من هدى القرآن - ج ١

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ١

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-04-1
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٧٣٦

الحاكمية الالهية

هدى من الآيات :

بالرغم من ان هذا الفصل يعالج ـ فيما يترائى ظاهرا ـ موضوعات شتى ، الا أنّ هناك حقيقة واحدة ، تربط بين تلك الموضوعات ، وانما تعالج هذه الحقيقة من خلال معالجة تلك الموضوعات ، وهذا هو منهج القرآن الحكيم. إنّه لا يعالج الحقائق المجردة بل ضمن تجسداتها الواقعية ، وتوجيهاتها التربوية ، لقد رأينا كيف تحدثت الآيات السابقة عن التقوى ، انما تحدثت عنها ضمن الحديث عن مجموعة قضايا ، في الحرب ، وفي السلم. في الصراع الخارجي مع العدو ، وفي الصراع الداخلي مع الناس وبصفة خاصة داخل الاسرة.

وهنا يعالج القرآن : موضوع الايمان بان الله هو الذي يقضي في الحياة بحكمه ، فبيده الأمور مباشرة ، وانّه ليس بعيدا. كما تتصور اليهود ، عن مباشرة سلطانه الالوهية سبحانه ..

ان لهذه الحقيقة تجسدات واقعية في الموت والحياة ، وفي الغنى والفقر ، وفي الملك

٤٢١

يؤتيه من يشاء ، وفي الانتصار يهبه لمن يشاء ، وفي الرسالة ينزلها على من يشاء ..

وان لهذه الحقيقة توجيهات تربوية تتجسد في : القتال في سبيل الله من دون خشية الموت (لان الحياة بيد الله) ، والإنفاق دون خشية من الفقر ، والطاعة للحاكم بإذن الله والالتزام بتوجيهاته ، والايمان بكل رسل الله ، والإنفاق في سبيل الله ..

وقد ذكّرنا القرآن بتلك التجسدات الواقعية ، وهذه التوجيهات ، من خلال قصص تاريخية ذات عبرة وإثارة. وضمنها التوجيهات التربوية ..

ولكن يبقى سؤال : الم يكن من الأفضل : ان يتحدث القرآن بشكل تجريدي محض ، عن الحقائق الواقعية ، كما يفعلها مثلا الفلاسفة ، وكتاب علم الكلام الاسلامي؟

الجواب .. كلا .. لان القرآن كتاب حياة وكتاب تزكية ، ولأنه كتاب حياة فهو لا ينقلنا من الحياة الى غياهب التجريدات الذهنية التي لا تمثل الا نفسها ، ولا تعكس الا خيالات فارغة أشبه ما تكون الى الاشكال الهندسية والحسابات الرياضية لا تعني شيئا حقيقيا ، بل يتحدث إلينا عن ظواهر الحياة ظاهرة ظاهرة منها ما انتهت وتتكرر ، كالظاهرة التاريخية ، ومنها ما هي متلاحقة كالظاهرة الطبيعية ، ومنها ما نصنعها كالحرب والسلام .. كل ذلك لتلتصق افكارنا بالواقع الخارجي أكثر فأكثر ، ثم يعطينا : رؤية نابعة من حقيقة عامة ، تجاه هذه الظاهرة ، رؤية تاريخية ، رؤية طبيعية ، رؤية في افعال الإنسان. فهو بذلك لا يفصلنا عن الواقع ، بل يعطينا منظارا مكبّرا وسليما ننظر من خلاله الى الحياة ، ذلك المنظار هي الرؤية وهي الحقيقة العامة (مثلا حقيقة هيمنة الله على الحياة).

ومن جهة أخرى : لا يريد القرآن ان يشبع قلوبنا بحب الله ، أو افكارنا بالاعتقاد بالله. من دون ان يكون لذلك الحب ، وهذا الايمان : انعكاس عملي في

٤٢٢

حياتنا ، لذلك فكلّما تحدث عن ظاهرة تاريخية. وأعطانا فيها رؤية حقيقية ، أضاف إليهما عبرة تربوية. وأمرا بعمل نقوم به .. وسوف تجدون هذا المنهج في الآيات التالية.

بينات من الآيات :

[٢٤٣] خشية الطاعون ، نزح أهل القرية من قريتهم ، بيد ان الطاعون لحقهم وأفناهم في الصحراء ، وبعد فترة طويلة مرّ بهم نبي فوجدهم عظاما نخرة ، فدعا ربه ان يحييهم فاستجاب له ربه .. هذه الواقعة تعكس حقيقة ان الله هو الذي يحي ويميت.

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقالَ لَهُمُ اللهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْياهُمْ إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ)

يتجسد في الحياة التي وهبها لهم.

(وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ)

ربهم على انه ينعم عليهم بالحياة. وقد يكون الموت أيضا من فضل الله

[٢٤٤] بينما يجب عليهم : معرفة واهب الحياة ، ثم التسارع في تقديم حياتهم له ، لو طلبها منهم ، لأنها منه واليه تعود.

(وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)

يسمع الأصوات الظاهرة ، ويعلم النوايا الباطنة ، فلا تخلطوا مع الله في قتالكم عدوانا أو رياء ، بل ليكن قتالكم خالصا لله وفي سبيل الله.

ان القتال في سبيل الله يجسد الايمان بان الله هو واهب الحياة .. والمطلوب من

٤٢٣

المؤمن ان يبلغ ايمانه بهذه الحقيقة الى هذا المستوى حتى يثبت صدق ايمانه بالله ..

[٢٤٥] والله واهب ما في الحياة من نعم كما هو واهب الحياة ذاتها ، فهو الذي يوسع على من يشاء ، ويقتر على من يشاء ولكن ليس عبثا ، وانما بمقدار عطاء الفرد في سبيل الله ، وتجارته معه تلك التجارة التي دعا الله إليها في كتابه في أكثر من مناسبة وهنا يدعو إليها ويقول :

(مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً)

وهل هناك بنك في العالم يعطي على المائة ، ثلاث مائة وأكثر ، ولكن الله يفعل ويطلب منا ان ننفق في سبيله حتى يعوّضنا أضعافا.

(وَاللهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ)

فبيده الفقر ، إذ يقبض عن الفقير يد نعمته ، وبيده الغنى ، حين يبسط على الغني يد رحمته. هذا في الدنيا.

(وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)

في الآخرة فيجازي المعطي في سبيله اجرا عظيما ..

هذه الآية تشمل تجسيدا حيا لصفة هيمنة الله على الحياة ، وكما تشمل توجيها للإنسان انطلاقا من هذه الحقيقة ، هو العطاء بلا خوف من الفقر والفاقة.

أمروا بالقتال فتولّوا

[٢٤٦] اخرجوا من بلادهم ظلما وعدوانا وطالبوا نبيّهم ، بان يختار الله لهم قائدا يحاربون أعداءهم تحت لوائه .. ولكن حين بعث الله لهم قائدا وجدّ الجد ،

٤٢٤

نكصوا على أعقابهم. انهم مثل لعدم الايمان الحقيقي وبالتالي فصل دين الله عن الحياة ، وفصل الدين عن السياسة ، ورجال الله عن أمور الدنيا ..

ان الدين الذي يريده الله هو دين الحياة ، وان الايمان الذي يطالب به العباد ، هو الايمان بالله المدبر للكون ، المطاع بلا شريك في الحياة ، وهذا الايمان كان مفقودا عند هذه الطائفة لذلك فشلوا في الامتحان. وقال عنهم ربنا :

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى)

الذي كان قائدهم المطاع والذي انقذهم الله به من بطش فرعون.

(إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ)

ولكن النبي كان يعرف مستوى ايمانهم الضحل ولذلك

(قالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ أَلَّا تُقاتِلُوا قالُوا وَما لَنا أَلَّا نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَقَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَأَبْنائِنا)

فكيف لا نقاتل هل هذا معقول؟

(فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ)

كان يعرفهم قبل ان يكتب عليهم القتال ، ويتولوا ، ولكنه امتحنهم ليعرفوا أنفسهم ، وليتم عليهم الحجة ، ولعل الناس يعتبرون بقصتهم.

ان هؤلاء يمثلون فريقا من الناس يؤمنون بالله ايمانا ظاهرا وسطحيا ، فاذا محصوا بالبلاء كفروا بالله ، إذ انهم ـ منذ البداية ـ كانوا يزعمون : انّ الله محصور في المسجد وبعض الصلوات والابتهالات ، ومن ثمّ ، بعض التعاليم الخلقية ، امّا الله

٤٢٥

الذي يأمر بالقتال ، وبطاعة رجال معينين لا يملكون كفاءة القيادة حسب تصورهم الباطل .. فإنهم يكفرون به ..

[٢٤٧] وقصة هؤلاء بالتالي ، هي قصة المؤمن الذي لم يذوّب نفسه كاملا في بوتقة الايمان ، ولم يسلم نفسه لله. ولا تزال رواسب الجاهلية وقيمها تتحكم فيه ، لنستمع الى القصة ونعتبر منها لأنفسنا :

(وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً)

فاذا بهم يجن جنونهم ، لماذا طالوت وليس فلان أو فلان ..

(قالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ)

لاننا أكثر أموالا منه ، والملك يجب ان يكون غنيا وليس طالوت كذلك.

(وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ)

فأجابهم النبي : بان قيادة الحرب لا تحتاج الى مال ، بل الى كفاءة اخرى موجود في طالوت ، ولذلك اختاره الله.

(قالَ إِنَّ اللهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ)

وهذه هي كفاءة القيادة الحربية ، ان يكون قادرا عليها جسديا وعلميا ، ثم ان اختيار الله له تزكية له ، وكافية لثقتكم بأمانته وكفاءته ، ثم ان الله هو إلهكم وبيده أمور عباده ، وعليكم ان تطيعوه دون تلكأ .. أو تقاعس.

(وَاللهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ)

قادر وقدرته واسعة ، ورحيم ورحمته واسعة ، وعليم فهو الملك الحقيقي للعباد ، وهو

٤٢٦

يؤتي ملكه لمن يشاء.

[٢٤٨] بذلك أفحمهم ، ولكنهم تساءلوا وقالوا : من يقول أن الله قد بعث طالوت ملكا؟. هنا بيّن لهم علامة ملكه.

(وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)

لقد كانت السكينة في التابوت بقية تراث الأنبياء وكانت كافية لهؤلاء الناس بالاعتقاد بان طالوت ملكهم ، ولكنهم مع ذلك لم يقاتلوا معه كما يأتي. وكان التابوت ـ كما جاء في التفاسير ـ هو الصندوق الذي وضعت أم موسى ، وليدها ، بأمر الله فيه. وبقي عند فرعون إلى أن ورثت بنو إسرائيل ملك فرعون ، فأخذه موسى ووضع فيه مواريث الأنبياء ، مضافا الى ودائعه. وأورثه وصيّه (يوشع).

وكان التابوت (أو صندوق العهد) يعتبر أكبر من اللواء. والشعار عند بني إسرائيل. وقد استولى عليه الكفار من عبدة الأصنام في ارض فلسطين. وكانوا دائمي الحنين إليه. فلّما أخبرهم (شموئيل) نبيّهم بان الملائكة سوف تعيد إليهم صندوق العهد استبشروا ، لأنهم علموا انه دليل أنصارهم على أعدائهم.

وتضيف التفاسير : أنّ الكفار ، لم يهنأوا بالصندوق ، إذ توالت عليهم النكبات ، فتطيّروا بالتابوت. واستقر رأيهم ان يعلقوه بين بقرتين ، ثم يهجموا بهما في الصحراء. لتذهبا به انى شاءت الأقدار وكان ذلك الوقت مصادفا لذات الفترة التي انصب الله ـ عبر شموئيل ـ طالوت ملكا على بني إسرائيل ، ووعدهم بان تحمل الملائكة إليهم التابوت. فوّجه الملائكة البقرتين الحاملتين للصندوق باتجاه ديار بني إسرائيل. وهناك أقوال أخرى. في هذه القصة التاريخية إلا ان المهم عندنا عبرة

٤٢٧

القصة حيث نتساءل :

: ماذا ترمز بالنسبة إلينا السكينة والبقية ، انهما ترمزان الى ضرورة توفر صفتين في القيادة.

١ ـ الثقة بها ، واشاعة الاطمئنان فيمن حولها ، وذلك عن طريق التجرد للحق ، وعدم الاستسلام للقوى الضاغطة ، وعدم تفضيل طائفة من الناس على طائفة.

٢ ـ هذه واحدة واخرى الاصالة والارتباط بتراث الامة الحضاري والقدرة على التعامل مع هذا التراث تعاملا ايجابيا مستمرا ، ان تجارب الامة النضالية عبر القرون أفضل ينبوع يلهم الناس الصبر واليقين والتضحية من أجل القيم الرسالية.

[٢٤٩] اختار طالوت جنوده ، وتوجه تلقاء العدو ، ولكنه كان محّنكا لم يغامر بمواجهة العدّو قبل ان يقوم بمناورة عسكرية ، الهدف منها اختبار جنوده ، فمّر في طريقه بنهر عذب وكان جنوده يعانون من عطش شديد ، فنهاهم عن ان يشربوا أكثر من كف من الماء فقط ، وكانت المفاجأة : أنّ أكثرهم فشلوا في الاختبار.

(فَلَمَّا فَصَلَ طالُوتُ بِالْجُنُودِ قالَ إِنَّ اللهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ)

الماء بمقدار ما تحتويه يده فقط.

(غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ)

وهنا امر طالوت الذين لم يصبروا عن العطش قليلا ، بان يعودوا ربما الى احضان أمهاتهم ، انهم ليسوا رجال حرب ، الحرب بحاجة الى خشونة وطاعة ، ولا تنفعها الميوعة والخذلان ، وسار بعيدا عن النهر بجيش صغير ، ولكنه قوي المعنويات نوعا ما.

٤٢٨

(فَلَمَّا جاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قالُوا لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ)

وكان جالوت يمثّل جيش الكفر الذي خرج الى جنود طالوت للحرب ، في جيش ضخم ، كثيف العدد ، ولكن قليل المعنويات ، وبالطبع أرهب عدد الجيش الضخم ومعداته الكثيرة ، المؤمنين لأنّهم بشر ، بيد أنّ روح الايمان اسعفتهم وذكرتهم بالآخرة وبان الله يأمرهم بالمقاومة حتى يجزيهم الجنة ، هنالك اطمأنوا بالايمان

(قالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللهِ)

ويتصورون أنفسهم امام الله أبدا ، ويستمدون منه القوة والعزم قالوا :

(كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ)

إذ لا يهم عدد الجيش بل ايمانهم بقضيتهم ، وتضحيتهم من أجلها.

٤٢٩

وَلَمَّا بَرَزُوا لِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالُوا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (٢٥٠) فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللهِ وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ وَآتاهُ اللهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلكِنَّ اللهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ (٢٥١) تِلْكَ آياتُ اللهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (٢٥٢) تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ

____________________

٢٥٠ [برزوا] البروز أصله الظهور ومنه البراز وهي الأرض الفضاء.

٤٣٠

وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ وَلكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ (٢٥٣) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٢٥٤)

____________________

٢٥٤ [خلة] خالص المودة والخليل الخالص المودة من الخلة لتخلل الأسرار بينهما وقيل لأنه يمتنع من الشوب في المودة.

٤٣١

شروط الانتصار على العدو

هدى من الآيات :

للنصر شرطان : الصبر واليقين اما الصبر فهو تحمل المصاعب والمكاره الجسدية والنفسية والتطلع الى المستقبل والتعويض به عن مشاكل الحاضر ، واما اليقين فهو يعطيك الاندفاع والتضحية والثقة بالمستقبل وهؤلاء جنود طالوت سألوا الله ان يزودهم بالصبر واليقين ـ وفي ذات الوقت كانوا يسعون من أجل توفر هاتين الصفتين في أنفسهم إذ كل دعوة الى الله بتحقيق شيء لا تستجاب لو لم يسعى المرء عمليا من أجل تحقيقه وقد جاء في الحديث .. يكفي من الدعاء مع العمل ما يكفي من الملح في الطعام ..

بينات من الآيات :

[٢٥٠] (وَلَمَّا بَرَزُوا لِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالُوا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً)

اي اشملنا بصبر منك حتى لا نتزعزع باية صعوبة.

٤٣٢

(وَثَبِّتْ أَقْدامَنا)

اي ارزقنا اليقين حتى تطمئن نفوسنا وتترسخ خطانا على الاستقامة وهذه وتلك تمهيد للهدف الأكبر وهو النصر الذي سألوه أخيرا وقالوا ..

(وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ)

[٢٥١] أثمرت دعواتهم وجهودهم ..

(فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللهِ)

وان الله إذن لهم فانتصروا عليهم إذ ان الصبر واليقين كانا من عطاء الايمان بالله والتقرب اليه والدعاء اليه وبالتالي استجابة الله وكان هناك شاب صالح مؤمن بالله برز في المعركة اسمه داود.

(وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ)

ولأنه قتل جالوت وكان صالحا فقد التفت حوله الطائفة المؤمنة وتقرب اليه رئيسهم طالوت واستخلفه عليهم.

(وَآتاهُ اللهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ)

وجعله خليفة في الأرض باذنه ملكا نبيا كما تأتي قصصه في مناسبات اخرى .. ولكن هنا يريد القرآن ان يذكرنا بان الملك لله يؤتيه من يشاء وعلينا ان نطلبه منه كما أن النصر والغنى والحياة منه.

لقد بين القرآن الحكيم في مناسبات عديدة فلسفة الجهاد وابرز اهدافها وبمناسبة الحديث عن داود ذكر هذه الفلسفة هنا أيضا وقال :

٤٣٣

(وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلكِنَّ اللهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ)

حيث يهيء من عباده المؤمنين امة رسالية تقوم بالدفاع عن مبادئ الله المتمثلة في الحق والعدالة والحرية و.. و.. وتحارب كل من تسول له نفسه بالظلم والجور والاستعباد وتنقذ الناس منه ان هذا فضل كبير على الناس ولو لا هذه الامة إذا لأصبحت الحياة البشرية اسوأ من حياة الغاب يأكل فيها القوي الضعيف ويأكل الضعيف من هو أضعف منه ، ويعيش الناس الخوف والفقر والحرمان.

وكلما كانت هذه الامة أكثر نشاطا وايمانا تكون مبادئ الله أفضل تطبيقا اما إذا تراخت الامة عن واجبها (كما نحن في عصرنا) فان الفساد سيعم الأرض.

٢٥٢] وكما الحياة والغنى والملك والنصر من الله كذلك الهدي منه فهو الذي يهدينا الى منهاج الحياة وأساليب مكافحة الفقر والوصول الى الملك والنصر وذلك عن طريق رسالاته التي يختار لها رجالا أمناء من عباده ويبعثهم أنبياء بها.

(تِلْكَ آياتُ اللهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ)

[٢٥٣] (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ)

كما موسى عليه السلام.

(وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ)

كما إبراهيم اتخذ خليلا وجعل للناس إماما.

(وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ)

أيده بالعصمة التي منعته من اي نوع من الفحشاء والمنكر ولقد أيد الله سائر

٤٣٤

الأنبياء بها أيضا بيد ان عيسى كفر فيه بعض الناس وزعموا انه هو القدوس بذاته ودون تأييد من الله فنفي ربنا ذلك.

إذا الرسالة من الله وهي تعطى للأنبياء على شكل متفاوت حسب كفاءات الأنبياء ومصالح الله في العباد وهنا يبرز سؤال : إذا كان الله يهدي الناس فلما ذا اختلف اتباع الرسل من بعدهم لماذا لم يهدهم الله جميعا هدى واحدا وتركهم يقتل بعضهم بعضا ..

يجيب القرآن : ان الله لا يهدي الناس كرها وانما يوفر لهم فرصة الهداية فمن اهتدى فلنفسه ومن ضل فعليها هكذا أراد الله للدنيا ان تكون مختبرا لمعادن الناس وقاعة امتحان لمدى ايمانهم ولا يسأل الله عما أراد.

(وَلَوْ شاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ)

من بعد الأنبياء من اتباع حيث تقاتلوا.

(مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ)

فلم يكن اختلافهم لنقص في هداية الله لهم بل لخلل في ايمانهم بها واستجابتهم لدعواتها.

(وَلكِنِ اخْتَلَفُوا)

وكان اختلافهم على الحق ..

(فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ)

فلم تكن أعمالهم صحيحة بمجرد انهم (كانوا) من اتباع الرسل بل كانت

٤٣٥

(وَلَوْ شاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ)

وهنا ابرز القرآن ـ مرة اخرى ـ هيمنة الله على الحياة وان ما يجري فيها من خير وشر ، لا يدل على اعتزال الله سبحانه للسلطات ولا على انه مغلوب على امره لا يسعه منع حدوث الشر كلا ولا على انه راض بما يقع على الناس في الدنيا من شرور بل لأنه يريد اختبارهم فتركهم الى أجل مسمى وهو قادر على أخذهم إذا شاء بسطوته العزيزة وقدرته الواسعة التي لا يعجزها شيء.

[٢٥٤] ما ذا تعني هذه الحقيقة بالنسبة لنا ، انها تعني اننا لسنا مخلوقين عبثا ولا متروكين هكذا الى الأبد بل ان هناك فرصة قصيرة أمامنا لتجربة ايماننا وارادتنا فعلينا استغلال هذه الفرصة بالعطاء والإنفاق قبل ان تنتهي الفرصة ..

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ)

لأنه لا يملك أحد شيئا حتى يبيعه.

(وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ)

وليس هناك من صديق وحتى لو كان فلا يستطيع ان يفعل لنا شيئا. لأنه هو الآخر مبتلى ومغلوب على امره إذا دعنا نفكر في ذلك اليوم وننفق ..

(وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ)

الذين يظلمون أنفسهم ولا يبعثون لحياتهم الاخرى خيرا ..

ومناسبة الحديث عن الإنفاق قد تكون تكميلا للحديث عن القتال في سبيل الله في الآيات السابقة إذ يتحدث القرآن عنه إذا تحدث عن القتال على الأكثر.

٤٣٦

اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِما شاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (٢٥٥) لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ

____________________

٢٥٥ [الحي] هو من كان على صفة يجب لأجلها أن يدرك المدركات إذا وجدت.

[القيوم] من القيام وهو القائم بتدبير خلقه.

[سنة] النوم الخفيف وهو النعاس.

[نوم] النوم خلاف اليقظة ، وهو استرخاء أعصاب الدماغ برطوبات البخار الصاعد اليه وقيل هو موت خفيف والموت نوم ثقيل.

[يحيطون] يقال لمن أحرز شيئا أو بلغ علمه أقصاه قد أحاط به.

٤٣٧

مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى لا انْفِصامَ لَها وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٥٦) اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٥٧) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتاهُ اللهُ الْمُلْكَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٢٥٨) أَوْ كَالَّذِي مَرَّ

____________________

٢٥٨ [بهت] انقطع وتحير ويقال بهت الرجل أبهته بهتانا إذا قابلته بكذب فالبهت الحيرة عند استيلاء الحجة لأنها كالحيرة للمواجهة بالكذب لان تحير المكذب في مذهبه كتحير المكذوب عليه ومنه قوله أتأخذونه بهتانا كأنه قال أتأخذونه ادعاء للكذب فيه.

٤٣٨

عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها قالَ أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِها فَأَماتَهُ اللهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قالَ كَمْ لَبِثْتَ قالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٥٩) وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ

____________________

٢٥٩ [خاوية] أصل الخواء الخلاء والخواء الفرجة بين الشيئين لخلو ما بينهما وخوت الدار تخوى خواء فهي خاوية إذا باد أهلها لخلوها منهم والخوي الجوع خوى يخوي خوى لخلو البطن من الغذاء.

[عروشها] أبنيتها وقيل الخيام وهي بيوت الاعراب وقيل خاوية على عروشها أي بقيت حيطانها لا سقوف عليها وكل بناء عرش وعريش مكة أبنيتها والعريش البيت لارتفاع أبنيتها.

٤٣٩

الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٦٠)

٤٤٠