من هدى القرآن - ج ١

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ١

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-04-1
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٧٣٦

(وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ)

لان ذلك أقسط عند الله ، وأبعد للخلاف في المستقبل. خصوصا في الصفقات الكبيرة كالعقارات.

(وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ)

أيّ لا يجوز الإضرار بهما بسبب شهادتهم بالحق.

(وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ)

فالإضرار بالكاتب أو الشهيد يجعلهما يميلون عن الحق ويجأرون الأقوى ، وقد تكون أنت الأقوى اليوم ، أما غدا فيكون خصمك هو الأقوى ، بينما تكون أنت صاحب الحق ضعيفا. وإذا انتشر في المجتمع الإضرار بالكاتب والشهيد ، وبالتالي انتشرت الكتابات الوجاهية وشهادة الزور ، آنئذ قد تصبح أنت ضحية هذا الفسوق ، لذلك قال القرآن : (فُسُوقٌ بِكُمْ) أي فساد يشملكم كلكم ، وهنا ثغرة قانونية تسّدها التقوى ، إذ ينبغي أن يلتزم الجميع بعدم الإضرار بالكاتب والشهيد التزاما نابعا من إيمانهم بالله ، حتى لا ينتشر الفساد والفسوق. وأخيرا يذكرنا الله بعلاقة التقوى بالعلم ، ويبيّن انه إذا كانت التقوى نابعة من الإيمان بالله ، فان العلم هو الآخر نعمة من نعم الله ، فعلينا ألّا نكتفي بواحد عن الآخر.

(وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)

هذه الآية أطول آية في القرآن ، وتناولت العلاقة بين الغيب والشهادة ، بين الروح والجسم ، بين الإيمان والعلم ، وبالتالي بين النصائح الخلقية والانظمة الاجتماعية ، وهي توصي بضرورة الوصول الى الحق عبر أيّ وسيلة مادية أو معنوية مشروعة ممكنة ، ويدع الباب مفتوحا أمام بعض الوسائل الحديثة التي تكشف

٤٨١

صاحب الحق مثل التحقيقات الجنائية ، طبع الأصابع ، الكشف العلمي على الخط ، جهاز الكذب عن طريق تسارع نبضات القلب .. وما أشبه. إن كلّ وسيلة مادية توصلنا الى اليقين التام والعلم القاطع بالحقيقة يأمر الإسلام بها ، ويعتمد عليها جنبا الى جنب اعتماده على روح التقوى النابعة في النفوس.

[٢٨٣] وتكميلا للحديث عن الدّين يتحدث القرآن عن الرهن فيقول :

(وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ)

فإن الرهن يساعد على استمرار العلاقة التجارية بين الناس ، فعملية الرهن ليست مفروضة لذاتها ، بل بهدف المحافظة على حق الدائن.

(فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ)

فما دام الشخص وضع ثقته فيك فلا تخنه في أمانته ، واتق الله لأنه سيطالبك بحق صاحب الأمانة ، ويأخذه منك عاجلا أو آجلا.

(وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ)

فإذا كان أحد من الناس يعرف أمانة عند أحد ، فليشهد لصاحب الأمانة ولا يكتم الشهادة. فإن ذلك سوف يسبب نقصا في إيمانه.

٤٨٢

لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٨٤) آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (٢٨٥) لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا رَبَّنا وَلا

____________________

٢٨٦ [إصرا] كل ما عطفك على شيء من عهد أو رحم. وأصل الباب العطف فالاصر الثقل لأنه يعطف حامله بثقله عليه.

٤٨٣

تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (٢٨٦)

٤٨٤

المسؤولية ومسقطات الأحكام

هدى من الآيات :

في الدرس الأخير من هذه السورة ، يحدد الله بعض بنود المسؤولية والتي تزرعها التقوى في النفس ، فيبيّن ..

أولا : ان الله يحاسب الإنسان على كلّ عمل ، وعلى كلّ نية سواء أظهرها الإنسان أم لا. فما دامت النية «الإرادة» هي منشأ العمل ، فان الله يحاسب عليها.

ثانيا : أهم مسئولية على الإنسان وهي مسئولية الايمان بالله ورسوله والاعتقاد أبدا بالتقصير امام الله.

ثالثا : يبين حدود مسئولية الإنسان ، انها في إطار قدراته. فبقدر سعة قدرات الإنسان تتسع مسئولياته ، وكلّ إنسان يتحمل مسئولياته دون مسئوليات الآخرين. وهنا استثناءات في المسؤولية منها : الخطأ والنسيان والحرج والعجز (الضرر).

٤٨٥

هذه الاستثناءات خاصة ليست دائمية بل في ظروف معينة (كالجهاد في سبيل الله) لا يستثني عن المسؤولية شيء. ذلك لان النسيان ينشأ من اللامبالاة ، والخطأ ينشأ من عدم الجدية. أما الحرج والضرر ، فهما يرافقان ظروف الجهاد بصورة طبيعية.

وتنتهي سورة البقرة بالدعاء بالانتصار على الكافرين ، وهو التطلع العظيم الذي يبقى دافع الأمة نحو التقدم والبناء ، والمحور الذي تلتف حوله فئات الأمة فتبتعد عن التشرذم.

بينات من الآيات :

[٢٨٤] إصلاح الأمة يبدأ من إصلاح أفرادها ، ويبدأ إصلاح الفرد بتزكية نفسه وتصحيح منطلقاته وأهدافه.

ذلك لان كلّ شخص يعمل وفق ما تمليه أهدافه ، وينظر الى أحداث الحياة ويحدد مواقفه منها حسب منطلقاته. والقرآن الحكيم يحمّل الإنسان مسئولية إصلاح منطلقاته وأهدافه حين يحمله مسئولية أفكاره. فلست حرا في أن تفكر ما شئت ، ذلك لان بعض تلك الأفكار من أبنية الشيطان التي تكبر وتكبر حتى تصبح أعمالا خبيثة. فعليك أن تفرض على قلبك رقابة شديدة ، حتى لا تدخلها كل فكرة خبيثة وهاجسة انحرافية. وعليك أن تعرف ان علم الله وقدرته وسلطته تحيط بك وبالسماوات والأرض فانتبه لكلّ أعمالك.

(لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ)

والإنسان بعض ما في الأرض.

(وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ فَيَغْفِرُ

٤٨٦

لِمَنْ يَشاءُ)

وهم الذين إذا مر بهم طائف من الشيطان تذكروا فاستغفروا الله ، هؤلاء يقبضون على الأفكار المتسللة الدخيلة الى قلوبهم ويطردونها ، فيغفر الله لهم الله ، بعد أن يحاسبهم حسابا يسيرا.

(وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)

قادر على الحساب الدقيق لما يجري في النفوس ، وقادر على الجزاء. وربما هذه الآية جاءت لتبين مسئولية الإنسان تجاه أفكاره تكميلا لبيان مسئوليات البشر.

[٢٨٥] فالإنسان إذا مسئول عن تصرفاته ومسئول عن أفكاره ، وعليه فهو مسئول عن الإيمان أو الكفر في قلبه. ان الإيمان عمل مسئول لصاحبه ، ذلك لان كلّ بشر يولد بالفطرة التي يستطيع أن يعرف الله بها ، لو لا انه يطمر فطرته في تراب الشهوات ، ويحتجب وراء سحب الأساطير والخرافات ، فلا يؤمن بالله. إلّا الذين يستجيبون لفطرتهم ويستنيرون بنور العقل ويخرقون به حجب الغفلة والأساطير ، انهم يصممون على أن يقاوموا ضغوط الهوى باتجاه الفكر ، وأن يتبعوا هدى العقل في الإيمان بالله.

من هنا فالمؤمنون هم الذين يتحملون مسئوليتهم تجاه ما يجري في قلوبهم فيختارون الايمان.

(آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ)

هذه هي عناصر الإيمان الأساسية وهي قاعدة بناء الشخصية المسلمة التي يلخّصها القرآن في نهاية هذه السورة التي تحدثت عنها بشكل مسهب. الإيمان بما

٤٨٧

انزل الله من كتاب ، والإيمان بالرسل جميعا دون حساسية تجاه رسول ، إذ أن أية حساسية من هذا النوع تضر بالإيمان ذاته.

فاليهود مثلا ، الذين لم يؤمنوا بالنبي محمد (ص) انطلاقا من حساسيتهم تجاه العرب ، كانوا كفارا حتى برسالة موسى ، لأن رسالة موسى ، لم تكن عنصرية ، بل إلهية وهم حوّلوها الى عنصرية.

والإيمان بالملائكة هو رمز الإيمان بهيمنة الله وسلطانه في كلّ شيء ، وانه الذي يدبر ما في الكون من فوق عرشه العظيم الذي وسع السماوات والأرض.

وهذا الإيمان يدفع بصاحبه الى السماع والطاعة. السماع لفهم كتب الله ورسالاته. والطاعة لرسل الله ورجال دعوته.

(وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ)

والإيمان يدفعك الى الشعور بالمسؤولية والخشية من الذنب والاهتمام بالمغفرة ، كما ان الإيمان بالله يدفعك الى الإيمان بأن مصير العباد اليه ، وأنّه يجازي على الحسنات وانه قادر على أن يبعث الموتى.

إطار المسؤوليات :

[٢٨٦] ما هي حدود المسؤولية وبالتالي حدود التقوى التي تحدثت عنها الدروس السابقة؟

أهم هذه الحدود :

١ ـ القدرة. ان القدرة شرط عقلي للتكليف ، ولذلك لا يكلف الله أحدا على أعمال الآخرين لأنه لا يقدر عليها فبقدر استطاعتك يكلفك الله ، ولن يكلف الله

٤٨٨

أحدا الا بما يقدر. فلو استطاع شخص التأثير على الناس باتجاه الخير ، فسوف يكلف بهم بقدر استطاعته ، وفي حدودها ولا يكلف الطفل الذي لا يميز شيئا ، ولا المجنون ، ولا المريض بما يعجز عنه ، ولا المعدم.

ولا يحمّل الله الإنسان مسئولية الهواجس التي تتزاحم في قلبه من دون إرادة منه (كالحسد الذي لا يطيعه صاحبه أو كالتشكك في الخلق ، والتشاؤم الذي لا يتبعه صاحبه ، ونية السوء التي لا يحققها صاحبها وهكذا).

والتكليف يقدّر أيضا بالعمل سلبا وإيجابا .. فبقدر عملك الصالح تجازى بالخير ، وبقدر عملك السيء تعاقب بالسوء. ولا ينفعك عمل غيرك كما لا تضرك ذنوبه ، أبوك ، مجتمعك ، قادتك ، أئمتك ، كلّ يعمل لذاته ، وأنت تعمل لنفسك وانما عملك يشفع لك.

(لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ)

٢ ـ والخطأ الذي يرتكبه الإنسان من دون عمد معفي عنه ، بالرغم من ان المسؤولية قد تشمله بسبب ان الخطأ ينشأ من اللامبالاة. ومن هنا نجد ان الله وضع على بعض أنواع الخطأ كفّارة ليردع الناس عنها ، وليزيدوا من اهتمامهم بأنفسهم ولا يتورطوا فيها. مثل كفارة الخطأ في الحج وكفارة قتل الخطأ.

٣ ـ النسيان هو الآخر معفي عنه بالرغم من انه يقع في حدود قدرة الإنسان أيضا. فبالاهتمام تستطيع ألا تنسى شيئا.

من هنا جاء تعبير القرآن عن رفع مسئولية الخطأ والنسيان بصورة دعاء. بينما كان التعبير عن رفع مسئولية العجز ـ بشكل قاطع ـ قال الله :

٤٨٩

(رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا)

٤ ـ التكاليف التي تسبب ضررا لحياة الإنسان وابتعادا عن سنن الله ، كالرهبنة والاعتزال عن الناس والامتناع عن الزواج أو عن أكل الطيبات ، ان هذا النوع من التكاليف كانت في الأمم لاسباب مرحلية ، ولكنها انتفت في الإسلام لأن الإسلام ليس دينا مرحليا بل دين أبدي ، للبشر.

٥ ـ في الإسلام خففت التكاليف المجهدة والتي سميّت بالحرج فإذا أصبح الصوم مرهقا لصاحبه وسيتنفد كلّ جهده وكلّ طاقته ، يجوز له آنئذ أن لا يصوم. وكذا الحج وكلّ التكاليف. لذلك قال :

(رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ)

هذه هي حدود المسؤولية ، وهي مشكلة الإنسان انه قد يقع في الذنب حتى داخل هذه الحدود فيحتاج الى العفو. العفو عن الذنب والتغاضي عنه ، وعدم العقاب عليه ، اما الغفران فهو محو الذنب من قائمة الشخص وتصفية آثاره. والإنسان بحاجة الى عفو الله وغفرانه ، كما يحتاج الى توفيق الله له بان يصلح من نفسه ما أفسده الذنب عليه.

إن كلّ ذنب يخلّف في ذات الشخص وداخل مجتمعة آثارا ، وعلى الإنسان الذي يتوب الى الله من ذنوبه أن يقوم بجهد مكثف بإصلاح ما أفسدته الذنوب ، وهنا يحتاج إلى رحمة الله.

(وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ)

٤٩٠

وهذا الدعاء الأخير هو تطلع الأمة الى المستقبل ، هذا التطلع الذي يعتبر هدف الأمة المقدس الذي يتمحور حوله كلّ أبنائها.

إنّ أية أمة بحاجة الى هدف يكون بمثابة حبل يشد بعضهم ببعض ، وقناة تصب فيها جهود الأمة ، ومقياس لمدى تقدم الأمة أو تخلفها ، ودافع قوي لأبناء الأمة بالتضحية والعطاء والنشاط والتعاون.

والأمة الإسلامية تتطلع الى يوم تنتصر فيه على الكافرين ، وتحقق مبادئ الإسلام في الأرض ، وتحمل الخير لجميع الناس. انها تتطلع الى تطبيق رسالتها في الأرض ، ولذلك فهي ليست أمة عدوانية ، أو عنصرية ، أو استعمارية ، إنها أمة تبني ذاتها لتهيئها للعطاء.

٤٩١
٤٩٢

سورة آل عمران

٤٩٣
٤٩٤

بسم الله الرحمن الرحيم

فضل السورة :

عن ابن كعب عن رسول الله (ص): «من قرأ سورة آل عمران يوم الجمعة صلى الله عليه وملائكته حتى تجب الشمس»

وعن بريدة عن رسول الله (ص) انه قال : «تعلّموا سورة البقرة وسورة آل عمران ، فإنهما الزهراوان ، وانهما تظلان صاحبهما يوم القيامة ، كأنهما غمامتان ، أو غيابتان ، أو فرقان من طير صواف»

مجمع البيان ص ٤٠٥

٤٩٥
٤٩٦

الإطار العام للسورة

لما ذا الاسم؟

لماذا سميت هذه السورة باسم «آل عمران»؟ هل لأنهم كانوا يشكلون التجمع الايماني الصادق وبما ان سورة «آل عمران» تتحدث عن الامة الاسلامية كتجمع مبدئي يتمحور حول الايمان بالله والحق. فقد سميت بآل عمران كمثل واقعي لهذا التجمع؟

أم لأن التجمع الايماني يتمحور حول اشخاص ، هم رسل الله في الأرض ، وهؤلاء الأشخاص هم صفوة الناس الذين اختارهم الله بحكمته البالغة لما علم فيهم من إخلاص لله ، وصدق في العمل من أجل الله و «آل عمران» هم مثل بارز لهؤلاء الصفوة فكانت السورة باسمهم.

سواء كان هذا أو ذاك السبب في تسمية السورة ، فان الله خلّد هذه العائلة الكريمة بذلك ، لكي تكون قدوة للإنسان المسلم ، وللاسرة المسلمة ، وبالتالي

٤٩٧

للمجتمع الايماني.

ما هو الإطار العام؟

قيمتان تحكم الناس : قيمة رسالات الله ، وقيمة الأرض وفيها من زخرف الحياة والدنيا. تتجلى قيمة الرسالة في الايمان بالله ، والتسليم له ، واتباع الحق الذي أوحاه الله ، وطاعة رسل الله بلا تفريق بينهم. وبالتالي قيمة مسئولية الإنسان الكاملة عن اي تصرف يقوم به.

وتتجسد قيمة الأرض في تقديس البشر لذاته ، والاعتقاد بالتمييز العنصري ، ومن ثم القومي ، والاقليمي ، والطبقي ، والتنصل عن بعض المسؤولية اعتمادا على العنصرية.

وتتحدث سورة «آل عمران» عن التقابل بين قيمتي السماء والأرض ، في الحقل الاجتماعي حيث تبين لنا أن الامة الاسلامية ، انما هي تجمع مبدئي ، تستمد تلاحمها من قوة الرسالة ، وتتمحور حول قيم الايمان بالله والتسليم له (الإسلام) والخضوع للحق وتقبل المسؤولية ، وبالتالي الجهاد الذي هو قمة المسؤولية والتضحية.

وتتحدث هذه السورة عن الوحدة المبدئية التي تربط رسالات السماء ببعضها ، كما تربط عناصر الأمة فيما بينها ، وكذلك تفصل بين الامة الاسلامية وبين الأمم العنصرية الاخرى ، فالمبدأ هو المقياس وهو القيمة ، فهو الذي يفصل بين الأخ وأخيه ، وهو الذي يربط بين العربي والأعجمي.

ومن هنا تشير آيات سورة «آل عمران» الى فكرة (العنصرية) والتي تتجسد في عبادة اشخاص ، واتخاذهم آلهة من دون الله ، (كمثل عيسى عند النصارى). باعتبار هذه الفكرة هي جذر فكرة العنصرية ، والتي هي أخبث ثمرة لتقديس الذات. لذلك

٤٩٨

يفصّل القرآن الحديث حولها.

وهذه السورة ، تتحدث في البدء عن الله الذي انزل الكتاب بالحق ، ليهدي الناس ، ولأن الله لا يخفى عليه شيء ، فهو أحق ان يهدي الى الحق.

والكتاب الذي يمثل الدين الحق ، لا ريب فيه ، وإنما يختلف فيه البعض لأنهم يبتغون الفتنة ، ويعتمدون تحريف الكتاب بسبب ابتعادهم عن المسؤولية ، فهم لا يؤمنون باليوم الآخر ، ويزعمون ان أموالهم تغنيهم عن العذاب.

إن الشهوات هي وراء انحراف الناس عن الحق ، وإنما الخلاص منها بالإيمان بالآخرة ، وبما أعدّ الله للصابرين عن الشهوات من أجر عظيم.

ورسالة الله الى الإنسان واحدة ، لأنها تشع من ذات المشكاة ، بيد أن اختلاف الناس فيها نابع من أنفسهم المريضة ، التي تريد الظلم والبغي ولكي تتخلص البشرية من الاختلاف ، فلا بد ان يتكامل ايمانها بالله ، ويبتعد عن العنصرية ، ويعرف أنّ الله يراقب تحركاته ، ويؤمن بيوم الجزاء ويتبع رسل الله.

وقد اختار الله رسله لأنهم أتبعوا الله وأخلصوا له العبادة ، فليست هنالك اية عنصرية ، وليس عيسى الّا عبدا لله. امتحنه الله فاختاره لرسالته. وإذا لم يكن عيسى الّا عبده ، جزاه الله بصالح عمله فهل يقدر البشر ان يتقدموا بلا عمل صالح ، ولمجرد انهم من عنصر مقدس؟! إنّ العنصرية هي اسوأ ما تعانيه البشرية ، وهي الطرف المعاكس والمتناقض تماما مع الرسالية.

وسورة «آل عمران» تنسف فكرة العنصرية من جذورها البعيدة ، وتتحدث طويلا عنها من خلال بيان مفصّل لقصة عيسى ، ومن خلال الحديث عن إبراهيم

٤٩٩

الذي قدّسه اليهود ، وزعموا أنهم أولياء الله لمجرد انهم أبناء إبراهيم.

كما ان هذه السورة تتحدث عن الوحدة داخل التجمع الايماني ، وما يجب ان تكون عليه الوحدة من صفات.

وكلمة اخيرة : ان سورة «آل عمران» تتحدث مباشرة عن المسؤولية ، باعتبارها أهم نتائج التجمع الايماني ، وفي نهايات السورة ـ تتضح ـ فكرة المسؤولية ويضرب السياق أمثلة توجيهية لها ، أبرزها الجهاد في سبيل الله.

وبمناسبة الحديث عن المسؤولية ، تتحدث السورة عن الجزاء ، وتبين ان كلّ من عمل صالحا سيجزي بعمله ، وانّ من الخطأ تصنيف الناس حسب انتماءاتهم العنصرية ، أو ولاءاتهم الدينية.

هذه الفكرة هي التي تختم السورة آياتها بها ونستوحي منها ضرورة الاعتماد على العمل في سبيل الله.

٥٠٠