من هدى القرآن - ج ١

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ١

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-04-1
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٧٣٦

[١٣١] كيف اصطفى الله إبراهيم ولماذا؟ ببساطة لأنه أسلم كليا لله.

(إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ)

فلم يتردد لحظة بل استجاب بقناعة تامة.

(قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ)

[١٣٢] قد تحول إسلام إبراهيم الى مسيرة توحيدية في التاريخ كما تحول شخص إبراهيم الى امة مسلمة ، وهذا هو فضل الله على إبراهيم وعلى كل من يسلم مخلصا وجهه لله.

(وَوَصَّى بِها)

بهذه الطريقة (الملة).

(إِبْراهِيمُ بَنِيهِ)

وكما في ذرية إبراهيم الجد الأعلى لليهود وهو يعقوب الذي وصى هو الاخر أولاده وقال :

(يَعْقُوبُ يا بَنِيَّ إِنَّ اللهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ)

وجعل هذا الدين هو الإسلام لله وإخلاص العبودية.

(فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)

إذ قد يسلم الإنسان فترة من الوقت ولكنه ينهار امام مطارق الشرك والكفر فيأتيه الموت وهو كافر ، إسلامه ضعيف لا ينفعه في الدنيا ولا في الاخرة انما على الإنسان ان يبقى مسلما في كل مراحل حياته حتى لو أدركه الموت غفلة يكون قد

٢٦١

استعد للقاء ربه ولا يفاجئ بالعذاب الأليم.

[١٣٣] وقد جسدت في يعقوب ذاته هذه الوصية إذ بقي مسلما رغم الصعاب حتى إذا حضره الموت وصى بالتوحيد أبناءه.

(أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قالَ لِبَنِيهِ ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِلهاً واحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ)

كم كانت فرحة يعقوب وهو يودع الحياة ويرى ثمرات تربيته لأولاده على التوحيد امام عينيه إذ يجدهم يعاهدونه على الاستمرار في خط التوحيد.

[١٣٤] ولكن هل يعني إسلام إبراهيم وذريته الصالحين عنا شيئا حتى تكتفي بانتمائنا الجسدي إليهم (نحن العرب واليهود) كلا .. إذ أولئك قد ذهبوا بأعمالهم الصالحة لأنفسهم وعلينا ان نعمل لأنفسنا.

(تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ)

إذ لا تجزون بجرائم الطالح فيهم ولا تكافؤون بحسنات الصالحين.

[١٣٥] وبقي السؤال : ما هي ملة إبراهيم؟ هل هي اليهودية أم النصرانية أم الشرك الذي يتجسد في العرب؟ ان هذه الفرق الثلاث تدعي انتماءها الى إبراهيم فأيتها الصادقة؟ يقول القرآن كل هذه كاذبة.

(وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً)

رافضا للكفر والشرك اللذين كانا في عصره.

٢٦٢

(وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ)

كما تدعي العرب انه كان مستقيما يرفض كل أنواع الشرك سواء الذي كان موجودا عند اليهود أو النصارى أو عند العرب.

[١٣٦] وحين نقول بالعودة الى ملة إبراهيم لا يعني حذف دور الأنبياء العظام الذين جاؤوا من بعده بل نريد تكريس هذا الدور وتجاوز العقبات القشرية التي وضعت في طريقه وحصرت كل مجموعة من الناس نفسها على نبي ولم تنتفع من رسالة الآخرين بفعل العنصرية أو التعصب الأعمى.

إذا عودوا الى جوهر رسالة الله المتمثلة في توحيد إبراهيم الرافض لكل أنواع الشرك وفي الايمان بكل الأنبياء.

(قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ)

الأنبياء من ولد يعقوب لقد انزل على هؤلاء رسالة التوحيد.

(وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ)

من تفاصيل الشرائع الاجتماعية والتعاليم الخلقية و.. و.. وقولوا.

(لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ)

مسلمون لله الواحد وخاضعون لكل من يرسله ربنا سواء كان عبريا أم عربيا من عائلتنا أم من الأبعدين.

[١٣٧] هذه هي رسالة الله الحقيقية ، وغير هذه هراء وتمرد وانحراف .. إذ لم

٢٦٣

يرسل الله رسالة عنصرية الى الناس ، ولم يأمر بالعصبية الجاهلية ، ولم يفرق بين أنبياءه ورسالاتهم.

(فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا)

وسيكون حالهم حال المؤمنين السابقين بلا تمييز بينهم ..

(وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ)

فهم المنحرفون عن الخط العام المستقيم ، وليس أنتم .. والانحراف لا يقاس بالكثرة والقلة بل بمقياس آخر هو مدى الالتزام بخط الفطرة ، والحق وصراط الله المستقيم ، لذلك علينا الا تشككنا قلتنا ، ولا توحشنا عن الحق كثرة الناس حول الباطل .. ونبقى ننعتهم هم بالمتمردين الانفصاليين أهل الشقاق ، ونبقى نتحداهم وآنئذ ..

(فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)

يسمع دعاء من يدعوه ويعلم ضمير الصامتين.

التوحيد جوهر الوحدة :

[١٣٨] انهم يدعون الى العنصرية أو العصبية الجاهلية ، ويوحدون أنفسهم تحت هذا اللواء أو ذاك .. ويصبغون تحركاتهم وافكارهم ومجتمعهم بلون اليهودية أو النصرانية وقد يتخذون لأنفسهم أصناما رموزا لوحدتهم ولنوع من الثقافة أو المصلحة أو الأرض التي ينتمون إليها.

ولكننا نؤمن بصيغة واحدة ونرفض كل الألوان الاخرى ، نرفض كل الرموز كل الأصنام كل شيء يميزنا عن بعضها ويهدد وحدتنا .. نحن نؤمن بصبغة الله صبغة

٢٦٤

التوحيد وكفى .. لا ندع لحواجز اللغة أو المصلحة أو الإقليم أو اللون أو العنصر .. أو .. أو .. ان تفرقنا عن بعضنا تطلي كل جماعة منا بلون مختلف كلا .. نحن نطلي أنفسنا بصبغة واحدة وهي ..

(صِبْغَةَ اللهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ)

لا نعبد هذه الألوان المختلفة التي فرقت الناس وجعلت منهم مجموعات متحاربة ـ يهود ـ نصارى ـ عرب ـ والى اخره ..

[١٣٩] وحين نقول صبغة الله لا يستطيع أحد ان ينكر علينا ذلك إذ ننتمي آنئذ الى الله فاطر السموات والأرض ..

(قُلْ أَتُحَاجُّونَنا فِي اللهِ وَهُوَ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ)

لا نقول لكم تعالوا اتبعونا .. بل ندعوكم وأنفسنا الى الله .. الواحد ، دون تمييز بين عنصرنا وعنصركم ..

(وَلَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ)

كما ندعوكم أنتم ان تكونوا مخلصين له .. إذا الدعوة هذه ليست كالدعوات السابقة مشوبة بالشرك أو الضلالة .. أو العنصرية أو الاقليمية أو غيرها .. انها دعوة خالصة لله رب كل الناس.

[١٤٠] وهذه الدعوة هي بالذات دعوة الأنبياء .. إذ مستحيل ان تكون رسالة السماء موجهة لناس دون ناس .. لان الله رب كل الناس .. خلقهم جميعا .. من ذكر وأنثى ، ولم يتخذ بعضهم أبناء له فكيف يفرق بينهم بل ان ما نجده في رسالات السماء من العنصرية والمصلحية وغيرها .. إنما هي من اضافة الناس

٢٦٥

أنفسهم أضافوها الى الدين كذبا وظلما .. وقالوا : ان الأنبياء هم الذين جاؤوا به من قبل الله ..

(أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطَ كانُوا هُوداً أَوْ نَصارى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللهُ)

الله يقول انهم لم يكونوا سوى أنبياء لله .. وأنتم تدعون انهم كانوا هكذا .. بل حتى هم يعرفون ان العنصرية والاقليمية وغيرها هي إضافات ذاتية افتروا على الله بها بعد علم بكذبها ، وحرفوا تعاليم الدين التي تنافيها ..

(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللهِ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ)

انهم حملوا رسالة الله .. واستؤمنوا عليها ولكنهم خانوا الامانة .. وغدا سوف يمثلون للمحاكمة امام الله العزيز الحكيم ..

٢٦٦

(تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (١٤١) سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلاَّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٤٢) وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَما

_________________

١٤٢ [السفهاء] السفيه والجاهل والغبي نظائر.

[ولاهم] ولاه صرفه وقتله واشتقاقه من الولي وهو القرب وهو حصول الثاني بعد الاول من غير فصل.

١٤٣ [وسطا] الوسط العدل وقيل الخيار ومعناهما واحد لان العدل خير والخير عدل. وقيل أخذ من التوسط بين المقصر والغالي وقيل الوسط من كل شيء أعدله وأفضله وقيل في صفة النبي (ص) : كان من أوسط قومه أي من خيارهم.

٢٦٧

جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللهُ وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (١٤٣) قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (١٤٤) وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَما بَعْضُهُمْ

_________________

[عقبيه] العقب مؤخر القدم وعقب الإنسان نسله والتعقيب الرجوع الى أمر تريده ومنه لم يعقب.

١٤٤ [الرؤية] ادراك الشيء بالبصر ونظيره الأبصار ثم تستعمل بمعنى العلم.

[التقلب] التحول والتصرف نظائر وهو التحرك في الجهات ويقال وليتك القبلة اي صيرتك تستقبلها بوجهك.

[شطره] اي نحوه.

٢٦٨

بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (١٤٥) الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (١٤٦) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (١٤٧) وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ أَيْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللهُ جَمِيعاً إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٤٨) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (١٤٩) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا

_________________

١٤٧ [الممترين] الامتراء الاستخراج وقيل الاستدرار ، والمرية الشك ومنه الامتراء والتماري والمماراة والمراء الجدال وأصل الباب الاستدرار يقال بالشكر تمتري النعم أي تستدر.

٢٦٩

مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٥٠))

٢٧٠

القبلة رمز وحدة الأمة

هدى من الآيات :

سورة البقرة بينت شخصية الامة الاسلامية فبدأت تقسم الناس الى ثلاثة أقسام : (المتقون ثم الكافرون والمنافقون) ثم وضحت كثيرا من صفاتهم وبعدئذ تناولت بني إسرائيل كمثل لأمة مؤمنة وشرحت قصصهم والعبر التي يجب ان نستفيدها من حياتهم. وآخر درس أعطانا القرآن في هذا المجال هو : ضرورة التمسك بهدى القرآن وعدم التأثر ببني إسرائيل. ذلك لأنها امة قد انحرفت ولأنها امة قد خلت ، لها ما كسبت ولكم ما كسبتم.

وبذلك ضمن القرآن الحكيم ، للأمة الإسلامية (شخصيتها) الثقافية واستقلالها عن الأمم السابقة. وها هو يبين لنا رمز هذا الاستقلال الظاهر ، والمتمثل في القبلة التي توحد بين أبناء الأمة الإسلامية ، وتعطي لهم كيانا متماسكا ، ومن جهة ثانية تميزهم عن سائر الأمم.

يبدأ القرآن هذا الدرس بتكرار الآية التي سبقت وأوضحت : بان تطور الزمان

٢٧١

قد يؤثر في اختلاف التشريع ، وان على الأمة ان تفكر تفكيرا مستقلا ودون التأثر بسلبيات الأمم السابقة (تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ).

ثم يحدثنا عن ان القبلة ليست مقدسة بذاتها بل لأن الله امر بتكريمها. وإذا غيّر الله القبلة زالت قداسة القبلة الأولى ، وليس لله سبحانه حلول في القبلة حتى تقدس تقديسا دائما.

وبين مدى العلاقة بين القبلة وبين شخصية الأمة التي جعلت مهيمنة على سائر الأمم وشاهدة عليها تراقب مدى تطبيقها لقيم الحق.

واما القبلة السابقة فكان تشريعها بهدف محدد ومحدود ، هو : اختبار مشركي قريش لمعرفة مدى صدقهم في قبول رسالة الله التي تدعوهم الى اتباع قبلة أعدائهم اليهود.

القبلة التي شرّعت للأمة هو المسجد الحرام ، الذي له كرامة يعرفها أهل الكتاب ولكنهم يكتمون الحق ، انطلاقا من أهوائهم وتفكيرهم العنصري الضيق.

ولقد كان الأحرى بهم ان يطبقوا كتابهم على أنفسهم ، لا ان يحرّفوا الكتاب حسب أهوائهم. وبالرغم من ان قبلتك حق لا ريب فيه ، فلا يعني ذلك ان تتورط الامة في العنصرية ، وتزعم أنها بمجرد التوجه الى القبلة الحق تكون هي أكرم عند الله من غيرها.

كلّا ، إن هذه شعائر ظاهرية لا أكثر ، ومقياس الكرامة هو التسارع الى الخيرات ، فمن كان أسبق الناس الى الخير كان أكرم عند الله ، وبعد ان يؤكد القرآن التوجه الى المسجد الحرام يحذر الامة من الضعف امام الأعداء أو الخشية منهم ، لأن من كان مع الحق يجب ان لا يخشى أحدا.

٢٧٢

بينات من الآيات :

الانفصال نقطة الانطلاق :

[١٤١] وضمن هذا الإطار الفكري ، بيّن القرآن الحكيم حقيقة هامة هي اننا ومن أجل ان نبني حياة جديدة علينا ان ننفصل نفسيا من التأثر بالواقع المعاش ، بالرغم من ان للواقع القائم ثقلا هائلا ، وضغطا نفسيا واجتماعيا كبيرا ، ولكي يبين لنا القرآن أنكم امة جديدة ذات قبلة جديدة ، ذكر لنا سلفا ان كل امة لها دورها التاريخي ، وواقعها الخاص بها ، وعلى الأمم الاخرى ان تستقل عنها ، وان تبني حياتها وفق احتياجاتها وظروفها ، ذلك ان الله لا يسألنا عما فعل الآخرون بقدر ما يسألنا عما فعلنا نحن ، فان فعلوا خيرا فلأنفسهم ، وعلينا ان نعمل الخير لأنفسنا ووفق حاجات عصرنا ، وان فعلوا شرا فلأنفسهم ، وعلينا الا نعمله ونبرر ذلك بأنهم فعلوه ، إذ قد يكون الذي عملوه في عصرهم خيرا لأنفسهم وهو شر بالنسبة الى واقعنا ، من هنا قال الله لنا بصراحة :

(تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ)

من خير أو شر.

(وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ)

بل انما تسألون عما تعملون أنتم ، ولذلك يجب ان تستقلوا في تفكيركم ، وفي أعمالكم ، ما دمتم أنتم مجزيين بذلك دون غيركم.

[١٤٢] والسفهاء وحدهم يزعمون ان الواقع يجب ان يبقى بحجة انه الحق. كلا ، إذ قد يكون الواقع حقا بالنسبة الى عصر دون عصر ، وقداسة القبلة ليست بسبب ان الله موجود في مكان القبلة. بل لأن الله امر بذلك ، يقول الله تعالى :

٢٧٣

(سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها)

زاعمين انّ الواقع السابق للأمّة حيث كانوا على قبلة معينة ، يجب ان يظل قائما ، كلا.

(قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ)

الصراط المستقيم في العمل هو : وجه الله سبحانه ، وليس التوجه الى المشرق والمغرب.

[١٤٣] والتوجه الى الكعبة لم يشرع في الإسلام ، الا لكي يجعل الله من المسلمين امة متميزة عن الأمم الاخرى ، ورقيبة على مدى تطبيق سائر الأمم لتعاليم الله ، في الحق والحرية ، والعدالة الاجتماعية ، ولو كانت الأمة متجهة الى قبلة أهل الكتاب لم تكن قادرة على توجيه مشركي العرب المعتقدين بالكعبة ، كما انها لم تكن تستطع توجيه اليهود والنصارى الذين كانوا يزعمون أنفسهم ـ انئذ ـ أصحاب القبلة ، ويعتقدون ان المسلمين مجرد اتباع لهم ، لذلك قال الله تعالى :

(وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً)

هداكم الله الى صراط مستقيم هو : الصراط الوسط بين تطرف الناس ذات اليمين وذات الشمال ، بين تطرف اليهود الى المادية ، وتطرف النصارى الى الرهبانية ، بين الحرية الفوضوية وبين الاستبداد الغاشم ، بين ظلم الفرد للجماعة ، وبين ظلم الجماعة للفرد ، والهدف من الأمة الاسلامية ان تكون شاهدة على مسيرة الأمم الاخرى.

(لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ)

ماذا يعني الشهداء على الناس؟

٢٧٤

لعله يعني ان تكونوا موجهين لهم نحو مبادئ الرسالة ، بمثل ما يكون الرسول شهيدا عليكم.

(وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً)

فذات المسؤولية التي يتحملها الرسول تجاهكم ، يجب عليكم ان تتحملوها تجاه الأمم الاخرى ، وفي مناسبات اخرى تحدث القرآن عن مسئوليات الرسول تجاه أمته وعلينا مراجعتها لنعرف مسئولياتنا تجاه الأمم الاخرى.

اما القبلة السابقة فلم تكن الا قبلة مرحلية ، ولهدف محدد هو اختبار الذين امنوا من مشركي العرب ، ليعلم الله هل تركوا حساسياتهم الساذجة تجاه الرسالات الالهية السابقة ، وتجاه قبلتهم بيت المقدس أم لا.

(وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها)

التوجه الى بيت المقدس.

(إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ)

ويعود الى حساسياته العصبية التي كانت تنكر على الرسول الاشتراك مع اليهود ، وأعداء العرب السابقين ، في أي مظهر من المظاهر الاجتماعية ، أو شعيرة من الشعائر الدينية.

والتخلص من الحساسية العصبية ليس سهلا.

(وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللهُ)

وتركوا التقاليد البالية امتثالا لأمر الله ، أما صلواتكم التي توجهتم بها الى بيت

٢٧٥

المقدس فهي محفوظة عند الله.

(وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ)

[١٤٤] كان الرسول يعلم : ان الكعبة هي قبلة المسلمين ، وانما كان بيت المقدس قبلة مؤقتة ، فكان ينتظر من الله امرا بالتوجه الى الكعبة ، ولكنه لم يكن يطلب ذلك صراحة ، لأنه رسول ، عليه ان يبلغ رسالة الله ، دون ان يدخل فيها من ذاته شيئا ، فحقق الله للرسول ما أحب وقال :

(قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ)

اي باتجاه المسجد الحرام وبالتالي الكعبة ، أما أهل الكتاب فلا تفكروا فيهم ، إذ انهم يعلمون الحق ويخالفونه.

(وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ)

ولكنهم يخالفون علمهم ، بيد ان الله سوف يجازيهم على ذلك.

(وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ)

لماذا لا تتوحد القبلة؟ :

[١٤٥] ويبقى السؤال : لماذا لا توجد قبلة واحدة لكل المنتمين الى رسالات الله ، أليس من الأفضل ذلك؟

بلى ولكن المشكلة ان كثيرا من هؤلاء ادخلوا أهواءهم في الدين ، فلذلك يغيرون الدين حسب هذه الأهواء.

٢٧٦

(وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ)

لأنهم يحرفون رسالات السماء بأهوائهم ومصالحهم ، وعليك ـ يا رسول الله ـ ان تتصلب في اتباع الحق ، ولا تستسلم لضغوط أهل الكتاب لأنك صاحب الحق والعلم.

(وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ) ومن أشد ظلما للناس ولنفسه من قائد يخالف علمه الى اتباع الهوى.

[١٤٦] وهؤلاء الذين يحرفون الكتاب ويفسرونه تفسيرا مخالفا للحقيقة لا ينقصهم العلم بالكتاب ، ولكن ينقصهم الايمان الكافي به ، وشجاعة مقاومة أهوائهم.

(الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ)

[١٤٧] لذلك يجب الا نجعل هؤلاء المنحرفين ، قدوات لنا ، أو نرتاب في الحق ، انطلاقا من عدم ايمان هؤلاء ، لأنهم يخالفون علمهم ، وانّما لكي نتبع عقولنا ، ولنتعرف على الحق الصادق الذي أوحى به الله.

(الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ)

الشاكين في الحق.

إن من يدعي انه رجل دين ، بشر قد تستهويه الشهوات فيحرّف الدين ، بعد العلم به ، ولذلك يجب الا يكون اتباعنا لرجل الدين مطلقا ، بل في حدود هدى

٢٧٧

عقولنا ومعرفتنا بقيم الرسالة الإلهية.

ان الرجل العادي لا يسعه ان يغلق منافذ العلم على نفسه ، ويتكل اتكالا كاملا على أصحاب العلم. لأن هذا قد يورطه في المهالك ، وانما عليه ان يكشف بعقله وفطرته اي نوع من الرجال يتبعه ، أولئك الذين زهدوا في الدنيا ، وحددوا شهواتهم ، وخالفوا أهواءهم ، وأطاعوا الله طاعة تامة ، أولئك وحدهم جديرون بالاتباع.

كيف نضمن الفلاح؟ :

[١٤٨] هل نستطيع ان نضمن الفلاح لأنفسنا بمجرد ان نتوجه شطر المسجد الحرام؟ وهل نستطيع ان نؤكّد ان كل من يتوجه شطر بيت المقدس في النار؟

كلا .. ان هذه مظاهر خارجية للعبادة ، اما العبادة الحقيقية فهي : التسليم لله ، والعمل الصالح ، وكلما كانت الامة أكثر عملا من بالصالحات كانت أقرب عند الله ، اما القبلة فهي مظهر خارجي لا أكثر.

(وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها)

بعضهم شطر المسجد الحرام والبعض الى القدس.

(فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ)

هذا هدف رسالات الله ولا يكونن جدلكم في القبلة ، بديلا عن منافستكم لبعضكم في الخيرات.

(أَيْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللهُ جَمِيعاً إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)

هناك في محكمة الله لا ينظر الله الى جدلياتكم بل الى مقدار الصالحات في

٢٧٨

ميزان أعمالكم.

[١٤٩] ولكن هذه الفكرة لا تدعونا الى تمييع الحدود ، والقول بأنّ المؤمن يمكنه ان يصلي الى اية جهة شاء ، كلا ، إنما عليه ان يلتزم بحدود الشريعة ، ولكن دون ان يكتفي بها ، لذلك تجد القرآن يعود ويأمر بالتوجه شطر المسجد الحرام ويقول :

(وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ)

انه الحق ، بالرغم من مقاومة أئمة الضلال لك على ذلك ، وما دام الفرد على الحق ، فلا بد الّا يأبه بمعارضة الناس ، مهما كانوا كبارا عند أنفسهم ، وعريقين في الدين.

[١٥٠] ثم يؤكد القرآن ضرورة الاستقلال الفكري وعدم الخوف من الناس في الحق ويقول :

(وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ)

هؤلاء الظالمون سوف يحتجون عليكم ، سواء اتبعتم الحق ، أم الضلال ، وعليه فلا بد من إسقاط هؤلاء عن الحساب وعدم التفكير فيهم ، يبقى الناس فهم يعرفون مدى أهمية المسجد الحرام ، وكانوا يتساءلون لماذا أنتم باقون على التوجه الى بيت المقدس بالرغم من أهميته الثانوية ، الآن عودوا الى المسجد الحرام ، حتى لا تكون لهؤلاء الناس حجة عليكم ، خصوصا وهم على الأغلب ممن يكرم المسجد الحرام.

وما دام الإنسان على حق وقد استطاع ان يجلب أكثر الناس الى صفّة عن طريق النهج السليم والعمل الصالح ، فعليه الا يخشى طائفة من الناس ، هم طبقة

٢٧٩

المّحرفين للدين.

(فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ).

التخلص من الظالمين نعمة ، والاستقلال الفكري والاجتماعي (بتميز القبلة) نعمة ، وهداية في ذات الوقت الى القبلة الأفضل ، المسجد الحرام.

٢٨٠