من هدى القرآن - ج ٥

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ٥

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-08-4
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٤٩٦

١
٢

سوره هود

٣
٤

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

فضل السورة

عن النبي محمد (ص) قال :

«من قرأها أعطى من الأجر عشر حسنات بعدد من صدق بنوح وكذب به وهود وصالح وشعيب ولوط وإبراهيم وموسى وكان يوم القيامة من السعداء»

مجمع البيان ـ ص ـ ١٤٠ ـ الجزء ـ ٥ ، ٦

عن رسول الله (ص) قال :

«شيبتني سورة هود وأخواتها»

نور الثقلين ـ ص ـ ٣٣٤ ـ الجزء ـ ٢ ـ

عن الامام الباقر (ع) قال :

«من قرأ سورة هود في كل جمعة بعثه الله يوم القيامة في زمرة النبيين وحوسب حسابا يسيرا ولم تعرف له خطيئة عملها يوم القيامة»

مجمع البيان ـ ص ـ ١٤٠ ـ الجزء ـ ٥ ـ

٥
٦

الإطار العام

لعلّ الآيات (١١٢ ـ ١٢٠) في نهاية السورة تحدّد الإطار العام لها. حيث تأمر الرسول بالاستقامة ، والابتعاد عن الظالمين ، واقامة الصلاة ، والصبر ، والإحسان.

كما تذكره بدور بقيّة الله ـ ممن ينهون عن الفساد ـ في التاريخ ، وكيف ان الله أنجاهم وحدهم بينما أهلك الظالمين الذين اتبعوا ما أترفوا فيه. وكانوا مجرمين!

وتبيّن : انّ الله لم يهلك القرى الّا حين انعدم الصلاح بينهم.

وان الاختلاف سنة تاريخيّة بين الناس وان الله لم يخلق الناس ليعذبهم ـ بل ليرحمهم ـ بيد انه قد قضى بان يملأ جهنّم من الجنة والناس أجمعين.

وانّ القصص التي ذكرها الرب كانت بهدف تثبيت فؤاد الرسول. كما لبيان الحق ، ولتوفير الموعظة والذكرى للمؤمنين.

وتكاد تكون آيات سورة هود تفصيلا لهذه البصائر المحكمة ببيان جوهر

٧

رسالات الله. الذي حملها النبيّون عليهم السلام الى الناس ، وتحمّلوا ـ من أجلها ـ ألوانا من العناء ، وأنجاهم الربّ من بطش قومهم ، وانزل العذاب الأليم على الكافرين برسالاته.

وهكذا .. اضحت الرسالات هذه محور النجاة والعذاب فمن اتبعها أنجاه الله. ومن خالفها لحقه العذاب واللعنة في الدنيا. والنار والشقاء في الآخرة.

جوهر رسالات الله ، وفي طليعتها رسالة القرآن التي أحكمت آياته ثم فصّلت ، هي : توحيد العبودية لله. والإنذار والبشارة. والأمر باستغفار الربّ في الدنيا والتوبة اليه. لضمان حياة سعيدة. (١)

واتقاء يوم البعث. والخشية من الله الذي يعلم سرهم وإعلانهم ويعلم كل شيء أو ليس قد خلق السماوات والأرض في ستة أيام. والهدف هو ابتلاء الناس.

ولأن تم تأخير العذاب عن هؤلاء الذين كفروا بالله. ورسالاته وبيوم الدين. فلأنّه يوم يأتيهم لا يؤخر عنهم. (٤).

وبعد بيان طبيعة الجزع عند البشر الا المؤمنين منهم يثبت القرآن فؤاد النبي (ص) بأنه منذر اما المنتقم فهو الله الوكيل على كل شيء ، ثم يأمره بتحديهم بان يأتوا بمثل القرآن. وإذ يظهرون عجزهم فليعلموا : ان القرآن انزل بعلم الله. (١٤)

وهكذا جاءت رسالات الله على لسان نوح. وكانت فصول الجدل ... والصراع بينه وبين قومه تعكس حالة العناء عند قومه. وقوة الاستقامة عند نوح عليه السلام ، وانتهت بالطوفان. حيث أنجى الله نوحا والذين آمنوا وأغرق الظالمين وبينهم ابن نوح الذي لم يغن عنه انه ابن نوح لأن محور النجاة هو توحيد الله. (٢٥)

ومن بعد نوح جاء هود يدع قومه عادا. بتلك الرسالات فلم يستجيبوا له وجرى

٨

بينهم صراع مشابه. وعاندوا وتحداهم وأيده الله واهلكهم بعذاب غليظ. (٥٠)

وكذلك ثمود حين جاءهم أخوهم صالح. وأمرهم بتوحيد عبادة الرب وجاءهم بآية هي ناقته التي لم يلبثوا ان عقروها فجاء امر الله ونجىّ الرب عبده ورسوله صالحا وأخذ الذين ظلموا الصيحة. (٦١).

وهكذا .. إبراهيم ولوط وشعيب وموسى. وبالرغم من أن جوهر رسالات الله واحد. الّا ان هناك بعض التفاصيل المختلفة بسبب اختلاف الظروف.

وبعد بيان كل تلك القصص يبين السياق العبرة منها. وتذكر بالقيامة. حيث ان عذاب الله في الدنيا ، اية عذابه في الآخرة ، كما ان رحمته ونجاته هنا آية نعيم الجنة التي هبتها للمؤمنين وأخيرا يذكر القرآن رسوله بضرورة الاستقامة. ذلك الأمر الذي شيب الرسول ـ صلى الله عليه وآله ـ كما جاء في حديث مشهور.

٩

سورة هود مكية وهي

مائة وثلاث وعشرون آية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (١) أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (٢) وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (٣) إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٤)

١٠

كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ

هدى من الآيات :

ما هو الكتاب؟ انه آيات محكمة قد اتقنتها حكمة الرب ، ثم فصلتها وأوضحت الحقائق بها ، والذي بعث بالكتاب هو الرب الحكيم الذي يمنع الفساد ويخلق الصلاح ، والخبير العالم بألطاف الأمور سبحانه.

ومن محكمات آيات الكتاب التذكرة بالله ، والأمر بإخلاص العبوديّة له ، وأن الرسول نذير وبشير منه ، وكلما أبعدت الخطايا والذنوب والغفلات البشر عن رحاب ربهم ، فعليهم ان يستغفروه ويتوبوا إليه ابتغاء الحياة السعيدة في عاجل الدنيا حتى يبلغ أجله ، وابتغاء فضل الله ، وإذا استمر البشر في غيّه ، وتابع سيرة الضلالة والانحراف ، فانه يخشى عليه من عذاب يوم كبير ، وغدا حينما يرجع البشر الى ربهم ، يبعثهم من جديد بقدرته الواسعة .. آنئذ يحاسبون عند الله.

بينات من الآيات :

[١] ماذا تحمل هذه الكلمات الثابتة المكتوبة (الر) في طياتها؟ انها تحمل

١١

آيات تشير إلى الحقائق ، تذكر بها وتهدي العقول إليها.

(الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ)

فالقرآن ليس أفكارا بل هو آيات تشير مباشرة الى الحقيقة لكي يراها البشر فور ما تشير إليها ، والآية بمعنى العلامة والكلمة مأخوذة من مادة (أوى) بمعنى الذهاب إلى البيت وكأن العلامة تذهب بك الى رحاب الحقيقة ذاتها ، والقرآن هو ذلك الكتاب الذي يبصرك بالحقائق.

وآيات القرآن محكمة ومفصلة ، اما الأحكام فهي آتية من حكمة الله ، التي لا تدع ثغرة في كلماته ، ولا سبيلا للباطل إليها ، بل يصبّ الكلمات على مقياس الحقيقة دون زيادة بوصة أو نقيصة بوصة ، أو فراغ في جزء ، فهو يقول كل الحقيقة وبكل أبعادها ، واما التفاصيل فهو تحديد تلك البصائر المحكمة ضمن واجبات ومحرمات فرعية ، فالقرآن مثله مثل الشجرة راسخة الجذور منتشرة الفروع.

والأحكام بحاجة الى حكمة ، فمن لا يعرف الخطوط العامة لأنظمة الحياة ، كيف يتسنى له ان يضع برنامجا متكاملا لها ، ويعطي رؤية صادقة ، كما ان التفصيل بحاجة الى خبرة ومعرفة سابقة لدقائق الأمور ولطائفها ، والله حكيم خبير.

(مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ)

وتلك الحكمة التي نشاهدها في الإطار العام للكون ، وتلك الخبرة التي نراها في أدّق الأمور ، وألطفها مثل صنع أوجه النملة ومفاصل أرجلها ، أو في صنع الخلية الحية ، أو صنع الذرة المتناهية في اللطف. إن كل ذلك شاهد على حكمة الله وخبرته ، وأن خالق المجرات الحكيم وصانع الذرة الخبير ، هو الذي أمر بحكمته إخلاص العبودية له ، ووضع بخبرته برنامجا تفصيليا لهذه العبادة.

١٢

التوحيد وفروعه :

[٢] ومن الآيات المحكمة الموجودة في الكتاب دعوته الصريحة إلى نبذ الشركاء من دونه.

(أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ)

إذ أن التوحيد بصيرة عامة تتفرع عنها سائر الشرائع الإلهية ، وبعدها تأتي الرسالة التي هي بدورها فرع من فروع التوحيد.

(إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ)

[٣] واستغفار الله فرع ثان للتوحيد. إذ حينما يعمر قلب الفرد بأيمان صادق بالله ، ويعرف عظمته وكبرياءه ونعمه التي لا تحصى ، آنئذ يشعر الفرد بالصغار امام الله ، ويستغفره ويتوسل اليه ، لذلك جاء في آية اخرى (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ) (١) حيث ان الاستغفار جاء بعد الايمان بالله لأنه فرع متصل به ، وبعد حالة الاستغفار تأتي مرحلة التوبة وهي العودة الى الله وخلوص العبادة له وإخلاص العمل في سبيله ، فلا يكفي الندم على ما مضى من الذنوب ، بل لا بد من إصلاح المستقبل.

(وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ)

وبالاستغفار والتوبة يوفّر الرب لعباده حياة طبيعية هنيئة ، إلى وقت محدود.

(يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ)

__________________

(١) سورة محمد آية ١٩

١٣

أي كلما زاد الفرد من تقربه إلى الله ، واستغفاره له وتوبته اليه ، كلما منحه الله فضلا أكثر.

(وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ)

من نوع عذاب عاد وثمود ، حيث انه في يوم واحد حطّم مكاسب دهر طويل. لذلك سمّى باليوم الكبير.

[٤] وبعده يعود الناس الى الله ، حين يبعثون في القيامة إلى الله ، وذلك بقدرته البالغة التي لا يقف في طريقها شيء.

(إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)

ويبدو من هذه الآية ومن آيات أخرى أن أهم حاجز نفسي امام إيمان الناس بالقيامة ، هو عدم إيمانهم بقدرة الله على البعث الجديد ، لذلك يذكرنا السياق بعد ذكر القيامة بقدرة الله.

١٤

سورة هود

أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٥) وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللهِ رِزْقُها وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٦) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (٧) وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ

____________________

(٥) [يثنون] : أصل الثّني العطف ، والمقصود يطوونها على العداوة وعلى ما هم عليه من الكفر.

[ليستخفوا] : الاستخفاء طلب إخفاء الشيء ، يقال استخفى وتخفّى.

[يستغشون ثيابهم] : يتغطّون بثيابهم.

٨ [أمّة] : حين من الزمان.

١٥

ما يَحْبِسُهُ أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٨)

١٦

إحاطة علم الله

هدى من الآيات :

في الدرس الأول من سورة هود ، بينّ القرآن بعض الآيات المحكمات واستعرض الخطوط العريضة للرسالة ، وفي هذا الدرس يدخل الكتاب في التفاصيل ، بدء بواقع كفر وجحود الناس ، ويبدو أن أحد الأسباب الاساسية للجحود هو الجهل بإحاطة علم الله بهم ، وبالدوافع الأصيلة لكفرهم ، فتراهم يثنون صدورهم ويعطفونها بهدف إخفاء حقيقتهم بينما الله يعلم أسرارهم حتى في لحظة تسترهم بالثياب.

وكلّ حي يدب في الأرض رزقه على الله ، ويعلم أيام حياته ، وميعاد موته. كل ذلك مكتوب في الكتاب الواضح ، والله خلق السماوات والأرض في ستة أيام ، وكانت سلطته وقدرته مهيمنة على الماء المخلوق الأول الذي جعل منه كل شيء حي. وحكمة الخلق هي ابتلاء الناس ليعلم من هو الأحسن عملا ، فيجازى في الاخرة ، بينما لا يؤمن البعض بالآخرة ، ويزعمون أنها سحر مبين ، الغاية من طرحه

١٧

تمويه الحقيقة ، أما لو أخّر الله عنهم عذاب الدنيا الذي هو طريق آخر لتنبههم فستراهم ينكرونه أصلا ، ويقولون : ما الذي يحبس العذاب عنا ما دمنا مستحقين له ، ولا يعلمون ان العذاب لو نزل بساحتهم فلا يصرف عنهم ، وسوف يحيط بهم ذلك الذي كانوا به يستهزءون.

بينات من الآيات :

إحاطة علم الله :

[٥] الكفار يثنون صدورهم ، استخفاء للحقيقة ، فتراهم يسرون في قلوبهم وكأنهم يطوون صدورهم فوق الشر ، ويعطفونها عليه ، أو كأن المرء منهم حين يريد ان يقول سرا ينحني وينثني ـ تبعا لذلك ـ صدره ، ولكن هل ينفعهم ذلك شيئا. كلا .. لأن الله عليم بسرهم وعلانيتهم ، وما يتداخل في صدر البشر من شهوات وأهواء وعوامل مختلفة للرفض والإنكار كالاستكبار والجهل واللامبالاة وحب الدنيا والدعة.

(أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ)

في اللحظات التي يختلون بأنفسهم تحت غشاء الثياب ، حيث يبقى الفرد ووجدانه ويحاكمه وجدانه على إنكاره للرسالة ، وكذبه ونفاقه ، والله شاهد آنئذ عليه.

(يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ)

[٦] وعلم الله محيط بكل شيء وكذلك رحمته ، فهو الذي يرزق كل دابة في الأرض ، فكيف لا يعلم بها.

(وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُها وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها

١٨

وَمُسْتَوْدَعَها)

أيّ يعلم حياتها وموتها .. أو في بيتها وفي رحلتها.

(كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ)

مكتوب بوضوح وبتحديد.

الكفار بين عذاب عاجل وآجل :

[٧] فالله محيط علما ورحمة بما في الأرض من دابة ، وقبل ذلك خلق السماوات والأرض في ستة أيام خلقا بعد خلق ، فارضا هيمنته وسلطانه على الكون ، وفي ذات الوقت ناشرا رحمته وبركته في ستة أيام.

(وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ)

يبدو أن عرش الله هو قدرته وسلطانه ، ولأنه لم يكن آنئذ شيئا ، غير مادة سائلة كالماء ، فان عرش ربنا كان مستويا على الماء والله العالم.

(لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً)

ان حكمة خلق البشر هي امتحان إرادته وعقله ، وهذه الحكمة لا تتحقق من دون الإيمان بالآخرة. ولأنهم يكفرون بالآخرة تراهم لا يخضعون للرسالة الإلهية.

(وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ)

يبدو ان الكفار كانوا يتخذون موقفا سلبيا من الرسالة ومن توجيهاتها ، ويعتبرون كل كلماتها تمويها وتضليلا ـ كما السحر ـ فلا يفكرون فيها ليعرفوا صحتها ،

١٩

بينما لو تدبروا قليلا في خلق السماوات والأرض لرأوا آيات الحكمة ، وأن تطور الكون وتكامله ، وتحقيق كل جزء منه لغاية معينة ، شاهد على ان البشر خلق أيضا لتحقيق هدف محدد ، وانه لا يكون إلا بالابتلاء ، وتمام الابتلاء هو الجزاء في يوم البعث.

[٨] والجزاءات عاجلا أم آجلا ، وإن تأخيره ليس إلا لحكمة مثل الابتلاء ، بيد انهم يتخذون من هذا التأخير مبررا للكفر والجحود.

(وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ ما يَحْبِسُهُ)

ان التأخير ليس بلاخطة حكيمة وتقدير رشيد ، انما هو لوقت معين (امة معدودة) ولكنهم يتساءلون عن سبب تأخيره ، وكأن التأخير دليل عدم العذاب ، وهذا من أبرز نواقص البشر ، انهم يخشون الجزاء العاجل ، ويكفرون بالجزاء الآجل ، ولكن عليهم أن يعلموا.

(أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ)

فلقد كانوا يستهزئون بالعذاب ، وها هو محيط بهم ، يحاصرهم دون أن يقدروا على ردّة ، بينما استهزءوا سابقا به.

٢٠