من هدى القرآن - ج ١

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ١

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-04-1
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٧٣٦

منحرفة ، فزعموا : أنّ كل القوى الكونية ، والتي تمثلها الملائكة ، أرباب والهة صغار ، يقاومون ضغط الإله الكبير في العرش (سبحانه) ، ويشفعون للناس رغما عليه. وبالتالي يجب توزيع العبادة بين الله ، وبين تلك الأرباب ، حيث تقتسم مع الله سلطان الله ويقول الأحبار عنه :

ما لله لله ، وما لقيصر لقيصر. وبالتالي يحدث فصل بين الدين ، والسياسة ، بين الاخرة والدنيا وهكذا ..

(وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)

الالتزام بالمسؤولية ضمان الاستقامة :

[٨١] وان أهم مسئولية من مسئوليات العلم والدين ورسالتهما المقدسة الإخلاص للحق ، والابتعاد عن الذاتية بكل صورها ، وعدم استخدام العلم والدين من أجل دعم المذهبية ، والعنصرية الضيقة ، وبالتالي من أجل حرمان الآخرين واستعبادهم واستغلال ثرواتهم.

ان العالم اليوم يعاني من استخدام تقدم العلم في نشر الدمار في الأرض. ان نصف الأبحاث العلمية في العالم تتركز من أجل صناعة وتوقية آلة الحرب. والقسم الأكبر من النصف الثاني يشغل من أجل السيطرة على الشعوب المحرومة. وهذا بعيد عن رسالة العلم وخيانة لأمانته ومخالفة لعهد الله مع العلماء. وقديما كان الدين يستغل من أجل ذات الأهداف. كان رجال الدين هم الذين حصروا أنفسهم في اطار العنصرية والاقليمية والقومية وساعدوا ـ بذلك ـ الطواغيت في فرض أنفسهم على الشعوب ، وفي استغلال واستعباد الشعوب ، وفي إثارة الخلافات المصلحية بينها.

٦٠١

بينما كانت رسالة الدين الحقيقية واحدة ، ورمزا للوحدة ونقطة التقاء بين الناس ، وأداة جمع وإصلاح بينهم.

وفي هذه الآية يذكرنا القرآن بهذه الرسالة ، عبر الحديث عن الأنبياء ، وكيف ان الله تعالى أخذ منهم الميثاق والعهد ، بأن يصدق بعضهم ببعض ، وان ينصر بعضهم بعضا ، وبالتالي ألّا يتفرقوا في الدين بأيّ شكل من أشكال التفرقة ، ونجد في الآية تأكيدات شديدة على هذه المواثيق.

(وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ)

أي لاني حملتكم رسالة الدين والعلم ، الدين المتمثل في الكتاب ، والحكمة المتمثلة في تطبيق الدين على واقع الحياة ، والذي يحتاج بالطبع الى المعرفة بالحياة (العلم).

(ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ)

أمرهم بان يؤمنوا بالرسول ، وينصرونه ، وجعل الأمر بصيغة مشددة للتأكيد عليه ثم :

(قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي)

طلب منهم الإقرار وسمى عهده هذا (بالإصر) ـ وهو الحمل الثقيل ـ من أجل بيان اهميته ، حتى إذا اقدموا على إعطاء الميثاق يعرفون اي عمل عظيم يقدمون عليه ، فلا يمتنعون في المستقبل عن أدائه.

(قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ)

انه بعد الإقرار ، طلب منهم الشهادة وكأنه أمرهم بالتوقيع النهائي على ورقة

٦٠٢

التعهد ، كلّ ذلك من أجل التأكيد على رسالة الدين ، والعلم في الحياة.

[٨٢] ثم أكد الله أهمية هذه الرسالة بالوعيد وقال :

(فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ)

وبالطبع لا يتوانى أنبياء الله عن هذه الرسالة ، ولكن اتباعهم هم الذين يتولون وينالون نصيبهم من الفسق ، بالرغم من مظاهر الدين التي يتقنعون بها.

[٨٣] هذا دين الله دين واحد ، ذا قيمة واحدة ، هي قيمة التوحيد والتسليم لله ولا مكان فيها لقيم الأرض أو العنصر واللغة.

والذين يتولون عن رسالة الدين ويحورونها عن خطها الصحيح! انما يتبعون غير دين الله بل دين الأرض ، أو العنصر أو اللغة ويقول لهم الله :

(أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ)

فهم مضطرون الى العودة الى دين الله ، الى سنن الحق الحاكمة على الكون لأنهم لا يمكنهم البقاء طويلا في مواجهة كلّ قوى الكون ، وإذا ماتوا فهم يرجعون الى الله.

[٨٤] ما هو دين الله؟

دين الله دين الوحدة بين جميع رسالات الله.

(قُلْ آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَما أُنْزِلَ عَلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ

٦٠٣

مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ)

هذا دين الله : الايمان بما انزل على الأنبياء الأسبقين من كتاب ، وما أوتي الأنبياء الآخرون من كتاب وحكمة ومعاجز (وربما كان التعبير ب «أوتي» في الأنبياء الآخرين للدلالة أيضا على المعاجز التي ظهرت على يد موسى وعيسى).

[٨٥] وهذا هو الإسلام الحقيقي ، الإيمان بالله ، وبجميع أنبيائه ، دون تفريق بين كتاب عربي وآخر عبري ، بين مكة والقدس ، بين عنصر العرب وعنصر اليهود.

(وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ)

الإسلام بمعناه الحقيقي ، الذي يعني التسليم لله والايمان بجميع أنبياء الله دون تفريق بينهم ، الإسلام بمعناه الحقيقي ، الذي يعني التعالي عن قيم الأرض الى قيم السماء والترفع على حواجز المصلحة ، والحساسية ، والقومية ، واللغة ، والعنصرية ، والاقليمية ، والالتقاء على صعيد الله والحق والحرية والعدالة والمساواة.

٦٠٤

كَيْفَ يَهْدِي اللهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٨٦) أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (٨٧) خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (٨٨) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٨٩) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ (٩٠) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٩١)

____________________

٨٨ [ينظرون] : يؤخرون.

٩١ [أفتدى] : من الفدية وهي البدل من الشيء في ازالة الاذية

٦٠٥

لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ (٩٢)

____________________

ومنه فداء الأسير لأنه بدل منه في إزالة القتل والأسر عنه.

٩٢ [البر] : أصله السعة ومعناه النفع الواصل الى الغير مع القصد الى ذلك وضد البر العقوق.

٦٠٦

الارتداد أقسامه وجزاؤه

هدى من الآيات :

إن الذي يكفر ببعض رسالات الله فكأنه كفر بها جميعا ، لماذا؟ لأنه ينطلق في كفره بهذه الرسالة من قيمة ذاتية ، أو أرضية ، تتناقض مع قيمة التوحيد. فهو ـ مثلا ـ يكفر بالرسول محمد (ص) لأنه عربي ، فهو ينطلق إذا من قيمة العنصرية المتناقضة مع قيمة التوحيد ، التي نزلت على النبي موسى عليه السلام. ولن يقبل الله منه الإيمان ، لأنه في الواقع يعني لا إيمان مطلقا بالله وبحاكميته المطلقة على الكون.

في هذا الدرس تعالج الآيات قضية الارتداد بهذا المفهوم ، وبعد أن تبين أن الله لا يهدي المرتدين لأنهم تعمدوا الكفر بعد الإيمان ، والله لا يجبر أحدا على الايمان بعدئذ يبين أن هؤلاء ملعونون عند الله ، وبعيدون عن قيم الله ، وملعونون عند الملائكة ، فهم بعيدون عن سنن الحياة وملعونون عند الناس فهم بعيدون عن الجماهير.

٦٠٧

ثم يقسّم المرتدين الى ثلاثة أقسام :

(أ) الذي يتوب ويصلح ما أفسده.

(ب) الذي يزداد كفرا ، ولا يتوب إلّا عند ما يحضره الموت.

(ج) الذي لا يتوب حتى يأتيه الموت.

ويبيّن أنّ القسم الأول فقط ، تقبل توبته ، أما الآخران فإنهما لن تقبل توبتهما.

والارتداد ـ عموما ـ يحصل بسبب متاع الحياة الدنيا ، وعلى الإنسان أن يقاوم إغراء الدنيا ، وعلى الإنسان أن ينفق ما تحبه نفسه حتى يحبه الله.

بينات من الآيات :

[٨٦] الذي يكفر بالرسالة عن جهل ، ثم لا يظلم نفسه ولا يظلم الناس ، فان عاقبته قد تنتهي بخير ، ولكن الذي يكفر بالرسالة بعد ايمان بها قلبا ، ثم يظهر إيمانه أيضا بالشهادة بها علنا ، ويقتنع بكل ذلك اقتناعا عقليا ، ثم يكفر ابتغاء مصلحة ذاتية ؛ فانه لا ينال الخير ولا يهديه الله لماذا؟

لأنه ظالم وكيف؟ الذي يكفر بعد الإيمان ، فانما ينطلق كفره من قيمة ذاتية ، أو عنصرية ، أو إقليمية ، أو ما أشبه ، وكل هؤلاء يظلمون الناس طبيعيا ، كما يظلمون أنفسهم أترى من يعبد شهواته ، أو عنصره لا يظلم الآخرين؟

والظلم يتناقض والهداية. ذلك ان الظلم يحجب العقل ، ويفسد الضمير ، ويضعف الارادة في النفس.

٦٠٨

(كَيْفَ يَهْدِي اللهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ)

ايمانا قلبيا أو ظاهرا.

(وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌ)

شهادة في الظاهر.

(وَجاءَهُمُ الْبَيِّناتُ)

حتى اقتنعوا عقليا ، وبالتالي كفروا بعد تكامل عناصر الايمان.

(وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)

لان هؤلاء هم ظلمة بتقديسهم قيم غير قيمة التوحيد ، وانطلاقهم منها في طريق الكفر بالله.

جزاء الارتداد :

[٨٧] أول وآلم جزاء يناله علماء السوء ، ان الله يسلب منهم العقل ، ويجعل بينهم وبين الحقيقة حجابا من شهواتهم ، وأهوائهم ، فلا يرون شواهد الحق في الواقع.

والجزاء الثاني : هو انهم يبعدون عن رحاب الله ، إذ يسلب منهم الله نعمة الإيمان ، ولا يتذوقون حلاوة مناجاة الله ، والارتباط الروحي به. وبالتالي يبتعدون عن كل القيم السامية ، كقيمة الحق ، وقيمة الحرية ، والكرامة ، قيمة العدالة ، والمساواة. وتتحجر قلوبهم ، فلا تخشع لذكر الله أبدا.

والجزاء الثالث : هو انهم يبتعدون عن القوى الفاعلة في الكون (والتي يهيمن

٦٠٩

عليها الملائكة) ، كنتيجة طبيعية لضلالتهم عن الحقائق ، وعن القيم السامية.

ان سنن الله في الحياة لا يستطيع ان يستثمرها الإنسان في صالحه ، إلّا إذا عرفها معرفة تامة ، وكان له تطلعات سامية ، أراد ان يحققها من خلال السنن تلك ، وهؤلاء لا يعرفون السنن ، ولا يمتلكون التطلعات السامية التي تصنعها القيم ، وبتعبير آخر ليست لهؤلاء رسالة في الحياة ، والحياة ترفض الخضوع لمن لا رسالة له فيها.

أما الجزاء الرابع والذي يأتي نتيجة لما سبق فهو :

الابتعاد عن الناس ، ذلك ان الناس ينفضّون عمن ليست له هداية ، ولا روحانية ، ولا قدرة على استغلال الحياة ، فلما ذا يلتف حولهم الناس.

ولنا ان نتصور عمق الخيبة التي تصيب هؤلاء الخونة ، انهم خانوا رسالة الله ، للحصول على مرضاة الناس ، فخسروهما معا ، (ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ).

والقرآن يسمي الابتعاد ب (اللعنة) ، لأنها تعني الطرد والابعاد بذلة وصغار ، وهي تتناسب مع حالة العقاب.

(أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ)

[٨٨] وهذه اللعنة تبدأ في الدنيا ولكنها تستمر الى الآخرة ، وتتحول هناك الى صورة عذاب أليم ، لا يخفف عنهم أبدا.

(خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ)

أي لا يمهلون لاعادة النظر في واقعهم ، بسبب ارتدادهم عن الرسالة بعد العلم بها.

٦١٠

بين الرحمة والتوبة :

[٨٩] ولا يعني هذا الواقع المرّ الذي انتهى اليه خونة الرسالة ، ان أبواب رحمة الله سدّت في وجوههم ، كلا ان رحمة الله واسعة ، ولكن يجب عليهم أن يتوبوا وأن يحاولوا إصلاح ما أفسدوه بأعمالهم السابقة ، مثلا السعي من أجل هداية من أضلوا من الناس.

(إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)

[٩٠] لو تاب خونة الدين في المراحل الاولى من حياتهم ، حيث تنفع التوبة في إصلاح الناس ، وحيث ان الرسالة لا تزال ناشئة ، وحيث تكون التوبة خالصة لله ، ودليلا على تبدل حقيقي في الموقف. لو تابوا آنئذ قبلت توبتهم. ولكن لو استمروا على الضلالة ، وقاموا بكلّ الفساد الممكن ضد الرسالة ، حتى إذا انتشرت الرسالة وخسروا كلّ مواقعهم ، تابوا لكي يكسبوا عطف الرسالة الجديدة ، هؤلاء لا تقبل توبتهم ، لان توبتهم ليست في الله ، بل من أجل تغطية فشلهم.

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ)

أيّ انهم لا يهتدون أبدا وان توبتهم ليست حقيقية بل طمعا في الدنيا.

[٩١] ويشبه أولئك الذين يستمرون على الضلالة حتى يدركهم الموت ، انهم من أهل النار ، ولكنهم يأملون لو انهم يملكون ثروة الدنيا ، ويدفعونها من أجل إنقاذ أنفسهم من نار جهنم ، ولكن هيهات. ان هؤلاء ضيعوا على أنفسهم فرصة جيدة في الدنيا والآن لا ينفعهم الندم.

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ

٦١١

الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ)

انهم في الدنيا خانوا الرسالة من أجل الحصول على بعض الثروة ، وبعض الأنصار ، وهناك في الآخرة ، لا تنفعهم ثرواتهم ، ولا أنصارهم شيئا.

[٩٢] وكان عليهم أن يضحوا في الدنيا ببعض الثروة ، وبعض الناس ، من أجل مرضاة الله. ذلك ان مرضاة الله لن تنال بدون تضحية ، وبدون التغلب على حب الذات من أجل الله.

(لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ)

والله يعلم بما تنفقون في سبيله ، ولا يخدعكم الشيطان ويقول لكم : اعملوا من أجل الناس ، انهم يعطونكم الجزاء العاجل ، أمّا جزاء الله فلا يعلم هل يأتي أم لا.

(وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ)

وكلمة أخيرة : ان رجال الدين هم المهدّدون قبل غيرهم بخطر الابتعاد عن روح الدين ، لان الناس لو ابتعدوا عن الدين فالأمل معقود برجال الدين ، أن يهدوهم وقد يستجيب الناس لهداية رجال الدين ، لأنهم يعترفون بدور أولئك في الموعظة والهداية ، ولكن لو فسد رجال الدين فمن الذي يهديهم؟ وحتى لو افترضنا أن الناس يعظونهم فإنهم بالطبع يتعالون على الناس ، ولا يستمعون الى مواعظهم.

٦١٢

كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلاَّ ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٩٣) فَمَنِ افْتَرى عَلَى اللهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٩٤) قُلْ صَدَقَ اللهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٩٥) إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ (٩٦) فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ

____________________

٩٦ [بكة] : وأصل بكة البكّ وهو الزحم يقال بكه يبكه إذا زحمه فبكة مزدحم الناس للطواف وهو ما حول الكعبة من داخل المسجد الحرام ، وقيل سميت بكة لأنها تبك أعناق الجبابرة. إذا لحدوا فيها بظلم ولم يمهلوا والبك دق العنق.

[مباركا] : من الثبوت اي كثير الخير والبركة.

٦١٣

مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (٩٧) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَاللهُ شَهِيدٌ عَلى ما تَعْمَلُونَ (٩٨) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَها عِوَجاً وَأَنْتُمْ شُهَداءُ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٩٩) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ (١٠٠)

____________________

٩٩ [تبغونها] : تطلبونها.

[عوجا] : ميل.

٦١٤

العصبية عقبة الوحدة

وأساس الكفر

هدى من الآيات :

حرم يعقوب على نفسه بعض الطعام وكان ذلك من أجل ترويض نفسه على الزهد انطلاقا من قاعدة «لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ» وأكرم الله يعقوب بهذه النية الصادقة فحرم على بنيه (بني إسرائيل) تلك الأطعمة اقتداء بأبيهم إسرائيل (يعقوب). وكان تحريم الطعام قانونا مؤقتا ذا هدف محدد.

ولكن بني إسرائيل تشبثوا بهذه المحرّمات الوقتية واتخذوا منها ذريعة لعدم الاعتراف بالنبي محمد ، ولو انهم راجعوا التوراة لوجدوا كيف انها كانت محرمات وقتية ، وذات صبغة خاصة.

وهذا مثل لنوع الحجج التي يستند إليها علماء بني إسرائيل في رفضهم للرسالة الجديدة ، وهو يعتمد على القشرية والجمود على الأشخاص وعلى سيرتهم.

ويعارض القرآن مثل هذه الحجة حين يطرح إبراهيم كشخصية بديلة عن

٦١٥

يعقوب يوحّد بين جميع الديانات.

ويستدل على ذلك بان إبراهيم كان أبا للجميع وهو بانى الكعبة التي يقدسها العرب ، وهناك دلالة واضحة على ذلك في مقام إبراهيم ، وفي أن الدعوة الى الحج دعوة عامة تشمل القادرين ، ثم يذكر القرآن أهل الكتاب بان خلافهم هذا يسبب في ابتعاد الناس عن الدين.

ويوجه خطابه الى المسلمين فيدعوهم الى الحذر من اتباع أهل الكتاب لأنهم ليسوا ـ في الواقع ـ دعاة للدين انما خونة للرسالة وهم يدعون الى الكفر.

بينات من الآيات :

تقديس الأشخاص يعرقل سبيل الوحدة :

[٩٣] (كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلَّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ)

إسرائيل اسم يعقوب وهو الجد الأعلى لقبائل بني إسرائيل. وقد حرم على نفسه بعض أنواع الطعام فاتبعه بنوه على ذلك ولم يكن هذا التحريم شريعة الهية ثابتة.

والشواهد على ذلك موجودة في كتاب التوراة ذاته.

(قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ)

وسوف تجدون فيه كيف ان تحريم الطعام لم يكن ابديا وبالتالي فان رسالة محمد جاءت لتحلله عليكم.

[٩٤] ولكن بني إسرائيل تشبثوا بهذا التحريم وجعلوه ذريعة لرفض الإسلام وبالطبع انعكس هذا الرفض على أنفسهم وكانوا هم قبل غيرهم الخاسرين بهذا

٦١٦

الرفض.

(فَمَنِ افْتَرى عَلَى اللهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ)

اي بعد مراجعة التوراة.

(فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)

[٩٥] ان الالتصاق بالاشخاص التاريخيين كثيرا ما يصبح عقبة في طريق الوحدة بين (أصحاب الرسالة) وعلينا ان نعرف ان أولئك الأشخاص كانوا امة قد خلت لها ما كسبت ولنا ما كسبنا ، ولا ندع حياة أولئك وسيلة للتفرقة .. ثم في مواجهة أولئك الأشخاص يوجد آخرون يوحدون بين أصحاب الرسالة ، دعنا نركز الضوء عليهم ونقوي الانتماء بهم حتى تشتد صلاتنا ببعضنا البعض أكثر فأكثر .. فمثلا : إذا كانت العرب تختلف عن اليهود في يعقوب فانها تجتمع في إبراهيم دعنا نتجه الى إبراهيم ونكتشف في شخصيته رمز وحدة الرسالات .. وهي الكعبة.

(قُلْ صَدَقَ اللهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً)

مائلا عن الشرك ، ورافضا للطاغوت المتسلط على رقاب الناس باسم قيم الشرك.

(وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ)

فلا عبد الطاغوت ، ولا اتخذ العجل إلها من دون الله ولا قال : ان عيسى ابن الله.

[٩٦] وان رمز وحدة الرسالات هو بيت الله الحرام لأنه كان قبل كل بيوت العبادة.

٦١٧

(إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ* فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ)

في بيت الله أكثر من اية بينة تدل على ان بيت الله الاول ومن أبرز تلك الآيات مقام إبراهيم. وهو تلك الصخرة التي كان إبراهيم عليه السلام يقف عليها لبناء البيت ووجودها وتكريم الناس لها بالصلاة لله عندها ، لدليل على ان باني البيت هو إبراهيم.

ومن هو إبراهيم؟

انه الأب الروحي لرسالات التوحيد الثلاث ، والجد الأعلى لبني إسرائيل وكثير من العرب ، وموضع احترام الجميع. فلتلتقي كل الرسالات في البيت الحرام ولتجتمع عليه انه بيت الأمن ، بيت الإسلام يجتمع فيه الجميع ، دون اختلاف في اللغة أو اللون أو العنصر أو المذهب ، ويحترم فيه الجميع ، ويعطى للجميع حرية الكلام ، حرية الحوار والنقد وبالتالي .. التفاعل الثقافي والحضاري.

إذا فبيت الله موضع التقاء فعلي لكل الرسالات لكل المذاهب وبذلك يكون أفضل اداة للوحدة الحقيقة ، الوحدة القائمة على أساس التعارف والتحاور والتعاون.

[٩٧] الدعوة الى الحج عامة وشاملة ولا تخص جماعة دون اخرى وعلى كل من يستطيع تلبية الدعوة الى الحج دون تلكؤ. وما دامت الدعوة عامة فان نوازع العنصرية أو الطائفية التي تمنع الحج هي كفر بالنعمة وتمرد على دعوة الوحدة ورفض لها وصاحبه يتحمل مسئوليته بالكامل.

(وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ)

٦١٨

وحج البيت يعني الذهاب اليه وتقصده من بعيد والاستطاعة هي : القدرة الجسدية والمالية والامنية.

من معاني الكفر :

والكفر هنا يحمل معنيين :

الاول : الكفر بالله في رفض تنفيذ أوامره ومنها الحج.

الثاني : الكفر بنعمة الحج حيث الحرية والبركة والهدى وبالتالي حيث الوحدة الرسالية ، والكلمة تعريض واضح باهل الكتاب الذين لا يطبقون فريضة الحج الى البيت بالرغم من ايمانهم بان إبراهيم هو الذي بناه.

وكلمة اخيرة : الحج الذي شرعه الله لجميع الناس وجعله رمزا للوحدة وموقعا للتفاعل الحضاري قد انتهى اليوم الى مجموعة طقوس فارغة لا تشمل واحدة بالمائة من منافعه العظيمة بسبب ابتعاد الامة عن روح التعاليم الإلهية وبسبب سيطرة الطواغيت على شئون الامة.

ولو لا هذا الفهم القشري لدور البيت في الوحدة وفي التعارف والتفاعل والتعاون ، ولو لا الطواغيت الحاكمة على البلاد الاسلامية لرأينا اذن كيف كان الحج قادرا على تحقيق دوره الحضاري في وحدة الامة وتقدمها وتطورها وتغلبها على مشاكلها الداخلية ، وتحدياتها الخارجية.

[٩٨] ولكن أهل الكتاب يكفرون مرة واحدة بكل تلك الآيات العظيمة للحج والتي في طليعتها ما ذكرت في الآية السابقة ، ويتساءل القرآن لماذا هذا الكفر الصريح ..

٦١٩

(قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَاللهُ شَهِيدٌ عَلى ما تَعْمَلُونَ)

وسوف يحاسبكم على هذا الكفر ، لأنه يؤدي الى انحرافات عملية.

[٩٩] والكفر يبدأ قليلا ويزداد حتى يصل الى درجة العمل من أجل إضلال الآخرين ..

(قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَها عِوَجاً وَأَنْتُمْ شُهَداءُ)

انهم كانوا يصدون المؤمنين عن الصراط المستقيم الذي هو صراط الله وسبيله ، وكانوا يريدون ان ينحرف السبيل الى حيث تتحقق أهواؤهم ، بالرغم من انهم كانوا شهداء ، والمفروض في الشهيد ان يتجنب الكذب وان يصدق بالحقيقة وان كانت مخالفة لاهوائه.

أهل الكتاب هم حملة علم الدين ، الذين يفترض فيهم انهم يدعون الى الله ، لا ان يقطعوا طريق السالكين الى الله ، ويحرفون طريقهم بسبب طائفياتهم أو حزبياتهم أو مذهبياتهم الضيقة ، وهذا الواقع هو الذي يعيشه كثير من حملة الدين حتى اليوم ، لا يخلصون لدعوتهم بقدر ما يخلصون لحزبهم أو مذهبهم أو طائفتهم وهم بذلك السبب الرئيسي لكفر طائفة كبيرة من البشر.

(وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ)

[١٠٠] ان أهل الكتاب بدأوا بالكفر بالرسالة الجديدة ثم صعدوا الموقف فأخذوا يمنعون جماعتهم من الايمان بهذه الرسالة بشتى الوسائل ، ثم صعدوا الموقف وحاولوا.

٦٢٠