من هدى القرآن - ج ١

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ١

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-04-1
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٧٣٦

تضليل المؤمنين من غير جماعتهم ، أولئك الذين كانوا مشركين من قبل وكان المفروض بأهل الكتاب (وهم المؤمنون) أن يفرحوا بتحوّلهم الى الايمان ولكن النظرة الطائفية الضيقة هي التي أعمت قلوبهم ولا تزال تعمي قلوب كثير من دعاة الدين حتى اليوم.

ومن هنا حذر القرآن المسلمين من المسحة الدينية التي تكسوا وجوه فريق من أهل الكتاب ، الكفار برسالة الله ، وقال :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ)

٦٢١

وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٠١) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٠٢) وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٠٣) وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ

____________________

١٠١ [يعتصم] : يمتنع.

١٠٣ [تقاته] : من وقيت.

[بحبل] : السبب الذي يوصل به الى البغية كالحبل الذي يتمسك به للنجاة من بئر أو نحوه ومنه الحبل للأمان.

[شفا] : حرف.

٦٢٢

وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٠٤) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٠٥) يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (١٠٦) وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَتِ اللهِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (١٠٧) تِلْكَ آياتُ اللهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ (١٠٨)

____________________

١٠٤ [أمة] : اشتقاقها من الأمّ الذي هو القصد من اللغة وتستعمل على ثمانية أوجه منها الجماعة ومنها اتباع الأنبياء لاجتماعهم على مقصد واحد. ومنها القدوة لأنه يأتم به الجماعة ومنها الدين والملة كقوله انا وجدنا آباءنا على امة ومنها الحين والزمان إلخ.

٦٢٣

الوحدة هاجس الامة الحضاري

هدى من الآيات :

«وحدة رسالات الله» كان موضوع الدرس السابق ، اما موضوع هذا الدرس فهو «وحدة الامة الاسلامية» التي تتمسك برسالة الله الواحدة ، حيث يعالجها القرآن من عدة وجوه أبرزها : ان أهم شروط الوحدة وجود رابطة مشتركة بين افرادها وفئاتها ورابطة الوحدة الاسلامية كتاب الله والقيادة الاسلامية التي تجسد هذا الكتاب ، ومزيد من الاعتصام بهما يعني مزيدا من التفاعل والتماسك ، وليس من الممكن ان نطلب الوحدة من دون مبدأ. ونظرة الى الوراء ، الى الجاهلية ، تكشف لنا كيف لم يقدر العرب من توحيد أنفسهم ـ بالرغم من ايمانهم بالوحدة وبضرورتها الحياتية لهم ـ حتى جاءت الرسالة فوحدهم الله بها.

ولأن الوحدة مبدئية فلا بد ان توجد في الأمة فئة تتطوع للمبدأ ، وتدافع عنه ، وتراقب مدى تنفيذ الأمة له ، حتى لا يتراخى الحبل الذي يشد الامة ببعضها.

والوحدة المبدئية هي التي يباركها الله ولا يبارك الله وحدة امة من دون

٦٢٤

خضوعها لقيم الله ، إذ انّ الله سيفصل الذين لا يخضعون لقيمه عن المؤمنين في يوم القيامة ويفرق بينهم ، بينما يجعل المؤمنين في منزلة واحدة.

ونحن كذلك يجب ان نفكر في يوم القيامة حيث يفصل الله بين الناس ونطبق في الدنيا القيم الالهية ، والفكرة التي يكررها القرآن خلال حديثه عن الوحدة هنا ، هي : ان الخلاف غير المبدئي يساوي الكفر بالقيم التي تربط الامة ببعضها فاذا لم يتراخ حبل القيم الذي يعتصم به الجميع ، لا يمكن ان توجد ثغرة بين المؤمن وأخيه المؤمن.

بينات من الآيات :

الوحدة بالاعتصام بالله :

[١٠١] الذين يتبعون أهل الكتاب يكفرون بالرسالة وذلك لأنهم يتركون النبع الصافي الى الرافد البعيد أو حتى الى السواقي الملوثة ، يتركون رسول الله ، وهو منهم وبعث فيهم ، ويتركون كتاب الله ، وقد نزل عليهم وبلغتهم ، يتركونها الى رسول توفاه الله من زمان بعيد ، والى كتاب عملت فيه يد التحريف.

(وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ)

اما من يترك الله الى شهواته فسوف تنحرف به الطرق الى كل واد سحيق.

ان الايمان بالله والتسليم للحق ، ومخالفة الهوى والشهوات هو الضمان الأكيد لاستقامة الإنسان في الحياة إذ لا ينحرف البشر الّا باتباعه هواه أو خضوعه لشهواته.

والاعتصام بالله يعني ـ حسب دلالة السياق ـ الالتزام بكتاب الله ـ ويقول

٦٢٥

رسول الله الذي يجسد ذلك الكتاب لا يمكن فصلهما عن بعضهما أبدا لذلك تجد القرآن بدّل التعبير فلم يقل ـ من يعتصم بهما (كتاب الله ورسول الله) بل قال بالله ، للدلالة عن انهما شيء واحد.

[١٠٢] من السهل ان يؤمن البشر بربه وبكتبه ورسله ولكن الصعب هو تحديه لشهواته ، حيث تثور عليه كما يثور البركان ويتحدى الضغوط حين تتزاحم عليه من كل جانب ، الّا إذا خشي الإنسان ربه ، وتذكر عظمته وتذكر الموت والحساب ، وبالتالي أصبح متقيا.

وإذا تراخى الإنسان امام شهواته أو ضغوط الحياة فانه قد يموت في لحظة تراخيه وابتعاده عن الايمان فيموت كافرا ، ولذلك كان على الإنسان ان يصمم على المقاومة حتى الموت ، متحديا كل الضغوط ، هكذا يأمرنا الله.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)

«حق تقاة الله» هو التصميم على الاستمرار في خط الرسالة حتى الموت.

ومناسبة الحديث عن الاستقامة والاستمرار هنا هي مقاومة ضغوط الانحراف باتجاه الكفر بعد الايمان الذي تحدث عنه القرآن في الآية السابقة وكذلك بمناسبة الحديث عن ضرورة الوحدة إذ الاختلاف لا ينشأ الّا لضعف التقوى على النفوس.

[١٠٣] الاعتصام بكتاب الله وبالرجل الذي يمثل هذا الكتاب هو حبل الله الذي تحدثت عنه. الآية الاولى ، وهذه الآية ، وهو الطريق الوحيد للوحدة الحقيقية التي بدونها لا معنى للوحدة. بل للدجل والنفاق.

(وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا)

٦٢٦

لا وحدة الا بالعقيدة :

الهدف المشترك والمصلحة المشتركة والمصير الواحد و.. و.. ، قد يكون سببا للوحدة ، ولكن بشرط وجود إيديولوجية واحدة يتمسك بها الجميع فتعطيهم رؤية مشتركة تجاه الوضع.

وإذا افترضنا شعبنا (كالشعب العربي) ذا هدف مشترك هو التخلص من إسرائيل ، ومصلحة مشتركة هو تطوير ثرواته القومية وله مصير واحد ، فأما التقدم والاستقلال أو التخلف والاستعباد.

ولكن لو لم يكن للشعب العربي إيديولوجية واحدة فانه يختلف على بعضه في طرق تحقيق الهدف ، الانتماء الى الكتلة الشرقية أو التحالف مع الغرب ، أو الحياد الايجابي ، الاقتصاد الحر ، والاشتراكية ، الحزب الواحد أو تعدد الأحزاب.

وكذلك يختلف في أساليب الوصول الى المصلحة وبالتالي في ابعاد المصير الواحد. من هنا يركز القرآن على اهمية الاعتصام بحبل الله (كتاب الله والقيادة المنبعثة منه) لتحقيق الوحدة ، ويذكرنا بظروف العرب قبل الإسلام ويقول :

(وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً)

الاخوة العربية لم تأت بسبب الدم المشترك أو اللغة الواحدة ، أو حتى الأرض ، والمصلحة ، والمصير الواحد ، بل جاءت بعد ان منّ الله عليهم بنعمة الكتاب ، فاذا بالفكر يتوحد ، والعواطف تتفاعل ، وتتحقق الاخوة. ولو لا نعمة الكتاب لكانت الخلافات تهددكم بالدمار.

(وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ

٦٢٧

لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) وتعرفون ان الاخوة القائمة بينكم ليست سوى نتيجة الايمان بالله والاعتصام بحبله.

ويا ليت العرب اليوم تذكروا وحدتهم ، وعرفوا كيف كانت ولماذا ، وعادوا الى نعمة الايمان التي تؤلف بين قلوبهم وتجعلهم اخوة صادقين.

كيف نحافظ على الوحدة :

[١٠٤] للمحافظة على الوحدة .. لا بد من المحافظة على القيم التي وحدت الناس .. والمتجسدة في كتاب الله .. فبدون قيمة العدالة الاجتماعية كيف يمكن مطالبة المظلوم بالوحدة مع الظالم ، ومن دون قيمة المساواة كيف يمكن للمستعبد ان يسكت عن المستغل .. ومن دون قيمة التقوى كيف تثق الجماهير بالحكام .. أو كيف يثق الحكام بالجماهير.

من هنا ولأجل المحافظة على القيم التي تضمن الوحدة لا بد من وجود طائفة نذرت نفسها لله.

(وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)

وهذه الطائفة يجب ان تكون رمزا للقيم ورمزا للوحدة ، لتشكيل قوة معنوية هائلة للمحافظة على الوحدة داخل المجتمع الاسلامي.

[١٠٥] وعاد القرآن يأمرنا بالوحدة ويبين بان الاختلاف بعد الإيمان يعقبه عذاب عظيم وسواد الوجه.

٦٢٨

(وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ)

ان دراسة تجارب الأمم رؤية واضحة لاوضاعنا تلك الأمم تفرقوا فاذا كل طائفة منهم تتشكل حسب قيم ارضية زائفة ـ قيمة الدم واللغة والإقليم والمصالح العاجلة ، وكان تمسكهم بتلك الروابط أشد من تمسكهم بالدين ـ فلذلك اختلفوا فيما بينهم .. لأن هذه القيم مختلفة ولا تنتج الّا الاختلاف فابتلوا بعذاب عظيم في الدنيا وفي الآخرة.

[١٠٦] (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ)

ان الاختلاف المشروع الوحيد هو بين الكفر والايمان لأنه الخلاف الذي يعترف به ربنا هناك عند الحساب الحق .. والكفر بعد الايمان .. هو الاختلاف حسب القيم الارضية الزائفة بعد تمسك الامة بقيمة واحدة هي قيمة التوحيد.

ان الايمان بالأرض وتقديس التراب والوطنية ومحاربة الناس من أجلها نوع من الكفر بقيمة التوحيد التي تجعلك تؤمن بالله وبكل إنسان مؤمن به ، في اي ارض عاش .. وكذلك الايمان بسائر القيم الزائفة ، من هنا نعرف ان الاختلاف كفر.

[١٠٧] (وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَتِ اللهِ هُمْ فِيها خالِدُونَ)

لأنهم بقوا ملتزمين بقيمهم وبوحدتهم.

[١٠٨] الوحدة حسب قيم السماء خير للناس وتقدم ورفاهية ، والله يبين ذلك من أجل ان يصل البشر الى مستوى رفيع من التقدم والرفاه.

(تِلْكَ آياتُ اللهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ)

٦٢٩

وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (١٠٩) كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ (١١٠) لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذىً وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ (١١١) ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ ما ثُقِفُوا إِلاَّ بِحَبْلٍ مِنَ اللهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (١١٢) لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (١١٣) يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ

٦٣٠

وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَأُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (١١٤) وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (١١٥) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (١١٦) مَثَلُ ما يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ أَصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَما ظَلَمَهُمُ اللهُ وَلكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (١١٧)

____________________

١١٦ [تغن عنه] : تدفع عنه ضررا.

١١٧ [صرّ] : برد شديد وأصله الصرير. وقيل الصر صوت النار التي كانت في تلك الريح ويجوز ان يكون الصر صوت الريح الباردة الشديدة. وذلك من صفات الشمال.

٦٣١

التزام القيم ضمانة الاستقامة

هدى من الآيات :

في هذا الدرس يتابع السياق حديثه عن المسئولية الاجتماعية تجاه القيم المقدسة ، حيث يجب على الجميع ان يحافظوا عليها ويعرفوا انّ محافظتهم عليها هي ضمان استمرار تقدمهم وعزهم ، وان التهاون فيها سيؤدي بهم الى الذلة وغضب الله والمسكنة ، ويأتي القرآن الحكيم بمثلين للالتزام بالمسئولية الاجتماعية ، واحد من واقع الامة الاسلامية ، حيث انها لم تستطع ان تصل الى مستواها من المجد .. الا بفضل قيامها بهذه المسؤولية ثم يقارنها بمثل أخر من واقع اكثرية أهل الكتاب الذين تركوا هذا الواجب فضربت عليهم الذلة والمسكنة.

وحين يتحمل أبناء الامة مسئوليتهم الاجتماعية فان ذلك سوف يعطيهم الوحدة المبدئية ذات الرابطة الايمانية. إذ انه ينمي روح القيم السامية في الامة لتشد بعضهم الى البعض شدا متينا.

٦٣٢

وفي آخر الدرس ، ينسف القرآن الاسس الفكرية التي تعتمد عليها اكثرية أهل الكتاب في كفرهم ، وهي : الأموال ، والمصالح ، ثم الأولاد والطموحات ، ثم حب الخلود في الدنيا. ويبين ان كل تلك القواعد تنقلب عليهم في الاخرة ، حيث انها لا تنفعهم شيئا وان كل ما ينفقون في هذا السبيل أشبه شيء بزراعة تطوف عليها رياح هوج فتهلكها .. ان كل اتعاب الفلاح ستذهب ادراج الرياح ، بسبب ظلمه لنفسه ، وعدم اهتمامه بموقع زراعته الا يزرعها في حقل مكشوف ، كذلك الكفار كلما ينفقونه في الدنيا لا تنفعهم شيئا في الاخرة.

بينات من الآيات :

[١٠٩] بالرغم مما قد يلاحظه الناظر الساذج في أحداث الكون وبالذات الظواهر الاجتماعية فيها ، من انها ترتبط بهذا العامل أو ذاك. فانها محكومة بسنن فطرية عامة أجراها الله في الحياة ، وهو يدبرها من فوق عرشه العظيم ، ان تقدم الأمم أو تخلفها ، عزها أو ذلها ، رفاهها أو شقاءها ، ليست كل تلك الظواهر الاجتماعية صدفا عارضة ، هي أشبه شيء ببناء البيت أو زراعة الحديقة ، بل يخضع لقوانين ثابتة وضعها الله ، إذ كل الأمور مرجعها النهائي هو الله سبحانه.

(وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ)

[١١٠] ومن هذه السنن التي أحكمها ربنا ، ودبّرها ، وأجراها في الكون ، أنّ الأمة لا تصبح خير امة ، الا إذا تحملت مسئوليتها الاجتماعية ، ذات الرؤية الواضحة بإخلاص كاف.

(كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ)

فأنتم أمة (خير) وليس أمة شر ، وهي قد (أخرجت) حيث صنعتها الرسالة

٦٣٣

ولم تصنع نفسها بنفسها ، ثم هي (للناس) وليست عليها ، إذ مسئولية الامة الاسلامية هي الدفاع عن المحرومين والمظلومين ، وتوفير السعادة والأمان لجميع الناس ، وضمن هذه المسؤولية الاجتماعية هو انكم :

(تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ)

والأمر بالمعروف لا يعني مجرد الأمر اللساني ، بل يعني السعي وراء تحقيق المعروف بشتى الطرق .. وكذلك النهي عن المنكر ، ولكن الامة الاسلامية التي تحمل هذه الرسالة الاجتماعية ، تنطلق فيها من قاعدة صلبة هي الايمان بالله ، إذ ان مصدر التحسس بالمسؤولية الاجتماعية هو الايمان بالله ، وباطل أو لا أقل محدود ذلك التحسس الاجتماعي الذي لا يستمد قوته من الإيمان بالله.

(وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ)

وأهل الكتاب هم بدورهم مهيئون لتحمل هذه المسؤولية ، إذ انكم ـ أيها المسلمون ـ لم تتحملوا هذه المسؤولية لأنكم عرب ، أو ان نبيكم شخص محمد (ص) بل إنّ الله حملكم رسالته ، كما حمّل أهل الكتاب رسالته. وإذا تحملوا هم بدورهم هذه المسؤولية أصبحوا ـ كما أنتم ـ خير أمة أخرجت للناس.

(وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ)

وفي الآيات التالية يضرب الله سبحانه مثلا للفاسقين منهم ثم مثلا للمؤمنين.

بين الفسق والإيمان :

[١١١] أما الفاسقون فإنهم أذلاء ، ضعفاء بفسقهم وانحرافهم ، وهم لا

٦٣٤

يستطيعون إلّا الحاق أذى بسيط بكم ، وحين القتال ينهزمون ثم ليس هناك فئة تنصرهم كما ان بعضهم لا ينصر بعضا.

(لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ)

[١١٢] انهم أذلاء أين ما وجدهم الناس مارسوا معهم أساليب التذليل ، وليس أمامهم إلا طريق واحد للخلاص من هذه الذلة هو العودة الى كتاب الله واتباع سنن رسول الله. أو الارتباط بالامة الاسلامية المتقدمة عليهم. فاذا اعتصموا بحبل الله «كتاب الله والقيادة الاسلامية» فإنهم سوف يصبحون أعزاء بذلك ، وان اعتصموا بحبل من الناس (الامة الاسلامية) فإنهم سوف يصبحون أقوياء بالتبعية والتحالف مع الامة القوية.

والا فهم أذلاء والذلة تؤدي بهم الى المسكنة .. والفقر وذلك بسبب فرض الأقوياء عليهم التخلف والاستغلال.

(ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ ما ثُقِفُوا)

أي في أي بلد تواجدوا هم والمسلمون الأكثر قوة منهم.

(إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ)

يتمثل في الخلافات الداخلية ، وفي التخلف والاستعباد ، وحتى الكوارث الطبيعية التي تلاحقهم بسبب تخلفهم وجحودهم.

(وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ)

وهي الفقر المدقع أو الفقر بذلة وصغار.

٦٣٥

ويبقى السؤال : لماذا انتهى بهم الحال الى هذه الدرجة من الانحطاط؟ والجواب : لأنهم لم يتمسكوا أساسا بحبل الله والمتمثل في كتابه ورسله لماذا؟ لأنهم كانوا يعصون الله في الأمور الصغيرة ، وشيئا فشيئا تزايد عصيانهم وتمردهم الى درجة الكفر بآيات الله وكانوا يعتدون على الناس ، ثم تصاعد عدوانهم حتى اعتدوا على حياة قادتهم الأنبياء.

(ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ)

ان العصيان هو التمرد على الحق ، وهو يؤدي الى الكفر ألم يقل ربنا : «ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى) ...» والكفر بآيات الله يستدرج الإنسان الى الكفر بالسنن والقوانين الفطرية التي جعلها الله للكون ، وبالتالي الكفر بالحقائق كلها.

أما كيف ينتهي الاعتداء على الناس الى الاعتداء على حياة الرسل؟ : لأنهم سوف يدافعون عن الناس بكل وسيلة ، ويدافع المعتدي عن نفسه ويقتل الأنبياء.

وإذا ذهبت آيات الله وأنبياؤه ، فان الحياة ستصبح فوضى ويحكمها الذلة والمسكنة.

[١١٣] هذا مثل سيء لأهل الكتاب ، أما المثل الآخر فهو يتجسد في طائفة صغيرة يقومون بالعدل ، ويؤمنون بالكتاب ويخضعون لله.

(لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ)

بأوامر الله ، منفذة لها.

٦٣٦

(يَتْلُونَ آياتِ اللهِ آناءَ اللَّيْلِ)

حيث تنام الأعين ، وتستيقظ قلوب المؤمنين ، وتخمد نيران شهواتهم ، وحيث لا عين تراقبهم فيستهويهم الشيطان برياء ، أو سمعة ، والملاحظ في القرآن انه يأمر بالتبتل في الليل أكثر من النهار.

(وَهُمْ يَسْجُدُونَ)

لله .. فهم ينفعلون بآيات الله عمليا ، ويخضعون لها سلوكيا. ولا يتلونها مجرد لقلقة لسان.

[١١٤] (يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ)

فليس أمرهم بالمعروف إلا نابعا من شخصيتهم المحبة للخير ، بدليل مسارعتهم الى الخيرات وقيامهم بها قبل غيرهم.

(وَأُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ)

[١١٥] هؤلاء أهل الكتاب ، وليسوا بمؤمنين في تلك اللحظة لسبب أو لآخر. ومن دون عناد ، أو تمرد لأمر الله باتباع رسالته النازلة على النبي محمد (ص) ومع ذلك فهم يجزون على أعمالهم بالكامل ..

(وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ)

وهذه الآية تنفي الرؤية القشرية للانتماء للإسلام بالاعتقاد بان مجرد ان يكون الفرد يشهد بشهادة الإسلام كلاميا فهو مسلم ، ومن أهل الجنة. ومن لا يشهد بذلك فيكفر وهو من أهل النار كلا .. الله ينظر الى الأعمال قبل الأقوال.

٦٣٧

[١١٦] لما ذا يكفر من يكفر؟ لأنه يغتر بماله أو أولاده. ولكن ماذا تفعل الأموال والأولاد بعد الموت؟ لماذا يخادعون أنفسهم والى متى؟

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ)

والحديث عن الكفار هنا يأتي بمناسبة أهل الكتاب ، الذين كفروا بالرسالة وناصبوها العداء. حيث يبين القرآن الحكيم في الدرس القادم الموقف الذي يجب أن يتبناه المسلمون من الكفار.

ان كثرة الثروة المادية أو الطاقة البشرية لن تغني عن الحق شيئا ، وعلينا ألا نخضع للكفار بمجرد انهم يملكون الثروة أو الكثرة.

[١١٧] اما أعمالهم وأموالهم وحتى بعض الصالحات التي يقومون بها ، فانها سوف تذهب هباء منثورا ذلك لأنها لا تعتمد على قاعدة صلبة. أرأيت لو أن الدكتور اشتبه في تشخيص المرض منذ البداية ثم أتعب نفسه في اختيار الدواء المناسب ، واهتم كثيرا بصنع الدواء ، هل ينفعه ذلك شيئا؟ أو إذا ضل الطيار طريقه ، فلم يعرف هل هو بالاتجاه يمينا أو يسارا ، فهل ينفعه التعب في توضيح الاستقامة في التحليق؟ كذلك الكفار أخطئوا في فهم الحياة أساسا فلا ينفعهم معرفة بعض الجزئيات. لذلك فكل جهودهم تقع في اطار ذلك الفهم الخاطئ وتصبح هي الاخرى عبثا بلا فائدة ..

(مَثَلُ ما يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ أَصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ)

وذهبت بكل جهودهم في لحظات ، إذ انهم ظلموا أنفسهم ولم يختاروا مثلا

٦٣٨

مكانا مناسبا للزراعة ، فهل الله مسئول عن بعث رياح هوج؟! كلا انهم هم المسؤولون ..

(وَما ظَلَمَهُمُ اللهُ وَلكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)

٦٣٩

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبالاً وَدُّوا ما عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (١١٨) ها أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ وَإِذا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ

____________________

١١٨ [بطانة] : خاصة الرجل الذين يستبطنون أمره مأخوذة من بطانة الثوب الذي يلي البدن لقربه منه.

[لا يألونكم] : لا يقصرون في أمركم ولا يتركون جهدهم ، ويألو أي يفتر ويقصر ويضعف.

[خبالا] : الشر أو الفساد. ومنه الخبل للجنون لأنه فساد العقل.

[عنتم] : أصل العنت المشقة وعنت الرجل بعنت اي دخلت عليه المشقة.

١١٩ [الأنامل] : أطراف الأصابع.

٦٤٠