من هدى القرآن - ج ١

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ١

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-04-1
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٧٣٦

ونقول بلى ولكن لا يعني إثبات رأي ونفي ما عداه.

كذلك لا بأس أن تكون الأحرف أسماء للسور ، وفي ذات الوقت تشعر بانتهاء فصل قرآني وبداية فصل آخر ، وتكون أيضا تذكرة وتنبّها تحرّض الفكر وتثير دفينة العقل وسبات الضمير. وتكون إشارات لأسماء الله ، إذ ان أظهر شيء في السماوات والأرض هي أسماء الله ، والأحرف تشير إليها قبل غيرها. فإشارة الالف الى لفظ الجلالة (الله) أوضح من إشارته الى الأسد مثلا. وإذا كانت إشارة الى أسماء الله الحسنى فان القسم بها مناسب جدا. ومع ذلك فانها اعجاز قرآني ، بدأ العرب بشيء جديد لم يعهدوا مثله.

وفوق ذلك إنّ فيها أسرارا سوف يكتشف الإنسان بعضها مع تقدم المعرفة.

وهكذا تكون هذه الأحرف إشارات بين الربّ وبين من ارتضاه لغيبه.

وجاء في الأثر :

١ ـ في تفسير الامام ان معنى الم : «ان هذا الكتاب الذي أنزلته هو الحروف المقطعة التي منها الف لام ميم ، وهو بلغتكم وحروف هجائكم فاتوا بمثله إن كنتم صادقين» (١)

٢ ـ القمي عن الباقر (ع): «هو حرف من اسم الله الأعظم المقطوع يؤلفه الرسول والإمام عليهما السلام فيكون الاسم الأعظم الذي إذا دعي الله به أجاب» (٢)

__________________

(١) تفسير الصافي ، المولى محسن الفيض الكاشاني ج ١ ص ٩١

(٢) المصدر ج ٤ ص ٣٦٦

١٠١

٣ ـ وروي عن الامام علي (ع) أنه قال : «ان لكلّ كتاب صفوة وصفوة هذا الكتاب حروف التهجي» (١)

٤ ـ وفي حديث شريف عن الإمام أبي جعفر الباقر (ع) أنّه قال : «يا أبا لبيد أن ليّ في حروف القرآن المقطعة لعلما جما» (٢)

القرآن هدى :

[٢] يلخص القرآن تعريفه لذاته في ثلاث كلمات هي :

أ: كتاب ـ ثابت ومتفاعل ـ وليس مجرد توجيهات غير مترابطة أو غير متكاملة.

ب : لا ريب فيه ، ولا يرقى اليه شك. حقيقي لأنه غير متناقض في ذاته ولا مع الإنسان ولا بالنسبة الى هدى العقل.

ج : هدى للمتقين. يهدي من يحب الهداية ويعمل من أجلها ، فالتقوى حذر بالقلب وعمل في الواقع ، ومن دون الحذر (العامل النفسي الذي يبعث نحو إرادة الهداية) ومن دون العمل من أجل الهداية ، لن تكون هداية.

(ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ)

ثم يتحدث القرآن عن ثلاثة مواقف للناس اتجاه الكتاب الجديد. (التقوى ، الكفر ، النفاق).

__________________

(١) مجمع البيان ج ١ ص ٣٢

(٢) الصافي ج ١ ص ٩٠

١٠٢

[٣] من هم المتقون؟ وما هي صفاتهم البارزة؟

أهم تلك الصفات هي الإيمان بالغيب والذي يعني تجاوز الحقائق التي يشهدها الإنسان مباشرة ، للوصول الى تلك التي لا يشهدها مباشرة. هذه المقدرة التي تجعلنا ـ نحن البشر ـ نحصل على ميزة العلم بالمستقبل (الغيب) عن طريق معرفة الحاضر (الشهود) والعلم بالماضي (الغيب) عن طريق مشاهدة آثاره على الحقائق الحاضرة (الشهود).

هذه الصفة تتعمق في المتقين الى درجة الإيمان فهم يؤمنون بالمستقبل وليس يعرفونه فقط ، ويؤمنون بالماضي وليس يعلمون به فحسب ، وفرق كبير بين الإيمان والعلم. الإيمان هو التسليم النفسي والعقلي للعلم ، وتطبيقه على الحياة فعلا.

وأعظم الغيب وأظهره هو الإيمان بالله الذي انتشرت آياته الظاهرة على كلّ أفق وفي كلّ شيء ، والإيمان به أصل الإيمان؟.

والإيمان بالغيب يتعمق بالصلاة التي تفتح خطا روحيا مباشرا بين الإنسان وبين الله ، وتصبح جسرا بين الحضور وبين الغيب. وتتجسد هذه الصلة في العطاء الشامل. فلا إيمان ولا صلة من دون تصديق ذلك بالعطاء والإنفاق.

ولكن من أيّ شيء يتم العطاء. هل من أنفسنا نعطي شيئا لله؟ كلّا انما نقتطع جزء صغيرا مما أنعم الله علينا فننفق منه. ولكل شيء عطاء مناسب له فالمال بصرفه ، والجاه ببذله ، والعلم بنشره وهكذا.

من هنا كان :

(الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ)

١٠٣

[٤] والإيمان الذي يتحلى به المتقون هو ايمان كامل لا يقتصر على بعض الحقائق فقط ، وينحسر عمّا يخالف الأهواء ، انما هؤلاء يؤمنون بما انزل الى الرسول من كتاب وبما انزل على الرسل من قبل رسول الله محمد (ص) لا يفرقون بينهم. وايمانهم بالآخرة إيمان راسخ يصل الى مستوى اليقين ، فاذا بهم مطهرون من أيّ شك في يوم الجزاء. بذلك تتكامل عقائد المتقين ، الإيمان بالله (الغيب) وما يدعم هذا الإيمان من الصلاة والزكاة ثم الإيمان بالرسالات ثم الإيمان بيوم القيامة.

وبالطبع الإيمان بالرسالات يدعونا الى الايمان بخلفاء الرسل وبامتداداتهم. كما ان الإيمان بيوم الميعاد يأتي نتيجة للإيمان بعدالة الله. وهذه هي أصول الدين الأساسية التي تشكل جوهر شخصية المؤمن.

(وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ)

[٥] والنتيجة التي يحصل عليها المتقون هي الهداية والفلاح. الهداية بما فيها من استقامة في العقل والروح. والفلاح بما يشمل من سعادة في الدنيا والآخرة.

(أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)

[٦] من هم الكفار؟

الفئة الثانية من تقسيمات القرآن هم الذين يستحيل أن يعودوا الى الحق ، لأنهم عاندوا الحق وسدّوا آذانهم وأعينهم عن سماع الدعوة اليه.

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ)

[٧] الكفر ـ كالإيمان ـ يبدأ من الاختيار الحرّ للإنسان ولكنه ينتهي

١٠٤

بالله. فهو الذي يمد لهذا أو ذاك. فالمؤمن يزيده إيمانا والكافر يزيده ضلالة ويسلب منه نور الإيمان ، فاذا به يصبح وقد.

(خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ)

لماذا؟ لأنهم لم يستثمروا قلوبهم وعقولهم ولا سمعهم المؤدي الى القلب ، فلا فكّروا هم بأنفسهم ولا هم سمعوا كلام المفكرين. فتبلدت عقولهم ولم تعد تعمل وتركهم الدعاة فلم يعودوا ينصحوهم.

(وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ)

يستحيل منها رؤية الآيات والتوصل عن طريقها الى الحقائق. لأن القلب لا يعمل ، فتتحول العيون الى كامرات تصور الأشياء دون أن تفهم منها شيئا.

ماذا ينتظر هؤلاء من الله؟ ماذا ينتظر من غمضّ عينيه وأخذ يمشي في الظلمات؟ هل ينتظر منه الوصول الى بيته سالما؟ أم الى المقبرة أو المستشفى؟ كذلك من سدّ منافذ عقله وعاند الله والحق.

(وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ)

[٨] من هم المنافقون؟

ان لهم صفات شتى أبرزها انهم يقولون آمنا وما هم بمؤمنين.

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ)

[٩] ولأن المنافقين يضمرون الكفر تحت غطاء الإيمان ، يحاولون جهدهم أن يبالغوا في العبادات (كثرة الصلاة رياء) هم يريدون خداع الله والمؤمنين بينما

١٠٥

الحقيقة انهم يخادعون أنفسهم لأنهم يبدءوا بتصور أنهم استطاعوا أن يضمنوا الدين الحقيقي مع عدم خسرانهم للدنيا ولشهواتها وذلك لأنهم يبدءون بزعم ان أعمالهم (القشرية) هي الدين ، فيفرغون الدين من معانيه ويكوّنون له معنى جديدا فيمنعون عن أنفسهم الفوائد الكبيرة التي يعطيها الدين الحقيقي لو انهم التزموا به. لهذا يقول الله :

(يُخادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ)

ثم يفصّل الله القول في الخداع الذاتي الذي يمارسه المنافقون بلا وعي منهم ويقول

[١٠] أولا : انهم يكرسون ـ بعملية النفاق ـ مرض الجبن والهزيمة ، واللاإرادة في أنفسهم. كل ابن آدم مبتلى في قلبه بهذه الأمراض ، ولكن المنافق يكرسها حتى يبني حياته كلها على هذه الشاكلة. فهو يعيش شخصيتين داخله وظاهره ، وبينهما تضيع إرادته وقدرته على التحقق والمبادرة فكيف إذا صبغت حياته كلها بالكذب.

(فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ)

من الجبن والاستسلام و..

(فَزادَهُمُ اللهُ مَرَضاً)

من تكريس تلك الأمراض ، ثم ان هؤلاء لا يمكنهم أن يعيشوا مطمئنين لأنهم يعيشون الخوف والقلق وخشية الافتضاح ، وهذا يسبب لهم عذابا أليما ، يأتيهم بسبب الكذب الذي صبغت به حياتهم كلها.

ان الواحد منا قد يكذب كذبة واحدة فيعيش في القلق الدائم خوف اكتشاف

١٠٦

كذبته ، ويفكر أبدا في طرق الإخفاء على الكذب.

(وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ)

[١١] ثانيا : تختلط عندهم مقاييسهم العقلية (بسبب مضايقتهم لهدى الله ، وبسبب توتر شخصيتهم) ولذلك يتوغلون في الفساد ، ويزعمون أنه الصلاح بذاته.

ولأنهم يعيشون بعيدين نفسيا عن المجتمع من حولهم فهم لا يستطيعون أن يستفيدوا من نصائح الآخرين ، أو تتكامل أفكارهم عن طريق التفاعل مع أفكار الآخرين. لذلك قال ربنا سبحانه :

(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ)

[١٢] بينما الحقيقة غير ذلك. ان هؤلاء أصبحوا أعضاء فاسدة في المجتمع ، ولكنهم فقدوا المقياس الذي عن طريقه يستطيع المرء اكتشاف الفساد عن غيره فهم لا يشعرون.

(أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ)

وعبّر القرآن ب (الشعور) ولم يعبّر ب (العقل) فلم يقل (ولكن لا يعقلون) لكي يشكف لنا بأن القضايا البسيطة التي لا تحتاج الى التفكير والتعقّل. (كالتمييز بين الفساد والصلاح) لم يعد يفهمها المنافق ، فكيف بالقضايا المعقدة.

ان الشرط الأول للعلم بأية حقيقة هو الثقة بالذات وبالمقاييس العقلية التي يملكها الإنسان. والنفاق يفقد صاحبه هذه الثقة فلا يعرف شيئا.

[١٣] ثالثا : انهم يتمحورون حول أعمالهم فيحسبونها هي الحق وغيرها

١٠٧

الضلال والباطل. وبذلك يتهمون الناس بالسفه ، ويضيّعون على أنفسهم فرصة الانتفاع بآراء الناس وتجاربهم.

(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ قالُوا أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ)

ولكن من هذا السفيه الحقيقي؟ أليس ذلك الذي يضيّع على نفسه فرصة الإيمان وفرصة الانتفاع بتجارب الآخرين؟

(أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ)

[١٤] وبسبب الانعزال النفسي عن المجتمع وعن خبراته وعقله ، يستهزءون بأعمال المجتمع ويتصورونها تصورا معكوسا ، وبذلك يعزلون أنفسهم عمليا عن المجتمع ، إذ لا يساهمون في نشاطاته التي لا تعود بالنفع على المجتمع فقط بل عليهم أيضا لو عملوا بها.

(وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ)

[١٥] وهذه النفسية المعقدة تسبب لهم ضياع فرص الهداية لهم الى الأبد ، إذ كلما سمعوا كلاما فسروه تفسيرا سلبيا واستهزؤا به فبأى شيء يهتدون؟ من هنا قال الله تعالى :

(اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ)

أيّ يعمون عن الحقيقة فلا يرونها وكأنهم لا يملكون البصر أبدا (العمه : فقدان البصر منذ الولادة).

١٠٨

ويسمي القرآن النفاق هنا طغيانا لأنه لا ينشأ إلّا بسبب فقدان العبودية لله والاستسلام لشهوات الذات ، وضغوط المجتمع. إذن هناك أربع أزمات يواجهها المنافق بسبب خداعه الذاتي :

أولا : ازدياد مرضه النفسي والمؤدي به نحو العذاب الأليم.

ثانيا : توغله في الفساد.

ثالثا : انفصاله عن خبرات المجتمع وانعزاله في قوقعة ذاته.

رابعا : ضياع فرصة الهداية الى الأبد ، والعمى النفسي.

[١٦] ويضرب الله لنا الأمثال حتى نفهم حقيقة النفاق ، ونتحذر منه فيقول : مثل النفاق مثل من يشتري شيئا ويدفع الثمن ، فلا يعطيه البائع البضاعة ، فيخسر ماله ولا يحصل على بضاعة. هكذا يشتري المنافق الدنيا بالآخرة يعطي الحق والهداية ليأخذ السعادة في الدنيا فلا يحصل على هذه ويخسر تلك.

(أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ) [١٧]

ومثال آخر يضربه القرآن ليكشف لنا جانبا آخر من النفاق :

(مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ)

انطفأت ولم يبق أمامه إلّا الدخان والرماد.

(وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ)

ان الهداية نور أضاءه الله للإنسان ، والمنافق كان قريبا من النور ، وظاهريا

١٠٩

آمن به ، وربما آمن به إيمانا صادقا في لحظة طيبة من لحظات عمره ، ولكنه كفر به بعدئذ استجابة لضغط الشهوات واستسلاما لإرادة طواغيت المجتمع الفاسد فذهب الله بنور الهداية فما ذا بقي غير الظلمات والعمى.

[١٨] (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ)

انهم يفقدون كلّ مشاعرهم وقدراتهم. فهم يفقدون القدرة على السماع ، والقدرة على الكلام ، والقدرة على النظر ، وبالتالي القدرة على العيش في الحياة. لأنهم فقدوا مشاعرهم وقدراتهم. فكيف يعيشون؟ انهم يتيهون في صحراء الفراغ الى الأبد.

[١٩] ومثل ثالث يضربه الله عن واقع المنافق فلنتصور الآن اننا في العراء حيث الليل والسحاب المتراكم. الظلام يلفنا ، والرعد يهزنا خوفا وهلعا .. اننا نلتمس نورا نمشي به. ماذا نفعل ننتظر بارقة في السماء تضيء لنا الأرض فنمشي في ضوئها ، ولكنها تبقى لحظات وتنتهي. بعضنا يتمسك بهدى البرق حين يضيء. فيحاول اكتشاف الطريق. فاذا انطفأ استمر في المشي ، ولكن البعض ليس هكذا ، انه يمشي كلما أضاء البرق ويقف بعدئذ. ذلك مثل المؤمن والمنافق. المؤمن ينتفع بهدى الوحي الذي يشبه برق السماء فيتمسك به ، ولكن المنافق لا يتفاعل معه فيتيه في الظلمات.

(أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ)

[٢٠] (يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا وَلَوْ شاءَ اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ

١١٠

وَأَبْصارِهِمْ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)

الحياة صحراء وشهواتها هي تلك السحابة الكثيفة التي فيها ظلمات ورعد وبرق ، ونحن فيها بحاجة الى نور السماء يهبط علينا كما يهبط الماء من السماء ، ولكن علينا أن نتمسك بهذا النور حتى لا يضيع في زحمة الحياة فنترك في الظلمات.

وقد يغضب علينا ربنا فيسترد منا السمع والأبصار ، ولا نستطيع أن نتحرك في أمور حياتنا قيد أنملة لأنّه محيط بنا ، وقادر علينا. ولا يجوز أن نغتر بما في الحياة من مظاهر القوة ، فنحسب أنفسنا أقوياء من دون الله سبحانه لأنه محيط بنا ، وقادر على أخذنا بقوته أخذا شديدا.

١١١

(يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (٢١) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٢٢) وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا

__________________

٢١ [خلقكم] الخلق هو الفعل على تقدير ، وخلق السموات فعلها على تقدير ما تدعوا اليه الحكمة من غير زيادة ونقصان ، والخلق الطبع والخليقة الطبيعة والخلاق النصيب.

٢٢ [السماء بناء] سمى السماء سماء لعلوها على الأرض وكل شيء كان فوق شيء فهو لما تحته سماء ، وكل ما علا الأرض فهو بناء.

[أندادا] الند المثل والعدل وقيل الند الضد.

٢٣ [ان] جاءت هنا لغير شك لان الله تعالى علم أنهم مرتابون ولكن هذا على عادة العرب في خطابهم كقولهم ان كنت إنسانا فافعل كذا.

١١٢

فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٣) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (٢٤) وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٥))

__________________

[عبدنا] العبد المملوك من جنس ما يعقل ونقيضه الحر ، من التعبيد وهو التذليل لان العبد يذل لمولاه.

[سورة] مأخوذة من سور البناء وكل منزلة رفيعة فهي سورة : فكل سورة من القرآن فهي بمنزلة درجة رفيعة ومنزل عال رفيع يرتفع القارئ منها الى منزلة اخرى الى أن يستكمل القرآن وقيل السورة هي القطعة من القرآن انفصلت عما سواها وأبقيت.

٢٥ [بشر] البشارة هي الاخبار بما يسر المخبر به إذا كان سابقا لكل خبر سواه.

١١٣

أركان الايمان

هدى من الآيات :

بعد ان قسّم القرآن الناس الى ثلاث فئات ، عاد ليتحدث لنا بالتفصيل عن صفات المؤمنين ، ويميزها تفصيليا عن صفات المنافقين ، ولكن قبل ذلك فانه لا بد من التذكير بأركان الايمان وهي الايمان بالله وبالرسالات وباليوم الآخر ، وهو ما نجده في هذه المجموعة من الآيات.

بينات من الآيات :

[٢١] الايمان بالله يتجسد في عبادته ، وعبادة الله تنتهي بالإنسان الى درجة المتقين (الذين استهل القرآن هذه السورة بذكرهم) ولكن لماذا نعبد الله ، ولا نعبد آباءنا؟

الجواب : لأنه خلقنا وخلقهم فهو ربنا جميعا. فلما ذا نجعل الاباء واسطة بيننا وبين ربنا ، ما دامت علاقتنا نحن به هي ذاتها علاقة آبائنا به سبحانه. إذا لا

١١٤

خضوع للآباء.

(يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ).

[٢٢] وسؤال أخر لماذا نعبد الله ونخضع لأوامره ، ولا نعبد الحياة وهي التي تتصل بنا مباشرة. فهي تعطينا الرزق والروعة والقوة؟

الجواب : لأنه هو

(الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ)

هو أولا خلق الحياة بشكل استطعنا ان نستفيد منها. فلو كانت الأرض كلها من الحديد كيف كنا نعيش عليها ، وكيف نبني ونزرع ونفتح الطرق .. و.. و.. ولو كانت السماء متهاوية تسقط علينا من هذه النيازك الكثيرة التي تجول في أرجائها. هل كنا نعيش؟!

ثم جعل السماء تنزل علينا الماء ، وجعل الأرض تنبت ألوانا من الزرع رزقا لنا ، ثم بعد كل ذلك نذهب ونعبد غير الله؟! حاشا!

(فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ).

[٢٣] كيف نعبد الله؟

باتباع رسله ، وهذا الرسول بالذات لأنه جاء بمعجزة القرآن. ويسألنا : هل تستطيعون ان تأتو بمثله إذا يجب اتباعه لان اتباعه تجسيد لعبادة الله.

(وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا

١١٥

شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ).

وبالطبع سوف يشهد الجميع حتى أولئك الشهداء البعيدون عن الله ، سوف يشهدون على أن القرآن أفضل مما أوتي به من قبله. وآنئذ دعوا الشك جانبا واخضعوا للرسول.

وهذه هي الرسالة ثانية العقائد الإسلامية والحلقة المتصلة بالتوحيد العقيدة الإسلامية الأولى.

[٢٤] (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ)

هناك الجزاء الاول حيث يعاقب الكافرون بهذه النار العظيمة التي تلهب الناس والحجارة.

[٢٥] اما المؤمنون بالله وبرسالاته فإنهم في جنات فيها كل نعم الحياة وزيادة.

(وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ).

فهي منطقة مزروعة فيها روعة الأشجار وجمال الأنهار وفيها نعم الحياة.

(كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً)

فهي من جهة ـ رزق رزقوا به في الدنيا ـ وهي من جهة ثانية تشبه الى حد بعيد ما رزقوا به هناك في الاخرة لأنها كلها عظيمة اللذة فهم لا يكادون يكتشفوا الفرق بين رزق ورزق.

١١٦

وهم هناك منعمون نفسيا.

(وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيها خالِدُونَ)

فلا يخشون الفناء ويتمتعون بلذة حب البقاء وهذه هي العقيدة الثالثة بعد الايمان بالله ورسوله.

١١٧

(إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفاسِقِينَ (٢٦) الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ

__________________

٢٦ [يستحي] الاستحياء من الحياء ونقيضه القحة.

[يضرب] الضرب يقع على جميع الأعمال الا قليلا يقال ، وضرب في الأرض وضرب في سبيل الله ، وضرب فلان على يد فلان إذا أفسد عليه أمرا أخذ فيه ، وضرب الأمثال إنما جعلها لتسير في البلاد. يقال ضربت القول مثلا وأرسلته مثلا.

[البعوض] : القرقس وهو صغار البق الواحدة بعوضة.

[الفاسقين] الفسق والفسوق الترك لأمر الله وقيل الخروج عن الطاعة تقول العرب فسقت الرطبة عن قشرها إذا خرجت.

٢٧ [ينقضون] : النقض عكس الإبرام.

[عهد] العهد العقد ، وعهد الله وصيته وأمره.

١١٨

اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٢٧) كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢٨) هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٢٩))

__________________

[ميثاقه] الميثاق ما وقع التوثيق به.

[يقطعون] القطع الفصل بين الشيئين ، وأصل ذلك من الأجسام ويستعمل ذلك أيضا في الأغراض تشبها به يقال قطع الحبل وقطع الكلام.

[يوصل] الوصل نقيض الفصل وهو الجمع بين الشيئين من غير حاجز.

[الخاسرون] الخسران النقصان والخسار الهلاك والخاسرون الهالكون وأصل الخسران ذهاب رأس المال.

٢٩ [خلق] أصل الخلق التقدير.

[جميعا] الجمع الضم ونقيضه الفرق وسميت الجهة جهة لاجتماع الناس.

[استوى] الاستواء الاعتدال والاستقامة ونقيضه الاعوجاج.

١١٩

الشخصية الانسانية

كيف يجب أن تكون؟

هدى من الآيات :

حدثنا القرآن الحكيم عن فئات الناس. ثم ذكرنا بالايمان وأركانه الثلاثة. والآن دخل صلب الموضوع وهو تحليل شخصية الإنسان وما ينبغي ان تكون عليه شخصية الإنسان الفرد والإنسان الجماعة (الأمة).

قصة الخلق الأول :

يبدأ القرآن بالحديث عن الإنسان الفرد في هذه المجموعة من الآيات ولكنه لا يتحدث عنه بصورة مرتبطة بالمفاهيم العامة ، بل بصورة رمزية مستوحاة من قصة حقيقية مرتبطة بالواقع الحي. انها قصة الخلق الاول التي يفصلها الله في ثلاث مراحل.

أولا : يتحدث عن منهج التفكير الايماني وعن الأسباب الواقعية التي تدعوا الى الكفر بالله. (الآيات ٢٦ ـ ٢٧)

١٢٠