من هدى القرآن - ج ١

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ١

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-04-1
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٧٣٦

السماء والأرض وفي المشرق والمغرب.

(وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ إِنَّ اللهَ واسِعٌ عَلِيمٌ).

واسع ، تشمل قدرته كل الجهات ، وعليم بمن يعبده انّى اتجه شرقا أو غربا. المهم عند الله هو التسليم ، ومخالفة الشهوات العاجلة من اجله ، وليست الجهة التي يعبد الناس ربهم إليها. كل هذه من القضايا غير الاساسية التي يضخمها أصحاب الاختلافات ابتغاء الوصول الى مكاسب مادية من وراء الاختلاف.

[١١٦] ومن السلبيات التي وقع فيها بنو إسرائيل ، وعلينا تجنبها : هو الشرك بالله.

(وَقالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً).

انطلاقا من تفكيرهم الضيق حيث لم يستطيعوا ان يفرقوا بين النبوة والبنوة ، وزعموا ان سمو درجة النبي وقيامه ببعض المعاجز يجعله ابنا لله.

(سُبْحانَهُ بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ).

وليس هناك شيء أقرب الى الله من شيء في الخلق.

(كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ).

فليس هناك شيء أو شخص يمكن ان يتعالى على الله باعتباره ولدا له بل كل شيء خاضع له لأنه خلقه ويرزقه واليه مصير كل شيء.

[١١٧] والله حين خلق الأشياء لم يخلقها بشكل تنفصل منه الأشياء كما ينفصل المولود عن والدته بل وهب لها الخلق وابدعها ابداعا ، فهو.

٢٤١

(بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ).

فهو إذا لم يتخذ ولدا لا بعد أن خلق الأشياء ولا حين خلقها.

[١١٨] وقال الكفار إذا لم يكن عيسى ابنا لله ، وإذا لم يكن موسى وعزيز وهارون أبناء الله ، فلما ذا خصهم الله سبحانه بالنبوة دوننا؟

(وَقالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْ لا يُكَلِّمُنَا اللهُ أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ).

اي ان كل الكفار على امتداد التاريخ اعتمدوا على هذه الحجة في تصورهم ـ شركاء لله ـ حيث شاهدوا بعض الأشياء أقوى من بعضها أو بعض الأشخاص أهم من غيرهم فقالوا : لو لم تكن هذه الأشياء انصاف الهة ، ولو لم يكن هؤلاء الهة فلما ذا فضلوا على غيرهم؟

(تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ).

ومنطلقات تفكيرهم والواقع ان المسيحية أو اليهودية لم تتأثر فقط بالثقافة الاغريقية التي كانت تتصور ان للكون أربابا من دون الله ، بل وتأثرت أيضا بذات المنطلقات الفكرية التي كانت موجودة عند هؤلاء. أولئك لم يفهموا حكمه التفاضل في المخلوقات فزعموا ان الحجر الكريم لم يفضل على الحجر العادي الا لأنه يجسد جانبا من الالوهية ، وكذلك السلاطين لم يؤتوا الملك والقوة الا لان فيهم عرقا من الله (سبحانه).

وهؤلاء أيضا لم يفهموا حكمه التفاضل وقالوا لو لم يكن عيسى إلها فلما ذا فضل علينا ، وكلمة الله أو أتاه البينات ولم يكلمنا أو يؤتينا البينات يقول الله :

٢٤٢

(قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ).

اي أنّ هنالك ادلة واسعة تنفي هذا التفكير ، ولكنها تحتاج الى عقول متفتحة ومثقفة ورفيعة المستوى.

[١١٩] وكما أرسل الله الأنبياء من قبل. دون ان يكونوا أولاد الله. أرسلك الله يا محمد (ص).

(إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً).

ولكنك لست مسئولا بعد أداء البلاغ عنهم.

(وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ).

فدورك إذا دور محدود ليس فيه ذرة من الالوهية أبدا.

مصدر الإلهام :

[١٢٠] وعليك يا محمد ان تستوحي افكارك وتفاصيلها من مصدر واحد هو الله ، ولا تخلطها بثقافات الديانات الاولى التي فسدت ودخلها الشرك والضلال ، ولا تفكر في ان أولئك سيرضون عنك لو اتبعتهم في شيء من افكارهم ، كلا.

(وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدى)

بالكامل وهذا يؤدي الى الغاء دورك.

(وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ)

٢٤٣

انهم لا يملكون الا أهواء ، وأنت تملك العلم ومن يترك العلم الى الهوى فسوف يخسر المستقبل ، ولا ينصره الله.

[١٢١] اليهود والنصارى حرّفوا دينهم وفسّروا نصوص كتابهم المقدس تفسيرا باطلا ولكن.

(الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ)

ايمانا صادقا لأنهم يتلون الكتاب ليفهموا ما فيه ثم يطبقوه ، ولا يتلونه لكي يركّبوا عليه افكارهم الباطلة. اما الذين يتلون الكتاب ليجدوا فيه اية تؤيدهم فيأخذونها ويجعلونها شعارا يبررون بها تصرفاتهم الباطلة ، ويتركون سائر الآيات ، فهم في الواقع يكفرون بالكتاب كفرا تاما.

(وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ)

لأنهم سوف لا يستفيدون من هدى الكتاب ، ولا من تعاليمه الحياتية الصائبة.

[١٢٢] بنو إسرائيل كانوا يتلون الكتاب حق تلاوته ، ففضلهم الله على العالمين ، ثم تركوا ذلك ، فانتهى بهم المطاف الى الذل والمسكنة.

الآن عليهم ان يتذكروا واقعهم السابق ، ويعودوا الى أسباب تقدمهم.

(يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ)

من الكتاب والرسول الذين بهما تقدمتم.

(وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ)

٢٤٤

بهذين العاملين الاساسيين للتقدم ، الكتاب والرسول.

[١٢٣] (وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ)

ولو ان بني إسرائيل تذكروا نعمة الله ـ وهي الرسالة ـ واتقوا يوم الجزاء ، لا خذوا بجذور الدين وأصوله الثلاث «التوحيد ـ الرسالة ـ الميعاد».

وهذه رؤية عامة يذكرها القرآن الحكيم في أخر حديثه عن بني إسرائيل ليبين ان جوهر الدين وجوهر تقدم الأمم يتلخص في الايمان بالله وبرسالاته وبيوم القيامة.

٢٤٥
٢٤٦

(وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (١٢٤) وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (١٢٥) وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ

_________________

١٢٤ [الابتلاء] الاختبار.

[ينال] يلحق ، يدرك.

١٢٥ [المثابة] الموضع الذي يثاب اليه من ثاب يثوب ومنه ثاب اليه عقله أي رجع بعد غروبه.

[للطائفين] الطائف والجائل والدائر نظائر ويقال طاف يطوف إذا دار حول الشيء.

[العاكفين] العاكف المقيم على الشيء اللازم له والعاكف المعتكف في المسجد.

٢٤٧

أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٢٦) وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١٢٧) رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنا مَناسِكَنا وَتُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١٢٨) رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ

_________________

١٢٦ [أضطره] الاضطرار هو الفعل في الغير على وجه لا يمكنه الانفكاك منه.

١٢٧ [يرفع] الرفع والاعلاء والإصعاد نظائر ونقيض الرفع الوضع.

[القواعد] جمع قاعدة وأصله في اللغة الثبوت والاستقرار فمن ذلك القاعدة من الجبل وهي أصله وقاعدة البناء أساسه الذي بني عليه.

١٢٨ [مسلمة] الإسلام هو الانقياد لأمر الله تعالى بالخضوع والإقرار بجميع ما أوجب الله وهو الايمان.

[مناسكنا] المناسك المتعبدات ، وكل متعبد منسك والنسك في اللغة العبادة والنسك الذبيحة والمنسك الموضع الذي تذبح فيه النسائك.

٢٤٨

وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١٢٩) وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (١٣٠) إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (١٣١) وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يا بَنِيَّ إِنَّ اللهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٣٢) أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ

_________________

١٢٩ [العزيز] القدير الذي لا يغالب وقيل هو القادر الذي لا يمتنع عليه شيء أراد فعله.

[الحكيم] المدبر الذي يحكم الصنع ويحسن التدبير فعلى هذا يكون من صفات الفعل ويكون بمعنى العليم فيكون من صفات الذات.

١٣٠ [يرغب] الرغبة المحبة لما فيه للنفس منفعة ورغبت فيه ضد رغبت عنه.

[اصطفيناه] الاصطفاء والاجتباء والاختبار نظائر ، والصفو نقيض الكدر وصفوة كل شيء خالصة ، وصفي الإنسان اخوه الذي يصافيه المودة.

١٣٢ [وصى] وصى وأوصى وأمر وعهد بمعنى واحد.

١٣٣ [شهداء] جمع شهيد والشاهد والحاضر من النظائر وتقول حضرت القوم أحضرهم إذا شهدتهم.

٢٤٩

الْمَوْتُ إِذْ قالَ لِبَنِيهِ ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِلهاً واحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (١٣٣) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (١٣٤) وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٣٥) قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ

_________________

١٣٤ [أمة] الامة كل جماعة يجمعهم أمر ما إما دين واحد أو زمان واحد أو مكان واحد ، سواء كان ذلك الأمر الجامع تسخيرا أو اختيارا وجمعها أمم فالامة هم أهل الملة الواحدة ويجمعهم إمام.

١٣٦ [الأسباط] واحدهم سبط وهم أولاد إسرائيل وهو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم وهم إثنا عشر سبطا من اثني عشر ابنا وقالوا الحسن والحسين سبطا رسول الله (ص) أي ولداه والأسباط في بني إسرائيل بمنزلة القبائل من ولد إسماعيل. وقيل السبط الجماعة يرجعون الى أب واحد.

٢٥٠

مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (١٣٦) فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١٣٧) صِبْغَةَ اللهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ (١٣٨) قُلْ أَتُحَاجُّونَنا فِي اللهِ وَهُوَ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ وَلَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (١٣٩) أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطَ كانُوا هُوداً أَوْ نَصارى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللهِ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (١٤٠))

_________________

١٣٧ [شقاق] الشقاق المخالفة وكونك في غير شق صاحبك أو من شق العصا بينك وبينه قال «إِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ» أي مخالفة.

[فسيكفيكم] الكفاية بلوغ الغاية ويقال يكفى ويجزى ويغني بمعنى واحد. وكفى يكفي كفاية إذا قام بالأمر وكفاك هذا الأمر أي حسبك.

٢٥١

إبراهيم رمز الوحدة

هدى من الآيات :

انتهت الدروس التي استفدناها من تاريخ بني إسرائيل ، واعطى القرآن من خلال سرده لقصصهم رؤية متكاملة لطراز من الامة التي انحرفت ، لكي نعرف المسار الصحيح الذي يجب ان تسير عبرة الامة الاسلامية مستقبلا ، ويتجنبوا تلك الانحرافات الاسرائيلية.

وها هو القرآن يتحدث إلينا عن إبراهيم لعدة أسباب :

أولا : ليعطي من خلال قصصه رؤية عن كفار قريش الذين يزعمون انهم ينتمون الى النبي إبراهيم (ع).

ثانيا : ليركز على العامل المشترك بين بني إسرائيل والعرب وبالتالي بين الأديان السماوية الثلاث الرئيسية ، رسالة موسى فعيسى ثم محمد ـ عليهم السلام ـ.

٢٥٢

فقبل كل شيء من هو إبراهيم وكيف أصبح نبيا ، رسولا وإماما للأمم ..؟ ثم من هو الذي يستحق ان يكون إماما من بعده .. هل كل من انتمى نسبيا الى إبراهيم؟

الكعبة التي يتوجه إليها المسلمون ليست من صنع العرب حتى يخالفها الاسرائيليون بل هي بيت الله الذي بناه إبراهيم جد العرب وجد بني إسرائيل.

ولكن الكعبة هذه ليست محلا لتعليق الأصنام بل مقاما لعبادة الله وحده.

لان إبراهيم بناها وهو يردد كلمة التوحيد .. ويدعو الله ان يثبته عليها ، وإبراهيم دعا الله ان يبعث في أبنائه رسلا ، ولم يأت النبي محمد صلى الله عليه وآله الا استجابة لذلك الدعاء.

بينات من الآيات :

كيف يختار الله رسله :

والسؤال الذي يجيب عليه القرآن في بداية هذه المجموعة من الآيات هو :

[١٢٤] هل يختار الله رسله عبثا .. ودون سابق اختيار؟ كلا ..

انه يعرضهم لأشد الاختبارات فان نجحوا فيها حملهم رسالته .. وإبراهيم عليه السلام ، مر باختبارات صعبة فألقي في النار وصبر واخرج من بلده وصبر ، وابتلي بأمر الله له ان يذبح ابنه فلبى الأمر و.. و.. وبعدئذ اختير إماما.

(وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ)

فيها أوامر صارمة وصعبة.

٢٥٣

(فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً)

فإبراهيم لم يحصل على الرسالة مجانا وبلا ثمن أو لأنه يملك عنصرا أجود من غيره أو دما ازكى حتى يسري ذلك الدم في أبنائه بل أعطاه الله الرسالة بعد امتحان عسير .. ثم ان إبراهيم طلب النبوة لأبنائه فرفض طلبه.

(قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ)

وفي ذريتك من هو ظالم يفشل في الاختبار والامامة عهد الله وعهد الله لا يعطى للظالمين.

[١٢٥] هنالك حجتان تمسك بهما أهل مكة للدلالة على انهم أقرب الى الله من غيرهم وبالتالي فلهم الحق في السيادة على العرب.

الحجة الاولى : انهم أبناء إبراهيم وورثته على البيت وقد ادحضها القرآن في الآية الاولى.

الحجة الثانية : ان الله منّ على بلدهم باليسار والخير وكمثل كل الأغنياء في الأرض يزعمون ان الله لم ينعم عليهم بالغنى الا لأنهم أقرب الناس اليه سبحانه وفي الآيتين التاليتين دحض لهذه الحجة السخيفة يقول الله :

(وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ)

مركزا للناس في الجزيرة يعودون اليه لما خرجوا منه.

(وَأَمْناً)

حيث وفر الله فيه السلام حيث ينعدم السلام في سائر أنحاء الجزيرة .. ولكن

٢٥٤

كيف وفر الله السلام في مكة .. لأنه جعل فيها مقام إبراهيم .. وإبراهيم الجد الأعلى لاكثر العرب ومن ثم رمز الوحدة بين الناس .. من هنا جاء الأمر الالهي بتقديس مقام إبراهيم (وهو الحجر الوحيد الذي اعطي له قيمة بعد الحجر الأسود) وقال الله :

(وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى)

اي اجعلوا صلاتكم عند مقام إبراهيم. بشرط ان تكون الصلاة لله .. ولكن مع تذكر فضل إبراهيم عليكم حيث أصبح وسيلة لهداية الله لكم.

الإسلام لا يقدس شيئا من دون الله ولكنه يعطي لكثير من الأشياء أو الأشخاص قيمة التوسط بين العباد وبين فضل الله ، فالغني المنفق في سبيل الله واسطة لبلوغ نعمة الله «وهو المال الى الفقير» ويجب ان يشكر الفقير ربه قبل كل شيء والآمر بالخير والداعي الى الله واسطة في هداية الناس ، والأنبياء هم وسائل يهدي بهم الله عباده صراطا مستقيما وحين نشكرهم أو نقدرهم ليس شكرا ذاتيا ولا تقديرا الوهيا بل شكرا وتقديرا يسبقه شكرنا لله وتقديسنا له.

ومقام إبراهيم من ذلك النوع حيث اننا لا نقدسه بل نقف نصلي لله عنده تقديرا لمقام إبراهيم ومن ثم لإبراهيم نفسه.

وما لبث ان ذكرنا القرآن الحكيم بهذه الحقيقة حيث نبهنا الى ان إبراهيم امر بأن يطهر بيت الله من الأصنام فكيف يمكن ان يتخذ مقامه صنما يعبد من دون الله.

(وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ)

من كل دنس ظاهر أو باطن واعدوه ..

٢٥٥

(لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ).

إذا ما نجده في البيت من وسائل الراحة والأمن فانما هي لتحقيق هدف البيت من الطواف والاعتكاف والركوع والسجود وليست إكراما لعين ذرية إبراهيم الشرفاء.

[١٢٦] ويدل على ذلك ان إبراهيم دعا الله سبحانه ان يحدد نعمه في الصالحين فقط ، لأنه تصور ان نعم الله في الدنيا دليل على حب الله وتقديره لصاحبها ولكن الله ابى.

(وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ)

إذا النار تنتظر الكفار من ولد إبراهيم ـ ع ـ بالرغم من الثراء والأمن والسيادة التي يتمتعون بها الآن .. لان كل هذه النعم اختبارات يتعرضون لها لتجربة مدى صمودهم امام ضغط الانحرافات التحريفية.

[١٢٧] كان البيت موجود وجاء إبراهيم ليرفع عليه البناء ولكنه امتزج بروح التوحيد والامتثال الى الله ولم يكن بناء من أجل التفاخر أو الرئاسة أو بلوغ الشهوات «كما تصوره ذرية إبراهيم وسدنة البيت الحرام من قريش».

(وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ)

وهم يرددون هذا الابتهال :

(رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا)

٢٥٦

عملنا ، إذ العمل قد لا يتقبله الله إذا امتزج بالنية السيئة أو تعدد هدفه فكان يهدف مرضاة الله ومرضاة الناس معا ، وقد جاء في اية كريمة «إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ».

وحين كان يدعو إبراهيم وابنه بان يتقبل الله منهما ـ فانما كانا يخلصان عملهما لله.

(إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ)

لدعوات العباد.

(الْعَلِيمُ)

لاهداف الناس التي ينوون تحقيقها من أعمالهم ، هل هي اهداف نقية لله خالصة لوجهه أم لا.

الآثار الايجابية للعمل الصالح :

[١٢٨] وكان هدف إبراهيم وابنه هو ان يساهم عملهما في تعميق روح التوحيد في نفوسهم ، حتى يصبحا خاضعين كليه لله ، ذلك ان العمل الصالح الخالص يزيد الايمان وينمي الارادة ، من هنا كان يسعى إبراهيم وابنه من خلال بناء البيت الى هذه الغاية ويقولان :

(رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ)

والعمل الصالح يساهم أيضا في صلاح ذرية الفرد وقد استهدف إبراهيم وإسماعيل من بناء البيت ان يصبح دليلا عينيا لاسلامهما ومركزا دينيا توحيديا لذريتهم وقالا :

٢٥٧

(وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنا مَناسِكَنا وَتُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ)

والعمل الصالح يزيد صاحبه هدى وعلما بأسلوب العمل في المستقبل وقد جاء في اية قرآنية : «وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا» وكذلك استهدف إبراهيم وإسماعيل من بناء البيت بلوغ المزيد من الهدى ومعرفة المناسك ومن ثم استهدفا من وراء بناء البيت ان يتوب الله عليهم وهو الهدف الاخر الذي يمكن تحقيقه باي عمل صالح ان يغفر الله لصاحبه ما تقدم من تقصيره وذنوبه.

[١٢٩] المؤمن الصادق يعرف قيمة الايمان ومدى اهمية حياة الإنسان ولذلك فهو يستهدف تعميم الايمان على الناس جميعا ليسعدوا به ، وكان إبراهيم وإسماعيل يدعوان الله بذلك ويقولان :

(رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ)

من أنفسهم ، وليس غريبا عنهم كي يكونوا (أولاد إبراهيم) أول الناس ايمانا برسالته والهدف من هذه الرسالة هو أولا :

(يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ)

حتى يهتدي بها الناس إليك يا رب إذ أن أول الدين معرفة الله معرفة يزيدها النظر في ايات الله هدى :

ثانيا :

(وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ)

نظاما لحياتهم وتشريعا لطقوس دينهم.

٢٥٨

ثالثا : يعلمهم.

(وَالْحِكْمَةَ)

وما يرتبط بالحياة العملية من دساتير خلقية وآداب اجتماعية.

رابعا :

(وَيُزَكِّيهِمْ)

ينمي فيهم روح الايمان والارادة ، ويربيهم على مكارم الأخلاق ويحولهم الى طاقة هائلة لتعمير الحياة وبسط السلام والرفاه في أرجاء الأرض.

(إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)

بعزتك قادر عل استجابة دعائنا وبحكمتك تحقق لنا ذلك لأنه يتناسب مع الهدف العام لخلقه الكون.

السبيل الى فض الخلاف :

إبراهيم كان مسلما وقد بنى هو وابنه البيت ، وكان جد العرب الأعلى لكي يكون مركزا للتوحيد وعلينا ان نتبع ملة إبراهيم وكل من يخالف هذه الملة سيكون سفيها لأنه يبتعد عن الخير في الدنيا والاخرة.

وأبناء إبراهيم كانوا موحدين ولم يكونوا يهودا أو نصارى والمطلوب منا العودة الى توحيد إبراهيم حتى تنتهي خلافاتنا مع اليهود والنصارى ونؤمن في نفس الوقت بكل رسالات السماء ، وكل المرسلين من قبل الله هذا هو خط التوحيد والذي ينحرف عنه فهو المتمرد.

٢٥٩

ان الله هو المقياس في تصرفاتنا ونحن لا ندعي اننا مسئولون عنكم بل نحن وأنتم سواء امام الله ، ولكل منا عمله الذي يجازى عليه عند الله.

ان خط الله وهو خط إبراهيم (ع) لم يكن الشرك كما لم يكن اليهودية والنصرانية إذا دعنا نتبع هذا الخط ..

هذه خلاصة هذه الآيات ولقد تكررت اية واحدة فيها (١٣٤ ـ ١٤١) لدلالة على ان لكل عهد شريعة ومنهاجا قد يكونان صحيحين لذلك العهد ولكنهما خاطئين لعهد أخر ولرجال آخرين ، وهذه اشارة الى ان بعض تفاصيل اليهودية والنصرانية لا تصلحان للمرحلة الجديدة التي ابتدأت مع رسالة النبي محمد (ص).

ملة إبراهيم :

[١٣٠] إبراهيم كان رمز التوحيد وطريقه هو طريق التوحيد في التاريخ ، وكانت ثمرات توحيده ظاهرة للناس ، فذكره الحسن يلهج به كل لسان ويحاول كثير من الناس ان ينتموا اليه ، ويشرفهم هذا الانتماء امام الناس انه مصطفى في الأرض ، اما عند الله فهو من الصالحين ، إذا ما يضر الإنسان ان يسير على خط إبراهيم التوحيدي ...

(وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ)

وطريقته المتمثلة في التوحيد.

(إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ)

وأراد لنفسه الخسارة.

(وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ)

٢٦٠