال والسلطة ، والتقاليد والأعراف ، ممّا يمنح الإنسان الكرامة التامّة ، وآنئذ يرتفع إلى مستوى التقرّب إلى الله حتى يهب له الربّ قدرة لا تحد ، وحياة لا تنتهي ، جاء في حديث قدسي عن ربّ العزّة سبحانه أنّه يقول : «يا ابن آدم : أنا غني لا أفتقر أطعني فيما أمرتك أجعلك غنيّا لا تفتقر ، يا بن آدم : أنا حي لا أموت أطعني فيما أمرتك أجعلك حيّا لا تموت ، أنا أقول للشيء كن فيكون أطعني فيما أمرتك تقول للشيء كن فيكون» (١).

إنّه آنئذ يكون خليفة الله ليس في الأرض فقط بل في الطبيعة أيضا ، ففي الحديث عن الإمام جعفر بن محمد الصادق ـ عليهما السلام ـ أنّه قال : «من خاف الله عزّ وجل أخاف الله منه كلّ شيء» (٢).

بينما يكون العكس حينما يعبد غير الله ، حيث يصبح ضعيفا حقيرا أمامه ، لا يملك من حول أو قوة : «ومن لم يخف الله عزّ وجلّ أخافه الله من كلّ شيء» (٣)

بينات من الآيات :

[١ ـ ٤] تبدأ سورة الذاريات بآيات تشير إلى ما في الكون من مظاهر قدرة الله وتجلّيات تدبيره : فهذه الدورة الحياتية التي تبدأ بالرياح تذرو البذور وتنشرها لتتلاقح ، ثم تحمل السحب الثقيلة بالغيث وتجري في السماء بيسر ، بالرغم من الوقر الذي تحمله ، ثم يقسّمها الله حسب مساحات الأرض بتقدير حكيم تفيض على

__________________

(١) كلمة الله / ص ١٤٠

(٢) بحار الأنوار / ج ٧٠ / ص ٣٨١

(٣) المصدر

١٤

السهول والروابي والجبال وعلى الأراضي البعيدة كما القريبة.

وعشرات الألوف من السنن والأنظمة تتولّى تدبير هذه الدورة النباتية التي ينهض كلّ عامل فيها بدوره المرسوم ، وتتكامل العوامل حتى تبني حياة زاخرة بالخير والبركة.

أو ليس في ذلك عبرة تهدينا إلى ما ورائها من تقدير وتدبير ، وأنّ الإنسان الذي تخدمه هذه المنظومة المتكاملة من العوامل لا يمكن أن يخلق عبثا أو يترك سدى. إنّه هو الآخر جاء لحكمة بالغة ، ويذهب وفق سنّة نافذة ، وتحكمه سنّة الجزاء العادل.

هكذا تتواصل آيات الكتاب المبين ببلاغة معجزة وفي أيمان متلاحقة لتبصّرنا بأنّ الوعيد حق والجزاء واقع لا ريب فيه ، وهذه من أبرز غايات القسم في آيات الذكر الذي سوف نجده بتكرار في فواتح السور الآتية ، وسوف نذكّر ـ كما ذكّرنا مرارا ـ بغاياته المتنوعة.

(وَالذَّارِياتِ ذَرْواً)

إنّها الرياح التي تنشر الغبار والأوراق والبذور. ما أقدرها من قوّة ، وما أعظم تدبير من سخّرها لبثّ البذور في الفلوات والمفازات المتباعدة ..

تفكّر ما ذا لو سكنت الريح ، ولم تكن هذه العواصف الهوج والأعاصير الرهيبة ، كيف كانت تنتشر في الأرض بذور النباتات الطبيعية التي تكمل كلّ واحدة منها الأخرى ، وهي جميعا ضرورة قصوى في دورات الحياة النباتية والحيوانية.

إنّنا نمرّ عبر أراضي شاسعة ونجد آثار الحياة في بقعة بقعة وقيعة قيعة ، ولا نعرف

١٥

ما وراءها من أسرار ذرو النباتات وتلاقحها ، وما في كلّ واحدة من دور عظيم في منظومة الحياة المتكاملة ، ولو فكّرنا وعلمنا لما وسعنا إلّا أن نهتف مسبّحين : الله أكبر.

(فَالْحامِلاتِ وِقْراً)

بعد ما تستقرّ البذور في رحم الأرض تجري الرياح إلى مراكز السحب فوق البحار والمحيطات وتحمل كتل الماء الثقيلة بعيدا عن مجال تكوّنها لتسقي الأرض من أعلى فلا يبقى موقع جافّا ، ويفيض موقع آخر فيضانا مضرّا. من الذي قدّر أمر هذه السحب ومواقع سقياها. أو ليس المدبّر الحكيم؟

(فَالْجارِياتِ يُسْراً)

هذه السحب تجري بيسر ، ثم تهطل فتمتلئ الروافد والأنهر ، وتجري فوقها السفن بيسر لتصبح أفضل وسيلة لتبادل البضائع بين الأمم منذ أن خلق الله الإنسان وحتى اليوم.

(فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً)

إنّهم الملائكة الذين يشرفون بأمر الله على تدبير هذه العوامل الحياتية.

جاء في الحديث أنّ ابن الكوّا (وكان خارجيّا) سأل أمير المؤمنين (ع) عن «الذَّارِياتِ ذَرْواً»؟ قال : الريح ، وعن «فَالْحامِلاتِ وِقْراً» فقال : هي السحاب ، وعن «فَالْجارِياتِ يُسْراً» فقال : هي السفن ، وعن «فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً» فقال : الملائكة (١).

__________________

(١) نور الثقلين / ج ٥ / ص ١٢٠.

١٦

[٥] إذا كان معنى القسم في كلامنا ـ نحن البشر ـ اتصال موضوعة بأخرى بصورة اعتيادية فإنّ معناه في كلام الربّ اتصالهما بالحق. أرأيت لو قلت : وعمري إنّني صادق ، ما ذا يكون معناه؟ أو ليس معناه أنّك ربطت صدقك بعمرك ، وزعمت أنّهما موضوعتان متصلتان حتى لو فقدت إحداهما (صدقك) كانت الثانية (عمرك) مفقودة هي الأخرى؟

وقد لا تكون الموضوعتان متصلتين ببعضهما في الواقع بل في اعتبارك أو تقديرك فقط.

بينما إذا جاء القسم في كلام ربّنا فإنّ اتصاله بما أقسم له حق وواقع لا ريب فيه ، فإذا قرأنا في القرآن الكريم : «وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ وَطُورِ سِينِينَ وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ» وتلونا بعدها : «لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ» فإنّ معنى ذلك أنّ هناك اتصالا واقعيّا بين خلقة الإنسان في أحسن تقوم وبين ما سبق من التين والزيتون (اللذين بهما طعامه) ، (وَطُورِ سِينِينَ) (الذي يحمي البلاد من الأعاصير والأعداء ، ويوفّر الكثير من عوامل الحضارة) (وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ) (الذي يزرع السكينة في نفوس الناس) بين كل ذلك وقوام خلق الإنسان.

كذلك في هذا السياق حينما أقسم الله بالرياح التي تذرو ، والسحب التي تسقي ، والسفن التي تجري ، والملائكة الذين يقسّمون أمرا ، فإنّ هناك ربطا بينها وبين الحقيقة التالية :

(إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ)

أوّلا : لأنّ ربّ السماء المدبّر لهذه القوى العظيمة لا يخلف وعده ، وهل يخلف وعده إلّا العاجز ، وهل لنا أن نتصوّر شيئا من العجز في مقام ربّنا القوي القاهر

١٧

المقتدر الذي حمّل الرياح العاصفة هذه المقادير العظيمة من الماء ، وساقها من فوقنا إلى حيث شاء من الأرض الميتة فأحياها؟ كلّا .. إنّه صادق الوعيد ، وحقّ لنا أن نخشاه قبل أن يحلّ بأرضنا الدمار والبوار.

ثانيا : إنّ كلّ تلك القوى المحيطة بنا تؤدّي دورها حسب تقدير العزيز العليم ، فكيف لا يخضع الإنسان لذلك التقدير؟ كيف ترك يتبع هواه؟ ولماذا جاءته النذر من بين يديه ومن خلفه يحذّرونه من عذاب شديد؟ بلى. إنّه لم يترك إلى الأبد ، إنّما ليوم الفصل حيث ينتظره الوعيد الصادق. دعنا إذا نحذر الآخرة ، ونتقي ما يعرّضنا فيها للعذاب ، هكذا تتصل حقائق القسم السابقة بحقيقة الوعيد الذي أنذر به البشر.

[٦] (وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ الدِّينَ)

(ذلك الجزاء الأوفى الذي بشّرنا به لو اتقينا الرب) حق ، ويقع في ميعاده المحدّد.

قالوا : (الدِّينَ) هو الجزاء ، وأنّ يوم الدين هو يوم الجزاء ، وإذا فالدّين ـ حسب هذا الرأي ـ يقع في الآخرة.

ولكنّ الأمثال التي يضربها القرآن فيما يأتي من واقع التاريخ البشري في الدنيا لا تخص بالآخرة ، وحتى كلمة الدّين عامّة تشمل الدنيا ، بلى. الجزاء الأوفى في الحياة الأخرى أمّا الدنيا فالجزاء فيها محدود.

إنّ تقدير الله حكيم ، وتقسيم الملائكة الأمر يجري وفق ذلك التقدير ، فكيف لا يتصل بسلوك البشر وما يختاره لنفسه من خير وشر.

١٨

الأمنة والخوف ، التقدّم والتخلّف ، الغنى والفقر ، الصحة والمرض ، الوفرة والجدب ، كلّ ذلك يخضع لتقدير الربّ الحكيم ، ولعلّ وعي هذه الحقيقة يفتح أبواب المعرفة أمام الإنسان ، ويعطيه مفك ألغاز الخليقة من حوله ، ويضعه على المنهج السليم في بحثه عن العلل والأسباب. إنّه باختصار سبيله نحو الحضارة. أليس التخلّف ناشئ من الفصل بين سلوك الإنسان وواقعه ، إذا فإنّ الخلاص منه يكون بمعرفة اتصالهما ببعضهما اتصال العلة بالمعلول.

أكثر الناس يجهلون أو يغفلون عن هذه الحقيقة أنّ ظواهر الطبيعة وأحداثها تخضع لتقدير حكيم ، وأنّ سلوك كلّ واحد من أبناء البشر يؤثّر ـ بقدره ـ في هذه الظواهر ، لذلك فهم يتمنّون تحسّن حياتهم ، ولكن دون أن يسعوا إلى ذلك بتحسين سلوكهم ، والقرآن لا ينفك عن تأكيد هذه الحقيقة لعلّنا نبلغ أهدافنا بأقصر السبل وآمنها ألا وإنّه إصلاح الذات لإصلاح الحياة.

[٧] ثمّ يقسم الربّ تبارك وتعالى بالسماء التي أحكمت احكاما ، والتي تشبه الدروع المحبوكة ، المتصلة حلقاتها مع بعضها بمتانة وقوة.

(وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ)

لعلّ القرآن الحكيم يشبّه السماء بالدرع ، وعندئذ يعطي لها هذا التشبيه صفات ثلاث :

الأولى : أنّها قوية متينة كما الدرع.

الثانية : أنّها تحفظ الأرض من النيازك والغازات السامة.

الثالثة : أنّ كراتها شبيهة بحلقات الدرع فهي متناثرة ولكنّها ترتبط مع بعضها

١٩

البعض برباط وثيق. إنّ الإنسان يزعم بادئ النظر أن لا صلة للشمس بالأرض وللأرض بالقمر أو أنّه لا علاقة بين أجرام المنظومات الشمسية ومنظومات المجرّات ، كلّا .. هناك ما يشبه غلالة من الجاذبية تربط بين جميع الكرات والمنظومات والمجرات كما تتصل حلقات الدرع تماما ..

[٨] إنّ التفاعل بين أجرام السماء وأجزاء الأرض لا بد أن ينعكس على التكامل بين معارف الإنسان ، أو ليس العلم مرآة صافية لما في الواقع ، فلما ذا التناقض والاختلاف عند البشر؟ لماذا هذه الآراء المتباينة؟ وهذا الحشد الكبير من النظريات التي لا تستقر على أساس؟ أليس ذلك دليلا على مدى جهل البشر ، فلما ذا التعصب لآرائه في مواجهة بصائر الوحي؟ انظر إلى مواجهة بصائر الوحي؟

انظر إلى أقوالهم في الوحي ذاته. إنّهم لا يدرون كيف يبرّرون كفرهم بهذه الحقيقة التي تكاد تفرض نفسها عليهم فرضا! تراهم يقولون حينا : إنّه شاعر ، وحينا يقولون : بل هو مجنون ، ويزعمون حينا بأنّه مفتر كذّاب!

(إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ)

قالوا : المراد أنّهم اختلفوا في قضية الوحي أو الحشر أو الرسالة أو الولاية ، فيكون المعنى : إنّكم أمام قول (الوحي) قد اختلف فيه ، فما ذا يكون موقفكم ، هل تنكرونه كما كفر به الآخرون ، أم تسلّمون له كما قبله المؤمنون؟

[٩] وهذا القول المتمثّل في الوحي الإلهي تسنده الحجج البالغة ، وإنّما يكفر به الذين تبعدهم ضلالات الشيطان عنه.

(يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ)

٢٠