من هدى القرآن - ج ١

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ١

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-04-1
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٧٣٦

جميع أبناء الأمة ، كالصوم والجهاد والحج. ومن جهة اخرى ، ان من اهداف المجتمع الاسلامي في الشعائر والواجبات هو المحافظة على حياة الناس وأموالهم ، فكان من الطبيعي ان يتحدث القرآن سلفا عنهما.

بينات من الآيات :

[١٧٨] (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى)

انه مكتوب على الامة مفروض على كل واحد من ابنائها تطبيقها ولكن هذا حق يطالب به صاحب الدم وتكلف الامة بانتزاعه له اما إذا عفى صاحب الدم فهو ، حر في ذلك.

(فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ)

ان الله يضع حول شرائعه لمسة احساس وعاطفة ، من أجل الا تكون الانظمة كلها صارمة وجامدة لا تتوافق وظروفا معينة. انه يعطي هنا لصاحب الدم الحق في العفو ليصبح صاحب الدم والجاني اخوة. وعلى الجاني ان يراعي هذه الأخوّة الجديدة بالمعروف والإحسان ، اي يجب ان تتحول الجناية الى عامل إصلاح في حياة الجاني. فاذا به يصبح صاحب المعروف بأن يدفع الدية حسب المتعارف ، وصاحب الإحسان الذي يسعى من أجل إسعاد أولياء القتيل باية وسيلة ممكنة.

(ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ)

والإسلام دين القانون ودين الرحمة في ذات الوقت. فهو ذو قانون محدد ولكنه مؤطّر بالرحمة ، لتخفيف صرامة القانون في ظروف معيّنة. ولكن هذه الرحمة وضعت لكي يتحول الجاني بسببها الى رجل صالح في المجتمع ، وإذا كانت الرحمة بالنسبة

٣٢١

اليه تشجيعا له على متابعة اعماله الجنائية فهنا يجب ان يكون المجتمع صارما معه أيضا.

(فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ)

[١٧٩] لما ذا القصاص؟ لما ذا نقضي على حياة إنسان قضى على حياة غيره؟ أو ليست هذه الحياة الثانية محترمة كالتي قضي عليها؟

بلى ، ولكنا لا ننظر الى هذه الحياة أو تلك بقدر ما ننظر الى حياة المجتمع كله ، وضرورة المحافظة عليها كلها ، وعبر هذه النظرة نرى ان القصاص ضرورة حياتية.

(وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ)

إذ انه يبني سورا منيعا حول حياة المجتمع كله ، فيقتل نطفة الجريمة في مهدها ، ولا يدعها تنمو حتى تتحقق ، لأن العقاب شديد وصارم. وإذا ألغي مبدأ القصاص ، فيمكن ان تتسع عمليات القتل الدفاعية في الأمة ، إذ قد يحس كل فرد انه يتعرض للقتل من قبل خصومه فيبادر بقتلهم ، وهكذا تنتشر الجريمة وربما دون اي مبرر سوى الخوف الباطل. لذلك يقول القرآن في فلسفة القصاص والهدف من تشريعه :

(لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)

اي الهدف منه هو إيجاد رادع عن الجريمة في المجتمع ، يتقي الناس به من ارتكابها.

الوصية وحق الأموال :

[١٨٠] وبمناسبة الحديث عن حرمة النفس والقصاص الذي ينتهي بالموت ، يتحدث القرآن عن الوصية باعتبارها تثّبت حق الفرد في أمواله حتى بعد الممات ،

٣٢٢

وبذلك يتكرس هذا الحق في حالة الحياة بالطبع ، والوصية مكتوبة على ذوي اليسار الذين ينبغي ان يوصوا لأقاربهم.

(كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ)

إن هذه الوصية حق ثابت على المتقين لكي لا يضيعوا حق والديهم وأقاربهم. ولم يتحدث القرآن عن الوصية للأولاد ، لأنهم الجيل الصاعد والوارث الطبيعي للآباء ، ولكن ينبغي ان يوصي الوالد لابنه المحتاج الى عطف اضافي وتمضي الوصية في ثلث اموال الميت وهكذا جاء في الحديث الشريف ـ كما جاء في مجمع البيان (ج ١ ص ٢٦٧) وقد روى أصحابنا عن أبي جعفر عليه السلام أنه سئل ، هل تجاوز الوصية للوارث فقال : نعم وتلا هذه الآية.

[١٨١] الوصية حق على المتقين ، ولكن تنفيذ الوصية حق على الناس ، وعلى الإنسان ان لا يمتنع عن الوصية بحجة الخوف من عدم تنفيذها ، إذ التنفيذ مسئولية الوصي أولا والمجتمع ثانيا ، وليس مسئولية الذي يوصي.

(فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ).

صاحب التبديل وشركائه من الذين يرضون بالتبديل ولا ينهون عنه.

(إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)

شاهد على الوصية ، عالم بمن يبدلها.

[١٨٢] (فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً)

ظلما متعمدا أو غير متعمد ذلك ان الجنف ـ كما جاء في مجمع البيان (ج ١ /

٣٢٣

ص ٢٦٩) هو الجور والميل عن ، الحق ثم قال :

الإثم ان يكون الميل عن الحق على وجه العمد والجنف ان يكون على وجه الخطأ من حيث لا يدري انه يجوز ، وهو معنى قول ابن عباس والحسن ، وروي ذلك عن أبي جعفر (ع).

وقال الجنف : هو ان يوصي به في غير قرابة ثم أضاف عليه أكثر المفسرين وهو المروي عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما السلام. (المصدر)

(فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)

ذلك لان الله سبحانه يغفر لمن كان على الخطأ كالموصي إذا تراجع عن خطأه.

هذه هي مسئولية المجتمع في مسألة الوصية ان يراقبوا الموصي ، فلا يدعوه يجفو بحق أولاده أو يضرر بهم ، كأن يكون الموصي لا يملك الّا بيتا واحدا وله ذرية ضعفاء ، فيوصي بتلك الدار لرجل غريب ، مما يسبب في بيع الدار وإبقاء اهله بلا دار سكنى ، آنئذ يتدخل المجتمع لتصحيح الوصية.

جاء في حديث شريف مأثور عن الامام الباقر عليه السلام في معنى هذه الآية الكريمة :

«من عدل في وصيته ، كان كمن تصدق بها في خيانة ، ومن جار في وصيته ، لقي الله ـ عز وجل ـ يوم القيامة وهو عنه معرض». (١)

__________________

(١) ، تفسير نمونه ج ١ ص ٦٢١)

٣٢٤

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٨٣) أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١٨٤) شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ

_________________

١٨٣ [الصيام] في اللغة الإمساك ومنه يقال للصمت صوم لأنه إمساك عن الكلام وفي الشرع إمساك عن أشياء مخصوصة على وجه مخصوص مبين هو على صفات مخصوصة في زمان مخصوص.

١٨٤ [سفر] أصله من السفر الذي هو الكشف تقول سفر يسفر سفرا وانسفرت الإبل إذا انكشفت ذاهبة.

[عدة] من العد وهي بمنعي المعدود.

[يطيقون] الطوق الطاقة وهي القوة وأطاق الشيء إذا قوى عليه.

٣٢٥

وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٨٥) وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (١٨٦) أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ

_________________

١٨٧ [الرفث] الجماع.

[لباس] الثياب التي تستر البدن والعرب تسمي المرأة لباسا وإزارا.

[تختانون] الاختيان الخيانة يقال خانه يخونه خونا (وخائنة الأعين) مسارقة النظر الى ما لا يحل وأصل الباب منع الحق.

[باشروهنّ] المباشرة إلصاق البشرة بالبشرة وهي ظاهر الجلد.

٣٢٦

الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلا تَقْرَبُوها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (١٨٧) وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١٨٨) يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٨٩))

_________________

[الخيط الأبيض] بياض الفجر ، الخيط الأسود : ظلام الليل.

٣٢٧

الصوم فلسفته واحكامه

هدى من الآيات :

المجتمع الاسلامي مجتمع ملتزم مسئول ، تجري الانظمة فيه بحافز داخلي يسميه القرآن ب (التقوى) ، وهذا الوازع يخلقه الايمان بالله ، وتنمية طائفة من الواجبات في طليعتها الصيام.

وبمناسبة الحديث عن شخصية الأمة تتحدث هذه الآيات عن الصيام كأفضل وازع نفسي للامة يحافظ على حدود المجتمع ويراعي انظمته.

في البدء يبين القرآن فلسفة الصيام ، وبعدئذ يبين طائفة من احكامه ، ثم يتحدث عن اهمية شهر رمضان. وبهذه المناسبة يتحدث عن الدعاء ، وأخيرا يعود الى احكام الصيام والمحرمات الاساسية خلال هذه الفترة.

والملاحظ في القرآن : انه يتحدث عن الصيام قبل وبعد الحديث عن حرمة المال (الآيات ١٨٣ ـ ١٨٨) وكأنه يوصينا بأن من اهداف الصيام تحقيق ، وازع داخلي

٣٢٨

يحافظ على حرمات المجتمع وأبرزها حرمة المال.

إنّه يعدّل سلوك الفرد تجاه المجتمع ، حتى لا يعتدي الفرد عليه.

وبهذه المناسبة يتحدث القرآن عن حرمة المسكن ، ويحرّم على المسلم ان يتسلق البيوت من ظهورها.

بينات من الآيات :

[١٨٣] الصيام واجب ديني في رسالات الله السابقة. وحين يكتبه الله علينا فانه لهدف عظيم يعود بالنفع علينا. هو تقويم سلوكنا ، وتربية نفوسنا على التقوى.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)

الهدف من الصيام التقوى ، والهدف من كثير من الشعائر الدينية هو التقوى أيضا (كما صرح القرآن به في آيات كثيرة) ولكن ما هو التقوى؟

لعلّ الكلمة التي نستخدمها في أدبنا الحاضر بديلا عن كلمة التقوى وقريبة من معناها هي (الالتزام). ولكن ايحاءات كلمة التقوى أفضل. انها تدل على الالتزام خشية العقاب ، والعمل بشيء (اتقاء) شر معين وبالتالي جعل العمل وسيلة لتجنب الوقوع في المهلكة.

فالتقوى هي التزام واع ومفروض على الإنسان ، بسبب الإضرار التي تصيبه إن ترك الالتزام.

وخلق هذه الحالة في النفس ، لا يتم الا عبر سلسلة من الطقوس والشعائر ، و (الصيام) واحد منها. حيث انه يدرب الإنسان على تجنب شهواته برقابة ذاتية ،

٣٢٩

وبذلك ينمّي عنده موهبة الارادة. ذلك لأن إرادة الإنسان كأي نعمة اخرى عنده تنمو وتتكامل ، كلما انتفع بها الإنسان ومارسها عمليا. والصائم يمارس إرادته ضد شهواته كلما دعته الحاجة الى الطعام أو الجنس ، فيرفض تلبية هذه الدعوة بقوة إرادته.

إن كثيرا من الناس يحبون ان يصبحوا صالحين ، مؤمنين ، ملتزمين بالرغم من انهم قد لا يصرحون بذلك ، ولكن بعضا منهم يوفّق لذلك لأنه ـ وحده ـ يملك ارادة قوية ، وعلى الإنسان ان يربي إرادته ويدربها حتى يستطيع ان يقاوم بها ضغوط الشهوات ، والصيام واحد من وسائل تربية وتدريب الارادة.

[١٨٤] الصيام فرض خلال شهر واحد قد يتصوره الإنسان طويلا ، ولكنه يجده بعد الممارسة وبعد التصميم على الالتزام به قصيرا : وكذلك كل عمل يتصوره الإنسان في البدء عظيما ، ولكنه بعد ان يعزم عليه ، يصبح سهلا وخفيفا. ولذلك كان من أفضل وسائل التغلب على الحياة تهوينها ، والاستهانة بصعوباتها. وهكذا يصور لنا القرآن الصيام.

(أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ).

وهناك تسهيلات اخرى في أداء واجب الصيام منها تغيير موعد الصيام للمسافر والمريض.

(فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ).

يصومها عن كل الأيام التي لم يصمها لمرض أو سفر. ومن التسهيلات ، إلغاء الصيام اختيارا عن كل من لا يطيق الصيام. اي يجهده ، ويستنفذ كل طاقته ، كالضعيف البنية والشيخ الكبير. آنئذ يستطيع ان يصوم أو ان يبدّل الصوم بالفدية

٣٣٠

بإطعام مسكين واحد عن كل يوم يفطر فيه.

(وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً)

وصام بالرغم من المشقة عليه.

(فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ)

بشرط الا يسبب له ضررا كبيرا بل مجرد مشقة وحرج.

(وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ)

لأنه يزكي نفوسكم ، ويربي ارادتكم ، ويهيء لكم عند الله جزاء حسنا.

لماذا رمضان؟

[١٨٥] ولا بد ان يقع الصيام في شهر رمضان بالذات ، لما ذا؟ أو ليس هناك شهر آخر أفضل منه؟

كلا .. إنه شهر يحمل معه ذكرى من أهم ذكريات الامة ، إنها ذكرى ليلة القدر حيث نزّل فيها القرآن ، كتاب الله الكريم.

(شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ)

بصائر ورؤي للإنسان في الحياة

(وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى)

تفاصيل التشريع الاسلامي.

٣٣١

(وَالْفُرْقانِ)

ففي القرآن قيم ومقاييس يميز بها الحق عن الباطل. فرمضان إذا أجدر الشهور بالصيام.

(فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ)

اي من كان في هذا الشهر حاضرا في بلده أو محل إقامته فعليه ان يصوم.

(وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ)

ولا يجوز له ان يصوم في حالة المرض أو السفر ، ذلك لأن الله :

(يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ)

وعلى الإنسان ان يستجيب لارادة الله ، ولا يوقع نفسه في الأعمال العسيرة ومنها الصيام في المرض أو السفر.

(وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ)

كل يوم يفوتكم من الصيام تصومون مثله من أيام أخر.

(وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ)

وتجعلون تعظيمكم لله وانتماءكم اليه أقوى من تعظيمكم لأي شخص أو شيء آخر.

(وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)

نعم الله عليكم من خلال الصيام.

٣٣٢

إن ترويض النفس يساعد على تنمية الايمان بالله ، لأن شهوات الدنيا هي أكبر حاجب بين عقل الإنسان ومعرفة الله ، وعن طريق الصيام يتم خرق هذا الحجاب (ولو بصورة مؤقتة) وآنئذ يشرق نور الايمان في القلب ، ويكبّر العبد ربه ، ويعرف ان كل تلك النعم العظيمة منه فيشكره.

كما ان المنع الموقت لبعض لذات الجسد ، سيعطي له طعما جديدا يشكر المرء عليها ، فللصائم فرحتان : فرحة عند الإفطار ، وفرحة عند لقاء الملك الجبار.

رمضان والدعاء :

[١٨٦] شهر رمضان مناسبة للدعاء ، وبهذه المناسبة يستطرد القرآن ليحدثنا عن ضرورة ارتباط الإنسان بخالقه عن طريق الدعاء فيقول :

(وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ)

إذا كانت الدعوة حقيقية ومتجهة الى الله وحده ، خالصة من الشرك والرياء ، فان الله يجيبه لا ريب فيه عاجلا أم آجلا.

(فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي)

هم بدورهم ، ويعملوا بأوامر الله ، ليبادلهم الله جزاء الحسنة بعشر أمثالها.

(وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ)

استجابة دعوة الله تبدأ من الايمان بالله ، فاذا أخلص العبد ايمانه بربه يدعوه ايمانه الى تنفيذ واجبات الله ، ومن ثم يجيب ربه دعاءه.

من هنا كانت الدعوات المأثورة متوّجة بالاستغفار لله ، لان الاستغفار يعيد

٣٣٣

الإنسان الى حضيرة الايمان ، ومن ثم يجيب الله دعاءه.

من أحكام الصوم :

[١٨٧] احكام الصيام كثيرة ولكن أبرزها الامتناع عن الطعام والجنس خلال النهار ، اما في الليل فقد كان الإسلام يحرم مطلقا الجنس والطعام الإخلال فترات معينة ، ولكن خفّف الحكم بعدئذ. كمثل كثير من الأحكام المشددة في بداية الرسالة والتي خففت بعدئذ ، وربما لسبب هو أنّ الأمم تكون في بداية تكونها أشد التزاما.

(أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ)

ممارسة الجنس مع الزوجات اللاتي يشكلن حصنا لكم من الوقوع في مزالق الجنس ، كما تشكلون أنتم نفس الحصن لهن : إن كثيرا من الجرائم ترتكب بسبب الجنس ، سواء بصورة مباشرة أو عن طريق تكوين الجنس للعقد النفسية التي تدعوا الى الجرائم ، من هنا قال الله عن النساء.

(هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَ).

وقد كانت ممارسة الجنس في ليالي الصيام حراما ، ولكن الناس لم ينفّذوه بالضبط فخفف الحكم.

(عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ).

وتظلمونها بسبب شهوة الجنس.

(فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَ).

٣٣٤

إنما بهدف حكيم هو ان يرزقكم الله الأولاد ، فليس الجنس هدفا بذاته ، انما هو وسيلة لهدف اسمى هو الأولاد.

(وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللهُ لَكُمْ)

من بنين وبنات ، تسلمون لقضاء الله فيهم.

(وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ)

حيث يتبين الصبح عن طريق وجود خيط ابيض في الأفق يدل على انبلاج الفجر. هناك يبدأ وقت الصيام ويحرم الجنس والاكل والشرب.

(ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ)

حيث تغيب الشمس وتسحب من السماء ذيول الضياء.

وكما يحرم الجنس خلال نهار الصيام ، كذلك عند ما يعتزل المؤمن الناس ويأوي الى المساجد متبتلا الى الله.

(وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ)

والإسلام لم يشرّع العزلة التامة عن الناس ، لأنها تلغي مسئولية الإنسان في الحياة ودوره في إصلاحها ، ولكنه شرّع وحبب الاعتزال المؤقت ليكتسب المسلم العزيمة والأمل ، ويعود الى الحياة أقوى من قبل.

والاعتكاف واحد من أساليب الاعتزال المؤقت ، حيث يمكث المؤمن في المسجد ثلاثة أيام ويصوم ولا يخرج من المسجد الا للضرورات : هنالك يحرم عليه ممارسة

٣٣٥

الجنس ليلا أو نهارا.

(تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلا تَقْرَبُوها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ).

[١٨٨] الصيام يستهدف تزكية النفوس حتى تتقي حرمات الله ، وتتجنب مظالم العباد. وليس الصيام نافعا لو لم يؤد الى التقوى ، كما ان الصلاة لا تنفع لو لم تنه عن الفحشاء والمنكر. ولذلك تحدث القرآن بعد الصيام عن حرمة المال وقال :

(وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ)

إذا اغتصبت مال أخيك ، أو خدعته ، أو مارست الغش معه فهو باطل. وإذا أكلت ماله بالقمار أو التجارة الضارة فهو باطل. والذين يأكلون اموال الناس بالباطل يستندون في ذلك الى الحكام الأقوياء ، ويتشاركون معهم فيها ، لذلك قال الله :

(وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ)

[١٨٩] وكما حرمة المال كذلك حرمة البيت ، حيث لا يجوز للإنسان ان يتسلق بيوت الناس. وبمناسبة الحديث عن شهر رمضان وارتباطه برؤية الهلال تحدّث القرآن عنه في البدء ، ثم حذّر من الاعتقاد بان ذلك يكفي الإنسان في التدين ، وقال كلا .. ان الالتزام بالواجبات الاجتماعية أهم من الالتزام بظواهر الدين.

(يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِ)

يعرفون بها كيف يضبطون أوقاتهم ، ذلك ان الهلال بما فيه من تغييرات يومية يمكن ان يعرفنا بأيام الشهر.

(وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها)

٣٣٦

كما كانت تفعل جماعة من الجاهليين ، يزعمون ان في ذلك دلالة على الشجاعة. وكانوا يزعمون ان المحرم للحج لا يجوز له ان يدخل المسجد الحرام من الباب ، بل من ثقب كانوا يصنعونه في الجدار.

(وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى)

المحرمات ، وضبط في نفسه الحدود الشرعية ، فاشجع الناس من غلب هواه.

(وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)

٣٣٧

وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (١٩٠) وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (١٩١) فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٩٢) وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ

_________________

١٩٠ [تعتدوا] الاعتداء مجاوزة الحد. يقال عدا طوره إذا جاوز حده.

١٩١ [ثقفتموهم] ثقفته أثقفه ثقفا وثقافة أيّ وجدته ومنه قولهم رجل ثفف ثقف أيّ يجد ما يطلبه وثقف سريع التعلم والتثقيف التقويم.

[الفتنة] أصلها الاختبار. ومنها الابتلاء ومنها العذاب ، ومنها الصدّ عن سبيل الله.

٣٣٨

الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ (١٩٣) الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (١٩٤) وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٩٥)

٣٣٩

القتال في الإسلام

اهدافه واحكامه

هدى من الآيات :

من ميزات الامة الاسلامية : انها تؤمن بالجهاد من أجل اهداف انسانية عالية ، وفي اطار هذه الاهداف تمارس القتال. وفي هذه الآيات يتحدث القرآن عن حدود القتال (كما تحدث سابقا عن حدود القصاص والصيام) ويؤكد على التقوى باعتبارها وسيلة لمراعاة حدود الله في الجهاد.

فالقتال انما هو في سبيل الله ، وموّجه ضد من يقاتل الامة ، وهناك هدف آخر للقتال هو منع الفتنة ، إذ هي اخطر من القتل ، وهناك حد آخر للقتال هو حرمة القتال في المسجد الحرام ، ولكن حرمة المسجد والشهر ، قائمة ما دام العدو ملتزما بها. والقتال بحاجة الى الإنفاق ، وعلى الامة ان تبادر بالإنفاق قبل ان تحدق بها الاخطار.

٣٤٠