من هدى القرآن - ج ١

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ١

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-04-1
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٧٣٦

بينات من الآيات :

القتال لماذا وكيف؟

[١٩٠] ان القتال مفروض على الامة ، بشرط ان يكون بهدف تحقيق قيم الله في الأرض ، والتي هي ، في الوقت ذاته ، اهداف تتطلع الى تحقيقها كل الشعوب من إقامة الحق والحرية والعدالة والمساواة.

ولكن حتى هذا القتال يكون بعد ان تتعرض الامة للاعتداء. ومع كل ذلك يجب ان يظل القتال محدودا في اطار إنهاء الوجود العسكري للعدو ، وليس الاعتداء على الأنفس والأموال.

(وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ).

وليس من الصحيح ان يفكر أبناء الامة ان الاعتداء يجوز لهم ما داموا ينتمون الى رسالة الله. كلا ، إن الله لا يحب المعتدين أنى كانوا.

[١٩١] ولا يتحدد القتال بساحة المعركة بالذات ، بل يجوز ان تقتل الامة ، المفسدين انّى وجدتهم ، ما داموا قد استعدوا للقتال. ومن الحكمة ان تعطى للامة ، فرصة المبادرة بالحرب إذا وجدت ضرورة دفاعية إليها.

(وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ)

حيث وجدتموهم.

(وَأَخْرِجُوهُمْ)

من معاقلهم.

٣٤١

(مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ)

إنهم هم الذين بدأوا الحرب ضدكم وأخذوا يفسدون عليكم ، فهم بذلك أباحوا قتالكم لهم.

(وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ)

حيث انهم سوف يسلبون نعمة الأمن عند المسجد الحرام ، متى ما استغلوا ذلك في صالحهم.

[١٩٢] الا ان اندفاع الامة الى القتال ، يجب الا يخرج أفرادها عن اطار انضباطهم بتعاليم الله ، فالقتال متى ما اشتعل ، يستعد له المسلمون ، ولكن إذا توقف لا يعتدي المسلمون على الناس لمجرد حب القتال ، خصوصا إذا كان عند المسجد الحرام حيث جعله الله من قديم الزمان منطقة سلام.

(فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)

الهدف الحضاري للقتال :

[١٩٣] والقتال في حال اشتعاله ذو هدف حضاري هو القضاء على الفساد بكل ألوانه (التفرقة ، حكم الجبابرة ، الانظمة الباطلة ، أسباب الظلم) وإقامة حكم الله في الأرض ، لا حكم طائفة على طائفة ، أو اشخاص على اشخاص ، حكم الله الذي يطّبق على القادة كما يطّبق على الناس.

(وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ)

الدين بمعنى الالتزام بالسيادة ، اي حتى يلتزم الناس جميعا بحكم الله

٣٤٢

في الأرض.

مرة اخرى يذّكر القرآن بأن الهدف من القتال ، ليس القتال ذاته ، بل هو وسيلة مرحلية فقط.

(فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ)

الذين يعتدون على الناس ، فيسترد النظام الاسلامي حقوق الناس منهم بالقوة.

متى تحفظ الحرمات؟ :

[١٩٤] ويبقى سؤال : لماذا سمح الله للمسلمين بالقتال عند المسجد الحرام ، أو في الشهر الحرام ، حيث كان العرب يعتبرون القتال حراما فيهما؟ أفليس الإسلام دين سلام؟

ويجيب الله على هذا السؤال بالقول :

(الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ)

إن حرمة الشهر الحرام كانت تعطي فترة من الهدوء للعرب ، لعلهم يحلّون اختلافاتهم سلميا ، ولكن بعضهم كان يستغل هذا الهدوء ، لشن حروب عدوانية ضد المسلمين ، فأمر الله الامة بالرد عليهم. إذ ان الحرمات قصاص ، فما دام الفرد يحترم حقوق الآخرين ، تحترم حقوقه. اما إذا اعتدى عليها ، فان الواجب استرداد الحقوق منه بالقوة وهذه الآية تفتح آفاقا واسعة في التشريع الجنائي.

وبالطبع حتى هنا لا يجوز الاعتداء عليه أكثر من اعتدائه ، ويؤكد القرآن هذا الواجب وفي ذات الوقت يحدد أهم قضية أرادها من الحديث عن القتال هنا ويقول :

٣٤٣

(وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ)

الامة الاسلامية والفرد المسلم يجب ان يكونوا ملتزمين بحدود الله ولا يتجاوزونها ، وهذه من أهم مسئوليات الامة.

الإنفاق ضرورة قتالية :

[١٩٥] وبمناسبة الحديث عن القتال ، تحدث القرآن عن الإنفاق ، باعتباره ضرورة قتالية ، ذلك ان الاعداد للقتال قد يكون أصعب من القتال ذاته لذلك شدد القرآن على الإنفاق ، وربطه بمصير الامة وقال :

(وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ)

لان عدم الإنفاق سوف يوقع الامة في اخطار عظيمة.

(وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)

على كل فرد الّا يقتصر على حدود الواجب في الإنفاق ، بل ينفق أكثر من ذلك حسب طاقته ، وذلك هو الإحسان الذي يحبه الله ويحب من يصنعه.

إن أمتنا اليوم بحاجة ماسة ، للاستعداد لخوض معاركها المصيرية على أكثر من جبهة ، ولن يتم الاستعداد من دون العطاء ، العطاء بكل ألوانه ، بالجهد ، بالجاه ، بالمال ، ولكن قلة الوعي المستقبلي والانانية الذاتية وانعدام الثقة بالمجتمع ومؤسساته ، كل تلك أدّت الى كف الأمة عن الإنفاق ، وجعلها تخسر المعركة بعد الاخرى.

ان عودتنا الى تعاليم الدين في الإنفاق ، هي الضمانة الاكيدة لاسترداد عزنا المفقود ، وحفظ ما تبقى من مصالحنا وكرامتنا.

٣٤٤

(وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (١٩٦) الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ

________________

١٩٦ [أحصرتم] الإحصار المنع يقال للرجل الذي قد منعه الخوف أو المرض عن التصرف قد أحصر ويقال للرجل الذي حبس قد أحصر وأصل الباب الحبس.

٣٤٥

يَعْلَمْهُ اللهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى وَاتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ (١٩٧) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (١٩٨) ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٩٩) فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً فَمِنَ النَّاسِ مَنْ

_________________

١٩٨ [جناح] الجناح الحرج في الدين وهو الميل عن الطريق المستقيم.

[تبتغوا] الابتغاء الطلب.

[أفضتم] الإفاضة مأخوذة من فيض الإناء عن امتلائه فمعنى أفضتم دفعتم من عرفات الى المزدلفة عن اجتماع وكثرة. ويقال أفاض الناس في الحديث إذا اندفعوا فيه وأكثروا التصرف.

فالإفاضة في اللغة لا تكون إلّا عن تفوق أو كثرة.

٣٤٦

يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ (٢٠٠) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ (٢٠١) أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسابِ (٢٠٢) وَاذْكُرُوا اللهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقى وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٢٠٣)

٣٤٧

الحج مدرسة التقوى

هدى من الآيات :

بعد الصيام والجهاد يأتي دور الحج ، كمدرسة رسالية لتربية روح الالتزام في الامة. والهدف من الحج التقوى. لان واجبات الحج تشبه الى حد بعيد الصيام ، في انها تفرض اجتناب طائفة من الشهوات العاجلة بوعي واختيار مما يقوي الارادة ، ويزيد في الايمان. والحج يشبه الجهاد أيضا لان فيه اخطار السفر واحتمالات الموت وصعوبات الأعمال ومن هنا جاء في الحديث الحج جهاد الضعفاء.

والحديث هنا عن الحج ، لا يتناول الجوانب الاجتماعية منه كما نجد ذلك في سورة الحج بل يقتصر على الجوانب التربوية من الحج ، لطبيعة السياق الذي يتحدث عن التقوى كميزة اساسية في الشخصية الايمانية.

وفي الآيات الاخيرة نجد الحديث المباشر عن التقوى وبعض مظاهرة من فرض الرقابة الذاتية على الإنسان وابعاده عن الجريمة والنفاق. وقد تكررت كلمة التقوى في

٣٤٨

هذا الدرس خمس مرات.

بينات من الآيات :

[١٩٦] قبل كل شيء ، يجب ان يكون الحج أو العمرة خالصا لوجه الله ، لا يدخل فيه هدف آخر ، تجارة أو سياحة أو رياء. وعلى الحاج ان يمتنع عن الزينة بكل مظاهرها. حتى انه لا يستطيع ان يحلق رأسه ، وإذا منعه المرض عن متابعة رحلة الحج فعليه الا يحلق رأسه الا بعد ان يبعث بهديه (ذبيحته ـ أضحيته) الى مكة. فاذا ذبحت استطاع ان يتحلل من إحرامه ويحلق رأسه. وعند ما يضطر المريض الى حلق رأسه فعليه ان يفتدي حلقه بصيام أو صدقة أو ذبيحة.

الواجب الاخر في الحج : تقديم الهدي (الذبيحة سواء كان شاة أو بقرة أو إبلا) ومن لم يجد واحدا منها ، فعليه ان يصوم عشرة أيام ، ثلاثة في الحج وسبعة إذا عاد الى بيته. وأهل مكة وما حولها لا يجب عليهم الهدي.

كل هذه الفرائض واجبه من أجل تنمية روح التقوى في القلب والخوف من الله.

(وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ).

أولا : لا يجوز ترك الحج أو العمرة بلا سبب بل يجب الاستمرار فيهما وإتمامهما وهذا واجب اساسي في الحج.

ثانيا : يجب ان يكون الحج والعمرة خالصين لله.

والحالة التي يجوز فيها ترك الحج هي حالة الحصر (بمرض أو عدو أو ما أشبه).

(فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ).

٣٤٩

ابتداء من الشاة وانتهاء بالإبل.

(وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ).

عند بيت الله الحرام أو في مني ..

(فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ).

يستوجب حلق رأسه ، سوى يضره استمرار الشعر كما إذا أصيب بصداع دائم لا يبرئه سوى حلق الرأس ، أو كان حرجا بالغا عليه استمرار الشعر.

(فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ).

فاذا انتهى الخوف من العدو أو من المرض ، فعلى الإنسان الذي يأتي بحج التمتع وهو الذي يفصل بين عمرته وحجه فترة استراحة يبقى فيها بدون إحرام ، عليه ان يقدم الهدي.

(فَإِذا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِ).

اي عن طريق الإحرام للعمرة استطاع ان يتمتع فترة من الزمان حتى يأتي موعد الحج.

(فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ).

اما أهل مكة الحاضرين عند المسجد الحرام فيجوز لهم ان يأتوا بغير حجة التمتع ، ولا يقدموا الهدي.

(وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ).

٣٥٠

والهدف البعيد من الحج هو : ألا يتهاون المسلم في واجبات دينه ، وان يلتزم بحدوده لا يتقدم فيها قيد شعره ، لان الله شديد العقاب.

وفي هذه الآية نجد واحدا من أهم واجبات الحج وهو الإحرام ، يتحدث عنه القرآن في ثلاثة مظاهر : وهي مظهر النية ، ومظهر عدم حلق الرأس ، وينتهي بالذبح ، والإحرام هو ابرز اعمال الحج لذلك بدأ به القرآن الحكيم.

الإحرام :

[١٩٧] وفي هذه الآية نجد بعض مظاهر الإحرام وهي : حرمة الرفث (مباشرة النساء) بكل ألوانه وحرمة الفسوق (والحلف كاذبا بالله) وحرمة الجدال.

وخلال فترة الحج يجب ان يتقيد الإنسان بهذه الأمور ، والهدف منها : تنمية روح التقوى في النفوس.

(الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ)

لا يمكن ان يبدأ الإنسان حجه قبل شوال ، ولا ان يؤخره عن موسم الحج في ذي الحجة وربما يوحي هذا بان محرمات الإحرام لا تستمر بعد أيام ذي الحجة.

(فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَ).

فرض على نفسه الحج في هذه الأشهر.

(فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِ).

لماذا الجدال والفسوق؟

هل لكي يتظاهر الإنسان بأنه أهم من غيره ، ويزكي نفسه دون الآخرين ،

٣٥١

ما دام الله يعلم بما يفعله العباد ان كانوا صادقين في عملهم ، والكذب والادعاء لا يغني أحدا شيئا.

(وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى).

أفلا يتزود الإنسان لسفره؟

فلما ذا لا يتزود لسفر الاخرة وهو أطول وأوحش من اسفار الدنيا ، ولكن كيف نتزود؟

أفضل ما نتزود به : التقوى والالتزام بما أوجبه الله علينا ، إنه الزاد الوحيد الذي ينفعنا في ذلك الطريق الطويل الطويل.

(وَاتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ).

أنتم يا من تملكون حقيقة الانسانية وهي العقل اتقوا الله ، لأنكم تعرفون الله وتعرفون ان من يتقيه ينجو من نار جهنم ، وينجو من عذاب الدنيا.

إن التزود بالتقوى لا يختص بالآخرة بل يشمل اسفار الدنيا ، إن رحتلنا الشاقة في الدنيا بحاجة الى زاد ، بحاجة الى ارادة وعقل ومثابرة ، والتقوى هي التي تعطينا هذه الصفات المثلى والضرورية للحياة في الدنيا.

إن الذين لا يتسلحون بالتقوى فان اي مشكلة في الحياة يمكنها ان تصرعهم وتحول حياتهم الى جحيم.

ماذا بعد عمرة التمتع؟ :

[١٩٨] بعد فترة العمرة يتحلل الحاج من إحرامه ، ويبتغى من فضل الله ،

٣٥٢

ويتمتع بلذات الدنيا ، ويفكر في التجارة ، ويتزود بالعلم والأدب ، وبعدئذ يحرم مرة اخرى للحج ويقف في عرفات ، ويفيض منه الى المشعر ، ثم الى منى ، وبعدئذ يذهب للطواف ويقضي سائر مناسكه.

(لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ).

في الفترة بين الحج والعمرة في حالة التمتع.

(فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ).

حيث يقف فيه كل الحجاج ، ويبدو ان الافاضة من عرفات من ابرز واجبات الحج ، لأنها مسيرة ايمانية تذكرنا بطبيعة الدين ، انه حركة موجهة لهدف مقدس ، وسنجد في الاية التالية تركيزا على الافاضة.

(فَاذْكُرُوا اللهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ).

وهو موقف يقع داخل حدود حرم المسجد الحرام ، وملتصق بمنى جغرافيا ، بينما يبتعد عن عرفات بضع كيلومترات.

كان المشعر الحرام في الجاهلية موقعا للمباراة الفكرية بين القبائل التي كانت تهتم بعنصريتها وعصبيتها أكثر من اهتمامها بالشعائر الدينية ، فكانت كل قبيلة تحيي ليلة المشعر بالاشادة بامجادها الغابرة وتعرض بالقبائل الاخرى ، فأمرهم الله بان يتمحوروا حول الايمان بالله ، وينسوا خلافاتهم العصبية والعنصرية.

(وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ).

إن مقارنة حالة التخلف ، القديم للأمة والفساد الجاهلي بحالة تقدمها الحالي في

٣٥٣

ظل الرسالة الجديدة ، تكرس فيها ايمانها برسالتها ، وتدفعها الى المحافظة عليها بكل قوة.

والقرآن يأمرنا ان نتذكر رسالة الله التي اهتدينا بها لكي لا نتوانى عن تطبيق قيمها ، ولكي نتصور واقعيا نعمة الوحدة والأمن والطمأنينة والنشاط ، وبالتالي سائر النعم التي جاءت نتيجة هذه الرسالة ، والتي لا يمكن ان تستمر لوانا لم نتمسك بها تمسكا شديدا ، بل هي بحاجة الى المحافظة عليها ، والتذكرة بأنها ستزول لو لم نسع من أجل المحافظة عليها.

الإفاضة مسيرة الإيمان :

[١٩٩] بعد عرفات تبدأ المسيرة الايمانية التي تسميها الاية ب (الافاضة) تشبيها لها باندفاع السيل ، آنئذ حيث تميل الشمس الى المغرب ، تستعد جموع الحجاج للتحرك الى المشعر ، ليرمزوا بذلك للسعي المشترك في سبيل الله ، وعلى الدرب الذي حددته رسالة الله ، دون اي تمييز بين الطبقات المختلفة.

وقد كانت الجاهلية تعطي لبعض القبائل شرف تقدم الناس في الافاضة ، فكانت تقف امام الجماهير وتتحرك من نقطة أقرب الى المشعر من سائر الناس ، أو تفيض من المشعر ذاته. وجاءت الاية صريحة بالغاء هذا الامتياز والبدء بالمسيرة مع الناس وقالت :

(ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ).

من ذات النقطة التي يفيض منها الناس.

(وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ).

٣٥٤

ليشعر كل إنسان بأنه مذنب امام ربه ، وانه لا يجوز له ان يزكي نفسه ويجعلها أشرف من الآخرين ، فكلنا عباد الله وقد يكون الوضيع منا شريفا عند الله بل وأشرف من الذي يزعم نفسه شريفا.

(إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ).

كيف نربح الدنيا والآخرة؟

[٢٠٠] بعد المشعر يفيض الحاج الى منى حيث يؤدي مناسكه من : تقديم الهدي ، ورمي الحجارة ، والتقصير ، وانئذ يجتمع الحجاج في منى ليبنوا حياتهم وفق تطلعاتهم ، فينقسم الناس الى نوعين : فمنهم من يذكر الله وينتمي اليه قبل ان ينتمي الى أهل أو ارض أو قوم ، ويريد ان يبني حياته وفق نهج الله ، ومنهم من يستعجل في الحصول على مكاسب الدنيا ، دون ان يفكر في الاخرة فيخسرهما جميعا.

(فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ).

في منى ، رميا للجمرات ، وهديا لله ، وحلقا أو تقصيرا ، وبالتالي بالتحلل من أكثر مظاهر الإحرام.

(فَاذْكُرُوا اللهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً).

حتى يصبح انتماؤكم الاول الى الله ، فيوحدكم الإيمان به ، وتصبح ارض منى منطلقا للتعارف والتعاون والأمل ، ولكن يبقى هذا الهدف مرتبطا بمنطلقات معينة.

(فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ).

لا يملك اي رصيد في الاخرة. لأنه يريد كل جهوده ان تثمر في الدنيا ، هؤلاء ليس لهم في الآخرة نصيب في الدنيا.

٣٥٥

[٢٠١] (وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ).

[٢٠٢] (أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسابِ).

هؤلاء سوف يحصلون على مكاسبهم في الدنيا وفي الاخرة لان منطلقهم سليم. وبالطبع لا ينفع هؤلاء مجرد سلامة منطلقهم ، إذ انهم سوف لا يحصلون إلّا نصيبا مما كسبوا لا مما قالوا ، ان الدنيا والاخرة هدفان لا يحققان الا بسعى وعلى قدره.

ان الذين يحددون نظرهم في الدنيا يصابون بقصر النظر ، والذاتية ، إذ ما دام العمل للدنيا ولا نعرف هل نحن غدا موجودون أم أموات ، فدعنا نأكل نصيبنا اليوم ، وبذلك يستنفذون طاقاتهم في الحال دون النظر في المستقبل.

وما دام الفرد يعمل للدنيا ، ويعمل لذاته ولا قرب الناس اليه ، وإن ذلك يقضي على حضارته فما عاشت امة انتشرت فيها الذاتية وقصر النظر ، بينما من يعمل من أجل الاخرة يكون امامه أفق بعيد يتطلع لتحقيقه ، انه يفكر في رحمة الله الواسعة ، فهو لا يريد مكاسب عاجلة ، ثم انه يعمل للجميع لان ذلك طريقه الى الله ، وهكذا يكون العمل للآخرة طريقا الى حضارة الامة.

بعد قضاء مناسك منى ، يتوجه الحاج الى بيت الله الحرام ليذكر الله ، ولكي يرتبط بهدى الله ويوثق علاقته بالانتماء التوحيدي له ، ويعمل للدنيا والاخرة معا.

[٢٠٣] (وَاذْكُرُوا اللهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ).

ثلاثة أيام من الحادي عشر حتى الثالث عشر.

(فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقى وَاتَّقُوا

٣٥٦

اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ).

الهدف البعيد لكل هذه المناسك هو التقوى ، وسببه هو التفكير المستمر في أنّ الإنسان مهما طال عمره فسوف يحشر الى الله ويسأل عما فعله ، فعليه ان يجعل من نفسه عليها رقيبا ووازعا عن السوء ، ودافعا الى الخير ، ولا ينتظر محاسبا اجتماعيا أو واعظا دينيا.

٣٥٧

وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيُشْهِدُ اللهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ (٢٠٤) وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ (٢٠٥) وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهادُ (٢٠٦) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ (٢٠٧) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا

____________________

٢٠٤ [يعجبك] الاعجاب هو سرور المعجب بما يستحسن ومنه العجب بالنفس وهو سرور المعجب من الشيء استحسانا له وذلك إذا تعجب من شدة حسنه والعجب كل شيء غير مألوف.

[ألدّ] الألد الشديد الخصومة تقول لدّ يلدّ لدودا ولدّه يلدّه إذا غلبه في الخصومة.

٣٥٨

فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٢٠٨) فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٠٩) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٢١٠) سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٢١١) زُيِّنَ لِلَّذِينَ

____________________

٢١٠ [ينظرون] النظر هنا الانتظار. وأصل النظر الطلب لادراك الشيء وإذا استعمل بمعنى الانتظار فلأن المنتظر يطلب إدراك ما يتوقع. وإذا كان بمعنى الفكر بالقلب فلأن المتفكر يطلب به المعرفة وإذا كان بالعين فلأن الناظر يطلب الرؤية.

[ظلل] جمع ظلة وهي ما يستظل به من الشمس وسمى السحاب ظلة لأنه يستظل به.

[الغمام] السحاب الأبيض الرقيق سمي بذلك لأنه يغم أي يستر.

٢١٢ [زين] الزينة الحقيقية ما لا يشين الإنسان في شيء من أحواله في الدنيا ولا في الآخرة فأما ما يزينه في حالة دون حالة فهو من وجه شيء.

٣٥٩

كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَاللهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (٢١٢) كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٢١٣)

٣٦٠