من هدى القرآن - ج ١

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ١

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-04-1
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٧٣٦

العملي لهذا الخضوع (السجود) ، ثم التطبيق الاجتماعي له (الركوع مع الراكعين) ، هو الواجب المضاعف على مريم ، الذي استتبعه اختيارها للرسالة.

إذا .. مريم لم تسقط عنها التكاليف بسموها الى درجة الصديقين ، بل ازدادت للدلالة على خطأ الفكرة العنصرية.

[٤٤] وكانت من نتيجة طهارة مريم وتسليمها المطلق لله ، ان أخذ الناس يختصمون أيهم يكفل «مريم» ، فاحتكموا الى القرعة بطريقة فريدة. انهم يأتون البحر ويلقون فيه أقلامهم ، فالقلم الذي يغوص في الماء يحظى صاحبه بشرف كفالة مريم ، حيث كان ذاك هو «زكريا» كما بين القرآن سابقا.

(ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ)

[٤٥] هذه هي مريم وتلك قصتها .. قصة امرأة صالحة تضرعت لربها ، فولدت مريم الصديقة ، التي لم تكتف بطهارة مولدها ، بل أتعبت نفسها في ذات الله فأصبحت صديقة.

أما قصة عيسى (ع) فقد ابتدأت من كرامة الله لمريم التي جزاها لأنها أحصنت فرجها بان رزقها ولدا من غير أب ..

(إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ)

أسماء عيسى وخصائصه :

انه كلمة من الله. لأنه أخلص نفسه وأخلصه الله للدعوة اليه واصطنعه

٥٦١

لنفسه. وانه كلمة من الله ، لان الله يخلق كلّ شيء من خلال السنن الكونية ، أما «عيسى» فخلقه بكلمة ، كما خلق كذلك آدم من قبل فقال له (كن) فيكون.

ان إرادة الله ومشيئته الحرة تتجسد في أمر إلهي ، يسميه القرآن بالكلمة ، لان كل امر يصدر منا نحن الذين يتحدث القرآن لنا وحسب مستوى فهمنا ، يعبر عنه بالكلمة ولكن لماذا سماه الله ب (المسيح)؟ لأنه :

لم يختر لنفسه منزلا بل انتقل من موقع لموقع ، يدعو الناس الى الله.

وعيسى لم يكن ابنا لله. بل لمريم. ولذلك نسبه الله إليها بينما نجد القرآن يذكر أنبياءه من دون نسبة الى أب ، أو أم ، أو عشيرة. فلا نجد في القرآن مثلا التعبير عن نبينا ب (محمد بن عبد الله).

(وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ)

ومن أكثر وجاهة وشهرة وتقديرا من «عيسى» ، الذي يقدره اليوم الملايين؟! أما عند الله فهو نبي وجيه ، ومن الأنبياء أولي العزم ، الذين فضلهم الله على العالمين وجعلهم مقربين اليه سبحانه.

[٤٦] (وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ)

فهو لا يدعو الناس فقط ، بل ويدعو نفسه الى الله ، ويعبد الله سبحانه بإخلاص.

[٤٧] (قالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قالَ كَذلِكِ اللهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)

«مريم» الصديقة ارتاعت وامتلكها التعجب والدهشة ، كيف يرزقها الله

٥٦٢

ولدا؟! وهكذا كانت القضية غيبية ، متصلة بإرادة الله ، ولم تكن طبيعية مرتبطة بسموّ مريم الى درجة الالوهية ، أو سمو عيسى الى هذه الدرجة. وإلّا فان العملية لم تكن عجيبة بالنسبة الى «مريم» نفسها.

انما كانت خلقة الله لعيسى تماما كخلقته لكلّ شيء في الكون ، لم يكن ، ثم كان بإرادة الله ، وبكلمته لها (كن) ، فهل صحيح ان نقول ان الله ولد الأشياء لمجرد انها لم تكن ، ثم كانت؟! كذلك غير صحيح أن نتصور عيسى ابنا لله ، لمجرد انه ولد بصورة غير طبيعية.

[٤٨] وعيسى لم يكن إلها ، بل بشرا علمه الله الأسماء ، ولو كان ذا طبيعة الهية ، إذا لما احتاج الى تعليم الله له لأن من يتصف بالألوهية يعلم الأشياء ذاتيا ، أما عيسى فقد أعطاه الله من علمه بقدر ما شاء.

(وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ)

لعلّ الكتاب هو الدستور الثابت المتصل بالرؤى العامة في الحياة. أما الحكمة فهي التشريعات العملية الخاصة ذات الصبغة التطورية والكتاب كان يتمثل في التوراة ، أمّا الحكمة فكانت موجودة في الإنجيل.

[٤٩] وبعد ان علّمه الله الكتاب والحكمة ، اختاره نبيا ، وأعطاه صفة الرسالة عطاء ، دون أن يمتلكها ذاتيا ، كما يمتلك أحدنا مثلا عينه.

(وَرَسُولاً إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ)

وليست الآية مني بل من الله وانا واسطة نقل فحسب ، وهكذا لم تكن معاجز «عيسى» دليلا على انه ابن الله ، إذ كانت تلك المعاجز ـ في الواقع من الله ـ وإنّما ظهرت على يد عيسى ، كما ان العين مثلا آية عظيمة من آيات الله ، ولكنها

٥٦٣

تظهر في جسدي وجسدك. فهل هي دليل على اننا آلهة «سبحان الله».

من هنا نجد كلمة «اذن الله» تتكرر في المقطع التالي ، للدلالة على ان كل تلك المعاجز هي من الله.

(أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ)

تمثالا واجعله ..

(كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً)

حيا يطير في السماء كأي طير آخر كلّ ذلك ..

(بِإِذْنِ اللهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ)

فاذا كاتب لأحدكم قرصان من بر وشعير ، أكل أحدهما فاني أخبر أيهما أكل ، وأيهما احتفظ بها .. كل هذه المعاجز لا يقدر عليها البشر فهل استطاع البشر أن يحول قطعة طين الى طير حي فيه مليارات الخلايات ، وكلّ خلية معجزة الهية؟ لا يستطيع البشر أن يصنعوها ولو اجتمعوا عليها. أم هل استطاع كل أطباء العالم أن يحققوا حلم الإنسان بإحياء الموتى؟ ولكن عيسى قدر عليه بإذن الله.

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)

أما إذا عاندتم فان ملايين الآيات لن تنفع الجاحد.

وحدة الرسالات في المبدأ والهدف :

[٥٠] رسالات السماء واحدة ، وابسط دليل على صدقها جميعا هو وحدتها. إذ

٥٦٤

مستحيل على البشر ان يوحد أفكاره بهذه الدرجة ، مع اختلاف والظروف والضغوط ، والثقافات و، و.

انك لا تجد كاتبين يتحدان في أصول الفكر ، أو في تفاصيله ، حتى ولو كانا توأمين ينتميان الى مذهب واحد ، ويعيشان في أرض واحدة ، ويعملان من أجل هدف مشترك فكيف بشخصين عاشا في عصرين متناقضين ، ويختلفان عن بعضهما في كلّ شيء ، إلّا في التفكير؟! هل يمكن ذلك لو لم يكن مصدر الفكر واحدا؟

وبالطبع لم يكن «عيسى» مقلدا لموسى (ع) ، بل كان مشرّعا أيضا ، ومطبقا لشريعته بإذن الله ، وحسب الظروف المختلفة ، ولكن مع كلّ ذلك فقد ظلت أصول فكره ، وطريقة معالجته للقضايا ، وأهدافه التشريعية واحدة لأنّهما رسولان من إله واحد ..

(وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ)

للدلالة على صدق النبوة وضمان سلامة التطوير ، انه من عند الله.

(فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ)

[٥١] وأهم وأبرز الأدلة على صدق الأنبياء في دعوتهم ، انهم لا يدعون الناس الى أنفسهم ، بل الى الله الذي يلزمون أنفسهم بأوامره ويخلصون له العبادة ، ثم يأمرون الناس بمثل ذلك وعيسى فعل مثل ذلك ، وهو دليل على انه بشر وانه رسول ، فهو ليس إلها يدعو الناس الى ذاته ، كما انه ليس سلطانا يفعل مثل ذلك باعتبار ان السلاطين يستحيل أن يدعو الناس الى غير أنفسهم.

(إِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ)

٥٦٥

فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ آمَنَّا بِاللهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (٥٢) رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ (٥٣) وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (٥٤) إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٥٥) فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٥٦) وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (٥٧)

٥٦٦

ذلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (٥٨) إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٥٩)

٥٦٧

بشرية الرسول

ومراحل انتصار الرسالات

هدى من الآيات

كان عيسى بشرا رسولا ، تلك هي خلاصة الآيات في الدرسين السابقين وفي هذا الدرس أيضا ، ولكن القرآن يعالج هذه الفكرة هنا من وجهات عديدة :

أولا : من جهة موقف الحواريين ، وهم الرعيل الاول من المؤمنين بعيسى ، موقفهم منه ، وانهم لم يتخذوه إلها كما فعل التحريفيون ، ولو كان عيسى إلها لحق لأولئك قبل غيرهم ان يكشفوه ، لأنهم عاصروه مباشرة.

ثانيا : من جهة نهاية «عيسى» الخارقة ، حيث رفع الى السماء فهي لا تدل على انه ابن الله. بل لا يعدو ذلك ان يكون معجزة كسائر معاجزه.

ويختم القرآن هذا الدرس بدليل بسيط على ان عيسى لم يكن إلها ، هو ان مثله كمثل آدم. فهل آدم إله لأنه خلق من غير أب؟

وفي بداية الدرس يبين القرآن المراحل الاجتماعية لانتصار رسالة «عيسى» وهي

٥٦٨

ذات المراحل التي تجتازها أية رسالة ، متصلة بجهود البشر أنفسهم ، وليست دليلا على ان الله يحب عنصرا ويفضله على غيره ، فلم يتقدم الحواريون لمجرد حبهم لعيسى ، بل للجهد المكثف الذي بذلوه عبر المراحل التالية :

(أ) مرحلة الفرز واعتزال الاكثرية الضالة.

(قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ)

(ب) مرحلة الحرب وتخطيط كل طرف بالانتصار على غيره وتقدم صاحب التخطيط الأفضل (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ).

(ج) مرحلة الانتصار على العدو.

بينات من الآيات :

[٥٢] عرف عيسى (ع) انهم يخادعونه ، ولا يخلصون الايمان بالله بالرغم من انهم كانوا ينافقون له ويتظاهرون بأنهم مؤمنون ، فلم ينتظر عيسى (ع) ان يبادروا بالقضاء عليه ، بادر بالاعتزال عنهم مقدمة لحربهم والانتصار عليهم ، ودائما تمر على الدعوات الرسالية هذه المرحلة حيث تتكون العناصر الاولية لها فتنفصل عن المجتمع الفاسد ، وتكون لنفسها مجتمعا مثاليا يتفاعل ويتزايد عناصره ويحارب وينتصر .. كذلك فعل عيسى (ع)

ميزان العاملين

(فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ)

طلب من الناس ان يحددوا مواقفهم ، فاختارت طائفة منهم «الرسالة» سماهم

٥٦٩

القرآن بالحواريين .. فقرروا اتّباع عيسى وإخلاص العبودية لله والاستعداد للتضحية.

(آمَنَّا بِاللهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ)

انهم آمنوا بالله ايمانا صادقا وسلموا لله أنفسهم.

[٥٣] ان ايمان هذه الطائفة بالله كان عميقا وخالصا من المصالح والأهواء ، ومن الريب والشك ، وكان بهدف واحد هو مرضاة الله سبحانه ، انه كان ايمان العارفين ، وكل دعوة تنتصر إذا امتلكت عناصر مخلصة ، مثالية في ايمانها ، وتقدم ذاتها ببساطة تامة الى الله ودون تعقيد ، أو فلسفة ، أو تردد ..

من هنا نجد هذه الطائفة تعبر عن ايمانها بهذا الدعاء الدافي الصادق.

(رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ)

[٥٤] في مواجهة هذه الطائفة كانت الاكثرية الضالة ، التي حاولت ان تخطط لضرب هذه الطائفة بشتى الاساليب ، وكلها فشلت لأن هذه الطائفة الصغيرة كانت تتمتع بإيمان صادق ، وبخطة ذكية مستوحاة من الله سبحانه ومعتمدة على ايمان أصحابها.

(وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ)

ان أصحاب الرسالة السابقين يتمتعون بميزات لا توجد في مجتمعاتهم ، فهم مؤمنون ، ومضحون ، ونشطون ، ومتحدون ، ويمتلكون القدرة على المبادرة والحسم ، وليس كذلك مجتمعاتهم المترهلة.

النهاية المعجزة

[٥٥] وانتهت حياة عيسى (عليه السلام) بان رفعه الله اليه ، ولكنه كان يتطلع

٥٧٠

الى يوم تنتصر رسالته وأصحابه فطمأنه الله على ذلك.

(إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ)

ان التوفي هنا يدل على ان الله رفع عيسى بجسمه وروحه معا. لان الكلمة تدل على الأخذ بالكامل.

وجاءت كلمة (ورافعك) شرحا لمعنى كلمة الوفاة.

اما كلمة (ومطهرك) فتشير الى التهمة الرخيصة ، التي أراد اليهود الصاقها بعيسى فطهره الله منها حين استعاده (توفاه) منهم ومن مجتمعهم الفاسد.

ثم بين القرآن ان الله سوف يجازي اتباعك وأعداءك مرتين. ففي الدنيا يجعل اتباعك فوق أعدائك وفي الاخرة يحكم بينهم بالحق.

[٥٦] (فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ)

ولا ينفع لهم انتمائهم الكاذب الى موسى (ع) ، أو نسبهم الشريف الذي يربطهم بالأنبياء ، بل سيأخذهم العذاب الشديد في الدنيا ، متمثلا في الذلة ، والمسكنة ، والتشرد ، وفي الاخرة متمثلا في الجحيم وساءت مصيرا.

[٥٧] (وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ)

ولأنه لا يحب الظالمين ، فأولى به الّا يظلم أحدا من عباده ، فلا يبخس أحدا

٥٧١

حقوقه ، كلا انه سوف يوفيها بالكامل ، ودون ان ينقص منها شيء ، ودون ان يعطي جنانه بلا شيء من العمل الصالح ، والجهد ، ومخالفة الهوى ، ان الأجر هناك بقدر العمل.

فلتعتبروا يا أولي الألباب

[٥٨] تلك كانت قصص عيسى وقصص المعاصرين له ، فهل هي مجرد قصة كلا .. انها أولا آيات تدل على حقائق ، وأبرزها ان أنبياء الله كانوا بشرا ، وان الله اختارهم لرسالته حين وجدهم أكفاء ، وقدراء على العمل الصالح. وليس اعتباطا ولا لأنهم كانوا من عنصر أفضل من غيرهم ، هذه حقيقة واحدة نستفيدها من قصص عيسى ، وهناك حقائق اخرى نجدها وراء هذه القصص.

وهناك عبر وعظات نستفيدها من هذه القصص ، أبرزها ما نتذكر به تذكر حكيم تفيدنا بصيرة علمية في الحياة ، وعلما نافعا.

من ضرورة العمل الصالح والاجتهاد ، محاربة العناد في أنفسنا ، حتى لا يصبح مصيرنا كاليهود بل حتى نرتفع الى درجة الحواريين الصديقين.

لذلك لخص القرآن فلسفة القصص السابقة بالقول :

(ذلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ)

[٥٩] وبين القرآن بعدئذ الحقيقة البارزة في قصص عيسى وقال :

(إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)

فليس «عيسى» ابنا لله ، كما ان آدم لم يكن ابنا له ، بل ان تلك القدرة التي قالت للتراب كن .. فكان رجلا سويا وأصبح آدم أب البشر ، تلك القدرة هي التي

٥٧٢

خلقت عيسى من غير أب.

وكذب اليهود حين كذبوا مريم واتهموها بالإثم ، لأن مريم كانت صدّيقة يعرفها الجميع ، ولان الله قادر على ان يخلق عيسى من غير أب ، كما خلق آدم من التراب.

٥٧٣

الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (٦٠) فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللهِ عَلَى الْكاذِبِينَ (٦١) إِنَّ هذا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ اللهُ وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٦٢) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (٦٣) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ

____________________

٦١ [نبتهل] : فيه قولان «أولاهما» بمعنى الالتعان. وبهله الله أي لعنه الله. أما «الآخر» بمعنى الدعاء بالهلاك فالبهل كاللعن وهو المباعدة عن رحمة الله.

٦٤ [كلمة] : كلام فيه شرح قصة ولذلك تقول العرب للقصيدة كلمة.

[سواء] : عدل وقيل سواء مستو.

٥٧٤

أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (٦٤) يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلاَّ مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٦٥) ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ حاجَجْتُمْ فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٦٦) ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٦٧) إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (٦٨)

____________________

٦٥ [تحاجون] : الحجاج هو ما يتضمن حجة أو شبهه في صورة الحجة والحجة هي البيان.

٥٧٥

الحق مقياس الصواب

وأساس الوحدة

هدى من الآيات :

كانت قصص عيسى ويحيى تمهيدا جيدا لدحض العنصرية. ذلك الانحراف الكبير الذي وقعت فيه اليهود والنصارى وابتعدوا به عن المحور الاساسي للأمة الرسالية ألا وهو «الحق».

وفي هذا الدرس يبين القرآن محورية «الحق» ، ويطرح بعض الحجج القاطعة عليه ، أو بتعبير أفضل يبين لنا كيف نكتشف الحق وبأية وسيلة ، فيذكرنا.

أولا : بأسلوب المباهلة.

ثانيا : بطرح برنامج للوفاق الرسالي ، الذي يعتمد بالاساس على توحيد الله ومخالفة التحزب والعنصرية. ثم يعالج قصة إبراهيم الذي جعله اليهود والنصارى مقياسا للحق ، ويبين انه مقياس باطل.

أولا : لان إبراهيم لم يكن يهوديا أو نصرانيا.

٥٧٦

ثانيا : لأنه كشخص لا يصلح مقياسا للحق ، بل انما كان إبراهيم نبيا لأنه اتبع الحق.

ثالثا : وأخيرا ، ليس الانتماء الى إبراهيم بالنسب ، أو بالكلام ، بل بالاتباع الصادق. وبعدئذ يتابع السياق في الدروس القادمة مواقف أهل الكتاب من الرسالة الجديدة والتي منها توسلهم بأساليب التضليل السافلة ككتمان الحق ، أو تلبيسه بالباطل ، أو الايمان ثم الارتداد ، لا لقاء الشك في النفوس. ثم يناقش بعض الآثار العملية للفكرة العنصرية متمثلة في الخيانة بالامانة.

ويبين أخيرا : دور علماء الدين والثقافة ، المنحرفين في تضليل الجماهير ، بإعطائهم ثقافات مريضة ومسمومة وكيف ان هذا الدور يناقض دور عالم الدين أو المؤمن الصادق.

بينات من الآيات :

[٦٠] ان الحق مقياس التقييم السليم. لا الرجال ولا العنصر والحق من الله. فهو الذي يهدي اليه ، وهو الذي يجزي عليه ، وهو الذي يضمن تنفيذه بالتالي شئنا أم أبينا. ولأنه من الله فلا أحد يستأثر به ، أو يحكم باسمه الناس ، ويتخذهم عبيدا ، لأن الله رب الجميع ، وليس لطائفة دون اخرى ، ولأن الحق لله فهو لا ريب فيه ، لأن مصدر الشك هو الهوى والمصلحة والجهل ، وتعالى الله عنها.

دلائل صدق الرسالة

اننا قد نشك في دعوة مصدرها رجل ، وعنصر ، أو قوم أو أهل إقليم ، لاننا نعرف ان الرجل قد يكون جاهلا أو ساذجا أو خبيثا ، وانه قد يتأثر بضغوط مصالحه أو مصالح عنصره أو إقليمه أو قومه. بيد ان الله لا يرقى اليه شك من هذا النوع أو من غير هذا النوع سبحانه.

٥٧٧

(الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ)

[٦١] يقين الرسول برسالته شاهد حق على صدقها ، ذلك ان هذا الايمان لا يجتمع أبدا مع كذب الرسول أو خداعه للناس ، ولكن كيف يمكن للناس ان يكتشفوا صدق الرسول في ايمانه برسالته ويقينه التام بمضمونها؟ هل من خلال أقواله فحسب؟ كلا .. بل من خلال ممارساته العملية ، ومن خلال جهاده وتضحياته وعطائه ، وأيضا من خلال عملية الابتهال حيث تقف طائفتان متعارضتان امام الله ويدعوان على الكاذب منهما ، وبالطبع سيسقط آنئذ القناع عن تلك الوجوه الكاذبة وتشرق الحقيقة من أفق الصادقين.

المباهلة وسيلة لكشف الحق :

والابتهال ـ بالتالي ـ هو نوع من التحاكم امام الغيب حيث يراجع كل طرف ضميره ويحتكم الى تقواه.

(فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ)

في الحق فلا تجادل معه جدا لا كلاميا قد يطول ، بل دعه يحتكم الى الواقع ، لان العلم ليس لفظا ولا كلمات تحريرية ، انما هو كشف عن واقع ملموس في الخارج إذا.

(فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ)

الى الله ونتضرع في ان يكشف الحقيقة.

(فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللهِ عَلَى الْكاذِبِينَ)

وهنا لا يستطيع الكاذب ان يستدرج اللعنة على نفسه فيفتضح ، وقد فعل

٥٧٨

الرسول مرة واحدة هذه العملية ، حيث جمع أهل بيته وذهب الى مواجهة نصارى «نجران» للابتهال ولكنهم انسحبوا وافتضحت دعواهم.

[٦٢] ثم إنّ الحق من الله ، والاحتجاج فيه يتم عبر الابتهال الى الله ، ولكن اين يوجد كلام الله؟ في «القرآن» .. حيث يحدثنا من خلال قصصه الواقعية عن الحق ، فالحق في منهج القرآن ليس ألفاظا ولا قواعد مجردة ، انما هو بصائر تعطي من خلال قصص واقعية.

تلك القصص تنتهي الى إقرار حقيقة التوحيد التي تعطي بصيرة تامة وتفسيرا صحيحا لكافة ظواهر الحياة.

ولكن ليس التوحيد الاعتزال عن الحياة الاجتماعية بل التوحيد الذي يعكسه قصص القرآن التاريخية يهدينا الى رب يهيمن على الحياة ويدبرها وهو عزيز حكيم. فلأنه عزيز تتجلى قوته في الحياة ولأنه حكيم يستخدم علمه. انظروا الى القرآن ماذا يقول :

(إِنَّ هذا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللهُ وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)

[٦٣] ومن لا يتبع الحق فهو بتبع الباطل ، وسوف لا ينتج الّا الفساد. والله ليس بعيدا عنه بل هو عليم به يراقبه ويأخذه على حين غفلة.

(فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ)

[٦٤] كان الابتهال أسلوبا يهدف : اقناع الكفار من أهل الكتاب بالرسالة ، والأسلوب الآخر : هو طرح طريقة للوفاق تتضمنه هذه الآية ، التي دعت الى المساواة على صعيد التوحيد ، حيث لا يشرك بالله شيئا في التفكير والسلوك وتسقط كل القيم الاجتماعية غير قيمة الحق فلا عنصر ولا رجل ولا قوم ولا .. ولا .. ولا ..

٥٧٩

لتسقط جميعا ، لأنها شرك بالله ثم ليسقط الاستعباد فلا يتخذ البعض أربابا من دون الله .. فلا قيادة ولا استعباد ولا ظلم ولا كبت.

هذه هي دعوة التوحيد الحقيقية ، المساواة في عالم يسوده الحق وتنعدم فيه قيم الضلال وترتفع قيمة التسليم لله وحده دون اي نوع من الاستعباد.

(قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ)

وهذه هي كلمة التوحيد التي تعني عدم الشرك بالله في القيم.

(وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً)

كما تعني هذه الكلمة عدم الشرك في القيادة والمحافظة على الحرية الشخصية.

(وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ)

وسوف لا نطبق هذه المبادئ مزايدة بل لأنها تمثل مبادئنا الحقيقية التي تحكم داخل مجتمعنا.

تطبيق المبادئ وسيلة الخلاص

ومن الذي لا تعجبه هذه المبادئ ، اي مجتمع أم أي فرد (المساواة ـ الحق ـ الحرية) العالم اليوم يبحث عن وفاق ، وخطر الحرب الذرية يهز أعماقه ، ولكنه سوف لا يجد الوفاق ألّا ضمن هذه المبادئ ، لتسقط قيم العنصرية ، والاقليمية واستعباد الإنسان للإنسان ، وكبت الحريات ولترفع قيمة التوحيد والتسليم لله وحده وليرى العالم كيف يتحقق الوفاق.

٥٨٠