من هدى القرآن - ج ١

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ١

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-04-1
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٧٣٦

[٧٩] ان هؤلاء الأميين مقصرون لا ريب في ذلك. الا ان وزرهم الأكبر يقع على عاتق أولئك الذين ضللوهم وحرفوا معاني الكتاب حتى حولوه الى مادة تخدير ، من بعد ان كان مادة تفجير. وحولوه الى مثير أحلام ، من بعد ان كان مستثيرا للعقل ومنهجا للفكر. لذلك يحدثنا القرآن عن هؤلاء فور ما ينهي حديثه عن الأميين ويقول :

(فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً)

وهؤلاء هم أولئك المحرفون الذين سبق الحديث عنهم ، انما يكرره القرآن ليلقي عليهم بمسؤولية ضلالة الأميين وليقول ان الهدف من التحريف انما هو الحصول على المكاسب المادية التافهة. تلك المكاسب التي لا تهنأ لهم وتلك الحرفة التي سرعان ما تتحول الى نقمة.

(فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ)

أي كسب مبارك تلك الحرفة التي تؤدي بانحراف الملايين من الناس ، وتجعلهم عرضة للاستغلال والاستعباد؟! ان الطغاة يريدون أبدا ان يتحكموا في مصير الضعفاء. والطريق الوحيد لحماية الضعفاء من الطغاة ، هو تسليحهم بفكرة ثورية تعلمهم كيف يجب ان يحافظوا على كرامتهم ، ويستردوا حريتهم. والدين هو تلك الفكرة الثورية ، والعلماء هم أمناء الله على هذه الفكرة. فاذا خان هؤلاء مسئوليتهم ، فاي جريمة كبري يقترفون ، حيث يجردون ملايين الضعفاء من سلاحهم الوحيد ، ويتركون الطغاة يستغلونهم. بل انهم يساهمون في هذا الاستغلال مباشرة عبر تفسيرهم التحريفي للدين.

١٨١

بين الاماني والظنون :

قالوا عن الاماني : إنّها ما يتخيله الإنسان فيقرر في نفسه وقوعه ويحدثها بكونه ، ومن هذا قولهم : فلان يعد فلانا ويمنيّه. ومنه قوله تعالى : «يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ ، وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً»

وحكي عن الاعرابي انه قال لمن حدثه : أهذا شيء رويته أم تمنيته أم اختلقته.

وفي الكشاف (٢) في تفسير الآية :

ذكر العلماء الذين عاندوا بالتحريف مع العلم اي قوله «لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلَّا أَمانِيَ» ثم العوام الذين قلدوهم وبنى على ذلك انهم في الضلال سواء.

وفي تفسير غريب القرآن اي لا يعلمون الكتاب الا ان يحدثهم كبراؤهم بشيء فيقبلون ، ويظنون انه الحق وهو كذب وقد قال أحدهم : ما تفنّيت ولا تمنّيت ، اي ما اختلقت الباطل.

ولكن يبدو ان الآية تتحدث أساسا عن الأميين وكيف انهم يعيشون على الاماني والظن وعلى هذا يحتمل ان تكون الامنية من أنفسهم والظن بسبب التقليد أو أن تكون الاماني بمعنى التلاوة عليهم ، كما نقل انه أحد معاني هذه الكلمة وانشدوا.

تمنى كتاب الله أول ليلة

واخره لاقى حمام المقادر

__________________

(٢) في الكشاف ج ١ ص ١٥٧

١٨٢

ولان القرآن يفسر بعضه بعضا ، فان السياق القرآني القادم أوضح بيان لهذه الكلمة. حيث يقول ربنا سبحانه وتعالى : (وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ)

ان تفسير الكتاب وفق ما يتمنونه ، أو بتعبير أخر : حمل آيات الكتاب على آرائهم الموافقة لاهوائهم ، وبالذات فيما يرتبط بتبرير فسادهم وخداع أنفسهم بان العذاب لا يشملهم ، لأنهم أبناء الله واحباؤه ، أو لأنهم من أولاد الأنبياء الكرام أو ما أشبه. والواقع يعتبر هذا أوضح معاني الامنية.

ومن هنا نعرف بلاغة التعبير القرآني ، حيث يقول ربنا سبحانه وتعالى : «لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلَّا أَمانِيَّ» وكأنهم يعلمون فقط اماني الكتاب ، أو هكذا يفسرونه حسب أمانيهم. وفي معنى هذا ، آيات اخرى : قال الله سبحانه :

«وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ» (١١١ / البقرة)

«لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ» (١٢٣ / النساء)

والاماني التي يخدع بها هؤلاء أنفسهم هي التي يفضحها السياق القرآني في الآيات الآتية.

الظن :

اما الظن الذي يقول عنه ربنا سبحانه وتعالى : «وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ» فلعله درجة أعلى من الاماني. حيث ان الفرد يحلم بشيء ويحلم ، حتى يخيّل اليه صدق هذا الشيء بل يكاد يقنع نفسه به ، ويبدو ان نسبة الثقة بالفكرة ليست بذات اهمية ، فقد تكون أكثر أو أقل من خمسين بالمائة. انما المهم جذر الفكرة وكيفية بروزها في النفس.

١٨٣

فاذا كان منشأها المصلحة وحب الذات وهوى النفس الذي يتحول الى اماني ويفسر الكتاب عليها ثم يتحول الى خيال وتصور وظن ، فان درجة الثقة بها حتى ولو بلغت حد القطع فانها لا تسوى شيئا لأنها ليست ناشئة من العلم ، والمنهج الصائب للمعرفة ، انما هي ناشئة من التمنيات والأحلام والتخيلات والظنون.

يبقى ان نتساءل عن العلاقة بين الظن والتقليد حيث جاء في حديث شريف ان المراد من الظن هو التقليد.

والجواب : ان الحديث انما هو عن الأميين الذين هم العوام الذين يقلدون كبراءهم ولعله لهذه المناسبة فسرّ الظن هنا بالتقليد ، كما ان السياق القرآني يحدثنا في ايات اخرى عن أولئك الذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هو من عند الله.

وقد قوبل الظن بالعلم في القرآن قال سبحانه وتعالى : «قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا ، إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ» (١٤٨ / الأنعام)

كما أكّد القرآن : (إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً) فقال سبحانه وتعالى : «وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ» (٣٦ / يونس)

بينما يمتدحه في سياق الحديث عن الآخرة. فيقول ربنا سبحانه وتعالى :

«الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ» (١٥٦ / البقرة)

فيكف يمدح الظن حينا ويذمه أحيانا؟

جاء في حديث شريف :

«الظن ظنان ، ظن شك وظن يقين ، فما كان من امر المعاد فهو ظن يقين ، وما

١٨٤

كان امر الدنيا فهو على الشك»

ولعل تفسير هذه الرواية .. ان الظن بمعنى التصور فإذا كان التصور والتخيل قائما على أساس التمنيات والأهواء ، فهو ظن شك. حتى ولو بلغت نسبة الثقة معه الى درجة كبيرة وإذا كان التصور على أساس التفكير المنهجي كمن أيقن بالجنة ، ثم أخذ يتصور نعيمها ، وأيقن بالنار وطفق يتخيل عذابها ، فانه تصور يقين لأنه قائم على أساس.

وأهل اللغة يقولون : الظن هو الاحتمال الراجح وإذا كان قريب الوهم فانه يستخدم مع أن المخففة. مثل قوله سبحانه وتعالى : «فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ». وإذا كان قريب العلم فانه يذكر مع ان المشددة ، مثل قوله سبحانه وتعالى : «وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ».

١٨٥

(وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٨٠) بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٨١) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٨٢) وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللهَ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَقُولُوا

_________________

٨٠ [تمسّنا] المس نظير اللمس والفرق بينها أن مع اللمس إحساس وأصله اللصوق وحده الجمع بين الشّيئين على نهاية القرب.

[يخلف] الأخلاف نقض ما تقدم من العهد بالفعل.

٨٣ [المسكين] هو المتخشّع المتذلّل من الحاجة مأخوذ من السكون كأنّه قد أسكنه الفقر.

١٨٦

لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (٨٣) وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (٨٤) ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ

_________________

٨٤ [تسفكون] السفك الصب سفكت الدّم أسفكه سفكا.

[أنفسكم] النّفس مأخوذة من النّفاسة وهي الجلالة فنفس الإنسان أنفس ما فيه.

[أقررتم] الإقرار الاعتراف.

[تشهدون] الشهادة أخذ من المشاهدة وهو الاخبار عن الشيء مما يقوم مقام المشاهدة في المعرفة.

٨٥ [تظاهرون] تعاونون والظهير المعين.

[الإثم] الفعل القبيح. وقيل هو ما تنفر منه النفس ولم يطمئن اليه القلب.

[العدوان] الإفراط في الظلم.

١٨٧

إِخْراجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٨٥) أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٨٦))

_________________

[أسارى] الأسر الأخذ بالقهر وأصله الشد والحبس إذا أسره وشدة.

وقيل أن الأسارى الذين هم في الوثاق والأسرى الذين هم في اليد.

٨٦ [يخفق] الخفة نقيض الثقل والتخفيف التسهيل والتهوين.

١٨٨

تقديس الذات

هدى من الآيات :

تابعنا في الدروس السابقة مراحل هبوط نجم بني إسرائيل ، وتركناهم في آخر مرحلة في مستنقع الجهل والضلالة ، حيث تحول قادتهم الروحيون الى سراق الفكرة الرسالية ، ومجرمي حرب يساعدون الطغاة على استغلال الضعفاء ، بينما تحول الكتاب في نظر جماهيرهم العريضة الى أحلام حلوة يمنون أنفسهم بها ليبرروا واقعهم الفاسد.

اما الآن فنحن امام مرحلة تالية اخطر من تلك وهي تحولهم الى امة عنصرية ، تقدس كيانها المادي ، وتحارب الناس والقيم على أساس ذلك الكيان.

ان تحول الامة الى تجمع عنصري ، يعتبر تغييرا شاملا في قيمها حيث تموت فيها كل جذور الصلاح ولا يرجى لها الخير أبدا. وقد تصبح ـ بمرور الزمان ـ تجمع يسعى نحو الفساد في المجتمعات والاعتداء على الناس ولا ينتهي ذلك الا بالقضاء

١٨٩

الجسدي عليها جميعا.

ويشرح لنا القرآن كيف تتحول الامة الرسالية الى تجمع عنصري ، وذلك بابعاد فكرة المسؤولية عن واقعهم ، حيث يتصورون انهم بعيدون عن الجزاء ، لأنهم أفضل من غيرهم ، ثم يبدءون بتقييم الحياة وفق هذا التصور الخاطئ. ويكّذب القرآن هذه الفكرة ويضرب امثلة حية على ذلك. ثم يبين زيف الفكرة العنصرية ، وذلك حين يحيلهم الى فطرتهم. انهم يحمّلون بعضهم مسئولية جرائمهم فيما يخصهم ويتصل بحياتهم مباشرة ، فكيف لا يحملونه مسئولية ذات الجريمة حين تقع على غيرهم هل هناك جريمة وجريمة أو بشر وبشر.

بينات من الآيات :

[٨٠] قبل كل شيء يجعل العنصري ذاته فوق المسؤولية ليبرر بعدئذ كل تصرفاته الشاذة ، وهذه العملية خطيرة لسببين :

الاول : انها تميت ضمير العنصري ، وتطفئ شعلة إحساسه كإنسان ، فلا يعدو يشعر بالإثم تجاه ما يرتكبه من موبقات وجرائم.

الثاني : انها تبرر تصرفاته امام الآخرين وهنا نرى القرآن الحكيم يعالج هذه المشكلة في بني إسرائيل ومن ثم في كل الأمم التي قد تبتلي بها ، كالنازية والبيض في جنوب افريقيا فيقول :

(وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ)

وبالطبع لم يكن هناك ميثاق من الله يتعهد لهم بالّا يأخذهم على تصرفاتهم ، انما هم تصوروا ذلك انطلاقا من حبهم لذاتهم ، وتقديسهم لها.

١٩٠

[٨١] ثم يؤكد القرآن الحكيم ، ان كل إنسان مسئول امام الله عن تصرفاته السيئة ، شاء أم ابى. وهذا وحده عهد الله وميثاقه ، وسنته التي لا تتبدل. حيث يقول :

(بَلى)

اي ان هناك عهدا ولكن من نوع آخر هو.

(مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ)

ربما التعبير ب (وأحاطت به خطيئته) يوحي بان الإنسان قد يذنب ذنبا ، ثم يستغفر الله ، فيتوب عليه ربه. ولكن إذا أكثر من الذنوب ولم يغسلها بالتوبة ، فان خطاياه تحيط به من كل جانب ، وانئذ لا تدع له مجالا للعودة الى الله. وهذه الآية تصدق على الكفار ومن بحكمهم ، حيث تحيط بهم خطاياهم وهذا الكلام يدل على ان العنصريين سوف يتوغلون في الذنوب انطلاقا من تصورهم انهم بعيدون عن مسئولياتهم ، وهناك تأخذهم الذنوب ، وترمي بهم الى النار خالدين فيها.

[٨٢] وكما ان المسؤولية لا تعرف الفرق بين عنصر وعنصر ، كذلك الجزاء الصالح لا يختلف فيه قوم عن قوم.

(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ)

ميثاق الله لبني إسرائيل :

[٨٣] هذا ميثاق الله مع الناس جميعا ، وهناك ميثاق من قبل الله مع بني إسرائيل بالذات ، ولكن نصوصه تختلف كلية عن ميثاق العنصرية المزعوم الذي

١٩١

يزعم بإعطائهم صك الامان.

انما هو ميثاق مسئولية كاملة لو طبقوها لا صبحوا خير الناس ، والا فهم شر الناس جميعا. اما نصوص الميثاق فهي أولا :

(وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ)

ولا تعتبرون قيمة العنصر أو القرابة أو اللغة أو ما أشبه ، مقدسة عندكم الا بمقدار ما تتفق مع سنن الله وتعاليمه.

ثانيا :

(وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ)

هؤلاء هم بشر وليسوا بآلهة لذلك لا يجوز عبادتهم .. بل يجب الإحسان إليهم فقط. وفرق كبير بين الإحسان والعبادة إذ ان الإحسان هو العطاء من يد عالية ، والعبادة هي الخضوع لمن هو أعلى.

ثالثا :

(وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً)

وحرام ان تعتدوا على الناس كلاميا فكيف بالاعتداء العملي.

رابعا :

(وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ)

ولا يجوز ترك الفرائض اعتمادا على انهم من عنصر بني إسرائيل ، أو ان آباءهم

١٩٢

كانوا أنبياء أو كانوا مقربين الى الله.

هذه هي نصوص الميثاق ، ولو كان بنو إسرائيل طبقوها ، إذا لكانوا مفضلين على الناس ، ولكنهم لم يطبقوها لذلك لم يستحقوا من الله جزاء ولا كرامة.

(ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ)

[٨٤] خامسا : المحافظة الكاملة على حرمة الدم ، وحرية الإنسان.

(وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ)

هذه بعض نصوص الميثاق الذي شددّ عليها ربنا وأخذ منهم إقرارا بها.

(ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ)

اي أقررتم إقرارا واعيا ، بعد علم وتصميم.

[٨٥] بيد انكم لم تطبقوا نصوص الميثاق ، بل عكستم الحال تماما ، فليس لكم اي حق على الله ان يوفي من جانبه بعهده تجاهكم ، ويفضلكم على الناس تفضيلا.

(ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ)

وليس غيركم ولا أحد سواكم أنتم بالذات تخالفون نصوص الميثاق.

(تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ)

يتعاون بعضهم مع البعض الآخر ضدهم.

(بِالْإِثْمِ) وهو العمل السيء الخاص بالشخص نفسه.

١٩٣

(وَالْعُدْوانِ)

وهو العمل الذي يضر الآخرين. اي ان أعمالكم تضركم أنفسكم وتضر الآخرين.

ولكنّ هذه الاعتداءات لا تقع على هؤلاء عن جدارة ، بل عن تعصب قبلي ، أو خلافات داخلية باطلة ، وذلك بدليل انهم يهبّون لنجدة هؤلاء بالذات ، لو تعرضوا لعدوان خارجي. فلو كانوا مجرمين فعلا فلما ذا يدافعون عنهم؟

ان القرآن يدين الفكر العنصري الذي يقول : انا واخي ضد ابن عمي ، وانا واخي وابن عمي ضد عدوي. ويقول :

(وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ)

ثم يبين ان هذا النوع من التفكير لا يعتمد على قيم ، بل على أهواء.

(أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ)

ثم يحدثنا بالنتائج الطبيعية لهذا النوع من التفكير العنصري الانتقائي الذي يأخذ من الدين ما يوافق الهوى فقط ويقول :

(فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ)

[٨٦] اما عذاب الدنيا فيتمثل في ابتعادهم عن هدى الله ، وما يوفره هذا الهدى من التقدم والفلاح ، حسب ما يذكره القرآن في الآيات التالية.

اما عذاب الآخرة فيذكره القرآن هنا لأنه الأشد والابقى ، ويبين لنا قبلئذ ان

١٩٤

هذا التبعيض والانتقاء في اتخاذ احكام الدين ، انما هو نتيجة تعويض الآخرة بالدنيا ويقول

(أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ)

فلا يرحمهم من في السماء ولا ينفعهم أهل الأرض.

١٩٥

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَقَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ (٨٧) وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً ما يُؤْمِنُونَ (٨٨) وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ

_________________

٨٧ [قفينا] أردفنا واتبعنا بعضهم خلف بعض وأصله من القفا.

[القدس] الطهر والتقديس التطهير. ونقول في صفة الله تعالى القدوس أي الطاهر.

٨٨ [غلف] جمع غلاف أي أن قلوبنا أوعية وغلف أي ممنوعة من القبول.

[لعنهم] اللعن هو الإقصاء والابعاد.

١٩٦

ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكافِرِينَ (٨٩) بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ (٩٠) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٩١) وَلَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ (٩٢) وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا

_________________

٩٠ [بغيا] البغي أصله الفساد مأخوذ من قولهم بغى الجرح إذا فسد وقيل أصله الطلب لان الباغي يطلب التطاول.

[مهين] الاهانة والاذلال.

٩١ [ما وراءه] أي ما بعده. وقيل تأتى وراء بمعنى سوى.

١٩٧

ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قالُوا سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٩٣))

_________________

٩٣ [واسمعوا] أي أقبلوا ومنه

قوله «سمع الله لمن حمده»

أي قبل الله حمد من حمده.

[أشربوا] أصله من الشرب يقال شرّب وأشرب غيره إذا حمله على الشرب وأشرب قلبه حب كذا.

١٩٨

العنصرية والانغلاق الفكريّ

هدى من الآيات :

لقد أدت العنصرية ببني إسرائيل الى نتائج سلبية شتى ، أولها العنف الداخلي الذي تمثل في قتل أو إخراج جماعة منهم بالإثم والعدوان. وثانيها ـ وهي الأخطر والتي يتناولها القرآن من جميع جوانبها ـ فهي الانغلاق. حيث وضعت العنصرية بني إسرائيل في زنزانة ضيقة ، منعت ان يتسرب إليهم أي نور وهدى. وتمثل ذلك في رفضهم الدائم اتباع أي نبي أو أي أفكار رسالية جديدة.

في هذه المجموعة من الآيات يذكرنا القرآن بموقف بني إسرائيل من عيسى بن مريم ، الذي لم يكن ناشئا من تفكير منطقي بل من أهواء ضالة ومصالح خاصة.

ثم موقفهم من رسالة النبي التي كانوا يستعدون سلفا لتقبلها ، ولكنهم سرعان ما انقلبوا ضدها حين اكتشفوا أنها نزلت في غيرهم. ويبين لنا القرآن ان

١٩٩

عدم ايمانهم بهذه الرسالة ، نابع من عنصريتهم الضيقة. ثم يكشف القرآن عن جذر العنصرية ويقول ان جذرها هو عبادة العجل (رمز المال والجاه).

بينات من الآيات :

[٨٧] كما انزل الله الكتاب على موسى أنزله على سائر النبيين من بعده ، وعلى عيسى بن مريم ، فلما ذا تجمد بنو إسرائيل على موسى عليه السلام ، هل لأنه كان من بني إسرائيل فعيسى (ع) كان أيضا منهم. أم انه وحده انزل عليه الكتاب .. أو لم ينزل أيضا على عيسى؟

العلة ليست هذه أو تلك انما هي : ان العنصرية تؤدي بصاحبها الى الانغلاق الفكري ، ومن ثم الى الرجعية والجمود. ان بني إسرائيل أخذوا يقدسون آباءهم ، ويقدسون أفكار أولئك وعاداتهم ، انطلاقا من عنصريتهم الضيقة. فلم يستطيعوا ان يطوروا أنفسهم وفق رسالة عيسى الجديدة ، لذلك أنكروها .. يقول الله سبحانه :

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَقَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ)

التي دلت على رسالته بالقطع واليقين ، وقطعت الطرق على كل مرتاب في رسالته.

(وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ)

الذي أيد به سابقا النبي موسى عليه السلام. ولكنكم ، يا بني إسرائيل ، لم تؤمنوا بعيسى لمّا جاءكم.

(أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ)

٢٠٠