من هدى القرآن - ج ١٥

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ١٥

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-18-1
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٤٣٦

١
٢

٣
٤

سورة الحديد

٥
٦

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

فضل السورة :

عن جابر الجعفي عن أبي جعفر (ع) قال : «من قرأ المسبّحات كلّها قبل أن ينام (يعني السورة التي فاتحتها التسبيح مثل الحديد والتغابن والحشر والجمعة) لم يمت حتى يدرك القائم ، وإن مات كان في جوار رسول الله (صلى الله عليه وآله)».

نور الثقلين / ج ٥ / ص ٢٣١

وروى العرباض بن سارية قال : «إنّ النبي (صلى الله عليه وآله) كان يقرأ المسبّحات قبل أن يرقد ، ويقول : إنّ فيهنّ آية أفضل من ألف آية».

نور الثقلين / ج ٥ / ص ١٣١

٧
٨

الإطار العام

ترتكز أغلبية آيات السورة حول محورين رئيسيين :

الأوّل : الإنفاق في سبيل الله ، من دون تحديد نوع منه ، فقد يتحقّق بالإنفاق من النفس أو من المال أو من أيّ شيء آخر. ويحرّضنا الذكر الحكيم على ذلك من خلال منهج واقعي ونافذ هو :

١ ـ إنّ الله هو المالك الحق لكلّ شيء ، وله الولاية التامّة خلقا وقدرة وعلما وتدبيرا ، وإنّه الذي يحيي ويميت وإليه ترجع الأمور ، أمّا نحن فلسنا سوى مستخلفين من قبله فيما ملّكنا ، فلا ينبغي أن نرفض أمره بالإنفاق إذ أنّه هو المالك الحق.

٢ ـ والإنفاق هو الشاهد الصادق على التزام الإنسان بالميثاق ، ذلك الميثاق الذي أخذه الله عليه في عالم الذر.

٣ ـ ولماذا يبخل الإنسان بالمال وهو لا يبقى له؟! فأمّا يرحل عنه أو ينتقل إلى

٩

غيره. بلى ، قد يستخلف فيه برهة من الزمن ، ولكنّه يموت عنه كلّ أهله ليعود إليه تعالى.

٤ ـ ثمّ أنّ الإنفاق لا يزيد الله شيئا وهو الغني الحميد ، إنّما النفع والضرر يعودان على الإنسان نفسه ، فهو إن أنفق نمى ماله ، وبنى مجتمعة ، وصار إلى ثواب الله ورضوانه ، أمّا إذا بخل فلن يحصد إلّا التلف ، والتخلّف في الدنيا ، وألوان العذاب في الآخرة.

وتعالج السورة أيضا قضايا تتصل بالإنفاق.

الثاني : العدالة الاجتماعيّة كهدف تنزّلت له جميع رسالات الله ، وسعى من أجله كلّ الأنبياء والأولياء ، كما ينبغي أن يتحرّك لتحقيقه كلّ المؤمنين الرساليين ، ولا تقوم العدالة إلّا بالقائد الصالح (رسولا أو وليّا) ، والنظام الصالح في البعد السياسي والاجتماعي والاقتصادي والتربوي ، وبالميزان الذي يشخص المخطئ من المصيب ، وبالسلاح المنفّذ للنظام.

وهناك علاقة وثيقة بين محور العدالة والإنفاق في السورة يتمثّل في أنّ الإنفاق في سبيل الله يساهم بصورة فعّالة في إقامة العدالة ونصرة الحق. أو ليس قام الإسلام بسيف علي ومال خديجة؟

ومن هذا المنطلق نهتدي إلى أفضلية الإنفاق والقتال قبل الفتح على الذي بعده.

إن الحركات الرسالية تنشد العدالة وإقامة الحق ، والأمّة مسئولة أن تتحمّل مسئوليتها الحاسمة في دعمها والوقوف إلى صفّها بالإنفاق نصرا لله ورسله وأوليائه على الظالمين.

١٠

سورة الحديد

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١) لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢) هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٣) هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٤) لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٥) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٦)

١١
١٢

لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ

هدى من الآيات :

في فاتحة سورة الحديد التي تأمرنا بالإنفاق لتحقيق العدالة التي هي هدف رسالات الله ، يذكّرنا القرآن بأنّ ما في السموات والأرض يسبح لله (فلا يجوز أن نقدّس شيئا منها) فهو العزيز الحكيم المالك للسموات والأرض (وهو غني عن إنفاقنا ، ونحن المستفيدون من العطاء) وهو الأوّل بلا أوّل كان قبله ، والآخر فلا يتغيّر بالأزمنة سبحانه ، والظاهر على كلّ شيء بالغلبة ، والباطن العليم بكلّ شيء.

وقد خلق السموات والأرض في ستة أيّام ، شهادة على كمال قدرته ، وواسع علمه ، وحسن تدبيره ، وأنّه المهيمن على حركة الأشياء وتطوّرها ، فهو يعلم ما يدخل في الأرض من الغيث والمواد والأشعّة ، وما يخرج منها من الأبخرة والنبات ، وما ينزل من السماء من رحمته عبر ملائكته ، وما يعرج فيها من ملائكة وأعمال ونيّات ، وهو مع خلقه أنّى كانوا.

١٣

وهو المالك الحق للسموات والأرض ، وإليه ترجع الأمور ، فهو المقدر المدبّر وإليه المصير ، وآية تدبيره توالج الليل والنهار في الصيف والشتاء وعلمه بذات الصدور.

كلّ ذلك يحملنا على الإنفاق في سبيل الله ، وهو موضوع الدرس التالي.

بينات من الآيات :

[١] إنّ للكائنات شعورا يسبّحن عبره بحمد ربّهن ، كلّ بقدره وبلغته ، إذ سواء وعين ذاتهن أو بصرن آفاق الخلق فهنّ يرين تجليات الرب ، وبعجز ذاتها تستدل على قدرته تعالى ، وبزوالها تستدل على بقائه سبحانه ، وبحدوثها تستهدي إلى أنّه القيّوم الذي لم يزل ولا يزال ولن يزول ، وأمّا عن الآفاق فهي أنّى رمت ببصرها ترى آثار خلقه وتدبيره تعالى ، لذا فالخلق كلّهم ينزّهونه عن النقص والعيب.

(سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ)

إنّه تسبيح قديم قدم كلّ مخلوق ، إذ يبدأ معه منذ اللحظة الأولى التي ينشأها بارئها من بعد العدم ، ولكن كيف تسبّح الأشياء ربّها؟!

نتصوّر لذلك معنيين :

الأوّل : أنّ خلقة كلّ شيء تهدي إلى نقصه وعجزه ومحدوديّته ، وذلك بدوره شاهد صدق على كمال خالقه وقدرته وتعاليه عن الحدّ والقيد ، وبالتالي شاهد صدق على أنّه سبّوح قدّوس متعال منزّه عن أيّ نقص وعجز وتحديد.

الثاني : أنّ الأمر لا يقف عند هذا الحد ، بل لكلّ شيء إحساس بقدره يعرف

١٤

به الخالق ، ولغة مخصوصة يعبّر بها عن معرفته ، فإذا به يسبّح له.

ونحن بنظرنا وتفكّرنا نهتدي إلى التسبيح بالمعنى الأوّل ، ولكنّنا نقصر عن فهم المعنى الثاني ، يقول تعالى : (تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) (١) ، وقال يحدّثنا عن حضارة داود (ع) : (وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فاعِلِينَ) (٢) ، والخلق كلّهم متساوون تكوينيا في التسبيح لله ، وإنما يتفاوتون ويختلفون في النوع الآخر ، وإن أحدا لا يستطيع أن ينكر وجود شعور ولغة عند كلّ شيء ، فما أوتينا من العلم إلّا قليلا ، وجهلنا لا يغيّر من الواقع شيئا ، فنحن لا زلنا في البوصة الأولى من طريق ذي آلاف الأميال في مسيرة العلم والمعرفة ، قال ربّنا سبحانه : (وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً) ، ويكفينا عقلا وحكمة أن نعترف بأنّ ما لا يحط به علما قد يكون موجودا فلا نعادي ما نجهل.

ولسنا بحاجة الى تأويل «ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» لينصرف إلى ما يعقل ، وذلك لأنّه يخالف ظاهر اللغة العربية التي اعتبرت «ما» لغير العاقل ، وما دام الوجود كلّه يسبح لله فإنّ عدم تسبيح الإنسان يعدّ تخلّفنا عن عهده التكويني الفطري مع ربّه ، وشذوذا عن واقع الكائنات.

إنّ من مشاكل البشر أنّه ينبهر بالطبيعة أو بجانب منها ، فإذا به يتخذ ما فيها إلها ، ويغتر بما فيها من ظاهر الزينة والقوّة والإبداع ، بينما لو تدبّر فيها مليّا عرف أنّها هي الأخرى تسبّح بحمد ربّها ، فكيف يتخذها شريكا لبارئها ، بل وتتأذى الطبيعة حينما يعبدها أحد من دون الله ، ففي الأخبار أنّ البقر نكّست رؤوسها منذ

__________________

(١) الإسراء / ٤٤

(٢) الأنبياء / ٧٩

١٥

عبدها الناس عند ما أضلّهم السامري ، ولعلّه لذلك جاءت خاتمة الآية الكريمة تذكيرا بعزّة الله وحكمته.

(وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)

إنّه كذلك سواء سبّحه الخلق أو لم يسبّحوه ، فهو بذاته عزيز لا يزيده التسبيح عزّا ، وحكيم تتجلّى حكمته في النظام الدقيق الذي فطر عليه خلقه وحكمه به ، كما تتجلّى في تدبيره لشؤونه المختلفة ، وليس بحاجة إلى الاعتراف من قبلنا بحكمته سبحانه ، كما لا تنصرف هاتان الصفتان إلى غيره لو اعتقدنا بألوهيّته ، ولعلّ الحكمة من بيان هاتين الصفتين أنّ الله لا يدبر الكائنات بقوته وحسب ، بل بالحكمة أيضا ، وأنّه يحقّ للكائنات أن يسبّحنه لأنّه تعالى مهيمن عليها بالقوّة والحكمة فهو أهل لذلك.

[٢] وتتصل الآيات بعضها حتى الآية السادسة تعرّفنا بربّنا عزّ وجلّ من خلال صفاته وأسمائه وأفعاله التي تتجلّى في الخليقة والتي تهدينا إلى أنّه يحقّ علينا تسبيحه ، وإنّما يشرك الإنسان بربّه لجهله به تعالى ، أما إذا عرف عظمته وهيمنته المطلقة على الخليقة فسوف تنسف تلك المعرفة كلّ الأفكار والعقد الشركية لديه ، إنّنا نشرك ببشر أمثالنا لأنّهم أعطوا شيئا من الملك والقوة ، ويحجبنا ذلك عن الإله الحق ، بلى. إنّهم قد يملكون رقعة من الأرض وبعضا من النعيم ، أو يكون لهم سلطان على الناس ، ولكنّ ذلك كلّه محدود ، لا يصيّرهم آلهة ، ولا يقاس بما عند الله.

(لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ)

بما فيهما ، وهو حقّا ملك واسع مطلق وحقيقي ، أمّا تملّك الناس للأشياء فهو

١٦

اعتباري محدود زمنا لأنّهم يموتون عنها ، وكمّا لأنّه قليل جدا بالنسبة إلى ملك الله الذي ينضوي تحته كلّ الوجود وكيفا لأنّ قدرتهم على التصرف فيه محدودة ، ولله الملك المطلق والقدرة اللّامحدودة ، والتي من مظاهرها الإحياء والإماتة.

(يُحْيِي وَيُمِيتُ)

كيف يشاء ، ومتى أراد ، لا يمنعه عن ذلك مانع أبدا ، وليس لسواه هذه القدرة في الملك ، والهيمنة عليه. وما دامت حياة الإنسان بيد الله فهل هو المالك أم الله؟ وكيف يملك شيئا من لا يملك حياته. أو ليس الإنسان يملك ما يملك بحياته التي تمكّنه من الحركة والتصرّف؟

ومع أنّ الحياة والموت من أبرز مظاهر الملك والهيمنة الإلهية على الخلق ، إلّا أنّ قدرته تعالى ليست محدودة في ذلك حسب ، بل هي مطلقة.

(وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)

أمّا نحن فلا نستطيع ان نفعل كلّ شيء وكيفما نشاء فيما نملك.

[٣] (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ)

لم يكن مثله أحد فهو أزلي ، وحيث تأخّر الوجود عنه فهو محدث من صنعه عزّ وجل ، وتتجلّى هذه الحقيقة مرة اخرى حيث يصير الخلق الى العدم ويبقى وجهه تعالى ، ولأنه الاول فهو الذي أحيا الخلق وأوجده ، ولأنه الآخر فهو الذي يميته بقدرته وحكمته ، كما انه الظاهر بلا خفاء ، فالوجود كلّه آيات تهدينا إليه ، لأنه القاهر فوق عباده.

(وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ)

١٧

ظاهر بأسمائه وصفاته وتجلّياته في الوجود ، تدرك ذلك حواس الإنسان ، ويراه قلبه وعقله ، وهو باطن بذاته التي لا يعلم كنهها أحد من خلقه ، ولكنّ ذلك لا يعني انّه غائب عن الخلق ، بل انّه نافذ علمه الى أعماق كلّ شيء.

(وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)

سعة علمه كسعة قدرته ، وتكفي هذه الآية تحسيسا للإنسان بشهود ربّه ، وردعا له عن اقتحام المعصية. وهناك صلة بين الآيتين (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) بالآية (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) فالعزّة بالقدرة المطلقة ، والحكمة بالعلم المطلق ، الذي هو أبرز جوانبها ومقوّماتها ، وربنا بعلمه يقدّر ويقضي ، وبقدرته يمضي ما قضاه.

وقد وردت بعض الاخبار في تفسير هذه الآية الكريمة تزيدنا بصيرة بها. ذكر المفسّرون دعاء عن النبي (ص) اعتبروه تفسيرا للآية ، وهو قوله : «اللهمّ أنت الاول فليس قبلك شيء ، وأنت الاخر فليس بعدك شيء ، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء ، وأنت الباطن فليس دونك شيء ، اقض عنّا الدين ، وأغننا من الفقر» (١).

وروي عن الامام الرضا (ع) وهو يبين ان الكلمات تشترك بيننا وبين ربّنا اشتراكا لفظيّا لا معنويّا ، ويستعرض بعض أسماء الله التي تختلف معانيها عمّا يوجد عندنا من أمثالها ، الى أن قال في معنى الظاهر والباطن :

«وأمّا الظاهر فليس من أجل أنّه علا الأشياء بركوب فوقها وقعود عليها وتسنّم لذراها ، ولكنّ ذلك لقهره ولغلبته الأشياء وقدرته عليها ، كقول الرجل :

__________________

(١) نور الثقلين / ج ٥ / ص ٢٣٤

١٨

ظهرت على أعدائي ، وأظهرني الله على خصمي ، يخبر عن الفلج والغلبة ، فهكذا ظهور الله على الأشياء ، ووجه آخر انّه الظاهر لمن أراده ، ولا يخفى عليه شيء ، وأنّه مدبّر لكلّ ما برأ ، فأي ظاهر أظهر وأوضح من الله تبارك وتعالى ، لأنّك لا تعدم صنعته حيثما توجّهت ، وفيك من آثاره ما يغنيك ، والظاهر منا البارز لنفسه والمعلوم بحدّه ، فقد جمعنا الاسم ولم يجمعنا المعنى ، واما الباطن فليس على معنى الاستبطان للأشياء بأن يغور فيها ، ولكنّ ذلك منه على استبطانه للأشياء علما وحفظا وتدبيرا ، كقول القائل : أبطنته ، يعني خبرته ، وعلمت مكتوم سرّه ، والباطن منا الغائب في الشيء المستتر ، وقد جمعنا الاسم واختلف المعنى» (١).

وجاء عن الامام الصادق (ع) شرح وتوضيح لمعنى القبل والبعد فقال : «جاء حبر من الأحبار الى أمير المؤمنين (ع) فقال : يا أمير المؤمنين! متى كان ربك؟ فقال له : ثكلتك أمك! ومتى لم يكن حتى متى كان؟ كان ربّي قبل القبل بلا قبل ، وبعد البعد بلا بعد ، ولا غاية ولا منتهى لغايته ، وانقطعت الغايات عنده فهو منتهى كلّ غاية» (٢)

وجاء في خطبة لأمير المؤمنين (ع) يذكّر بأسماء الله ، ويبين ضمنا معانيها ، ما يلي :

«الذي ليست له في اوليّته نهاية ، ولا في آخريته حد ولا غاية. الذي لم يسبقه وقت ، ولم يتقدّمه زمان. الاول قبل كل شيء ، والاخر بعد كل شيء ، والظاهر على كل شيء بالقهر له» (٣).

__________________

(١) نور الثقلين / ج ٥ ص ٢٣٤.

(٢) المصدر ص ٢٣٣

(٣) المصدر ٢٣٥

١٩

وقال أبو يعفور : سألت الامام الصادق (ع) عن قول الله عز وجل : «الاول والآخر» وقلنا : أمّا الاول فقد عرفناه ، وأمّا الآخر فبيّن لنا تفسيره؟ فقال : «إنّه ليس شيء إلّا يبدأ ويتغيّر أو يدخله التغير والزوال ، وينتقل من لون إلى لون ، ومن هيئة الى هيئة ، ومن صفة الى صفة ، ومن زيادة الى نقصان ، ومن نقصان الى زيادة ، إلا رب العالمين ، فانّه لم يزل ولا يزال بحالة واحدة ، وهو الاول قبل كل شيء ، وهو الاخر على ما لم يزل ، ولا تختلف عليه الصفات والأسماء ، كما تختلف على غيره مثل الإنسان الذي يكون ترابا مرة ومرة لحما ودما ومرة رفاتا ورميما ، وكالبسر الذي يكون مرة بلحا ومرة بسرا ومرة رطبا ومرة تمرا ، فتتبدّل عليه الأسماء والصفات ، والله عزّ وجل بخلاف ذلك» (١).

[٤] (هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ)

فالخلق آية على عزّته وقدرته ، والتقدير «في ستة أيام» آية لعلمه وحكمته ، ومرة أخرى نطرح هذا التساؤل : لماذا خلقهما في ستة أيام ، وهو القادر على خلقهما في أقلّ من لحظة «وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ»؟ قد سبق في سورة الأعراف بأن ذلك قد يدلّ على سنّة التكامل في الخليقة حيث يبارك الله فيها وينمّيها طورا فطورا ، يوما فيوما ، لحظة بلحظة ، مما يجعل لعامل الزمن تأثيرا كبيرا في العالم ، بتعبير آخر : الأيام الستة هي ظرف المخلوق ، ولا بد أن نعرف المخلوقات من خلال ظرفها الزمني حيث نستلهم ذلك من قوله سبحانه «ما خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى» (٢) مما يوحي بأنّ الأجل المسمى مساوق للحق في أنّه جزء من حقيقته ، والله العالم.

__________________

(١) المصدر / ص ٢٣٢

(٢) الروم / ٨

٢٠