من هدى القرآن - ج ١

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ١

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-04-1
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٧٣٦

(لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ)

يبدو ان أهم معاني (أولياء) ـ المناسب أيضا مع السياق ـ هو الائمة والقادة.

(وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ)

إذ يرفض الله انتماء الناس الى رسالته لفظيا ، دون انتمائهم إليها عمليا ..

(إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً)

اي تخشوا من بطشهم ، وآنئذ سيكون التسليم لولايتهم تسليما ظاهريا فقط. بينما يحتفظون بانتمائهم الحقيقي لرسالتهم الصحيحة.

ان التقاة ممارسة النضال سرية ضد الطغاة ، وهي عملية صعبة ليست فقط لاحتمالات الخطر التي تهدد الرسالي في كل لحظة ، وإنما ـ أيضا ـ لاحتمال الاستسلام لاغراءات السلطة والثروة و. و. التي لا بد ان يتصارع الرسالي معها طوال الفترة التي يقوم بالعمل السري.

ان مثل الرسالي هنا كمثل الدكتور الذي يعالج طائفة من المجذومين فلو لم يكن في جسده مناعة كافية ، تسري اليه عدوى الجذام ..

ومن هنا يذكّر القرآن هؤلاء العاملين بأنه رقيب عليهم ، وعليهم ان يحذروه.

(وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ)

حيث يحاسب الناس ليس على شكليات الولاية فحسب ، وانما أيضا على روح الانتماء أيضا. اي على ما يجري في القلب من ارتباط صادق.

٥٤١

الجهاد وجه التوحيد البارز :

[٢٩] النضال. ضد الطغاة ـ وهو الوجه الحاد للتوحيد وإخلاص العبادة لله. انه ـ بحاجة الى ضمير ديني حي. وهذا الضمير الديني يصنعه الاحساس الدائم برقابة الله على الإنسان ، وهيمنته المطلقة على اعماله. من هنا ذكّرنا القرآن :

(قُلْ إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللهُ).

ان العمل لا يكون صالحا أو فاسدا ، إلا حسب موقعه الذي يجعل فيه ، والهدف الذي يتوخاه صاحبه.

فالصلاة قد تكون رياء وقد تكون لله ، والصلاة هي هي ، لا تتغير في ظاهرها اما واقعها فيختلف من الأرض الى السماء.

من هنا تكون تعاليم السماء لتزكية النفس ، وتطهير الروح من النية الفاسدة ، والهدف الطالح.

إن الله يعلم خبايا النفس البشرية ، ويحاسب الناس على الأهداف الحقيقية التي يريدون تحقيقها بأعمالهم ..

(وَيَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ)

ومن هنا فان انحرافات البشر النفسية ، وما وراءها من انحرافات مادية جميعا ، يحيط بها علم الله وقدرته ، احاطة تامة. ثم إن الله بعلمه يحصي الأخطاء ، وبقدرته يجازي عليها

(وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)

٥٤٢

ان قوة الجبابرة لن تكون أكبر من قوة الله ، فلما ذا يرهبهم الإنسان؟!

[٣٠] ويتجلى علم الله وقدرته في يوم البعث :

(يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً)

امامها ، حيث تتجسد الأعمال وتتحول الى حقائق مشهودة يراها الإنسان ، وكم هي ممتعة ورائعة ان يجد الإنسان خير عمله ، حيث قد ذهب عناؤه وانتهت صعوباته ، وبقيت عاقبته الحسنى.

ولكن ماذا عن الأعمال السيئة :

(وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً)

حيث تلاشت اللذة البسيطة ، وبقيت عواقب الذنوب.

ان المجرمين يفرون من عواقب أعمالهم بشتى الوسائل الممكنة ، ولكن هل ينجحون؟ كلا. كذلك المذنبون في الدنيا ، سيلاقون عواقب أعمالهم .. من هنا يقول الله :

(وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ)

ان الحذر هو الضمير الحي الذي ينبض في داخل النفس ، والذي يراقب بدقة نتائج الأعمال ، والتحذير الذي يوجهه الله للإنسان ، نابع من رحمة الله التي تبقى الملجأ الأخير للإنسان في الأرض ..

(وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ)

٥٤٣

(قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣١) قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ (٣٢) إِنَّ اللهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ (٣٣) ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٣٤) إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٣٥) فَلَمَّا

____________________

٣١ [تحبون] : المحبة هي الارادة. الا انها تضاف الى المراد تارة والى متعلق المراد أخرى تقول أحب زيدا وأحب إكرام زيد ومحبة الله تعالى للعبد هي ارادة ثوابه ، ومحبة العبد لله هي إرادته لطاعته.

٣٣ [اصطفى] : اختار واجتبى وهو مأخوذ من الصفوة والصافي النقي من شائب الكدر فيما يشاهد فمثل الله خلوص هؤلاء القوم من الفساد بخلوص الصافي من شائب الأدناس.

٣٥ [محررا] : يحتمل أمرين «أحدهما» المعتق من الحرية يقال

٥٤٤

وَضَعَتْها قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى وَاللهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (٣٦) فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (٣٧) هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ (٣٨) فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ

____________________

حررته تحريرا أعتقته و «الآخر» من تحرير الكتاب يقال حررت الكتاب تحريرا أي أخلصته من الفساد وأصلحته.

٣٦ [وضعتها] : ولدتها.

٣٧ [فتقبلها] : قبلها.

[كفّلها] : ضمنها من كفل وكافل إذا تكفلت مؤنته.

[المحراب] : مقام الامام من المسجد وأصله أكرم موضع في المجلس وأشرفه ، ويقال للمسجد أيضا محراب وقيل انه أخذ من الحرب لأنه يحارب فيه الشيطان.

٥٤٥

يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (٣٩) قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عاقِرٌ قالَ كَذلِكَ اللهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ (٤٠) قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ (٤١))

____________________

٣٩ [سيدا] : السيد مأخوذ من سواد الشخص فقيل سيد القوم بمعنى مالك السواد الأعظم. وهو الشخص الذي يجب طاعته لمالكه هذا إذا قيد وإذا أطلق فلا يستعمل الا لله سبحانه.

[حصورا] : ممتنع عن الجماع ويقال للذي يكتم سره حصور.

٤٠ [عاقر] : من الرجال الذي لا يولد له ومن النساء التي لا تلد.

٤١ [رمزا] : الإيماء بالشفتين وقد يستعمل في الحاجب واليد والاول أغلب.

[العشي] : من حين زوال الشمس الى غروبها ، الأبكار : من حين طلوع الفجر الى وقت الضحى.

٥٤٦

الجماهير تقديس الذوات

وبصائر القرآن

هدى من الآيات :

من خلال قصة واقعية لرجال عاشوا وخلّفوا لنا عبرا .. آل عمران وآل إبراهيم. ومن خلال تجربة حية لا تزال تتفاعل في الحياة. تتحدث آيات القرآن عن حقائق كلية ، وبصائر عامة ، تكون هدى للناس جميعا وفي كل عصر.

ومن ابرز تلك الحقائق : ان العنصرية أخبث ثمار قيمة الأرض ، قيمة التراب والتمحور حول الذات وتقديسها وجعلها المقياس الأفضل.

أقول : هذه العنصرية هي الطرف المتناقض تماما مع حقائق الكون ، وسنن التاريخ. وانها فكرة. متخلفة وباطلة ، وتحمل في طياتها اخطر النتائج ضد الإنسان وبوجه خاص ضد من يحملها.

ولا بد ان تتجسد العنصرية في شكل تقديس ذات بشري ، قد يكون هو «عيسى» ، أو «عزيز» ، أو «محمد» ، أو «علي» (عليهم جميعا صلوات الله). وجعله

٥٤٧

في مصاف الله.

وتنتشر القداسة بعدئذ في اتباع «عيسى» (ع) ، وأبناء «عزيز» (ع) وأقاربه ، وجماعة «محمد» (ع) وطائفة «علي» (ع) ، وإذا بها تتحول الى فكرة باطلة ، تزعم ان مجرد الانتماء الجسدي أو اللفظي ، لهو يكفي لخلاص الإنسان من المسئولية. في الوقت الذي لم يستطع أولئك الرجال ان يصلوا الى تلك الدرجات العالية من ، دون العمل الصالح المخلص لله ، والعبودية المطلقة لسلطانه العظيم.

من هو عيسى ، انه مجرد عبد لله. كانت امه مريم وكانت جدته امرأة صالحة. وكان هو من أنبياء الله. وحملّه المسئولية وكان أهلا لها.

ان معالجة السياق لمشكلة تقديس الذوات ، من خلال تقديس أنبياء الله العظام ، أفضل وسيلة لضرب هذه الفكرة ، التي هي قاعدة التمييز العنصري. والسبب ان الله فضل أنبياءه ، وأكرمهم ، وحملهم اقدس رسالة ، وخصهم بأكبر نعمة ، هي العبودية لله. ولكن مع كل ذلك لم يرتفعوا الى درجة القداسة الذاتية ، التي تبعدهم عن مسئولية أعمالهم. فكيف إذا قدسنا بشرا عاديين ، أمثال فرعون وهامان أو آخرين.

إن الشعوب الاسلامية تردت اليوم الى حضيض تقديس الذوات التاريخية ، والمعاصرة. فهي تقدس السلاطين ، والخلفاء ، والعلماء ، السابقين الى درجة تحجبها عن تقييم أعمالهم ، وافكارهم. كما تقدّس السياسيين والقادة المتسلّطين عليها ، وهذه فكرة متخلفة تجدها أيضا في الشعوب البدائية.

والقرآن كتاب هدى ونور جاء لينقذ الإنسان من اغلاله الفكرية ، والاجتماعية ، ولا ريب انّ من أسوأ تلك الأغلال :

٥٤٨

هو تقديس الذوات فجاءت في هذه السورة ، قصة آل عمران كدليل على ان الله لم ينتخب أنبياءه عبثا ، بل لأنهم كانوا من ذرية طيبة. فبدأت الآيات : بالأمر بالاتباع والطاعة لكتب الله ورسله ، ثم بينّت طريقة اصطفاء الله لرسله. الذين لا يختلفون عن بعضهم في شيء ، فذكرت بأنّ التربية الصالحة ، وصدق إيمان الأم ، وتقوى الأب ، هذه هي من عوامل الاصطفاء.

لقد كانت مريم صدّيقة ، لأن أمها نذرتها لله. اما يحيى فقد أصبح نبيا صالحا ، لان أباه دعا ربه. ولم تصبح مريم صديقة ، بنذر والدتها فقط ، كما ان يحيى لم يصبح نبيا ، لدعاء والده فقط. بل لعملهما أيضا.

بينات من الآيات :

كيف نحب الله؟ :

[٣١] هل يكفي ان نحب ربنا حبا صوفيا ساذجا ، كلا ، الحب الصادق هو الذي يعكسه العمل الصالح والا فهو ليس سوى خداع اللذات. والله لا يحب أحدا من دون العمل. بيد ان العمل لا يمكن ان يكون لله ، الا عن طريق الرسول. إذ لا يوحي الله الى كل إنسان وفرد. فاذا حاول كل منا ان يستكشف الدين من خلال عقله ، فان انحرافات كثيرة سوف يقع فيها ، بسبب امتزاج عقله بهواه ، وعلمه بشهواته من هنا جاءت الاية :

(قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)

اتباع الرسول يستدرج غفران الله ، ولان مجرد الاتباع تنازل عن ذاتية الإنسان ، وارتفاع الى مستوى التسليم لله ، فهذا العمل العظيم يشفع لصاحبه في بعض الذنوب الصغيرة.

٥٤٩

[٣٢] اتباع الرسول يتم بتطبيق رسالة الله التي نزلت عليه ، واتخاذه أسوة حسنة فيما قام به من عمل ، أو تميز به من سلوك. ولكن الاتباع وحده لا يكفي ، بل يجب طاعة الرسول أيضا. وذلك فيما يرتبط بالقضايا التي تحدث يوميا ، وتتجدد ، من حرب وسلم ، واقتصاد وسياسة ، واجتماع وعمران ، وبالتالي في كل الحقول الحياتية المتجددة وطاعة الرسول في هذه القضايا جزء من طاعة الله :

(قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ)

فكما ان طاعة الله واسعة وشاملة ، كذلك طاعة الرسول.

(فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ)

وهؤلاء الذين يرفضون طاعة الرسول هم بمثابة الكافرين إذ ان أهم فوائد الايمان التسليم لله ، ليس في القضايا الثابتة من حياة الإنسان فقط ، بل وفي الاحداث المتطورة ، التي تتركز فيها ضغوط الحياة بشكل حاد ، ولا تدع صاحبها يطيع القيادة الرسالية ، الّا بصعوبة بالغة.

[٣٣] ولكن لماذا نتبع الرسول ونطيعه؟ أفليس من الأفضل أن يتبع كل منا عقله ، ويطيعه في قضاياه ، مسترشدا بالتعاليم الدينية؟ لماذا يضع بينه وبين الله واسطة بشر آخر هو الرسول ، أو القيادة التي تجسد رسالة الدين؟

الجواب : ان البشر الذين يأمر الله عباده باتباعهم ، ليسوا كسائر البشر انما هم صفوة الله في الأرض. اختارهم الله بعد ان ابتلاهم ، ووجدهم أهلا لرسالته. واتباعهم ، وطاعتهم ، ضمان للبشرية من الانحراف عن خط الرسالة ، والاختلاف فيما بينها في زحمة الحياة ، وتحت ضغوط الأهواء الشديدة :

(إِنَّ اللهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ)

٥٥٠

[٣٤] ولم يكن هذا الاصطفاء بسبب عنصري والدليل على ذلك ان الله اختار آدم وآدم أب الناس جميعا. ثم اختار من آل إبراهيم ومن آل عمران ، أنبياء دون ان يميز واحدا على آخر. فلم يكن عنصر آل عمران أفضل من سائر فصائل آل إبراهيم المنحدرين من غير عمران .. بل هؤلاء بعضهم من بعض دون تمييز :

(ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)

يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور ، فيختار من عبادة ، من يرى فيه صلاحية الاختيار. ولا يختار رسله من عنصر معين انى كانوا.

في رحاب الاختيار :

[٣٥] ولنستمع الى قصة واحدة لهذا الاختيار ، ولتبدأ القصة من هناك ، من داخل القلب الطاهر والنية الصادقة والايمان التائب :

(إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)

انها كانت كأية امرأة اخرى ، حملت بجنين ، وأخذت تفكر في مصير الجنين الجديد. لم تفكر في ان يصبح رجلا ثريا ، أو ملكا كبيرا ، أو عالما ، أو طبيبا ، أو مهندسا أو ما أشبه. ولم تحلم بأيامها معه في المستقبل ، حيث يساعدها على مشاكل الحياة حين تضعف مقاومتها للمشاكل. كلا لم تفكر امرأة عمران بهذه الأحلام المادية ، بل فكرت في رسالة الإنسان في الحياة ، وهي عبادة الله ، والعمل في سبيله. فنذرت ان تجند ابنها لهذه الغاية ، وتحرره من اية روابط اجتماعية ، اخرى ، حتى يتفرغ في سبيل الله ثم تضرعت الى الله ان يتقبله بفضله.

[٣٦] وكانت هذه أمنية امرأة عمران طوال فترة الحمل ، حتى إذا وضعت أنثى

٥٥١

صعقت ، وكأن آمالها قد خابت ، حيث زعمت ان الأنثى لا تستطيع ان تتفرغ للعمل الجهادي في سبيل الله.

(فَلَمَّا وَضَعَتْها قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى وَاللهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ)

فهي ليست أنثى كأية أنثى. انها صديقة تكونت في رحم امرأة عمران المؤمنة الصادقة ، ونمت فيها روح الرسالة بسبب ايمان أمها ، وعملها الصادق أيام حملها لها ، ولكن امرأة عمران قالت :

(وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ)

آثار التربية على نمو الطفل :

[٣٧] وكان لهذا الايمان الصادق اثر في مستقبل مريم .. ذلك لان ايمان الام ، وتربيتها ، يؤثران ايجابيا في تنمية فطرة الايمان في الوليد. وقد رأينا كيف ان امرأة عمران ، تضرعت الى الله بان يعيذها من الشيطان ، وتعني ضراعتها ، انها أخذت تعمل من أجل هذه الغاية أيضا ، إذ الدعاء هو قمة العمل الجهادي عند المؤمنين ، وليس أبدا بديلا عن العمل. من هنا كان للدعاء والعمل اثر ايجابي كبير على مستقبل مريم :

(فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا)

ان الايمان كسكة الحديد لو وضع قطار عليها. ساعدت على استقامته وتقدمه. كذلك الايمان ، لو رافق حركة النمو عند الطفل منذ البداية ، ساعد على استقامة الطفل في كافة جوانب تربيته. وذلك بألا تنمو فيه صفة على حساب صفة. فلا دلال على حسابه المسئولية. ولا كبت على حساب الشعور بالكرامة ، ولا حب على

٥٥٢

حساب الاستقلال ، ولا جفاء على حساب العلاقة الاجتماعية.

كما يساعد جو الايمان في البيت ، على تعزيز روح الالتزام في نفسية الطفل.

ذلك لان الطفل الذي لا يرى الذين من حوله ينفذون برامج محددة ، وبإخلاص واطمئنان ، فهو الاخر يحب ان ينفذ برامج مثلها من دون ضغط.

كل ذلك ساعد على إنبات مريم نباتا حسنا ، وكان من أفضل نعم الله على مريم ، انه كفلها زكريا ذلك الشخص العالم ، والنبي العظيم ، الذي أفنى عمره في الله ، وخدمة لعباد الله. وهكذا يكون دور المربي الصالح ، في تنمية كفاءات الطفل ، حيث أثمرت تربيته الصالحة ، ودعاء أم مريم ، وتربيتها في تكوينه مريم التي اتجهت كلية الى الله تعالى ، وأخذت تقف ساعات طويلة ، تتضرع الى الله وقابلها ربها بفضله وذلك :

(كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ)

هذه مريم وأولئك أهلها ، وتلك تربيتها ، وهذا كفيلها ، وهذا من فضل ونعم الله عليها.

كيف يختار الله الرسل؟ :

[٣٨] لنترك مريم موقتا الى قصة اخرى تبين كيف يصطفي الله رسله.

بين الله ببساطة لماذا فضلت مريم ، والآن يبين ان كل من اتبع ذات الطريق فسوف يصل الى النتيجة التي وصلت إليها مريم. فهذا زكريا. حين وجد عند مريم رزقا في غير موسمه ، ومن غير الطرق العادية ، عرف ان الدعاء الى الله ، زائدا العمل الخالص لله ، ينفع الإنسان في الوصول الى طموحاته ، وغاياته بالطرق غير الطبيعية.

٥٥٣

لذلك توجه الى الله ، بهدف تحقيق امنية قديمة عنده :

(هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ)

وبالطبع كان زكريا كأي نبي آخر ، يعلم ان الله يجيب الدعاء ، ولكن وجد مناسبة صالحة للدعاء ونبه عليها القرآن بكلمة (هنالك) لكي تكون لنا عبرة ، تدل على ان الله لا يمت الى أحد بقرابة ، بل يجازي كل من يعمل صالحا. فلم تكن مريم الوحيدة التي أجيبت فيها دعوة والدتها ، بل زكريا هو الاخر استفاد من الوضع ، ودعا ربه فاستجاب له ربه في ذريته.

[٣٩] (فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ)

كما كانت مريم من قبل قائمة في المحراب ، فكان يأتيها الرزق من السماء.

(أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ)

تلك الكلمة التي هبطت على مريم بعدئذ في شكل عيسى ، حيث كان يحيى نبيا تابعا لعيسى ومصدقا به :

(وَسَيِّداً)

بالرغم من انه تابع لعيسى ، إلا اتباعه لعيسى (ع) كان نابعا من ايمانه بالله ، فلم يفقده كرامته وسيادته.

(وَحَصُوراً)

معصوما عن الذنوب ، وبصفة خاصة الفواحش الجنسية ، التي كانت شائعة

٥٥٤

يومئذ ، والتي قتل بعدئذ في مقاومته لها.

(وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ)

[٤٠] كان زكريا قد دعا ربه ، حين وجد عند مريم رزقا ـ دعا ربه ـ في قمة تأثره بالحادثة ، لأنها ذكرته بأمنيته القديمة. اما الآن وهو في المحراب ، فقد نسي نفسه وأمنياتها ، وحتى يكون قد نسي حادثة الدعاء. انه الآن متوجه الى الله وحده ، خالص لله وجهه ، لذلك فوجئ ببشارة الملائكة :

(قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عاقِرٌ قالَ كَذلِكَ اللهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ)

[٤١] كان مجتمع بني إسرائيل انئذ فاسدا ، الى درجة انهم كانوا يرتابون حتى في زكريا. والآن لو ذهب الى الناس ، وأخبرهم بان الله رزقه يحيى من امرأة عاقر ، فكيف يصدقونه .. لذلك :

(قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزاً)

وذلك في صيام صامت ، واعتزال ظاهر عن الناس. الذين فسدت ضمائرهم ، وأخذوا يتشككون فيه. ان نوع العبادة كان ينسجم مع نوع المجتمع.

(وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ)

فمزيدا من الارتباط بالله ، عن طريق ذكر الله وتسبيحه ليل نهار ، هو الكفيل بإعادة ثقة الناس بالنبي. إذ النبي لا يعرف بكثرة المال ، أو كثرة الحديث ، بل بالتوجه الى الله ، والدعوة اليه. وهذا من ابرز علامات الأنبياء دائما ..

وعلى الناس ان يفكروا هم بأنفسهم ، ان زكريا لا يمكن ان يكون كاذبا ، فيأتي

٥٥٥

بوليد من الشارع (حاشا لله) ويسميه ابنا له ، ان على الناس ان يعرفوا نبيهم بعقولهم ، لا بمزيد من خوارق الطبيعة. والمجتمع الذي لا يريد ان يتعرف على رسوله ، لا تنفعه خوارق الطبيعة ، كما لم تنفع مع أقوام المرسلين السابقين. لعلّه لهذا لم يزود الله زكريا بآيات خارقة للطبيعة. بل امره بالمزيد من تطبيق شريعته وفي ذلك أكبر دليل على صدقه.

٥٥٦

وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ (٤٢) يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (٤٣) ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (٤٤) إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (٤٥) وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ (٤٦)

____________________

٤٤ [أنباء] : أخبار.

٤٥ [المسيح] : أي مسح من الاقذار وطهر.

[وجيها] : كريما على من يسأله فلا يرده لكرم وجهه.

٥٥٧

قالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قالَ كَذلِكِ اللهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٤٧) وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (٤٨) وَرَسُولاً إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٤٩) وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (٥٠) إِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٥١)

____________________

٤٦ [كهلا] : ما بين الشاب والشيخ. وقيل الكهولة بلوغ أربع وثلاثين سنة.

٥٥٨

رسالة عيسى من ميزات

النشأة الى خصائص الرسالة

هدى من الآيات :

كنا نتابع رحلة الرسالة مع «مريم» ، وبالمناسبة مع «زكريا» حيث اختار الله ابنه رسولا ليس عبثا ولا بمحض الصدقة .. بل لما تمتع به زكريا من إخلاص ، ثم دعوته الصادقة الى الله. ونعوذ الى «مريم» لنرى كيف انها بدورها تضرعت الى الله فوهب لها غلاما زكيا.

ذلك الغلام كان «عيسى» الذي اختاره الله للرسالة منذ الولادة .. كرامة لمريم الصديقة ، ولأم مريم الصالحة ، ان الله لم يبعث رسله منذ الولادة إلّا في قصتي يحيى وعيسى ، لكي لا يعتقد الناس بألوهية الأنبياء ، فلو كان الأنبياء آلهة إذا لكانوا أنبياء منذ الولادة ، ولما ابتلوا وافتتنوا وخرجوا من مصنع الابتلاء ومن ثم اختيروا أنبياء.

أما يحيى وعيسى (ع) فلم يكن اختيارهما عبثا ، بل كرامة لوالديهما ، وجزاء

٥٥٩

حسنا لاعمالهما الصالحة ، والله لا يعاقب أحدا بسبب ذنب غيره ، ولكنه قد يكرم أحدا بسبب حسنة غيره.

وتبين آيات القرآن هنا بعضا من معاجز «عيسى» ، ويشير القرآن بأنها كانت بإذن الله ، لكي ينسف الدليل الثاني الذي تمسك به النصارى في اتخاذهم عيسى إلها ، أما الدليل الأول وهو ولادته من دون أب ، فيبيّنه حين يقارن بينه وبين آدم الذي خلقه من التراب فهو أولى إذا باتخاذه إلها.

وتبين الآيات خلاصة لدعوة عيسى (ع) والتي كانت خالصة لله ، وأخيرا ، ينهى الحديث ببيان (إِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ) وعلينا جميعا التسليم له ، وبالتالي : فان عيسى لم يكن سوى عبد مطيع لله ، والآيات عموما تعالج فكرة العنصرية من زأويتها الدينية كما يأتي الحديث عنه.

بينات من الآيات :

[٤٢] لم تصبح مريم صديقة ووالدة عيسى ، لمجرد دعاء أمها ، وتربية زكريا كفيلها بل وأيضا لقيامها بواجبها ، في عبادة الله ..

(وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ)

[٤٣] ولكن لا يعني اصطفاك انك غير مسئولة عن عمل ، ولا مكلفة بواجب ، بل بالعكس تماما تتضاعف مسئولياتك وأعمالك.

(يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ)

فالخضوع لله والتسليم لأوامره ، والتجرد عن الذات (القنوت) ، ثم التطبيق

٥٦٠