من هدى القرآن - ج ١

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ١

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-04-1
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٧٣٦

وتعاليتم عليه ، لأنكم في رأيكم الشعب المختار لله ، والله قد منّ عليكم بقيم وأفكار وعادات لا يوجد مثيل لها في العالم ، وبالتالي ليس في الرسالة الجديدة أي شيء جديد يمكن ان يضاف الى رسالتكم .. انكم تعديتم الحد في تعاملكم مع رسل الله.

(فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ)

وسواء كذبتم أو قتلتم فان الخاسر الوحيد هو أنتم.

سبب التكذيب :

[٨٨] لما ذا كذبتم بالرسل؟

لأنكم انغلقتم على عنصريتكم الضيقة ، ولكن أليس بامكانكم فك حصار العنصرية والتحرر من رجعيتها وجمودها؟ .. بلى ، فأنتم إذا المسؤولون عن كفركم مباشرة ، ولا يجديكم أبدا : التبرير بأنكم منغلقون نفسيا في التملص من مسئولية كفركم بالرسالة الجديدة.

(وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ)

لا تدخلها نصائح جديدة أو تعاليم. كلا ، ان الله لم يخلق بعض القلوب منغلقة وبعضها منفتحة ، انما الناس بكفرهم أو ايمانهم ينفتحون أو ينغلقون امام التوجيهات الجديدة.

(بَلْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ)

فكفرهم هو الذي سبب انغلاق قلوبهم.

(فَقَلِيلاً ما يُؤْمِنُونَ)

٢٠١

إذا أصبح الايمان بالنسبة إليهم مهمة صعبة ، قلما يقوم بها الناس العنصريون الذين اختاروا الكفر على الايمان.

[٨٩] ثم يضرب الله مثلا آخر من واقعهم العنصري ، انهم انغلقوا عن نور الرسالة الجديدة التي هبطت مع النبي محمد (ص) بالرغم من انهم كانوا ينتظرونها ، وذلك لأنهم وجدوا انها نزلت في غيرهم.

(وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا)

بهذا الكتاب الجديد ، وينتظرون مقدمه حتى يحاربوا به كفار الجزيرة العربية.

(فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا)

انه من الله ، وأنّه رسالة جديدة يحتاج إليها العالم وبالذات محيطهم المتخلف من الشعب الجاهلي.

(كَفَرُوا بِهِ)

وماذا ينتظر من يكفر بهذه الرسالة التي يحتاج إليها الناس جميعا ، ويعترف هو بحاجة الناس إليها ، أو ليس الابتعاد عن السعادة والفلاح؟

(فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكافِرِينَ)

[٩٠] لماذا وكيف تنشأ العنصرية؟

تنشأ العنصرية أساسا من حب الدنيا والعمل من أجل المصالح المشتركة

٢٠٢

لمجموعة بشرية ، وتتضخم هذه المصالح في نفوسهم حتى تتحول الى عنصرية ، والسؤال الآن : ماذا لو أصبحت العنصرية شرا على أصحابها ، هل عليهم التشبث بها الى الأبد؟

القرآن الحكيم يذّكّر هؤلاء العنصريين بمدى الخسارة التي تلحقهم في الدنيا بسبب هذا التفكير الارعن ويقول لهم بلغة فطرية مبسطة.

(بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ)

أي بئست الذاتية والعنصرية التي تعني ان يبيع الإنسان كل شيء في الحياة ، ويشتري في مقابلها نفسه ، وبتعبير أخر : بئست العملية هذه التي يضحي الإنسان بكل شيء في سبيل مصالحه الذاتية ، إذ أن ذلك سوف يسبب لهم الدمار لأنه سوف يؤدي الى.

(أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللهُ بَغْياً)

بما أنزل من الكتاب والحكمة والنور والهدى وكل خير ، لماذا؟ بسبب التفكير العنصري وذلك بالاحتجاج ب ..

(أَنْ يُنَزِّلَ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ)

فبما أنّ الله اختار لرسالته مهبطا أخر غير بني إسرائيل كفروا بالرسالة ، فمن هو الخاسر غيرهم. هل صحيح مثلا ان يمتنع أحد المواطنين من أخذ ارض تقسّمها الدولة لمجرد ان الموظف ليس ابن عمه ، وماذا يضره ما دام أنه يأخذ الأرض ويحقق هدفه بها ، لذلك فان هؤلاء خسروا أنفسهم.

(فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ)

٢٠٣

إذ كانوا في تخلف ، فأصبحوا أشد تخلفا بسبب تقدم غيرهم عليهم ، حين آمن الناس بالرسالة وكفروا هم بها. وكانوا كفارا فازدادوا كفرا.

(وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ)

وانهم سوف لا يحققون هدفهم من الاستكبار عن الايمان بالرسالة. إذ ان هدفهم العزة والتعالي ، بينما كفرهم بالرسالة سوف يسبب لهم التخلف والجمود وألوان المشاكل وبالتالي يسبب لهم الذل والعذاب المهين.

[٩١] ثم يكشف القرآن جانبا آخر من العنصرية ، وهو ان العنصرية ذاتها نتيجة وليست سببا ، وسبب العنصرية هو حب المال ، ورمزه المتمثل في عبادة العجل.

وهؤلاء يحبون المال حبا أعمى ، ويزعمون انه سوف يحقق كل طموحاتهم ، ويعطيهم العزة والسعادة. لذلك تجدهم لا يؤمنون بالرسالات الجديدة خشية ان يفقدهم الايمان بها بعضا من امتيازاتهم ومكاسبهم الخاصة ، ولكنهم لا يصرحون بذلك ، بل يقولون اننا نكتفي بما عندنا من كتاب وحكمة.

(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ)

ولكنهم يكذبون في ذلك ، ويدل على كذبهم ان هذا الكتاب لا يختلف عن كتاب الله الذي انزل عليهم.

(وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ)

انما يكفرون بهذه الرسالة حتى لا يفقدوا زعامتهم ومكاسبهم ، والدليل على

٢٠٤

ذلك انهم كانوا يقتلون الأنبياء الذين أرسلوا إليهم لذات السبب.

(قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)

[٩٢] حتى موسى الذي تدعون انكم تتبعونه كفرتم به مع انه جاءكم بالبينات الواضحة.

(وَلَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ)

ثم كفرتم به ، إذا فالتبرير بأن رسالة محمد (ص) نزلت على غيرنا ولذلك لا نؤمن بها تبرير خاطئ ، وأنّ السبب الحقيقي هو المحافظة على المصالح الذاتية التي تعيش في لا وعيكم أو حتى في وعيكم.

اما قصة عبادة العجل في اللاوعي ، حيث لم تزل جذور عبادة المال متأصلة في نفوسكم ، فكانت مع موسى أول مرة حيث انكم آمنتم به ظاهرا.

(ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ)

حيث خدعكم السامري بعد ان ذهب موسى لميقات ربه ، ودفعكم شعوركم السابق بقداسة العجل الى اتباعه.

[٩٣] اما قصة عبادتكم العجل بشكل ظاهر فكانت بعد ان أخذ الله ميثاقكم.

(وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قالُوا سَمِعْنا وَعَصَيْنا)

لماذا العصيان بعد السماع؟ لأنهم في الواقع لا يزالون يعبدون المال ورمزه

٢٠٥

العجل.

(وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ)

حتى أصبح حب العجل في قلوبهم كالماء حين تشربه الأرض اليابسة ، يمتزج مع كل ذرة من تراب الأرض ، فكيف يمكن فصل الماء عن الأرض. انه يشبه المستحيل ولكنه ليس مستحيلا لان الايمان يمكنه ان يطهّر القلب من مزيج الكفر لو وجد هناك ايمان صادق ، وهؤلاء لم يشرّب قلوبهم حب العجل الا.

(بِكُفْرِهِمْ)

الحقيقي ، وايمانهم الكاذب ، إذ ليس هنالك ايمان يتعايش مع الكفر ، ويأمر بالكفر كلا.

(قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)

الايمان الصادق يأمر صاحبه بالتضحية وتصديق الحق أنّى كان وبالتسليم لأمر الله. وما عندكم ليس ايمانا بالمرة .. انما هو كفر ملبس بظاهر من الايمان.

٢٠٦

(قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٩٤) وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (٩٥) وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (٩٦) قُلْ

_________________

٩٤ [خالصة] الخالصة الصافية يقال خلص لي هذا الأمر أي صار لي وحدي وصفا لي.

٩٦ [أحرص] الحرص شدة الطلب.

[يود] المودة المحبة.

[يعمّر] التعمير طول العمر وأصله من العمارة الذي هو ضد الخراب.

[بمزحزحه] الزحزحة التنحية.

٢٠٧

مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللهِ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (٩٧) مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ فَإِنَّ اللهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ (٩٨) وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ وَما يَكْفُرُ بِها إِلاَّ الْفاسِقُونَ (٩٩) أَوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (١٠٠))

_________________

٩٩ [آيات] الآية العلامة التي فيها عبرة وقيل العلامة التي فيها الحجة.

[بينات] البينة الدلالة الفاصلة الواضحة بين القضية الصادقة والكاذبة مأخوذة من إبانة أحد الشيئين من الآخر ليزول التباسه به.

١٠٠ [نبذه] النبذ طرحك الشيء عن يدك أمامك أو خلفك وقيل معنى نبذه تركه وقيل ألقاه.

٢٠٨

العنصرية والكفر بالملائكة

هدى من الآيات :

في هذه المجموعة من الآيات ، لا يزال القرآن يحدثنا عن العنصرية ، ومدى ارتباطها بحب الذات والانانية ، وانها ليست في الواقع الا إطارا لممارسة الكفر ، بالرغم من ظاهر الايمان فيها. والدليل على ذلك ، تشبث العنصريين بالحياة وعداؤهم لجبرائيل وميكائيل ومن ثم عداؤهم لله والرسل ، هذا العداء الذي يسبب الدمار عليهم.

بينات من الآيات :

[٩٤] العنصريون في التاريخ وفي عالمنا اليوم ، يغلفون انانيتهم المقيتة بغطاء من القيم الزائفة ، ليخدعوا الناس والبسطاء من أصحابهم. فالاسرائيليون قديما كانوا يدعون انهم حملة الرسالة ، وللمحافظة على هذه الرسالة لا بد ان يدافعوا عن ذاتهم ويعملوا في سبيل دعم الذات بأية وسيلة ممكنة. وهم اليوم يدعّون انهم حملة الحضارة للعرب ، (الحرية+ التقدم) وعليهم ان يؤدبوا العرب الوحوش بأية وسيلة ممكنة حتى

٢٠٩

ولو كانت هذه الوسيلة أكثر وحشية من شرائع الغاب. والنازية كانت تدعي حمايتها للكنيسة ، وتقوم بأعمالها تحت غطاء اسم الله ، والبيض في افريقيا يقولون انهم طلائع الحضارة الغربية ، والاستعمار قبلئذ كان يدعي انه يحمل العمارة والحضارة الى العالم.

ولكن هذا الخداع الذاتي سوف يذوب في وهج الحقيقة التي يذكرنا بها القرآن هنا ، حين يأمر هؤلاء بالموت في سبيل اهدافهم هذه .. فهل هم مستعدون لذلك؟ كلا.

(قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ)

وانكم تدافعون عن قيم الله في الأرض إذا.

(فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ)

[٩٥] ولكن هل يفعلون ذلك؟ كلا.

(وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً)

لأنهم يعرفون مدى الجرائم التي اقترفوها في حياتهم وانه ينتظرهم هنالك جزاؤهم العادل.

(بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ)

[٩٦] وهؤلاء ليس فقط لا يتمنون الموت بل بالعكس يتشبثون بالحياة بعنف.

(وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ)

انهم احرص على حياة ، اية حياة كانت ، بذل أم بعز ، بفقر أم بغنى ، بقيم أو

٢١٠

بدون قيم ، بل انهم احرص من الكفار الذين لا يملكون اية قيم.

(وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ)

ولكن لو افترضنا انه عمّر الف سنة فهل يتخلص من العذاب .. كلا.

(وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ)

من الجرائم وسوف يعاقبهم عليها عاجلا أم آجلا.

[٩٧] ان عداء هؤلاء مع الرسالة الجديدة ناشئ في الواقع من عدائهم للحق ، فهم يعيشون حالة التناقض بين الحق وبين مصالحهم الذاتية ، والحق يمثله جبريل ملك الوحي ، ملك القضاء.

(قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ)

فليعرف ان جبريل هو ملك الوحي وانه يهبط بالكتاب من السماء.

(فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ)

ولكن جبريل بدوره ليس الا مأمورا من قبل الله ، فهو لم ينزل الكتاب على النبي محمد (ص) من قبل نفسه ، بل.

(بِإِذْنِ اللهِ)

والدليل على انه من قبل الله كونه.

مصدقا لما بين يديه

٢١١

من الكتب السابقة ثم انه هدى وبشرى لمن آمن به.

(وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ)

[٩٨] إذا فالعداء للحق يصعد الى العداء لجبريل ، ومن ثم لله ، وهل يستطيع ان يعادي البشر ربه.

(مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ فَإِنَّ اللهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ)

وسوف يعاقبهم الله إذ لا يمكن التفريق بين الله وبين ملائكته أو رسله ، ولا بين رسله بعضهم عن بعض.

[٩٩] والقضاء والقدر (السنن الثابتة والمتطورة في الحياة) متمثلة الآن في رسالة محمد (ص).

(وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ)

والذين يخالفونها ويكفرون بالرسالة ، لا يستطيعون ان يؤمنوا بشيء.

(وَما يَكْفُرُ بِها إِلَّا الْفاسِقُونَ)

الذين يخالفون عهد الله.

[١٠٠] ولكن الى متى يخالف الإنسان عهده مع الله.

(أَوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ)

هو ذلك الفريق الذي يخالف العهد مصالحه ، مما يدل على انهم لا يتبعون الدين

٢١٢

ولا يلتزمون بالعهود ، بل يتبعون ـ في الواقع ـ أهواءهم.

(بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ)

بالحق انما بما تمليه مصالحهم الذاتية وشهواتهم واهواؤهم.

٢١٣

(وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ (١٠١) وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ

_________________

١٠٢ [اتبعوا] اتبع اقتدى به.

[تتلوا] تتبع والتالي تابع وقيل معناه تقرأ من تلوت الكتاب أي قرأته.

[السحر] عمل خفي لخفاء سببه يصور الشيء بخلاف صورته ويقلبه عن جنسه في الظاهر ولا يقلبه عن جنسه في الحقيقة.

[فتنة] الفتنة الامتحان والاختبار يقال فتنته فتنة.

٢١٤

فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَيَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (١٠٢) وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ خَيْرٌ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (١٠٣))

_________________

[خلاق] نصيب من الخير.

١٠٣ [مثوبة] الثواب والأجر والأصل في الثواب ما رجع إليك من شيء.

٢١٥

السحر والشعوذة .. نهاية المطاف

هدى من الآيات :

بعد مرحلة القوة جاءت مرحلة الضعف في امة بني إسرائيل ، وبعدها كانت العنصرية ، ومن ثم تأتي مرحلة الخرافة المتمثلة في السحر والشعوذة.

حيث ان الامة العنصرية تنغلق على ذاتها .. «وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ» وتبتعد عن توجيهات الله ، وعن سنن التاريخ ، وتجارب الناس ، وتستكبر على الحق وليس امامها بعدئذ الا الهبوط الى حضيض السحر والشعوذة.

فيتناول القرآن الحكيم هذه المرحلة بايجاز فيبدأ بالحديث عن ترك بني إسرائيل للكتاب ليبين الله أنه السبب في تشبثهم بالسحر. لان من لا يمتلك تفسيرا صحيحا للحياة ورؤية علمية الى اهدافها ، يضطر الى البحث عن تفسيرات غيبية ورؤي باطلة.

وحيث يتحدث عن السحر ينفي القرآن قصة مختلقة من بني إسرائيل تزعم ان السحر من الله ، وينهي الحديث ببيان ان التمسك بالكتاب أفضل لهم من التشبث بالسحر.

٢١٦

بينات من الآيات :

[١٠١] (وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ)

[١٠٢] وبسبب هذا النبذ وجد فراغ ثقافي في حياتهم فالتفتوا الى السحر والشعوذة والأفكار الغيبية الباطلة فلم يجدوها الا عند الشياطين.

(وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ)

من السحر ، ذلك ان سليمان كان نبيا من بني إسرائيل وملكا ، وكانت الشياطين تخدمه ، وقد خلفت وراءها مجموعة من الأفكار الباطلة.

هؤلاء تركوا الكتاب المنزل من الله الذي كان هو الحق مصدقا لما بين أيديهم وما خلفهم ثم ذهبوا واتبعوا أفكار الشياطين. هذه نهاية العنصريّة أنها لا تفرق بين أفكار شياطين الملك ، ان كانت من نفس العنصر وبين الأفكار الصحيحة التي يأتي بها نبي مرسل من الله.

والمشكلة انهم قالوا : ما دامت هذه الأفكار من بنات فكر الشياطين الذين كانوا حول سليمان ، وما دام سليمان نبي الله ، فاذا هذه الأفكار هي من الله سبحانه ، ولكن الله نفى بشدة هذه المعادلة الباطلة.

وقال :

(وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ)

والسحر هو الكفر لأنه يربط الحياة بقوى غيبية غير الله سبحانه.

(وَما أُنْزِلَ)

٢١٧

السحر أبدا كما تدعي هذه الطائفة العنصرية.

(عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ)

فهاروت وماروت ما كانا ملكين ، ولذلك لا يمكن ان تنزل عليهما رسالة إلهية.

(وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ)

وهل من المعقول ان يبعث الله نبيين يخدعان الناس؟!

(فَلا تَكْفُرْ)

إذ ان نسبة السحر الى الله هو كفر بذاته.

والسحر لا يمكن ان يكون من قبل الله لأنه يخالف مسيرة رسالاته ويتناقض معها تناقضا كليا ، إذ ان رسالات الله دعوة الى الترابط والانتفاع في الحياة ، بينما هؤلاء يتعلمون من السحر التدابر والضرر.

(فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ)

ولكن هذه التفرقة ليست حتمية إذ ان السحر لا يؤثر تأثيرا أكيدا في الحياة بل الله وسننه ، وارادة الإنسان هي التي تؤثر في الحياة.

(وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ)

اي انهم لا يضرون اي أحد بالسحر الا عبر قوانين الله ، فالله ورسالاته أجدر بالاتباع وعموما : السحر يضر ولا ينفع. بينما رسالات الله تنفع ولا تضر.

(وَيَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ)

٢١٨

ورسالات السماء تنفع الإنسان في الآخرة بينما السحر لا ينفع هنالك شيئا.

(وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ)

اي ان اي نصيب لا يملكه الساحر في الآخرة لطبيعة اعماله المنافية للدين في الدنيا.

(وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ)

أنه تفرقة وضرر في الدنيا ، وخسارة في الآخرة.

[١٠٣] (وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا)

برسالات الله.

(وَاتَّقَوْا)

بتطبيقها على أنفسهم تطبيقا سليما كان أفضل لهم. إذ.

(لَمَثُوبَةٌ)

وجزاء حسن.

(مِنْ عِنْدِ اللهِ خَيْرٌ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ)

بيد ان العنصريين لا يفقدون هدى الرسالة وحدها بل يفقدون العلم أيضا ، والعلم بعيد عن السحر بعد الأرض عن السماء.

هذه نهاية المطاف لبني إسرائيل ، وفي مراحل حياتهم عبر كثيرة لنا ، وللأمم.

٢١٩

وخلاصة الدرس ..

ان مخالفة رسالة السماء ومن ثم ضعف تطبيق أوامر الله سيؤدي الى العنصرية ، ثم الى فقدان كل شيء ، وآخر ما يفقده الإنسان بسبب العنصرية هو العلم.

٢٢٠