من هدى القرآن - ج ١١

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ١١

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-14-9
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٥٤٩

١
٢

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

فضل السورة :

جاء في الحديث عن الامام الصادق (ع) قال :

«الحمدين ـ حمد سبأ وحمد فاطر ـ من قرأهما في ليلة لم يزل في ليلته في حفظ الله وكلاءته فمن قرأهما في نهاره لم يصبه في نهاره مكروه ، وأعطي من خير الدنيا وخير الآخرة ما لم يخطر على قلبه ولم يبلغ مناه»

(نور الثقلين / ج (٤) ص (٣٤٥))

٣
٤

الإطار العام

اسم السورة :

اتخذ اسمها من فاتحتها التي شرعت بحمد الله على ما فطر السموات والأرض.

تذكرنا سورة فاطر بمحامد ربنا الكريم الذي فطر السموات والأرض ، وجعل الملائكة رسلا ، وأتقن الصنع ، وأحسن التدبير ، وهو العزيز الحكيم.

ولان معرفة الربّ ينبوع كلّ خير ، وأصل كلّ فضيلة وخلق كريم ، فإنّ القرآن يشفي صدور المؤمنين من أوساخ الغفلة ، ببيان أسماء الله وكريم فعاله وواسع رحمته.

فله الملك والتدبير فما فتحه من رحمة لا ممسك لها ، وما أمسكها فلا مرسل لها.

وضلالة البشر عن هذه الحقيقة تدعوه إلى الشرك بالله العظيم ، ويذكّر القرآن الناس جميعا بأنّ فاطر السموات والأرض ومبتدعهما بدء هو الذي يرزق الإنسان

٥

منهما ، فهو الحقيق بالعبادة وحده لا اله الا هو فانى يؤفكون!

ولكي يعرف البشر ربه يحتاج إلى إزالة حواجز مثل : حب الدنيا والغرور بها ، واتباع المضلّين المغرورين بها ، واتباع الشيطان أو عدم الحذر الكافي منه ، ويذكّرنا القرآن بأنّ وعد الله (بالجزاء) حقّ ، فعلينا إذا تجاوز هذه الحواجز ، ويبين جزاء الكفّار وحسن جزاء الصالحين.

وبعد أن يبصّرنا السياق بحاجز تزيين الأعمال (ولعله العادة السيئة) يعود ليذكّرنا بربنا العزيز تمهيدا لبيان محور هام (ولعله الأساسي) في هذه السورة. ما هو ذلك المحور؟

يتطلّع الإنسان نحو العزّة والغنى ، ولكنه يضلّ ـ عادة ـ الطريق وبدل أن يحصل عليهما بالإيمان بالله والعمل الصالح ، تراه يؤمن بالشركاء المزعومين ، ويمكر السيئات ، ويذكرنا القرآن بأنّ الأنداد لا يملكون قطميرا ، وأنّ المكر السيء لا يحيق الا بأهله ، وأنّ السبيل القويم لبلوغ الطموح المشروع في العزّة والغنى هو سبيل الله ، ومعرفة أنّه الفاطر الرازق العزيز الغني ، وأنّه المالك الحق ، وأنّه الحكيم الذي يجازي كلا بعمله ، وأنّه يحب الصالحين .. وخلاصة المحور : تبصير البشر بالسبيل القويم لبلوغ تطلّعاته المشروعة.

هكذا يذكّر السياق بأنّ الله أرسل الرياح لتثير السحاب ، وينزل الغيث حيث يشاء فيحيي به الأرض بإذنه ، فهو الرزّاق أو ليس الزرع والضرع من الغيث؟

وهكذا ينتشر الناس في يوم البعث للحساب.

ومن أراد العزّة فلله العزة جميعا (هكذا ينبغي الحصول على العزة ، وهي أعظم طموح عند البشر ، لأنّها تعني الأمن والسلامة والذكر الحسن عند الرب لا عند الطغاة والأنداد).

٦

ولكن كيف؟ ومن هو الذي يعزّه الله؟

الجواب : صاحب الكلم الطيّب والعمل الصالح ، أمّا المكر السيء فيمحقه ولا يجنى منه إلّا البوار!

منذ أن كنّا نطفة أو جنينا ، الى الولادة ، وحتى زيادة العمر ونقصانه ، كلّ ذلك بيد الله ، وهو مسجّل في كتاب ، وهو عند الله يسير (فلما ذا نطلب الغنى من غيره؟ أو ليس خلقنا وأجلنا بيده ، فلو قصّر أعمارنا ماذا تنفعنا العزّة أو الغنى؟!).

وبيده الملك. أنظر إلى هذين البحرين ، أحدهما ملح أجاج ، والثاني عذب فرات. إنّهما لا يستويان (فلا يستوي الصالح ولا المسيء) ولكن مع ذلك يرزقنا الله منهما لحما طريّا ، وحلية نلبسها ، وذلّل ظهرهما للسفن الماخرة ، لتنقل البضائع ، ولتهدينا إلى نعمه فنشكره بها.

وهو الذي يولج الليل في النهار ، ويولج النهار في الليل ، وسخّر الشمس والقمر ، وحدّد مسيرتهما ، فهو المالك حقّا ، بينما لا يملك الشركاء المزعومون من قطمير (فلا بد أن نبحث عن الغنى عند ربّنا المالك ، وليس عند الطغاة والمترفين).

وهم لا يكشفون الكرب عند الشدائد ، فلا يسمعون الدعاء ، ولا يستجيبون لو سمعوا ، ولا ينفعون يوم القيامة ، ولا أحد أفضل من الخبير ينقل النبأ.

ويؤكد السياق على فقر البشر ـ كل البشر ـ الى ربه ، وأنّ الله هو الغني (فلا يجوز الخضوع لهذا وذاك طلبا لغناه).

وهل هنالك فقر أعظم من أنّ الله إن يشأ يذهبهم جميعا ويأت بآخرين بيسر؟

٧

(ويبدو أنّ المحور الثاني الذي يتحدث عنه القرآن هنا بتفصيل ، وهو محور المسؤولية ، يتّصل بالمحور الاول ، إذ أنّ معرفة الإنسان بأنّه مجازي بعمله يجعله بعيدا عن المكر السيء ، مندفعا نحو العمل الصالح ، يبلغ أهدافه بالسعي والاجتهاد عبر المناهج السليمة).

لا أحد يحمل عن أحد ثقل أعماله ووزرها حتى ولو كان ذا قربى (ولا يفهم هذه الحقيقة ويخشى ذنبه الا من يخشى ربّه بالغيب ويقيم الصلاة ويتزكى) وانما ينذر الرسول من يخشى الله ويقيم الصلاة ويتزكى ، وانما يتزكى لنفسه.

(ويجب ان يكون مفهوما وبوضوح هذا الأمر : إنّه لا يستوي الكافر والمؤمن الصالح ، إذ هذه المعرفة تساهم كثيرا في اختيار المنهج السليم لبلوغ الاهداف).

(ما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ) (فلا يستوي الكافر والمؤمن) (وَلَا الظُّلُماتُ وَلَا النُّورُ) (فأين الضلالة وأين الهدى) (وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ) (السلام والأمن والعافية خير من الحرب والخوف والمرض) (وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ) (الذين يستمعون كلام الله ويحيون به) (وَلَا الْأَمْواتُ).

وان الله بعث الرسول منذرا بعذاب نكير يصيب المكذبين كما أرسل في كلّ أمة نذيرا ومبشرا الصالحين بأنّ لهم أجرا حسنا.

(والمحور الثالث في السورة فيما يبدو هو الاشارة إلى اختلاف ألوان الجبال ، وألوان البشر والدواب والانعام ، ووعي العلماء لإشارات هذا الاختلاف ، وأنّهم المصطفون الذين أورثهم الله الكتاب على اختلاف مستوياتهم ، وجزاءهم الحسن عند ربهم ، ولعله يتصل بالمحور الأول في بيان نموذج حيّ عمن اتبع رضوان ربه فهداه الله إلى السبيل القويم للعزة والغنى والجزاء الحسن).

٨

ألا ترى إلى الغيث حين ينزل من السماء يخرج الله به ثمرات مختلفا ألوانها (إنّ في ذلك لآية على التدبير وحسن التقدير ودقة النظم ، وأنّ الله مهيمن على الخليقة).

وإذا نظرت إلى الجبال رأيت فيها جددا بيضا وحمرا وغرابيب سود (وهي تشهد بطبقات الصخور في الأرض ذات الطبيعة المختلفة ، وتشهد أيضا على السيطرة التامة).

وهكذا الناس والدواب والانعام كل منها مختلف ألوانه (واختلاف اللون مع وحدة الخصائص يشهد على حسن التدبير ، كما يشهد على أنّ الخليقة تختلف ، وهكذا الناس ليسوا سواء في درجاتهم ، فليس سواء عالم وجهول) (إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) ، وإنّ الذين يتاجرون مع الله بتلاوة الكتاب ، وإقامة الصلاة ، والإنفاق في سبيله سرا وعلانية فان تجارتهم لن تبور ، وإنّ الله يزيدهم من فضله ، وهو غفور وشكور.

والكتاب الذي أنزل على الرسول حق ويصدّق الذي بين يديه ، وقد أورثه الله الذين اصطفاهم من عباده (وهم ورثة الأنبياء من علماء أهل بيت الرسول (ص)) فمنهم ظالم لنفسه (إذ لم يتحمل علم الكتاب كما ينبغي ، بل خلط عملا صالحا وآخر سيئا) ومنهم مقتصد (قد حمل الكتاب بقدر مناسب وهو العالم الرباني الذي يصوم نهاره ويقوم ليله) ومنهم سابق بالخيرات (وهو الإمام الذي بلغ حقّ اليقين).

وجزاؤهم جميعا جنات عدن يدخلونها يحلّون فيها أساور من ذهب ولؤلؤا ، وهم يحمدون الله على ما أذهب عنهم الحزن ، بينما الكفّار يخلّدون في العذاب الشديد ، ولا ينفعهم الصراخ ، ويقال لهم : ألم نعمركم ما يكفيكم للتذكرة ، وأرسلنا

٩

إليكم النذير؟

(ويعود السياق لبيان أسماء الله الحسنى ، مما يوجب علينا تقواه والحذر من عقابه)

فالله يعلم غيب السموات والأرض ، ويعلم ما في الصدور (فعلى الإنسان مراقبته علانية وسرا) وهو الذي يستبدل قوما بآخرين ، وان عاقبة الكفر مقت وخسار ، وأمّا الشركاء المزعومون (لا يقدرون على نجاتهم من عذاب الله ، لأنّهم لا يملكون شيئا) فهم لم يخلقوا شيئا من الأرض ، وليسوا مؤثّرين في تدبير السموات ، ولم يحصلوا على تخويل من الله بإدارة شؤون الخلق ، وإنما يعدون أنفسهم غرورا ، والله يمسك السموات والأرض ويمنعهما من الزوال (فما الذي يصنعه الطغاة والمترفون؟).

(ولعل الآيات الأخيرة من السورة إعادة تأكيد على محاورها) ببيان أنّهم أقسموا بالله انهم يبادرون الى قبول النذير وأكثر من غيرهم ، ولكنهم ازدادوا نفورا بعد أن جاءهم النذير (والسبب أنهم كانوا يريدون العزّة بالكفر والاستكبار ، ويريدون المال بالمكر ، أمّا الكفر فقد أورثهم المقت والصغار ، واما المكر فقد أورثهم الفقر وعاد عليهم بالخسران) ولا يحيق المكر السيء إلّا بأهله.

(وينذرهم السياق بأنّهم يتعرّضون لعاقبة الكفّار من قبلهم) فهل ينتظرون ذلك المصير الذي جرت عليه سنن الله التي لا تبديل فيها ولا تحويل؟! دعهم يسيرون في الأرض لينظروا عاقبة الظالمين من قبلهم.

(وتختم السورة التي تركزت في بيان تدبير الله للخلق ببيان أنّ الله (لَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ ، وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا

١٠

جاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً) (بعض يعذبهم وبعض يغفر لهم).

وخلاصة القول في إطار هذه السورة : إنها تدور حول فكرة أساسية ومؤثّرة في تربية الإنسان وتزكيته ، وهي إنّ الله هو المهيمن عليه ، وهو الذي يدبّر أموره وشؤون الكون ، ذلك أنّ الإنسان الذي يشهد بذلك ليس فقط يطمئنّ إلى رحاب ربّه ، وإنّما أيضا يدفعه هذا الشعور إلى أن يحدّد تصرفاته وسلوكه وفق مناهج الله سبحانه وتعالى.

وهناك ايحاء آخر لهذه الفكرة ، وهو ان لا يطمئنّ البشر إلى رخاء ، ولا ييأس عند ضراء.

١١

سورة فاطر

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١) ما يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢) يا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٣)

___________________

١ [فاطر] : الفطر الشق عن الشيء بإظهاره للحس ، وفاطر السماوات خالقها.

٣ [فأنى تؤفكون] : أي كيف تصرفون عن طريق الحق إلى الضلال ، من أفك بمعنى انصرف ، ومنه يسمى الإفك إفكا لأنّه صرف للكلام عن الحقيقة إلى خلاف الواقع.

١٢

وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٤) يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ (٥) إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ (٦) الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (٧) أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ (٨)

١٣

الملائكة رسل الله

هدى من الآيات :

عند ما نتذكر أنّ ربّنا حميد ـ بكل المحامد الكريمة ـ أو ليس قد فطر السموات والأرض ، واستوى على عرش القدرة حيث جعل الملائكة رسلا (لتدبير الأمور) عندئذ يهدينا الرب إلى أنّ مقاليد الأمور بيده ، فإذا فتح للناس رحمة فلا أحد يمسكها ، وإذا أمسكها فلا أحد يرسلها ، فهو العزيز الحكيم ، وهو الذي يرزق الناس من السموات والأرض ، ومن نعمه الظاهرة رسالاته التي يكذّب بها الناس عادة ، ولكنّ الأمور ترجع إلى الله سبحانه فلا يجوز أن نغترّ بزينة الدنيا أو بتضليل الغرور ، ويحذرنا الربّ من الشيطان ، ويدعونا إلى عداوته ، لأنّه يدعو حزبه إلى عذاب السعير.

هكذا نتلوا في الدرس الأوّل من سورة فاطر التذكرة بالأصول الثلاثة : التوحيد ، والرسالة ، واليوم الآخر.

١٤

بينات من الآيات :

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

نزلت البسملة مع جبرئيل كلّما نزلت سورة ، وكان الأصحاب يعلمون نهاية السورة إذا نزلت البسملة.

وقد أكدنا : ان اسم الله يعني الصفات الجلالية والجمالية التي يذكر بها ، كصفة العزة ، والقدرة ، والعظمة من الصفات الجلالية ، وصفة الرحمة ، والغفران ، والخلق ، والرزق من الصفات الجمالية ، ولقد خلق ربّنا بهذه وتلك الخليقة ، فلو لا رحمة الله ، وقدرته ، وعلمه ما وجدت.

فلو كان ربنا مقتدرا ، ولم يكن رحيما ، لم يكن ليخلق الخلق ، ولماذا يخلقه؟ بلى. لقد خلقنا برحمته فقال تعالى : «وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ* إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ». (١)

وفي الحديث عن أبي بصير عن أبي عبد الله (ع) قال : سألته عن الآية فقال :

«خلقهم ليفعلوا ما يستوجبون به رحمة الله فيرحمهم» (٢)

وهكذا على البشر التوسل الى الله بأسمائه الحسنى ، والبسملة أعظمها ، فبرحمته التي وسعت كلّ شيء (الرحمن) وبرحمته الدائمة التي لا تزول (الرحيم) نستعين في أعمالنا.

(١) (الْحَمْدُ لِلَّهِ)

__________________

(١) هود / (١١٨ ـ ١١٩).

(٢) نور الثقلين / ج (٢) ص (٤٠٤).

١٥

لا حمد لأحد ، إلّا مجازا ، اما الحمد حقّا فهو لله ، الخالق الرازق.

وقد يفتتن الإنسان بحمد ما سواه ، لأنّه تسبّب في وصول نعمة إليه ، ويغفل عن حمد ربه الذي وهب له الكينونة الأولى ، ولا تزال نعمه تترى عليه بما لا يحصيها العادّون.

أمّا الذاكرون ربّهم فيقولون : الحمد لله بجميع محامدة كلّها على جميع نعمه كلّها ، والحمد لله كما هو أهله ، ويستحقه حمدا كثيرا كما يحبّ ربّنا ويرضى.

وأوّل ما نحمد ربّنا عليه أنّه خلقنا ، وخلق السموات والأرض.

(فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ)

الفطر في اللغة هو الانشقاق ، وقد قال ربنا في سورة (الملك) : «الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ»

وفطر الله السموات والأرض من العدم ، وأنشأهما من غير مثال يحتذي به ، أو خلق يخلق على شاكلته. لقد انشقّ جدار الظلام الأبدي بإذن الله عن هذه الخلائق التي لا تحصى ولا تحد. ولعل الكلمة توحي بمعنى الإبداع ، والإنشاء ، والتكوّن من دون أصل سابق ، أو مادة قديمة ، حسبما ذكر بعض المفسرين.

وقد جاء في هذا المعنى عن أمير المؤمنين (ع) انه قال :

«أنشأ الخلق إنشاء ، وابتدأه ابتداء ، بلا روية أجالها ، ولا تجربة استفادها ، ولا حركة أحدثها ، ولا همامة نفس اضطرب فيها. أحال الأشياء لأوقاتها ، ولأم بين مختلفاتها ، وغرّز غرائزها ، وألزمها أشباحها ، عالما بها قبل ابتدائها ، محيطا

١٦

بحدودها وانتهائها ، عارفا بقرائنها وأحنائها ، ثم انشأ ـ سبحانه ـ فتق الأجواء ، وشقّ الأرجاء ، وسكائك الهواء» (٣)

وربما توحي الكلمة أيضا : بان الله فتق السموات بعد أن كانت رتقا ، أي كانت كتلة متراصة ، فحدث فيها انفجار عظيم من هيبة الله ، يعبر عنه ـ سبحانه ـ بقوله : «ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ» (٤) فكانت السموات والأرض ، ولعلّ الآية التالية تشير إلى ذلك : «أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما». (٥)

وتقول بعض النظريات العلمية الحديثة : إنّ الكون كان سديما (٦) ، فتكونت منه الشموس بما لا يعلمون.

(جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً)

الملائكة : هي القوى العالمة ، الشاعرة ، المطيعة لله ، وبعضهم موكّلون بالخليقة ، فللسماء ملك ، وللشمس ملك ، وللبحر ملك ، وللريح ملك ، وللمطر ملك ، وللإنسان ملائكة حفظة وكتبة.

وبما أنّ هذه السورة تذكّرنا بتدبير الله ـ سبحانه وتعالى ـ للسموات والأرض كان مناسبا الإشارة إلى الملائكة الموكلين به ، لكي لا يزعم البعض أنّ الملائكة قوى مستقلة فيعبدوهم من دون الله ، كما عبد بعضهم الشمس ، وبعض القمر ، وبعض النجوم ، و.. و...

__________________

(٣) نهج البلاغة / خ (١) ص (٤٠).

(٤) فصلت / (١١).

(٥) الأنبياء / (٣٠).

(٦) السديم : هو الغبار الكثيف.

١٧

هكذا نستوحي من كلمة «رسلا» انهم مجرد حملة للأوامر إلى حيث يجري تنفيذها بإذن الله وبحوله وقوته.

وكلمة «رسلا» لا تعني الاختصاص بالرسالة التشريعية ، التي منها (التوراة والإنجيل والزبور وصحف إبراهيم وقرآن محمد) ولكنّ الملائكة تتنزل بإذن ربها من كلّ أمر ، في سائر شؤون الخليقة.

(أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ)

جاء في الأثر عن طلحة باسناده ، يرفعه إلى النبي ـ صلّى الله عليه وآله ـ قال :

«الملائكة على ثلاثة أجزاء ، فجزء لهم جناحان ، وجزء لهم ثلاثة أجنحة ، وجزء لهم أربعة أجنحة» (٧)

ولبعض الملائكة أكثر من ذلك بكثير ، يقول الإمام أمير المؤمنين عليه السلام في صفة الملائكة :

«ان لله تبارك وتعالى ملائكة لو أنّ ملكا منهم هبط إلى الأرض ما وسعته ، لعظم خلقته ، وكثرة أجنحته ، ومنهم من لو كلّفت الجنّ والانس أن يصفوه ما وصفوه ، لبعد ما بين مفاصله ، وحسن تركيب صورته ، وكيف يوصف من ملائكته من سبعمائة عام ما بين منكبه وشحمة أذنيه ، ومنهم من حدّ الأفق بجناح من أجنحته دون عظم بدنه» (٨)

(يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ)

__________________

(٧) تفسير نور الثقلين / ج (٤) ص (٣٤٦).

(٨) نور الثقلين ج (٤) ص (٣٤٦).

١٨

وقد أكدنا القول في سورة سابقة : ان الكون في حالة توسّع دائم ومستمر ، وهذه الآية توحي بأنّ يد الله مطلقة ، وأنّ بيده البداء.

(إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)

[٢] وما نراه من صنوف الخلائق ، وعجيب صنعها ، وعظيم تقديرها ، وتدبير شؤونها ، يهدينا إلى أنّ خالقها مقتدر لا يعجزه شيء ، مما يزيدنا ثقة به واطمئنانا لتدبيره ، وسكينة في القلب تساعدنا على تقلّبات الحياة ، فلا نقنط بالبلاء ، ولا نستريح عند الرخاء ، ولا نطمئنّ إلى الدنيا وأسبابها التي لا تثبت على حال.

(ما يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها)

فإنّ رحمة الله لا أحد يستطيع أن يمنعها عنك إذا قدّرت لك.

(وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)

عزيز لأنه قادر ، وحكيم يرسل لمن يشاء ويمسك عمن يشاء ، كيفما يشاء بحكمة وليس عبثا.

[٣] (يا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ)

فهو الذي خلقنا ، وهو الذي يرزقنا ، وفي آيات قرآنية قال الله سبحانه وتعالى : إنّه خلق الكون في يومين ، وقدّر الأقوات في أربعة أيّام ، مما يهدينا إلى أنّ الذي خلقنا في يومين أعطى ضعف الوقت للرزق ، فلم الخوف إذا من توقّف رزقه؟

فهل من خالق غير الله يرزقنا ، من الذي وزّع الثروات في الأرض ، ومن الذي

١٩

وهب لمنطقة أرضا زراعية ، ولأخرى معادن أودعها ضمير الأرض منذ ملايين السنين ليستفيد منها الإنسان الآن وغدا.

وثقة البشر برزق ربه كفيلة بسد أبواب الشيطان التي يلج منها لتضليله إذ يصوّر له أنّ الآخرين يرزقونه.

ولعل هذه الثقة تدفعه إلى البحث عن الرزق في حقول الطبيعة ، ويسعى في مناكب الأرض يحرثها ، ويثير دفائنها ، ويسخّر طاقاتها لمصلحته ، ولا يجلس في انتظار الآخرين أن يرزقوه أو يطعموه.

وهكذا تكون الفكرة المستوحاة من الآية أوّلا تساهم في تزكية النفس ، بينما تساهم الفكرة الثانية في بناء الحضارة بالاعتماد على رزق الله ، وتفجير الطاقات المهيأة للإنسان.

(لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ)

أين تذهبون؟! وإلى أي إفك وكذبة يدفعكم شياطين الجن والانس الذين يوحون إليكم بأنّهم رازقوكم.

[٤] (وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ)

في الآيات القرآنية تأكيدات كثيرة على هذه الفكرة : ونستوحي من ذلك : أنّ آراء الناس ليست مقياسا سليما لمعرفة الحق ، ذلك أنّ الإنسان يجعل ـ عادة ـ آراء الآخرين مقياسا ، فيقول : ما دام الناس يقولون : هذا كذب فهو كذلك ، ومن هنا يؤكد ربّنا : «وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ» وان أكثر الناس قاوموا رسالات الله فأظهرها الله بالرغم من ذلك.

٢٠