من هدى القرآن - ج ١

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ١

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-04-1
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٧٣٦

(وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (٦٣) ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ (٦٤) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ

________________

٦٣ [ميثاقكم] الميثاق هو مفعال من الوثيقة أما بيمين وأما بعهد أو غير ذلك من الوثائق.

[الطور] الجبل وقيل هو اسم جبل بعينه ناجى الله عليه موسى بن عمران (ع).

[بقوة] القوة القدرة وهي عرض يصير به الحي قادرا.

٦٤ [توليتم] أعرضتم وولاه فلان دبره إذا استدبر عنه وجعله خلف ظهره ثم يستعمل ذلك في كل تارك طاعة أمر ومعرض بوجهه عنه ومنه قوله «فَلَمَّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا».

٦٥ [علمتم] أي عرفتم ومنه قوله «لا تَعْلَمُونَهُمُ اللهُ يَعْلَمُهُمْ» أي لا تعرفونهم والله يعرفهم.

١٦١

فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ (٦٥) فَجَعَلْناها نَكالاً لِما بَيْنَ يَدَيْها وَما خَلْفَها وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (٦٦))

________________

[اعتدوا] أي ظلموا وجاوزوا ما حدّ لهم.

[السبت] يوم من أيام الأسبوع وقيل سمي سبتا لأنه يوم السبت خلق فيه كل شيء أي قطع وفرغ وقيل سمى بذلك لان اليهود يسبتون فيه أي يقطعون فيه أعمالهم وقيل هو مأخوذ من الراحة ومنه قوله وجعلنا نومكم سباتا. ويقال للنائم مسبوت.

[خاسئين] الخاسئ المبعد المطرود.

٦٦ [نكالا] النكال الإرهاب للغير وأصله المنع لأنه مأخوذ من النكل وهو القيد وسميت العقوبة نكالا لأنها تمنع عن ارتكاب مثل ما ارتكبه من نزلت به.

[موعظة] الوعظ وأصله التخويف.

١٦٢

الميوعة في تطبيق الأحكام

هدى من الآيات :

يحدثنا القرآن الكريم عن حالة الضعف التي تنتشر في الامة ، وأساليب معالجتها. وتتمثل هذه الحالة في عدة مظاهر :

أولها : العنصرية التي تحدثت عنها الآيتان السابقتان.

والثاني : اللامبالاة وعدم الجدية في التمسك بهدى الله.

والثالث : قسوة القلب وعدم التأثر بنصيحة الصالحين.

وسوف يحدثنا القرآن الحكيم طويلا عن مرض الميوعة وقلة الالتزام بالقيم ويضرب عدة امثلة من قصص بني إسرائيل :

أولا : قصة الطور ثم قصة انتهاك حرمة السبت ، ثم قصة البقرة التي توانوا في ذبحها. ثم يربط بين الميوعة وبين قسوة القلب في أخر هذه المجموعة من الآيات.

١٦٣

بينات من الآيات :

والامة الاسلامية اليوم تشبه الى حد بعيد بني إسرائيل في مرحلتهم تلك حين انتشرت فيهم المظاهر السلبية من الميوعة واللامبالاة وانتهاك حرمات الدين وعلينا ان نعتبر بقصص بني إسرائيل حتى لا ندفع الثمن مضاعفا.

[٦٣] في ضحى نهار ، وجد بنوا إسرائيل قطعة هائلة من الجبل فوق رؤوسهم ، تكاد تسقط عليهم ، فهرعوا الى نبيهم ، فقال لهم نبيهم : انه العذاب نازل عليكم هل تؤمنون بالله وتتمسكون بتعاليمه بجد. قالوا : بلى ، فرفع عنهم العذاب ، ولكنهم عادوا الى إهمالهم الاول في تنفيذ التعاليم.

(وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا ما فِيهِ) ولا تكونوا مائعين في تلقي التعاليم أو في تطبيقها.

(لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)

[٦٤] ولكن بني إسرائيل كانوا كأكثر الأمم حين يهبط عليهم العذاب من ربهم ، يجأرون الى الله ويعودون الى قيمهم وتعاليم دينهم. وما ان يرفع عنهم العذاب حتى يعودوا الى سابق عاداتهم.

(ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ)

ولكن الله لا يهمل الإنسان الى الأبد فقد يأخذه بشدة وهو غافل.

[٦٥] ومن قصص بني إسرائيل في اللامبالاة والميوعة في تنفيذ القرارات .. قصة

١٦٤

انتهاكهم حرمة السبت ، حيث حرّم عليهم الصيد فيه ولكنهم اعتدوا فيه بغيا على أنفسهم ، فاخذهم الله أخذا شديدا وقال :

(وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ)

أذلاء.

[٦٦] انها سنة الله في الحياة انه يمهل البشر مرة بعد اخرى ، فان لم يتب يأخذه ليصبح عبرة لغيره.

(فَجَعَلْناها نَكالاً لِما بَيْنَ يَدَيْها وَما خَلْفَها)

حيث انها أصبحت عذابا لمن سبق وعذابا لمن لحق بهم.

ان اي عذاب الهي سيكون قويا بالنسبة الى من ينزل عليهم مباشرة وستبقى آثاره في المستقبل. والعذاب الالهي تعبير صادق عن عمل الإنسان نفسه وترجمة لواقعه الفاسد لا أكثر.

وكل عمل يقوم به الإنسان سيخلّف آثاره السلبية على مجتمعة الحاضر وعلى مستقبل الأجيال ولذلك على الإنسان ان يفكر مرتين قبل ان يقدم على اي عمل حتى لا يؤثر عمله في الآخرين سلبيا. كما ان على الناس ان يعرفوا ان اي عمل يقوم به فريق منهم سوف تنعكس آثاره عليهم جميعا .. فيأخذوا على أيديهم بشدة وجدية.

اما المتقون فإنهم المستفيدون الوحيدون من عذاب هذا الفريق لأنهم يعتبرون به ويحولونه الى جزء صالح في سلوكهم وتفكيرهم لا أن يكرروه مرة اخرى.

(وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ)

١٦٥

(وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً قالَ أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ (٦٧) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ (٦٨) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (٦٩) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللهُ لَمُهْتَدُونَ (٧٠) قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ

_________________

٦٧ [هزوا] الهزء اللعب والسخرية.

[أعوذ بالله] الجأ الى الله وحقيقته استدفاع ما يخاف من شره.

٦٩ [فاقع] أي شديدة الصفرة. يقال أصفر فاقع وأحمر ناصع.

٧١ [ذلول] يقال للدابة قد ذللها الركوب والعمل دابة ذلول.

١٦٦

تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيها قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ (٧١) وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها وَاللهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (٧٢) فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها كَذلِكَ يُحْيِ اللهُ الْمَوْتى وَيُرِيكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٧٣))

_________________

[تثير] الاثارة إظهار الشيء انكشف وأثار الأرض حرثها.

[الحرث] كل أرض ذللته للزرع ، والحرث قذف البذر في الأرض للازدراع.

[مسلمة] مبرأة من العيوب.

[لا شية] اللون في الشيء يخالف عادة لونه ولا شية فيها. أي لا وضح منها يخالف لونها.

٧٢ [ادارأتم] اختلفتم وأصله تدارأتم وأصل الدرأ الدفع ومنه الحديث ادرأوا الحدود بالشبهات ومنه قوله «وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ».

١٦٧

قصة البقرة دروس وعبر

هدى من الآيات :

عند ما تنتشر في الامة روح التكاسل ، تبدأ بالالتفاف على الأحكام الشرعية ، لتنفلت منها أنّى استطاعت. فتراها تتشبث بطائفة من القشريات وتجعلها بديلة عن الحقائق الواقعية. وقصة بني إسرائيل مع البقرة تمثل هذه الحالة فيهم.

وقصة البقرة تدل على ان بني إسرائيل لم يصبحوا آنئذ كفارا بالرسالة جملة واحدة ، بل بالعكس كانوا يريدون تطبيق تعاليم الله. بيد ان التردد والضعف واضح في تصرفاتهم مما يجعلهم يؤخرون تنفيذ الواجبات ، تحت غطاء التشبث بقشور التعاليم. فهم كانوا يتساءلون عن لون البقرة ، وطبيعتها ، ومقدار عمرها ، وسائر خصائصها .. بينما تركوا الجوهر ـ وهو ذبح البقرة ـ كذلك الامة الاسلامية في بعض مراحلها المتأخرة من تاريخها ، كانت تتوغل في التفاصيل وتترك روح التعاليم والاهداف المتوخاة من ورائها.

١٦٨

بينات من الآيات :

[٦٧] (وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً)

في البداية استغربوا من الطلب وزعموا انها هزو لمجرد انهم لم يعرفوا فلسفة الحكم.

(قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً)

بالرغم من ان موسى عليه السلام كان جديا مع قومه وصارما ، ولكن بني إسرائيل كانوا قد أصيبوا بضعف في الايمان. الايمان الذي يريد من صاحبه التنفيذ من دون سؤال ودون البحث عن العلل والاهداف ، لذلك قال لهم موسى :

(قالَ أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ)

[٦٨] وهنا بدأت سلسلة التساؤلات التي استهدفت معرفة خلفيات الحكم واهدافه البعيد المختلفة.

(قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ)

هل هي بقرة كسائر الابقار؟ أم هي بقرة معينة؟ وهنا شدد الله عليهم وقال لهم موسى :

(إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ)

قد أكلتها السنون وأنهكتها الحياة.

(وَلا بِكْرٌ)

١٦٩

صغيرة السن. إنما هي بين البكر والفارض مما عبّر عنه القرآن ب.

(عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ)

ثم شدد عليهم بتطبيق الأمر بحزم وقال :

(فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ)

[٦٩] ولكنهم عادوا يتساءلون انطلاقا من تشبثهم بالقشور.

(قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها)

شديدة الصفار ثم زاد عليهم شرطا آخر وقال :

(تَسُرُّ النَّاظِرِينَ)

بسبب اكتمالها وسلامة بنيتها.

[٧٠] عادوا مرة ثانية يسألون عن ذات البقرة.

(قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا) وهنا انتبهوا الى ان اسئلتهم قد تعني عند موسى (ع) انهم لا يريدون تنفيذ الأمر وكان هذا هو الواقع بالرغم من ادعائهم غير ذلك فقالوا :

(وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللهُ لَمُهْتَدُونَ)

[٧١] (قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ)

١٧٠

في لون واحد.

(لا شِيَةَ فِيها) لا يكون فيها لون غير لونها الاصلي.

(فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ)

لأنهم تحولوا من مجتمع الايمان الذي ينطلق من واقع الثقة بالقيادة وتنفيذ أوامرها فورا ، الى مجتمع الجدل ومحاولة فهم علل الأحكام وأسبابها وطريقة تنفيذها.

[٧٢] وبعد ان ذبحوها بيّن لهم الله سر الأمر ، وان تساؤلاتهم لم تكن صحيحة أبدا ، وان القضية كانت ترتبط بقصة القتيل الذي لم يعرف قاتله والذي يقول عنه ربنا :

(وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها وَاللهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ) لقد أصبح مجتمعهم فاسدا ، وقد برعوا في تنفيذ الجرائم حتى انهم لا يخلفون أثرا يدل على فاعلها ، وقد ابتعدوا عن مسئولية المحافظة على الأمن ، فأخذوا يكتمون عن السلطات الشرعية اخبار البلد بيد ان الله يقول لهم وبصراحة :

(وَاللهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ)

[٧٣] (فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها كَذلِكَ يُحْيِ اللهُ الْمَوْتى وَيُرِيكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ)

فلما ضربوا عضوا من أعضاء القتيل ببعض لحم البقرة الذبيحة ، أحيى الله القتيل ، وبين من قتله وانتهت المشكلة.

١٧١

الخلاصة :

ان قصة البقرة تبين لنا جانبا من جوانب الضعف الايماني الذي أصاب بني إسرائيل ولكن هذا الضعف لا يزال هينا بالنسبة الى ما ينتظرهم في المستقبل حيث يكادون يفقدوا الايمان رأسا.

والقرآن يحذرنا ـ بذلك ـ من ان الضعف الايماني المتمثل في التواني عن تطبيق الأوامر قد ينتهي بصاحبه الى مرحلة اخطر هي الابتعاد كليا عن الايمان ، وذلك في المجموعة التالية من الآيات.

١٧٢

(ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٧٤) أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ

_________________

٧٤ [قست] القسوة ذهاب اللين والرحمة من القلب والقسوة الصلابة في كل شيء ونقيضه الرقة.

[غافل] الغفلة السهو عن الشيء وهو ذهاب المعنى عن النفس بعد حضوره.

٧٥ [أفتطمعون] الطمع تعليق النفس بما نظنه من النفع ونظيره الأمل والرجاء ونقيضه اليأس.

[فريق] جمع كالطائفة.

١٧٣

وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٧٥) وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ قالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٧٦) أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ (٧٧) وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلاَّ أَمانِيَّ وَإِنْ هُمْ

_________________

٧٦ [أتحدثونهم] الحديث والخبر والنبأ نظائر مشتق من الحدوث وكأنه إخبار عن حوادث الزمان.

[فتح] الفتح في الأصل فتح المغلق وقد يستعمل في مواضع كثيرة فمنها الحكم يقال : اللهم أفتح بيننا وبين فلان أي أحكم. ومنها القضاء يقولون متى هذا الفتح؟ ومنها النصرة يقال استفتحه أي اطلب منه النصر ويستعمل في فتح البلدان.

[يحاجوكم] المحاجة والمجادلة والمناظر نظائر فالمحاجة أن يحتج كل واحد من الخصمين على صاحبه.

٧٨ [أميون] الامي الذي لا يحسن الكتابة. وانما سمي أميا لأحد وجوه «أحدهما» أن الامة الخلقة فسمي أميا لأنه باق على خلقته و «ثانيها» أنه مأخوذ من الامة التي هي الجماعة أي هو على أصل ما عليه الامة في عدم الكتابة. و «ثالثهما» أنه مأخوذ من الام أي هو على ما ولدته أمه من أنه لا يكتب.

١٧٤

إِلاَّ يَظُنُّونَ (٧٨) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (٧٩))

_________________

[أماني] التمني تقدير سيء في النفس وتصويره قبل ذلك يكون عن تخمين وظن وأكثر التمني تصور ما لا حقيقة له والامنية الصورة الحاصلة في النفس من تمني الشيء .. فهم يتمنون على الله ما ليس لهم مثل قولهم «لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً».

[يظنون] الظن هو ترجيح أحد الجانبين على الآخر لامارة صحيحة وفي الناس من قال هو إعتقاد أو تصور.

٧٩ [فويل] الويل في اللغة كلمة يستعملها كل واقع في هلكة وأصله العذاب والهلاك وقيل هو التقبيح ومنه و (لَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ). وقيل معناه الحزن ، وقيل الهوان والخزي.

[يكسبون] الكسب العمل الذي يجلب به نفعا أو يدفع به ضررا.

١٧٥

اليهود

بين تضليل الأحبار وأمانيّ الجهلة

هدى من الآيات :

تجاوزت بنو إسرائيل مرحلتين حتى الآن ، مرحلة الثورات الأربع ، ثم مرحلة الضعف الايماني. وها هم يدخلون في المرحلة الثالثة والاخيرة وهي مرحلة قسوة القلب التي تأتي نتيجة لضعف الايمان وهي متصلة بالعنصرية التي سوف يتحدث عنها القرآن في المجموعة التالية من الآيات.

ان قسوة القلب تنشأ من عبادة الذات ، وقد يكون قساة القلب علماء بالدين ، الا ان العلم وحده لا يكفي ، بل من الضروري ان يدعم العلم ايمان صادق واحساس عميق بالمسؤولية. بل من الممكن ان يكون العلم واحدا من الأسباب التي تساعد على قسوة القلب ، إذا توجه بصاحبه الى الاستكبار والترفع عن سماع النصيحة. العلم جيد إذا كان له بعدان ، بعد في الداخل هدفه إصلاح الذات. وبعد في الخارج هدفه إصلاح المجتمع. والعلم ذو البعد الواحد يذهب بصاحبه بعيدا عن الله بعيدا عن الالتزام بمسئوليته.

١٧٦

من هنا يركز القرآن الحكيم في هذه المجموعة من الآيات على ان مشكلة بني إسرائيل في هذه المرحلة لم تكن متمثلة في قلة علمهم بالدين ، بل في استثمار هذا العلم في سبيل مصالحهم الذاتية وتوجيهه حسب أهوائهم.

صحيح ان بعضهم أيضا أميون ، ولكن البعض الآخر كان يتعمد تحريف الكتاب بكل صلافة. والقرآن يركز الضوء على هؤلاء لأنهم هم السبب المباشر لتضليل الأميين.

بينات من الآيات :

قسوة القلب :

[٧٤] ان قسوة القلب جاءت بعد مرحلة الاستخفاف بتعاليم الدين ، والالتفاف حولها ، والتشبث بقشورها. ولذلك قال الله سبحانه :

(ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً)

كيف أصبحت قلوبهم أشد قسوة من الحجارة؟

لان الحجارة قد تفيض بالعطاء كثيرا أم قليلا وتؤدي بذلك دورا في الحياة اما الإنسان الذي يقسو قلبه فأنّه (والعياذ بالله) لا يعترف لنفسه بأي دور ايجابي في الحياة ولا يلتزم باية مسئولية فيها.

(وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ) كما ان الحجارة قد تخشع لله ولسننه في الحياة.

(وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ)

١٧٧

بيد ان القلب القاسي لا يخشع لله أبدا. ثم يهدد الله أصحاب هذه القلوب القاسية ويقول :

(وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ)

[٧٥] ثم يحدثنا القرآن عن ان مشكلة هؤلاء ليست في انهم لا يعلمون ، بل في انهم لا يؤمنون ويقول :

(أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ)

ان كل شروط العلم متوفرة في هؤلاء. السماع للعلم المتمثل في الوحي ، ثم التعقل ثم العلم ولكنهم مع كل ذلك يحرفون كلام الله بغية الحصول على بعض المكاسب المادية.

[٧٦] واخطر من ذلك نفاقهم الذي يبدو من تصرفهم الماكر مع المؤمنين الصادقين ، حيث انهم يرفضون الايمان في الواقع ، اما في الظاهر فيدّعون انهم مؤمنون.

(وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا)

وذلك كسبا لبعض المغانم من هؤلاء المؤمنين الذين غالبا ما يكونون من البسطاء من اتباع موسى عليه السلام ، الذين يفرض عليهم الأحبار والرهبان إتاوات باسم الدين.

والغريب في تصرف هؤلاء انهم عند ما يختلون الى بعضهم ينفتحون على بعضهم ويعترفون على أنفسهم بأنهم يحرفون كلام الله عمدا ، مع العلم المسبق بأنه كلام الله

١٧٨

وان تحريفه يضربهم ، ولكنهم يحاولون منع اية حقيقة عن الناس حتى لا تصبح مادة احتجاج عليهم في الواقع ، ولكي لا تكتشف فضائحهم. ولكن القرآن يفضحهم ويقول

(وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ قالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمْ)

من العلم.

(لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ)

[٧٧] (أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ)

وانه سوف يفضحهم عاجلا أم آجلا.

ان هذه هي حالة الطائفة الذين من المفروض ان يكونوا الموجّه الديني لبني إسرائيل ، أنها تتردى الى الحضيض السافل ، حيث تتفق كلمتهم على تجهيل الناس للسيطرة عليهم وابتزازهم واستغلال سذاجتهم. وهذه اخطر ما يمكن ان يهبط اليه مستوى امة رسالية كبني إسرائيل ، حيث تتحول مراكز توجيههم وهدايتهم الى بؤر لنشر الجهل والضلالة.

ويبدو من الآية الكريمة. وآيات قرآنية أخرى : أن تحريف الكتاب قد تم عند اليهود بصورة منظمة وواعية ، وبتخطيط شامل. وهكذا يحدثنا التاريخ أن علماءهم حين لم يجدوا ـ من جهة ـ إقبال الناس على دينهم. وازداد ـ من جهة ثانية ـ ضغط السلطات عليهم ، حرّفوا الدين بما يتناسب والخرافات المنتشرة بين الناس. وحذفوا منه البنود التي تعارض السلطات ، وأضافوا اليه افكارا استسلامية مثل ما لله لله. وما لقيصر لقيصر. وانما أرادوا ـ بذلك ـ تكثير عدد الأنصار حولهم ، ورفع غائلة الظلم عن أنفسهم.

١٧٩

ونرى علماء اليهود والنصارى يحرفّون حتى اليوم دينهم ، ليكيفوه مع ثقافات العصر واتجاهات السياسة. حتى أن التقارير الأخيرة ذكرت انّ الكنيسة الكاثوليكية دعت بعثاتها التبشيرية في افريقيا الى خلط الدين المسيحي بثقافات الوثنية الافريقية ، لضمان إقبال الشعوب الافريقية على الدخول في كنائسهم.

[٧٨] اما بقية الناس فهم أميون ، تحول الكتاب في واقعهم الى أماني وتقليد الأحبار والرهبان ترى ما هي الأماني. وما هو الظن

الكتاب بين الحلم والتقليد :

بناء على ما سبق فان الكتاب عند هؤلاء مجرد أماني وأحلام ، وربما ظنون وتقاليد. أنه حسب تعبير القرآن الدقيق ، مجرد اماني يتسلى بها الضعفاء ، ويتغنى بحروفه المكروبون والمحرومون. بدل ان يكون صاعقا يفجر طاقاتهم ، وحافزا يثير عقولهم ونظاما لتوجيه حياتهم وعلاقاتهم.

انظر الى السياق كيف يعبر عن حالة هذه الطبقة السحيقة.

(وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلَّا أَمانِيَ)

يعني ان الكتاب في نظرهم أصبح مجرد أحلام يمنون أنفسهم بها دون القيام باي نشاط حقيقي من أجل تحقيق اهداف الكتاب.

(وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ)

وهؤلاء لا يستثيرون عقولهم ليفكروا أو ليبدعوا ، انما يستثيرون بالكتاب خيالهم ليتصوروا وليحلموا به. ويحتمل ان يكون المعنى من الظن هذا التقليد.

١٨٠