من هدى القرآن - ج ٧

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ٧

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-10-6
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٣٩٩

١
٢

سوره مريم

٣
٤

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ  

فضل السورة :

١ ـ في كتاب ثواب الأعمال باسناده عن أبي عبد الله (ع) قال :

«من أدمن قراءة سورة مريم لم يمت حتى يصيبه ما يغنيه في نفسه وماله وولده ، وكان في الآخرة من أصحاب عيسى بن مريم عليهما السلام ، وأعطي من الأجر مثل ملك سليمان بن داود في الدنيا».

تفسير نور الثقلين / ج ٣. ص ٣١٩

٢ ـ في مجمع البيان أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال :

«من قرأها أعطي من الأجر بعدد من صدق بزكريا وكذب به ، ويحيى ومريم وموسى وعيسى وهارون وإبراهيم واسحق ويعقوب وإسماعيل عشر حسنات ، وبعدد من ادعى لله ولدا ، وبعدد من لم يدّع وله ولدا».

تفسير نور الثقلين / ج ٣. ص ٣١٩

٥

٣ ـ ومن خواص القرآن روى عن النبي (ص) أنه قال :

«من قرأ هذه السورة اعطي من الحسنات بعدد من دعا لله ولدا سبحانه لا إله إلا هو ، وبعدد من صدّق زكريا وعيسى وموسى وإبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب عشر حسنات ، وعدد من كذب بهم ، ويبنى له في الجنة قصر أوسع من السماء والأرض في أعلى جنة الفردوس ، ويحشر مع المتقين في أول زمرة السابقين ، ولا يموت حتى يستغني هو وولده ، ويعطى في الجنة مثل ملك سليمان (عليه السلام) ومن كتبها وعلقها عليه لم ير في منامه إلّا خيرا ، وان كتبها في حائط البيت منعت طوارقه ، وحرمت ما فيه وإن شربها الخائف أمن».

تفسير البرهان / ج ٣. ص ٢

٦

الإطار العام

كان الاتجاه العام لسورة الكهف هو بحث علاقة الإنسان بزينة الحياة الدنيا ، فجاءت سورة مريم لتركّز الضوء على علاقة الإنسان بالأسرة والأولاد أيّ قضية الامتداد البشري وإطارها السليم.

وثمة ملاحظتان :

الأولى : يؤكد الإسلام على ضرورة تحديد الإنسان لعلاقته بالطبيعة في إطار علاقته الكبرى بربه وربها ، لان الأخرى ، هي التي تحدد أعماله وسلوكه وكيفية تكوين علاقاته.

ويجب أن يضحي بكلّ شيء من أجل هذه العلاقة ، فهو عبد لربه يحبّه ويحب من يحبّه ويبغض من يبغضه. فعلاقة الإنسان بالطبيعة امتدادية وليست ذاتية ، فلأن الله أمرنا أن نعمّر الأرض ونبني البيت ، ونكوّن العائلة ، ونحبّ أولادنا أو نشفق عليهم. فانّا نقوم بكلّ ذلك في حدود أوامر الله وتوجيهاته.

٧

ولقد جاءت سورة مريم لمعالجة هذه الحقيقة ، ولذلك جاء في الحديث :

«من أدمن قراءة سورة مريم لم يمت حتى يصيبه ما يغنيه في نفسه وماله ..»

والإدمان يشير إلى العمل بهذه السورة ، وتكييف حياة الإنسان وعلاقاته وفقها ، ومن يفعل ذلك فانّه خيرا في علاقاته وحينما يأمره الإسلام أن تكون العلاقة بالطبيعة وزينة الحياة (من أموال وبنين وما أشبه) علاقة امتدادية ، في إطار العلاقة مع الله ، فليس لأنه يريد للإنسان الحرمان من نعيم الدنيا وطيباتها ، إنما يريد له أن يستفيد من ذلك أكبر فائدة ممكنة ، لأن الله هو خالق الحياة والبشر ، وهو أعلم بما يصلحهم ويعود عليهم بالخير ، وبالتالي هو القادر على أن يرسم لهم المنهج السليم في السلوك والعلاقات.

الثانية : إن هناك فرقا بين الوصفة الطيبة والدواء الذي تشتريه بموجبها ، فبينما تشير هي أن الدواء فقط يقوم بملاحقة ميكروب المرض للقضاء عليه. والكتب التربوية والأخلاقية تشبه إلى حد بعيد الوصفة الطبية ، بينما القرآن دواء وشفاء لأمراض السلوك البشري ، فآياته تلاحق الجراثيم والأمراض النفسية في قلب الإنسان وتقضي عليها ، لذلك لا يكتفي القرآن أن ينصحك بكيفيّة تكوين علاقاتك مع أولادك فحسب وانما يتعمّق حتى يصل إلى جذر المشكلة النفسية ويقتلعها ، فيضرب الأمثال ويبيّن حقائق التاريخ ويحللها.

وقد سميت هذه السورة بمريم لأن علاقة مريم الصديقة بابنها عيسى (ع) كانت علاقة فريدة ونموذجية.

٨

سورة مريم

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(كهيعص (١) ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (٢) إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا (٣) قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (٤) وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (٥) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (٦) يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (٧) قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (٨) قالَ كَذلِكَ

______________________

٤ [وهن] : الوهن هو الضعف ونقصان القوة.

٥ [عاقرا] : لا تلد.

٨ [عتيّا] : إذا غيّره طول الزمان الى حال اليبس والجفاف.

٩

قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً (٩) قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا (١٠) فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (١١)

١٠

فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا

بيّنات من الآيات :

دعاء زكريا :

[١] (كهيعص)

اختلف المفسرون في هذه الحروف وما ترمز إليه ، وربما كانت اشارة إلى الألفاظ التي تدل على الذكر أو الحديث الذي كان زكريا (ع) يناجي به ربه ، وجاء في حديث ان هذه الكلمات رموز الى أسماء الله الحسنى ، فقد روى سفيان بن سعيد الثوري عن الامام الصادق عليه السلام ـ حديثا مفصلا جاء فيه ـ :

«(كهيعص) : معناه أنا الكافي الهادي الوليّ العالم الصادق الوعد» (١)

وجاء في حديث مأثور عن الإمام المهدي عجل الله فرجه :

«ان هذه الحروف ترمز الى واقعة كربلاء الفجيعة ، فالكاف اسم كربلاء ، والهاء هلاك العترة ، والياء يزيد ـ لعنه الله ـ وهو ظالم الحسين ، والعين عطشه ، والصاد ،

__________________

(١) تفسير نور الثقلين ج ٣ ص ٣٢٠.

١١

صبره» (١)

[٢] (ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا)

بين الإنسان وربه خطّان ـ صاعد ونازل ـ فالخط الصاعد هو الدعاء ، أما الخط النازل فهو الوحي السماوي ، وحسب ما أتصوره فان هذه الآية تشير الى كلا الخطين ، فمن جهة ذكر الله لعبده عن طريق الوحي أو الكتاب السماوي ، ومن جهة ثانية ذكر زكريا ربه طالبا رحمته عن طريق الدعاء ، وقد قال المفسّرون في معنى هذه الجملة : «اذكر كيف رحم الله عبده زكريّا» وبتعبير آخر : هذا ذكر عن رحمة الله لعبده زكريا.

[٣] (إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا)

في غمرة الأحداث الرسالية ، والصراعات المبدئية ، لم ينس أن له شعورا آخر هو الشعور الانساني ، وأن له رغبة أخرى هي رغبته في الامتداد عبر الأولاد ، يحملون رسالته من بعده ، فقد كبت هذا الشعور طويلا ، وحينما أظهره كان خفيّا ، ربما لسببين :

الأول : حذرا من ألسنة الناس ، فقد كان رجلا مسنّا ، وكانت امرأته عجوزا عاقرا.

الثاني : إن من شأن العبد الصالح أن لا يرى لنفسه حقا على الله ، بل يؤمن بأن كل ما يعطيه الرب فهو تفضل منه وإحسان.

[٤] (قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي)

عند ما يشيخ الإنسان فان عظامه تصبح متراخية هشّة ويشعر بالضعف الداخلي.

__________________

(١) المصدر.

١٢

(وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً)

أي تحول الى البياض ، والتعبير بكلمة «اشتعل» تعبير بلاغي يلفت النظر الى المشاق والصعوبات التي لاقاها في عمره الطويل ، كما توحي أيضا بسرعة الشيب في رأسه.

(وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا)

أي لم أكن شقيا بسبب دعائك ، فكلما طلبت منك حاجة أجبتها لي ، وهذا الأسلوب يمثل غاية التأدّب في التوجه بالدعاء الى الله سبحانه.

شروط الوراثة :

[٥] (وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي)

والموالي هم أولاد العم والخال والأقارب البعيدون ، ويبدو انهم لم يكونوا موضع رضى زكريا لفسقهم أو ضعف ايمانهم.

(وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا)

[٦] (يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا)

لم يكن أحد من موالي زكريا (ع) أهلا لوراثته ، لذلك طلب من الله سبحانه وتعالى أن يرزقه وليا تكون فيه هذه الصفات الثلاث :

١ / أن يرث ماله وعلمه ظاهرا وواقعا.

٢ / أن يرث عائلته ، فبعض خصائص الفرد شخصيّة ، بينما بعضها الآخر مرتبط بالعائلة التي تمثل خطا معينا في الحياة.

١٣

٣ / أن يكون مرضيا عند الله وعند الناس.

وهذه هي الصفات التي ينبغي أن تكون في الوارث ، وزكريا لم يقل ولدا بل قال وليا ، وهذا طلب عام ، فليس المهم الولد بل المهم أن يكون الوارث امتدادا للموروث حتى لو كان من غير ولده.

[٧] (يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا)

سوف نرزقك ولدا ، يحمل مواصفاتك ، ورسالتك ، وسوف يقوم بعمل جديد لم يسبقه اليه أحد ، وهذا منتهى رغبة الإنسان في الولد : أن يكون وارثا له ومكملا لخطّه ، فإذا قام بعمل اسلامي ولم ينتصر فيه ، فان ابنه يواصل هذا العمل ، بنفس الاندفاع والحماس الذي كان عنده حتى يكتب له النصر ، وكان زكريا وارث أموال كثيرة عبر زوجته التي كانت من نسل النبي سليمان (الذي وهب له الله ملكا عظيما ، ولم يكن له مثيل) ، وكان يخشى على هذه الأموال أن تصرف في أي طريق غير طريق الله ، وكان في ذات الوقت الحبر الأعظم ، وخشي ان يرثه في هذا المقام الديني واحد من أولاد عمه غير اللائقين بمقام قيادة الأمة.

وقد استجاب الله له دعاءه ، وآتاه من لدنه فضلا حيث رزقه يحيى. ذلك الوليّ الذي ليس فقط ورث أمجاد الماضي التليدة ، بل ويفتح عهدا جديدا حافلا بالمكرمات ، إذ لم يجعل الله له سميا ، ولعلّ في الآية اشارة الى أمرين :

أولا : ان يحيى (ع) سوف يحقق المزيد من الانجازات ، لا توجد في التاريخ الرسالي السابق له ، بلى .. ان يحيى قاوم السلطات الجائرة التي استولت على قيادة النصارى ، وضحى بنفسه في هذا السبيل ، وكان مثله بين أتباع عيسى (عليه السلام) مثل الامام الحسين (ع) في أمة جده محمد (ص).

١٤

ثانيا : ان على الإنسان أن يتطلع الى ولد يرث الماضي ، ويصنع المستقبل كما يحيى (ع).

[٨] (قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا)

كيف يكون لي ولد ، بينما الشروط الطبيعية اللازمة غير متوفرة ، فامرأتي عاقر لا تلد أساسا ، وأنا عجوز قد تجاوزت مرحلة الفتوّة والشباب كثيرا؟!

[٩] (قالَ كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ)

فالله عزّ وجلّ الذي خلق الكون كما خلق القوانين الطبيعية الحاكمة فيه ، وهو قادر على تغييرها حين يشاء بلا صعوبة.

(وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً)

حينما يفكر الإنسان في نفسه : كيف خلقه الله وأوجده من العدم؟! فانه يدرك أن الله على كل شيء قدير ، وبالتالي يتلاشى تعجبه من بعض الظواهر الغريبة غير المألوفة. فلما سكن روع زكريّا ، واطمأنت نفسه قال : آمنت بك ، ولكن كيف أواجه الناس إذا قالوا : من أين أتت هذه الأسرة العجوز بهذا الولد؟!

حكمة الاعتزال :

[١٠] (قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا)

عادة ما تكون الآية وجودية كناقة صالح ، وعصا موسى ، أما أن يعتزل الناس ولا يتكلم معهم فهذه آية غريبة ..

١٥

لقد فكرت بهذا الموضوع ووصلت الى هذه النتيجة وهي : أن السكوت والصمت في بعض الأحوال يكون أبلغ أثرا من أيّ كتاب أو كلام لسببين :

١ / لأن هذا السكوت يجعل صاحب القضيّة غير عابئ بما يقول السفهاء عنه ، وصامدا أمام محاولات التشكيك من قبل الأعداء.

٢ / ولأنه يجعل الناس يعودون الى أفكارهم ، ويتحملون مسئوليتها ، فليس بالضرورة أن يتكلم الداعية ويهدي الناس بلسانه دائما ، بل يلزم عليه أحيانا أن يدعهم بدورهم يفكرون ، وإذا فكروا فإنهم كثيرا ما يصلون الى الحقيقة ، لذلك بعد الثلاثة أيام استغل زكريا (ع) الموقف ، وأخذ يتحدث مع الناس في مواضيع أخرى غير قضية ولادة يحيى (ع) وما يحيط بها من ملابسات كانت تستغرق منه وقتا طويلا لتبيينها للناس.

وهكذا فان العمل في سبيل الله يتطلب تجاوز الجدال في القضايا الشخصية الى معالجة القضايا العامة ، ونشر القيم الرسالية ، ويشير القرآن الكريم الى هذه الفكرة فيقول

[١١] (فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا)

كانت الفترة التي اعتزل الناس فيها ، واعتكف في المحراب يعبد الله ولا يتكلم مع أحد ، كافية لكي يفكر الناس ، ويتأمّلوا ، وبالتالي ينتبهوا الى موضوع طالما يغفل الإنسان عنه في غمرة أحداث الحياة وشؤونها ، وهو قدرة الله الّتي تدبر الكون ، وتدبّر أمور العباد ، ولذلك وجد زكريا (ع) الأرضية مهيّأة لأن يدعوهم الى الالتزام بحكم الله وشريعته ، وهذا هو معنى التسبيح العملي.

١٦

يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (١٢) وَحَناناً مِنْ لَدُنَّا وَزَكاةً وَكانَ تَقِيًّا (١٣) وَبَرًّا بِوالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيًّا (١٤) وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (١٥) وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا (١٦) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا (١٧) قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (١٨) قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا (١٩) قالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (٢٠) قالَ كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا (٢١)

______________________

١٦ [انتبذت] : أصله الطرح وهي بمعنى تنحت ناحية وجلست.

٢٠ [بغيّا] : زانية.

١٧

يحيى مثل الوريث الصالح

هدى من الآيات :

في اطار الحديث عن الإنسان من بنيه ، تحدثت الآيات الأولى من سورة مريم عن زكريا ، ذلك الشيخ الطاعن في السن ، والذي ظلت في قلبه رغبة كامنة بثّها لربه ، فوهب له الله يحيى (ع).

وها هي الآيات القرآنية تبين لنا صفات يحيى ، ومن خلال صفاته يتبيّن لنا كيف ينبغي أن يكون الولد ، وكيف ينبغي أن يتطلع الوالد الى ولده فيما يرتبط به ، وفيما يرتبط بالمجتمع.

وهناك وجه آخر لهذه العلاقة وهي علاقة الأم بابنها حيث يبينها السياق من خلال قصّة مريم ، تلك الوالدة الرسالية التي وهب الله لها غلاما زكيّا ، وكانت مثلا ، وقدوة ، وأسوة لكل الوالدات.

ومن خلال العرض القرآني لصفات يحيى وقصّة مريم ، تتبيّن لنا عدة أمور :

١٨

الأمر الأول : ان التربية المثالية التي يتوجب على الوالد أن يقوم بها تجاه ابنه ينبغي أن تسير في عدة خطوط :

١ / أن يتطلع الوالد الى أن يكون ابنه امتدادا له ، ومجسّدا للميزات التي تتصف بها عائلته ، فالإنسان وريث حضارة قد تعب من أجلها الآخرون ، وقد تراكمت التجارب البشرية حتى تحولت الى حضارة ورثها الفرد ، كما ان تجاربه هو ، ومكاسبه ، وخبراته ، قد تجمعت هي الأخرى ، وتراكمت عنده وتحوّلت الى قواعد سلوكية ، وقيم انسانية ، وعمرانية ، كل ذلك يتجمع عند الإنسان ، وعليه أن يسلمها الى الجيل الثاني ، وهذه هي مسئولية الإنسان كما هي رغبته الفطرية ، وان رغبة الإنسان الفطرية تتلخص في كلمة وهي : أنه يريد أن يرى إذا أغمض عينيه ، ورحل عن الحياة ، من يتابع مسيرته ، ويجسد قيمه ، ويحتفظ بخبراته ومكاسبه.

٢ / ينبغي أن يكون الوالد عالما ، بأن الجيل القادم سوف لا يكون بالضبط مثل جيله ، بل سيكون جيلا له خبراته ، وعليه مسئولياته ، وله ظروفه الخاصة ، وبالتالي ينبغي أن تتوجه تربيته لابنه باتجاه بناء الجيل القادم ، حسب ظروف ومتغيرات ومسئوليات ذلك الجيل ، ليعيش أبناؤه لمبادئهم المتطورة كما يعيشون ماضيهم التليد ، ولكي لا يكون لهم بعد واحد هو تكرار الماضي ، واجترار ما فيه ، بل يكون لديهم بعد آخر هو بناء الحاضر والتطلع للمستقبل.

٣ / أن يربي الإنسان أبناءه على الارتباط بالماضي ، وعدم الانفصال عنه ، وأحد نتائج ذلك هو : أن الأب عند ما تقعد به السنون عن العمل ، ويصبح جليس البيت ، فان ابنه لا يتركه وحده ، بل يحنّ اليه ، ويكون بارا به.

وهكذا فان الصفات التي تتكون عند الأبناء هي : أن يكونوا امتدادا للحضارة التليدة وحماة لها ، بل يكونوا بناة لحضارة جديدة ، وهذه الصفات الثلاثة تجسّدت في

١٩

يحيى (ع).

الأمر الثاني : ان القرآن الحكيم يضرب لنا أمثلة مثيرة ، تتجسد فيها نوعية خاصة من طبيعة ذلك الموضوع الذي يريد أن يبيّنه.

فاذا أراد أن يضرب مثلا لعلاقة الأب بابنه فانه لا يأتي أب وأي ابن ، أو يضرب لنا من واقعهما مثلا ، كلا .. فذلك لا يثير الإنسان ، بل يبيّن قصّة تاريخية ، ذات نوعية فريدة ويضربها مثلا ، لا لكي تبقي في الذاكرة فقط ، وانما أيضا لأن ذلك المثل يبقى مثالا بارزا كالشمس لا يحتاج الإنسان للبحث عنها ، وفي هذا المورد يذكر لنا القرآن قصة يوسف ووالده يعقوب والده ، وإذا أراد أن يضرب لنا مثلا عن تطلعات الأب تجاه ابنه ، وصفات الابن تجاه هذه التطلعات فانه يضرب مثلا من قصة زكريا مع ابنه يحيى ، وإذا أراد أن يضرب لنا مثلا عن علاقة الأم بابنها فانه لا يبحث عن أيّ أمّ في العالم ، وإنما يضرب المثل من قصة مريم الصدّيقة التي كانت متحررة من الدنيا ، ولكن الله سبحانه لم يشأ لها أن تبقى هكذا متحررة فأراد أن يبتليها بالابن وهذه هي سنة الحياة. لقد شاء أن يقول لها : عليك أن تتحمّلي مسئوليتك كأم ، الى جنب مسئولياتك كمربيّة ، وهادية للناس ، أو متعبّدة وزاهدة في المسجد ، وهكذا بيّن القرآن الحكيم الحالات النفسية ، والحالات المادية الصعبة التي يجب أن تجتازها الأم وتبقى صامدة ، وهل هناك حالة أصعب من فتاة عمرها عشر سنوات ، لم تتزوج ، ولم تر بشرا ، حملت فهجرت بيتها ، وتركت أهلها الى الصحراء ، فجاءها المخاض الى جذع النخلة ، وهي لا تعرف ما ذا تصنع؟!

فلتكن هذه المرأة مثلا لكل النساء لكي لا يتهربن من مسئوليات الأمومة التي هي مسئولية الحياة الطبيعية ، بل ينتظرن العاقبة ، تلك العاقبة التي انتظرتها مريم ورأت كما رأى الناس كيف كانت حسنة وخيرا ورحمة.

٢٠