من هدى القرآن - ج ١

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ١

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-04-1
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٧٣٦

التقوى :

رضا الله ، السلم ، العدالة

هدى من الآيات :

في هذا الدرس يبين لنا القرآن اهمية التقوى في مقاومة النفاق ويبين بعدا هاما من ابعاد التقوى الاجتماعية ، وهي (الوحدة) وتنازل الطرف المخالف للحق عن نزاعه في مصلحة صاحب الحق.

يبدأ الحديث : بدعوة الى السلم داخل المجموعة الاسلامية كهدف سام يجب على أبناء الامة تحقيقه والمحافظة عليه ، وتجعل الآية الناس كلهم مسئولين عن الوحدة.

ومن ثم يحذرهم القرآن من الاختلاف بعد البينة ، ويضرب لهم من قصة بني إسرائيل مثلا لكيفية الاختلاف بعد البينات الكثيرة ، بعد ان يقول ان عليهم ان يكتفوا بهذه النصوص في رفع الخلافات بينهم ، ولا ينتظروا ان يأتيهم الله في مظاهر عظمته حتى يحكم بينهم في خلافاتهم.

بعدئذ يبين السبب الجذري لكل الخلافات وهو حب الدنيا ، الذي يدفع

٣٦١

الإنسان الى البغي على الآخرين وفي أخر الآيات يحذر القرآن من الغطاء الفكري الذي يلبسه الإنسان حول حب الدنيا ، وبذلك يبرره بقيمة مزيفة. كما فعل الكفار عند ما جاءتهم البينات.

وبهذه الآية يمهد القرآن للحديث عن الموضوع التالي وهو : ان الخلاف المشروع الوحيد هو الخلاف المبدئي بين أهل الدنيا المتمثل في الكفار وأهل الحق.

ان التقوى هي الضمانة الاكيدة لمقاومة حالة النفاق. حيث يعيش الإنسان في داخله شخصا وفي الخارج يتظاهر شخصا آخرا ، فيعمل بالحسنات لأجل الرياء فقط ، كل ذلك لأنه لا يتمتع بروح التقوى الداخلية.

بينات من الآيات :

[٢٠٤] (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيُشْهِدُ اللهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ).

ويصورة صادقا لنا ، ويدعم كلامه أبدا باليمين.

(وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ).

في الجدل ، لدود.

[٢٠٥] (وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ).

هذه هي صفات المنافق الرئيسة ، وهي اربع صفات :

الاولى : انه معسول الكلام فيما يخص الحياة الدنيا ، يتحدث عنها بشهية مفتوحة ولعاب مسال وكأنه يتحدث عن حبيبته المفضلة في قلبه ، هذه الصفة نابعة

٣٦٢

من شعور المنافق بالنقص فيما يرتبط بالدنيا ، فهو يهتم بها اهتمام الجائع المنهوم بالرغيف.

الثانية : انه يكذب وهو يعلم انه يكذب ، ولكي يبرز كذبه بمظهر الصدق ، يحلف بالله كثيرا ، وهذه الصفة ناشئة عن تصوره الدائم بان الناس لا يصدقونه في أقواله.

الثالثة : انه ينفجر غيظا إذا عورض في كلام له ، ويحاول ان يثبت كلامه بالرغم من الاعتراض ، وذلك عن طريق مواصلة الجدل لأنه قد أجاد صناعة الكلام ولا غيرها.

الرابعة : إن عمله هو الفساد لا الصلاح ، فهو لا يحب أحدا ، ولا يحب ان يمتلك أحد شيئا ، ولذلك فامنيته الكامنة هي الا يعيش أحد ولا يبقى شيء سليما ، تراه يفسد بين الناس بالغيبة ، والنميمة ، والتهمة ، ويبخس الناس أشياءهم بالتحطيم ، والتكسير ، وعدم المبالاة و.. و.. إلخ.

وإذا اوتي القوة استخدمها في ابادة الحياة ، والزراعة ، والانتاج ، والناس أجمعين.

[٢٠٦] هذه صفات المنافق الظاهرية ، اما صفته الواقعية فهي عدم التقوى.

(وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ).

انه يصور نفسه فوق الحق وفوق قيم الله في الأرض ، فلا يرى ضرورة للخضوع للحق ، بل تأخذه العزة والانفة ، فاذا به يعتز بالأعمال السيئة التي يعملها ، ويصورها حسنة لمجرد انها صدرت منه ، فهو يعتز بالإثم بدل ان يعتز بالحق.

إن هذه هي صفة المنافق الجذرية وهي : التمحور حول الذات وجعلها مقياسا

٣٦٣

للحق ، وهي صفات مقابلة تماما للتقوى ، وهي جعل الحق مقياسا للحقيقة أبدا وعلى الإنسان ان يتمحور حوله لا حول نفسه.

ايّ عذاب اليم يجب ان يكون جزاء هذا المعاند الأثيم؟

لا شيء غير النار.

(فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهادُ).

[٢٠٧] عكس المنافق تماما ، المتقي الذي ليس لا يتمحور حول ذاته فقط ، بل يبيع ذاته لله أيضا.

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ).

وحين يشري نفسه يجعلها تدور مدار الحق وتتبعه انى اتجه ، سواء كان عند صديقه أو قريبه أو رئيسه ، أو كان عند خصمه البعيد عنه أو عبده أو مرءوسه. انه يعرف الحق ولا يعرف اية قيمة اخرى ذاتية كانت أو طاغوتية اجتماعية.

إنه لا يفكر بعد ان باع نفسه لله ان يثبت لأحد انه فعل ذلك ، أو انه مخلص ، أو يشهد الله على ما في قلبه ، كلا انه يعرف ان الله بصير به فيبقى مخلصا لربه العليم بحاله ، ويكفيه ذلك من الناس ، فتراه خاشعا لله مسلما له راضيا بأقداره ، نشيطا في ابتغاء مرضاته ، متصلبا في ذات الله ، ثائرا ضد أعداء الله ، لا ترهبه قوى العدو ، ولا تأخذه في الله لومة لائم.

هذه هي شخصية المتقي فهل نجدها في أنفسنا؟

الوحدة ضرورة جهادية :

[٢٠٨] المجتمع الاسلامي مجتمع حرب دفاعية ضد أعداء الانسانية وأعداء

٣٦٤

الرسالة ، ولا يمكن لهذا المجتمع ان يواجه تحديات الحرب من دون وجود وحدة داخلية متينة ، لذلك يدعو القرآن في الآية وقبل الحديث عن الحرب في الدرس القادم الى الوحدة ، ويجعلها مسئولية كل الإفراد ويقول :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ).

ان رحاب السلام يتلوث بالحساسيات الصغيرة التي تتراكم على بعضها حتى تصبح كسحابة داكنة ، وعلى اي فرد مسلم داخل المجتمع ان يقاوم نمو هذه الحساسيات ، ولا يتبع خطوات الشيطان منذ البداية ، لان الشيطان يستدرج الإنسان خطوة خطوة الى الجحيم.

فعلينا ان نحدد عدونا الحقيقي وعدو الجميع (الشيطان) ونتحذر من أول خطوة يدعونا إليها ، وهي الحساسية ضد أحد من إخواننا ، واعتباره عدوا لنا من دون الشيطان.

[٢٠٩] (فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ).

ثم يحذر ربنا المسلمين من السقوط في درك الخلافات الجاهلية النابعة من الشهوات ، وينذرنا بأنه عزيز فلا يفوته هارب ، ولا يغلبه غالب ، وانه حكيم يجازي الناس حسب أفعالهم لا حسب أهوائهم وامنياتهم وادعاءاتهم.

مسئولية الحفاظ على الوحدة :

[٢١٠] وهذا يعني اننا نحن المسؤولون عن المحافظة على وحدتنا بالاعتماد على هدى الله وبيناته ، وليس من الصحيح ان ننتظر الله ان يأتي ويفض خلافاتنا ، أو ننتظر مثلا الامام الحجة (ع) حتى يصلح ما بيننا بطريقة غيبية ، انها آنئذ قيام

٣٦٥

الساعة ، وهنالك لا مسئولية على أحد ، كما ولا تؤخر العقوبة عن أحد.

(هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ).

كناية عن مجيء الله (سبحانه) مع كل ملكوته.

(وَقُضِيَ الْأَمْرُ).

أي آنئذ انتهت حياة المسؤولية ، وآنئذ تتبدل الحياة ، فلو أراد الله بالجبر ان يصلح بين العباد بالخير ، فالحياة غير هذه الحياة ، اما هنا فنحن بأنفسنا مسئولون عن تصفية خلافاتنا ، ثم بعدئذ نمثل امام الله للمحاكمة في الآخرة.

(وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ).

[٢١١] والأمم السابقة لم تنزل عليهم ملائكة الله ، بل نزلت عليهم البينات ، وكان عليهم ان يستفيدوا منها في تحقيق مسئولياتهم ، ومع ذلك فان بعضهم لم يستفد منها. بل بدل فيها وحرف وما ظلموا إلّا أنفسهم.

(سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ).

لكن بعضهم بدل هذه الآيات.

(وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ).

وقد يكون العقاب في صورة شياع الفوضى بينهم ، وضرب بعضهم ببعض نتيجة إهمالهم لرسالة الله ، وتورطهم في الخلافات الداخلية.

لماذا الاختلاف؟! :

[٢١٢] ولكن يبقى السؤال الهام : لماذا أساسا يختلف الناس؟ وما هو جذر

٣٦٦

المشكلة؟

الجواب : انهم يختلفون لان الدنيا زينت لقلوبهم ، ولكن المؤمن لا يتمحور حول الدنيا بل الاخرة ، ولذلك فهو يتقي الدنيا وشهواتها وفواحشها ، وهنا يظهر جليا مدى اهمية التقوى في إنشاء حياة كريمة ، لأنها تسحب فتيل الخلافات الاجتماعية المتمثلة في حب الدنيا.

(زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا).

لأنهم لا يأبهون بالدنيا كثيرا ، بينما الحقيقة انهم هم الفائزون.

(وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ).

والدنيا الفاضلة لا يحصل عليها كل من أرادها ، بل هناك سبل يجب السير فيها حتى نصل الى الدنيا الكريمة ذات النعم المتكاملة ، وهي موجودة في ايات الله وفي طليعتها قانون الوحدة (الدخول في السلم كافة) إنه باب يؤدي الى رزق الله.

(وَاللهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ).

[٢١٣] وكمثل على ذلك لنقرأ قصة الرسالة الاولى ، فالبشر كانوا جميعا على الضلالة ، فجاءت رسالة الله. ومن اهدافها الرئيسية توحيد الناس على الحق ، ورفع اختلافهم فيه ، ولكن اختلف بعض ممن اوتي الرسالة لماذا؟ هل لأنهم لم يملكوا ما يرفع اختلافاتهم؟

كلا بل لأنّه كانت توجد هناك طائفة منهم يقومون بظلم الناس والبغي عليهم ، وجاءت الرسالة ضد البغي ، فعارضت مصالحهم المؤقتة فقاوموها أشد المقاومة ، إذ ان جذر الخلافات هو البغي ، وإذا تخلص الناس منه استراحوا.

٣٦٧

(كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ).

وكانت هذه وسيلتهم لتوجيه الناس ، لا المال ولا القوة ، بل التبشير بحياة أفضل والإنذار من العذاب ، (الترغيب والترهيب).

(وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ).

كان يريد بعضهم ظلم البعض الآخر فكانوا يختلفون في الأمر ، وهنا استفاد المؤمنون بالرسالة بينما خسر الكافرون ، والمؤمنون انّما اهتدوا لأنهم رضوا ان يكون الحق مقياسا بينهم.

(فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ).

أما المؤمنون فقد اتخذوا من هدى الله ورسالته اداة لتوحيد صفوفهم ، وحل خلافاتهم ، بينما الكفار لم يفعلوا مثل ذلك ، لأنهم كانوا يريدون البغي وليس الحق.

٣٦٨

أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ (٢١٤) يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ (٢١٥) كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا

____________________

٢١٤ [زلزلوا] الزلزلة شدة الحركة والزلزال البلية المزعجة لشدة الحركة والجمع زلازل وأصله من قولك زلّ الشيء عن مكانه ضوعف لفظه لمضاعفة معناه نحو صر وصرصر فاذا قلت زلزلته فتأويله حركته عن مكانه.

٢١٦ [كره] الكره بالفتح المشقة التي تحمل على النفس والكره بالضم المشقة على النفس حمل أو لم يحمل وقيل الكره الكراهة

٣٦٩

شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٢١٦) يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ

____________________

والكره المشقة وقد يكره الإنسان ما لا يشق عليه ، وقد شق عليه ما لا يكرهه.

٢١٧ [صدّ] الصد والمنع والصرف نظائر يقال صد عن الشيء يصد صدودا إذا أعرض وعدل عنه وصدّ غيره صدا إذا عدل به عنه ومنعه وأصل الباب العدول.

[لا يزالون] يدومون. وما زال أي دام.

[حبطت] حبط عمل الرجل حبطا وحبوطا وأحبطه الله والحبط فساد ما يلحق الماشية في بطنها لأكل الحباط وهو ضرب من الكلأ يقال حبطت الإبل إذا أصابها ذلك ثم سمي الهلاك حبطا.

٣٧٠

هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢١٧) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللهِ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢١٨)

____________________

٢١٨ [هاجروا] الهجر ضد الوصل يقال هجره يهجره هجرانا وهجرا وهجرة إذا قطع مواصلته وهجر المرض يهجر هجرا إذا قال ما يهجر من الكلام وسموا المهاجرين لهجرتهم قومهم وأراضيهم.

[جاهدوا] جاهدت العدو ومجاهدة وجهادا إذا حملت نفسك على المشقة في قتاله.

٣٧١

الْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ

هدى من الآيات :

بالرغم من ان هذه الآيات تبين لنا جوانب من فريضة القتال. الا انها ليست مرتبطة بآيات (الجهاد الاسلامي) بل هي متصلة ببناء شخصية الامة ، التي تتميز بالتقوى وبالتمحور حول الحق ، في رد الخلافات الى الإسلام ، وأيضا بالاستقامة والتصلب في التمسك بالرسالة ، وعدم التهاون فيها رغم الصعوبات التي تعترض طريقها.

ففي الآية الاولى نجد كيف ان الله يبشر الامة بالأيام الصعبة التي تستقبلها ، وينذرها بأنها لو لم تستقم فيها على الحق. فان الجنة حرام عليها. ثم يتحدث عن الإنفاق باعتباره فريضة مقارنة لايام الشدة. وبعدئذ يبين لنا ان القتال كره لكم. ولكن لا بد لكم منه ، وان هدف العدو من القتال هو استلاب دينكم واعادتكم الى أغلال الكفر. وعليكم ان تصمدوا ضده ، ويبشر أخيرا الصامدين في وجه الضغوط بكل خير.

٣٧٢

وربما تكون الآية الاولى من الدرس القادم متصلة بالحديث عن الاستقامة والتصلب ، إذ انها تحرم الخمر والميسر وهما اداتا تمييع للامة ، وتسبّبان ابعادها عن الجدية الرسالية.

بينات من الآيات :

[٢١٤] حفت الجنة بالمكاره ، ومن أراد ان يدخلها فعليه ان يقتحم هذا السور الشائك. ولكن هل يعني ذلك ان أهل الجنة في شقاء دائم؟

كلا. بل يعني انهم يتمتعون بالقوة والصلابة التي تجعلهم مستعدين لكل الظروف. وهي تعطيهم مناعة من الاستسلام للضغوط ، وتحدي محاولات الاستبعاد.

(أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ)

عبثا وبلا ثمن ودون ان تكونوا من أهل الجنة الذين امتحنوا بالفتن الصعبة ونجحوا فيها.

(وَلَمَّا يَأْتِكُمْ)

أي دون ان يواجهكم.

(مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ)

البأساء هي الصعوبات التي منشؤها العدو. والضراء الصعوبات المادية كالفقر والمرض. (١).

__________________

(١) مجمع البيان ج ١ ص ٣٠٩

٣٧٣

(وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللهِ)

لهول الصعوبات والخسارة ، كانوا يستعجلون نصر الله ، وعند ما تصل الصعوبة الى ذروتها يجب ان نأمل الفرج.

(أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ)

وهذه الآية تعني ان الذين يحلمون بالجنة مجانا وبلا ثمن إنما يحلمون باطلا وسيجدون أنفسهم في النار.

الجنة ليست مزرعة الدواجن ولا مربض الأغنام ، انها مقام الرجال ومكتسب الابطال. وعهود التخلف والابتعاد عن صلابة الرسالة وخشونتها هي المسؤولة عن هذه النظرة اللامسؤولة الى الجنة ، ولهؤلاء يقول الامام علي (ع) «هيهات هيهات لا يخدع الله عن جنته»

الإنفاق سبيل التضحية :

[٢١٥] وكما في الحرب فهناك في السلم فتنة وبلاء يتمثل في ضرورة الإنفاق ، والإنفاق هو الاعداد النفسي الخارجي للحرب ، وهنا يشير القرآن الى الجانب النفس من الإنفاق إذ يجب ان يكون خالصا لله ، حتى يربي صاحبه على العطاء والتضحية ، ذلك ان التضحية ، كأية صفة نفسية اخرى ، تحتاج الى التدريب فهي تنمو شيئا فشيئا ابتداء من التضحية بالمال القليل ، ثم المال الكثير ، ثم القتال والصمود وهكذا ، لذا يحدد القرآن هنا جهة الإنفاق ، لعلاقته الوثيقة بالتضحية بالنفس ، وقلما تحدث القرآن عن التضحية بالنفس دون ان يقرنها بالتضحية بالمال.

(يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ)

فكل خير يمكن إنفاقه ، ولكن علينا ان نحدد وجهته وهي : ابتغاء مرضاة الله.

٣٧٤

بعيدا عن الاهداف المادية أو الرياء ، بل للوالدين.

(وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ)

[٢١٦] الامة المسلمة تتميز بالاستقامة على الحق ، والتضحية رغم صعوبتها ، وها هو القتال مفروض عليها ، بالرغم من انه مكروه على الإنسان.

(كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ)

الحق هو محور الإنسان الرسالي والامة المؤمنة لا الحب والكره المجردين ، ذلك لان الحق ينفع الإنسان والباطل يضره ، بالرغم من ان النفس تميل الى الباطل وتزعم انه أصلح لها. والله هو الذي يحدد الحق ، اما الناس فهم لا يعلمونه دائما ، لأنهم محجوبون عنه بالشهوات التي تزيّن لهم الباطل وتصوره حقا لهم.

(الْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ) :

[٢١٧] هل يجوز القتال في الأشهر الحرم أم لا؟

كلا ولكن ليس هذا هو السؤال الاساسي عند القرآن ، ان السؤال هو : ما هو الهدف من القتال لأنه المقياس في الدين؟

(يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ)

ما هي الفتنة هنا؟

إنها مصادرة حرية الإنسان ومصادرة حقوقه واكراهه على الكفر ، هذه هي الفتنة

٣٧٥

في هذه الآية ، والقتل والقتال يستهدف تطهير الأرض من عناصر الفتنة ، وبالرغم من ان القتل عملية شاذة أساسا ، لكن الإسلام يلجأ إليها لدفع ما هو أكبر ضررا منه وهو الفتنة.

من هنا فالقتال من أجل الحرية والحقوق قتال مشروع ، لأنه قتال من أجل المبادئ الرسالية التي تريد تصفية عناصر الفساد ، أولئك الذين لا يمكن مهادنتهم لأنهم لا يقفون عند حد معين في فسادهم.

(وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطاعُوا)

فهم يحاربون المبادئ الرسالية ويحاربون المعتقدين بها ، وعلينا ان نقاتلهم دفاعا عن مبادئنا ، وان لا نخضع لاهوائهم التي تشتهي أن تسرق منّا قيمنا.

(وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ)

لان قيمة الإنسان انما هي برسالته التي يلتزم بها ويدافع عنها حتى الموت ، فاذا تنازل الإنسان عن رسالته فقد تنازل عن قيمته رأسا ، إنه إذا يذل إذلالا ، ويحرم من حقوقه ، ويتعرض لامتصاص جهوده واعماله ومكاسبه ، فيكد من الصباح حتى المساء من أجل ان يستريح اسياده ومستعبدوه على الكراسي ويترفوا على حسابه ، اما في الآخرة فان الله يسوقه الى النار ، وحتى عباداته البسيطة (الصلاة ، الصيام ، .. إلخ) سوف تحبط هي الاخرى ، لأنه لم يحافظ على حريته ، ولأنه أطاع الطاغوت في أهم أجزاء حياته ، وجعل طاعة الله محدودة ببعض الجزئيات. انه سوف يقضي حياته في النار.

[٢١٨] هذا عن أولئك الذين يستسلمون لضغوط الطاغوت ، ويتنازلون عن

٣٧٦

دينهم وحريتهم وجهودهم للعدو ، أما الذين يهاجرون في البدء ليشكلوا قوة فلا.

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللهِ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)

ان هؤلاء يحدوهم الأمل بالانتصار على العدو في الدنيا ، والجنة في الآخرة ، وهذا الأمل سوف يتحقق بفضل الله لهم.

٣٧٧

يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما وَيَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (٢١٩) فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ

____________________

٢١٩ [الخمر] أصله الستر والخمر ما وأراك من الشجر وغيره ومنه الخمار للمقنعة ويقال : خامرة الداء إذا خالطه وخمرت الإناء أي غطيته وأصل الباب الستر. ومنه الشراب المعروف وسمي خمرا لأنه يغطى العقل ويستره.

[الميسر] القمار اشتق من اليسر وهو وجوب الشيء لصاحبه من قولك يسر لي هذا الشيء ييسر يسرا وتيسرا إذا وجب لك والياسر الواجب لك بقداح وجب لك وقيل للمقامر ياسر ويسر أي قامر وقيل أخذ من التجزئة وكل شيء جزأته فقد يسرته.

٣٧٨

الْمُصْلِحِ وَلَوْ شاءَ اللهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٢٠) وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللهُ يَدْعُوا إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٢٢١) وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ

____________________

٢٢١ [تنكحوا] النكاح اسم يقع على العقد والوطء. وقيل أصله الوطء ثم كثر استعماله حتى قيل للعقد نكاح ويقال نكح ينكح إذا تزوج.

[أمة] الأمة المملوكة. يقال أمة بينة.

٢٢٢ [المحيض] حاضت المرأة تحيض حيضا ومحيضا ومحاضا. وهو الدم الذي يصيب المرأة في أوقات معلومة.

[فاعتزلوا] الاعتزال التنحي عن الشيء وكل شيء نحيته عن موضع فقد عزلته عنه ومنه عزل الوالي ، وأنت عن هذا بمعزل أي تنح

٣٧٩

وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (٢٢٢) نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (٢٢٣) وَلا تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٢٤) لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (٢٢٥)

____________________

[يطهرن] الطهر خلاف الدنس والطهور يكون اسما ويكون صفة.

ويطهرن إذا اغتسلن وقيل توضأن.

٣٨٠