من هدى القرآن - ج ١٨

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ١٨

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-21-1
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٤٩٠

١
٢

سورة الطارق

٣
٤

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

فضل السورة

في كتاب ثواب الأعمال بإسناده عن أبي عبد الله ـ عليه السلام ـ قال : «من كانت قراءته في فرائضه بالسماء والطارق كانت له عند الله يوم القيامة جاها ومنزلة ، وكان من رفقاء النبيين وأصحابهم في الجنة»

نور الثقلين/ ج ٥ص ٥٤٩

٥

الإطار العام

لكي يتسع قلب الإنسان للحقائق الكبرى فيعيها ويتكيف معها يرغّبه الوحي في النظر والتفكر في آفاق السماء وما فيها من النجوم الثاقبة والشهب الطارقة ، وفي أغوار النفس وما انطوت عليه من عالم كبير ، وفي نشأته الأولى حيث خلق من ماء دافق يخرج من بين الصلب والترائب ، ومصيره الأخير حيث يواجه اعماله بلا حجاب ولا قوة ولا ناصر.

ولكي لا يتهرب البشر من الحقائق العظيمة ، كواقع الرجع والحساب بتكذيب الرسالة أو تأويل انبائها بما يتناسب واللامسؤولية ، يذكّره الوحي بأنّ القرآن قول فصل ، وليس بالهزل .. وينذر المكذّبين والكافرين بأنّ الله يكيد لهم كيدا ، ولكنّ يمهلهم ، وأنت أيّها الإنسان اصبر وامهلهم رويدا.

٦

سورة الطارق

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ (١) وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ (٢) النَّجْمُ الثَّاقِبُ (٣) إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ (٤) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ (٥) خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ (٦) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ (٧) إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ (٨)

___________________

١ [والطارق] : هو النجم الذي يطرق بضيائه آفاق السماء ، يقال : طرقني فلان إذا أتاني ليلا ، وأصل الطرق الدق ، ومنه المطرقة لأنّها يدقّ بها ، والطريق لأنّ المارّة تدقّه ، والطارق : الآتي ليلا يحتاج إلى الدقّ.

٦ [دافق] : الدفق صبّ الماء الكثير باعتماد قوي ، ومثله الدفع ، وجاء في مفردات الراغب : ماء دافق : سائل بسرعة.

هكذا ماء الرجل يتدفّق ويتصبّب في رحم المرأة بقوّة وبسرعة.

٧ [الترائب] : هي ضلوع الصدر.

٧

يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ (٩) فَما لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا ناصِرٍ (١٠) وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ (١١) وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ (١٢) إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (١٣) وَما هُوَ بِالْهَزْلِ (١٤) إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً (١٥) وَأَكِيدُ كَيْداً (١٦) فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً (١٧))

___________________

٩ [تبلى السرائر] : أي تظهر ، يقال بلي الثوب أي خلق ، وبلوته اختبرته كأني أخلقته من كثرة اختباري له ، ويوم القيامة تختبر السرائر حتى يظهر خيرها من شرها.

١١ [الرجع] : المطر لأنّه يجيء ويرجع ويتكرر.

١٢ [الصدع] : هو الشق فصدع الأرض انشقاقها بالنبات وضروب الزروع والأشجار.

٨

إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ وَما هُوَ بِالْهَزْلِ

بينات من الآيات :

(١) أرأيت النجم الذي يطرق بنوره الثاقب في عرض السماء! أرأيته كيف يدفع الله به شرّ إبليس وجنوده عن السماء وأهلها والأرض وسكّانها! إنّه مثل واحد لحفظ الله ، فقسما به وبالسماء التي يحفظها : إنّ الله هو الحفيظ ، ولولاه لما استطاع الإنسان أن يعيش لحظة ولا غيره من الأحياء.

(وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ)

قالوا : الطرق يعني الدق ، وإنّما سمّي السبيل طريقا لأنّ الإنسان يدقّ عليه برجله ، وزائر الليل سمّي طارقا لأنّه بحاجة إلى دقّ الأبواب لتفتح ، ولعلّ كلّ قادم تسمّيه العرب طارقا لأنّه هو الآخر يدقّ الأبواب باعتباره غريبا عن المنطقة.

والقسم بالسماء وما يطرق فيها من النجوم الثاقبة يستثير عقل الإنسان ، ويستقطب اهتمامه ، وينفض عن قلبه غبار الغفلة والسبات .. وبالذات حين

٩

يكون القسم بالسماء البعيدة عن متناول أيدينا وعن مرامي فكرنا ، وبالطارق الذي يخشاه الإنسان ، فليس كلّ طارق يطرق بخير.

وقد قال الشاعر :

يا راقد الليل مسرورا بأوّله

إنّ الحوادث قد يطرقن أسحارا

لا تفرحنّ بليل طاب أوّله

فربّ آخر ليل أجّج النارا

وحين يرتفع الإنسان إلى أفق التفكير والتدبر في آيات الله في السماء والأرض يقترب من معرفة الحقائق الكبرى ، بينما الذي يعيش في زنزانة مشاكله اليومية ، وهواجس نفسه ووساوس قلبه ، فإنّه يحرم التفكّر في الآفاق ، ويحرم بالتالي بولغ الحقائق.

ولعلّ هذا من أهداف القسم في القرآن : الارتفاع بالإنسان إلى آفاق الحقائق بعيدا عمّا يحيط بفكره من قضايا خاصّة لا تنفك تستقطب اهتماماته.

والقرآن منهج تفكير قبل أن يكون دائرة للمعارف ، ولذلك فهو لا يهدف مجّرد تعليم الإنسان ، بل جعله قادرا على التعلّم بذاته ، فهو يفتح مغاليق الفكر بمفاتيح الذكر ، ويبصّر الإنسان الحقائق برفع الغشاوات عن قلبه ، ويخرق الحجب التي تستر بصيرته عن رؤية الحقائق باستثارة العقل ونفض غبار الغفلة عن الفؤاد.

وسورة الطارق تتجلّى بين السور القصار بهذه الميزة. إنّها كما النجم الثاقب بنوره الوضيء تطرق أبواب القلب حتى تفتحه أمام شلّال النور المنبعث من الوحي.

[٢] ما هو الطارق؟ دع فكرك يجوب في آفاق الخليفة لعلّه يكتشف ما هو الطارق.

(وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ)

١٠

هذه الكلمة تستثير عقل الإنسان ، كما تبيّن له أهمية القضية. وقال بعض المفسرين : كلّما ذكرت هذه الجملة في القرآن عرف موضوعها ، مثل قوله سبحانه : (وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ) ، بينما إذا استخدمت جملة (وَما يُدْرِيكَ) فإنّ الموضوع يبقى مجهولا في النص.

[٣] : ما هو الطارق إذا؟ إنّه النجم العالي الذي يثقب ضوؤه الباهر جدار الظلام.

[النّجم الثّاقب]

قالوا : الثاقب المضيء ، ومنه شهاب ثاقب ، والعرب تقول : اثقب نارك أي أضئها ، والثقوب ما تشعل به النار من دقاق العيدان.

واختلفوا في تأويل هذه الكلمة .. والذي يبدو لي أنّ الطارق هي الأقدار التي تتواصل في الليل والنهار بخيرها وشرّها ، ولذلك نستعيذ بالله من طارق السوء حسب

النص المأثور عن النبي ـ صلّى الله عليه وآله ـ : «أعوذ بك من شرّ طوارق الليل والنهار إلّا طارقا يطرق بخير يا رحمن» (١).

وفي الدعاء : «بك أستجير يا ذا العفو والرضوان من الظلم والعدوان ، ومن غير الزمان ، وتواتر الأحزان ، وطوارق الحدثان ، ومن انقضاء المدّة قبل التأهب والعدّة» (٢)

وحسب هذا الرأي فإنّ النجم الثاقب هو بيان لهذا الطارق الذي يشبه النجم الثاقب ، كما قال سبحانه : (إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ) (٣).

__________________

(١) القرطبي / ج ٢٠ ص ٣.

(٢) مفاتيح الجنان / دعاء يوم الأحد.

(٣) الصّافات / ١٠

١١

ويكون القسم ـ إذا ـ بتلك الشهب التي يحفظ الله بها السماء من الشياطين الذين يسترقون السمع ، ويكون السياق متناسبا مع الحديث عن حفظه سبحانه لأهل الأرض.

وقيل : إنّ كلّ نجم يسمّى طارقا باعتباره يطلع بالليل ، وعليه فإنّ القسم بكلّ نجوم السماء أو النجوم اللّامعة ، وقال البعض : بل النجم هنا هو زحل ، وقد روي ذلك عن الإمام الصادق ـ عليه السلام ـ (١) ، وقال بعضهم : بل هو الثريا ، وقال الآخر : بل هو الزهرة.

وقد تتسع العبارات لكلّ تلك التطبيقات ، ذلك لأنّ آية نتلوها في سورة الملك يظهر منها أنّ مصابيح السماء هي رجوم الشياطين أو مراكز لرجمهم ، قال ربنا سبحانه : (وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ) (٢).

فمن المحتمل أن تكون النجوم هي ذات الشهب الطارقة أو أنّها مصادر للشهب. يبقى أن نقول : إنّ المراد من النجم يمكن أن يكون جنس النجم فيشمل سائر الأنجم وليس واحدا منها.

[٤] حينما ينظر الإنسان إلى متانة بناء السماء ، وكيف جعلها الله سقفا محفوظا ، وزرع في أرجائها مراجم للقوى الشيطانية التي تسعى لإفساد النظام فيها ، يطمئنّ إلى تلك اليد العظيمة التي تمسك السموات والأرض أن تزولا ، ويعرف أنّه في كنف ربّ عظيم ، يحفظه من طوارق السوء.

(إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ)

__________________

(١) راجع نور الثقلين / ج ٥ ص ٥٤٩.

(٢) الملك / ٥.

١٢

عشرات الألوف من الحفظة يحرسونك من الأخطار المحدقة بك ، فلا يصيبك إلّا ما تستحق أو ما تقتضيه حكمة الرب.

أنظر إلى نظام حماية الجسد تتركّب من أجهزة عديدة :

ألف : فجهاز التكيّف مع المحيط المتشكّل من العين والأذن والذوق وسائر الأحاسيس ، وأبرز ما فيه شبكة الأعصاب العجيبة.

باء : وجهاز الدفاع أمام الأخطار وأبرزها الرجل واليد.

جيم : وجهاز الحماية من الجراثيم ، وفي طليعتها امتناع الجسد من استقبال مالا يناسبه من الطعام والشراب ، كما إذا كانا عفنين أو مرّين.

دال : وجهاز المناعة الذاتية ضد الجراثيم ، التي لولاها لغزت الفيروسات والميكروبات أرجاء الجسد بسهولة. أرأيت الذي يفقد هذه المناعة ويبتلى بمرض الإيدز ، كيف يموت بأبسط ميكروب لأنّ جسده لا يقاومه.

هاء : والعواطف والشهوات التي تدفع الإنسان دفعا قويا نحو المحافظة على الجسد.

واو : والعقل الذي يقود الجسد في خضم صراعه المرير ضد الطبيعة وضد سائر الأخطار.

وعشرات الأجهزة المحيطة بالجسم التي لو أردنا شرحها لملأت أسفارا كبيرة.

ومثل نظام حماية الجسد عشرات الأنظمة الأخرى المبثوثة في الطبيعة تحمي الإنسان من التلاشي ، مما نعرف بعضها ونجهل الكثير ، كلّها شاهدة على أنّ الله

١٣

سبحانه هو الحفيظ الذي أحاط الإنسان بحمايته ، قال سبحانه : (لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ) (١) وفي هذه الآية جاء الحديث المأثور عن الإمام الباقر ـ عليه السلام ـ قال : يقول : بأمر الله من أن يقع في ركيّ «بئر» ، أو يقع عليه حائط ، أو يصيبه شيء ، حتى إذا جاء القدر خلّوا بينه وبينه ، يدفعونه إلى المقادير ، وهما ملكان يحفظانه بالليل ، وملكان بالنهار يتعاقبانه (٢) وبالذات المؤمنين وكلّ بهم ملائكة يحفظونهم ، فقد روي عن النبي ـ صلّى الله عليه وآله ـ أنه قال : «وكّل بالمؤمن مائة وستون ملكا يذبّون عنه ما لم يقدر عليه ، من ذلك البصر سبعة أملاك يذبّون عنه كما يذبّ عن قصعة العسل الذباب ، ولو وكل العبد إلى نفسه طرفة عين لاختطفته الشياطين» (٣).

ويظهر من هذا الحديث : أن الملائكة يذبّون الشياطين عن المؤمن لكي لا يؤثروا عليه ماديّا ومعنويّا ، ويقوم الحفظة بحفظ أعمال العباد وما تبدي منهم ، من نيّة وكلمة وفعلة ، قال الله سبحانه : (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ* كِراماً كاتِبِينَ* يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ) (٤)

وهكذا لا يصيب الإنسان مصيبة أو أذى إلّا بإذن الله ، إذ لولا ذلك لمنعت عنه الحفظة ، وقد قال ربنا سبحانه : (إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ).

[٥] ولكي يتأكّد الإنسان من الحفظة فليفكّر في نشأته : كيف كان نطفة (في صلب أبيه ثم رحم أمّه) مهانة ضعيفة. من الذي حفظها في مسيرتها الصعبة؟ أو تدري كم هي الأنظمة الدقيقة التي تحيط بالنطفة وهي تتقلّب من طور إلى طور في رحم الأم؟ وهل كان من الممكن لك وأنت نطفة أن تحفظ نفسك من

__________________

(١) الرعد / ١١.

(٢) نور الثقلين / ج ٢ ص ٤٨٧.

(٣) تفسير البصائر / ج ٥٤ ص ٣٥٤.

(٤) الإنفطار / ١٠ ـ ١٢.

١٤

الأخطار؟

(فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ)

إنّ هذا النظر يفتح أمام الإنسان آفاقا من المعرفة ، لأنه يهتدي بذلك إلى حقيقة نفسه ومدى ارتكاسها في العبودية والحاجة فيخرج من ظلمة الغرور والكبر والتعالي إلى نور الواقعية والتواضع ، كما أنّه (بالنظر إلى بدء نشأته) يعرف مستقبله. أو ليس الإنسان يعود كما بدأ؟

[٦] من الصعب علينا تصوّر العدم حيث أنشأنا الباري لا من شيء كان ولا مثال احتذاه ، ولكن أفلا نقدر على تصوّر المسافة بين النطفة وبين الإنسان المتكامل؟ إذا لنعرف أنّ المسافة بين النشأة الأولى حينما خلقنا الله من تراب وحتى جعلنا في صورة نطفة أبعد وأعظم. أمّا المسافة بين العدم والوجود فإنّها لا تقاس بأيّة مسافة اخرى ، لأنّ تصوّر العدم من قبلنا يشبه المستحيل.

دعنا إذا ننظر إلى حيث كنّا قطرات من ماء دافق ، ونتساءل : كيف كنّا ، والآن كيف صرنا؟ أفليس الذي حوّلنا من تلك الحالة إلى حيث نحن بقادر على أن يعيدنا بعد الموت؟ بلى. (أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).

(خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ)

ينبعث من الصلب إلى الرحم ليستقرّ في مقام أمين حيث ينشأوه خلقا آخر.

ولعل كلمة «من» هنا تشير إلى أنّ هذه القطرة المتواضعة ليست كلّها منشأ خلق البشر بل شيء منها ، بلى. فإنّ خليّة واحدة بين ملايين الخلايا هي منشأ خلقة هذا العالم الكبير الذي يختصر في بناء الإنسان فإنّها حين تستقر في الرحم تبدأ بامتصاص الغذاء لتنشطر إلى خلايا ثم تتكوّن كلّ خليّة في زاوية ليصنع الله منها

١٥

جزء من وجود الإنسان بدقة ولطف حتى تكتمل نشأته.

ويجدر بنا أن نستمع هنا إلى تذكرة إيمانية على لسان الإمام الصادق ـ عليه السلام ـ في حديثه المفصّل إلى تلميذه المفضّل بن عمر حيث يقول :

نبتدئ يا مفضّل بذكر خلق الإنسان فاعتبربه ، فأوّل ذلك ما يدبّر به الجنين في الرحم ، وهو محجوب في ظلمات ثلاث : ظلمة البطن ، وظلمة الرحم ، وظلمة المشيمة ، حيث لا حيلة عنده في طلب غذاء ، ولا دفع أذى ، ولا استجلاب منفعة ، ولا دفع مضرةّ ، فإنّه يجري إليه من دم الحيض ما يغذوه كما يغذو الماء النبات ، فلا يزال ذلك غذاؤه حتى إذا كمل خلقه ، واستحكم بدنه ، وقوي أديمه على مباشرة الهواء ، وبصره على ملاقاة الضياء ، هاج الطلق بأمّه فأزعجه أشد إزعاج وأعنفه حتى يولد ، وإذا ولد صرف ذلك الدم الذي كان يغذوه من دم أمّه إلى ثدييها ، فانقلب الطعم واللون إلى ضرب آخر من الغذاء ، وهو أشدّ موافقة للمولود من الدم ، فيوافيه في وقت حاجته إليه ، فحين يولد قد تلمّظ وحرّك شفتيه طلبا للرضاع ، فهو يجد ثدي أمّه كالإدواتين المعلّقتين لحاجته إليه ، فلا يزال يغتذي باللبن ما دام رطب البدن ، رقيق الأمعاء ، ليّن الأعضاء ، حتى إذا تحرك واحتاج إلى غذاء فيه صلابة ليشتد ويقوي بدنه طلعت له الطواحن من الأسنان والأضراس ليمضغ به الطعام فيلين عليه ، ويسهل له إساغته ، فلا يزال كذلك حتى يدرك ، فإذا أدرك وكان ذكرا طلع الشعر في وجهه ، فكان ذلك علامة الذكر وعزّ الرجل الذي يخرج به من حدّ الصبا وشبه النساء ، وإن كانت أنثى يبقى وجهها نقيّا من الشعر ، لتبقى لها البهجة والنضارة التي تحرّك الرجال لما فيه دوام النسل وبقاؤه.

اعتبر يا مفضل فيما يدبّر به الإنسان في هذه الأحوال المختلفة ، هل ترى يمكن أن يكون بالإهمال؟ أفرأيت لو لم يجر إليه ذلك الدم وهو في الرحم ألم يكن سيذوي

١٦

ويجفّ كما يجفّ النبات إذا فقد الماء؟ ولو لم يزعجه المخاض عند استحكامه ألم يكن سيبقى في الرحم كالموؤود في الأرض؟ ولو لم يوافقه اللبن مع ولادته ألم يكن سيموت جوعا ، أو يغتذي بغذاء لا يلائمه ولا يصلح عليه بدنه؟ ولو لم تطلع عليه الأسنان في وقتها ألم يكن سيمتنع عليه مضغ الطعام وإساغته ، وأو يقيمه على الرضاع فلا يشدّ بدنه ولا يصلح لعمل؟ ثم كان تشتغل أمّه بنفسه عن تربية غيره من الأولاد ، ولو لم يخرج الشعر في وجهه في وقته ألم يكن سيبقى في هيأة الصبيان والنساء فلا ترى له جلالة ولا وقارا؟! (١).

[٧] وهذه النطفة المتدفّقة من صلب الذكر تلتقي على ميعاد بأخرى من ترائب الأنثى لتلقّحها.

(يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ)

قالوا : الترائب نواحي الصدر ، واحدتها تريبة ، وهو مأخوذ من تذليل حركتها كالتراب. أمّا الصلب فهو عظم الظهر ومخّه.

والسؤال : ماذا يعني أن يكون الإنسان هو بين الصلب والترائب؟ يجيب عن ذلك بعضهم بالقول :

إن صلب الإنسان هو عموده الفقري ، وترائبه هي عظام صدره ، ويكاد معناه يقتصر على الجدار الصدري الأسفل ، ويضيف : في الأسبوع السادس والسابع من حياة الجنين في الرحم ينشأ ما يسمّى (جسم وولف وقناته) على كلّ جانب من جانبي العمود الفقري ، ومن جزء من هذا تنشأ الكلى والجهاز البولي ، ومن جزء آخر تنشأ الخصية في الرجل والمبيض في المرأة ، فكلّ من الخصية والمبيض في بدء تكوينهما يجاور الكلى ، ويقع بين الصلب والترائب اي ما بين منتصف العمود الفقري تقريبا

__________________

(١) موسوعة بحار الأنوار / ج ٣ ص ٦٢.

١٧

ومقابل أسفل الضلوع ، ويضيف : وكلّ من الخصية والمبيض بعد كمال نموّه يأخذ في الهبوط إلى مكانه المعروف ، فتهبط الخصية حتى تأخذ مكانها في الصفن (ووعاء الخصية) ويهبط المبيض ، حتى يأخذ مكانه في الحوض بجوار بوق الرحم (١).

[٨] الحقائق الكبرى تنزلق من قلب البشر لما فيها من ثقل وفخامة ، ولذلك يحتاج الإنسان إلى العروج إليها عبر سلّم الحقائق الجزئية التي هي مفرداتها وتجلّياتها ، كما أنّ أشعة الشمس هي ظلال لعينها. إنّما يسمو الفؤاد إلى مستوى الحقائق الكبرى إذا اتخذ سلّما إليها ، أمّا لو تركّز فيها النظر وتسمّرت عليها القدم فإنّها ستكون عقبة دون الصعود وحجابا دون الرؤية ، وهذه هي مشكلة البشر الرئيسية أنّه يتوقّف عند الحقائق الجزئية. أفلا نرى آثار قدرة الرب في كلّ خليّة وذرّة ، مع كلّ لحظة من لحظات الحياة؟ بلى. ولكن لماذا القلب لا يزال مرتابا في الاخرة ، ولا يزال محجوبا عن وعيها؟ وحتى المؤمن بها بصورة مبدئية تراه يتعامل معها بشك ، لأنّه لا يسمو بعقله ووعيه عبر الحقائق التي تتجلّى فيها قدرة الرب سبحانه ، وهكذا لا يستطيع طرد وسوسة الشيطان من قلبه. كيف يعيد الله الإنسان بعد أن أضحى ترابا؟ تعالوا نفترض : انّ الخليّة الحيّة التي خلق الإنسان بها تبقى كذلك دون أن تفنى ، وإنّما تتلاشى الخلايا الاضافية التي اجتمعت حولها في الرحم بعد اللقاح ، وإنّ الله يحفظ تلك الخليّة في وعاء القبر أو في أيّ وعاء أخر ، كما حفظها في صلب الرجل من قبل ، ثم إنّه سبحانه يهيء الأرض لنموّها من جديد كما نمت في رحم الام. أو نجد في ذلك غرابة؟ كلّا .. ونحن نعرف أنّ الخليّة الحيّة يمكن أن تعيش في ظروف مختلفة وبصور شتّى ، وبعض الخلايا تعيش في ظروف صعبة جدّا ، فلما ذا نستغرب مثلا أن تكون تلك الخليّة الرئيسية من أمثالها؟

هذه الفكرة التي قلنا آنفا إنّها نظرية نجدها تكفينا لحلّ اللغز التالي : كيف

__________________

(١) تفسير البصائر / ج ٥٤ ص ٣٦٧.

١٨

يعيد الله الإنسان بعد الموت؟ وأقول : (تكفينا) لأنّ قيمة النظرية حلّ اللغز ، ولعل نظريّات أخرى تكون موجودة ، ولكن وجود نظرية واحدة تغني عن غيرها لنفي حالة التشكيك في الحقيقة.

على أنّ هذه ليست مجّرد نظرية ، وإنّما وردت عليها رواية مأثورة عن الامام الصادق ـ عليه السلام ـ : أنّه سئل عن الميت يبلى جسده؟ قال : «نعم. حتى لا يبقى لحم ولا عظم إلّا طينته التي خلق منها ، فإنّها لا تبلى ، تبقى مستديرة في القبر حتى يخلق منها كما خلق أوّل مرّة» (١).

وهكذا قال ربّنا بعد أن ذكّرنا بالنشأة الاولى أنّه قادر على رجعه.

(إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ)

[٩] ولكن عودة الإنسان ليست في دورة طبيعية كما يعود النبات في فصل الربيع! كلّا .. إنّها عودة مقصودة كما أنّ خلقه في الدنيا جاء بحكمة بالغة. فما هو الهدف من عودته؟ إظهار حقيقته.

(يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ)

الدنيا دار ابتلاء واختبار ، ومن طبيعة الدنيا أنّها خليطة فيها الخير والشر ، ولا يميّز خيرها عن شرّها بسهولة ، بينما الاخرة دار جزاء ، وكلّ شيء فيها ظاهر ، ويعطي الله الإنسان من قوّة الاحساس ما يستوعب الكثير مما لم يقدر عليه في الدنيا ، بصره يومئذ حديد ، ويذوق نار جهنم على أنّه لا يستطيع أن يذوق جزء من مليون جزء منها في الدنيا ، ويتنعّم بنعم الجنة التي لا يمكنه أن يتنعّم بجزء يسير منها في الدنيا.

__________________

(١) تفسير البصائر / ج ٥٤ ص ٣٥٥.

١٩

وفي الأحاديث المأثورة عن السرائر : أنّها أعمال العباد ، فقد روي عن معاذ بن جبل أنّه قال : سألت رسول الله : ما هذه السرائر التي ابتلى الله بها العباد في الاخرة؟ فقال : سرائركم هي أعمالكم من الصلاة والصيام والزكاة والوضوء والغسل من الجنابة وكلّ مفروض ، لانّ الأعمال كلّها سرائر خفيّة ، فإن شاء الرجل قال : صلّيت ، ولم يصلّ ، وإن شاء قال : توضأت ولم يتوضّأ ، فذلك قوله : «يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ» (١).

(١٠) في ذلك اليوم الرهيب يقف الإنسان عاريا من أيّ ستر ، بعيدا عن أيّ عذر ، لا يمكنه التبرير والنفاق ولا الكذب والدجل. وأنّى له ذلك وقد اجتمعت عليه الشهود ممّا حوله وممّا فيه ، وقلبه مفضوح على كفّه نيّاته ، وعقائده كلّها مكشوفة؟! فأين المهرب؟

قد يزعم البعض أنّه يقدر على منع بعض الشرّ عن نفسه ، كلّا .. فهو أضعف من ذلك. إنّه منح في الدنيا القوّة لكي تجرّب إرادته ، ويمتحن إيمانه ، أمّا ذلك اليوم فهو مستسلم ذليل. وقد يزعم البعض أنّه يستعين بحزبه وعشيرته ووالديه وأسرته ، كلّا .. إنّهم يومئذ مشغولون بأنفسهم. وهب أنّهم أرادوا نصره فهل يقدرون؟ هيهات.

(فَما لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا ناصِرٍ)

واليوم قبل ذلك اليوم دعنا نجأر إلى ربّنا لعلّه يغفر لنا الذنوب التي اجترحناها قبل الفضيحة الكبرى أمام الملا العظيم وقبل العذاب الشديد.

(١١) وعذاب الاخرة ليس العذاب الوحيد لمن انحرف عن مسيرة الحق ، ففي

__________________

(١) نور الثقلين / ج ٥ ص ٥٥٢.

٢٠