من هدى القرآن - ج ٩

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ٩

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-12-2
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٤٩٣

١
٢

سورة شعراء

٣
٤

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

فضل السورة :

عن النبي محمد صلى الله عليه وآله قال :

«أعطيت [ال] سورة التي يذكر فيها البقرة من الذكر الاول ، وأعطيت طه وطواسين من ألواح موسى ، وأعطيت فواتح القرآن ، وخواتيم السورة التي يذكر فيها البقرة من تحت العرش ، وأعطيت المفصّلة نافلة»

(مجمع البيان ـ ص (١٨٣) / ج ٧)

وروى ابو بصير عن أبي عبد الله (ع) قال :

«من قرأ الطواسين الثلاث ليلة الجمعة كان من أولياء الله ، وفي جواره وكنفه ، وأسكنه الله في جنة عدن ، وسط الجنة مع النبيين والمرسلين والوصيين الراشدين ، ولم يصبه في الدنيا بؤس أبدا ، وأعطي في الآخرة من الأجر الجنة حتى يرضى ، وفوق رضاه ، وزوّجه الله مائة حوراء من الحور العين»

(المصدر)

٥
٦

الإطار العام

الاسم : سميت هذه السورة باسم «الشعراء» لان السورة تتحدث عن رسالات الله في مواجهة ثقافات البشر.

تدور آيات هذه السورة حول رسالات الله ، على نهج سورة الفرقان ولكن بتفصيل أكثر ، وضمن بيان الصراع بينها وبين الكيانات الجاهلية ذات الثقافة المنحرفة.

وبعد أن تذكرنا فاتحة السورة بالله ، تبين حرص النبي على هداية الناس ، وتؤكد ان الله لا يكرههم على الهدى ، وتبين من صفات الرب اسمي العزة والرحمة اللذين يتجليان في الطبيعة وفي الصراع.

ويقص علينا السياق أنباء النبيين ، وتنتهي كلّ قصة بذكر هذين الاسمين الكريمين ، وتؤكد بأن في تلك القصص آيات ، ولكن أغلب الناس لا يؤمنون.

وتنتهي السورة بأمر الرسول بالتوكل على العزيز الرحيم.

٧

في قصة موسى يأمر الله موسى بحمل رسالته الى فرعون ، ويبيّن موسى عقبات الطريق ، والله ينفيها بكلّا .. ويعده بالنصر ، ويحاور موسى فرعون برسالة الله ، ويجادل فرعون بما يملك من قوة.

ويبدو ان لكل رسالة محتوى اجتماعي ، هدفه إصلاح نوع الفساد المنتشر في المجتمع ، فقد حارب موسى العنصرية والاستكبار ، وإبراهيم الوثنية والرجعية ، ونوح الطبقية والعناد ، وهود العبثية والتجبر ، وصالح الإسراف والفساد ، ولوط الشذوذ والإباحية ، وشعيب الغش والتطفيف.

ولعل هذه المفاسد متدرجة في خطورتها حسب هذا الترتيب الذي نجده في سورة الشعراء.

ويجري الحوار بين النبي وقومه ، ويعاندونه ، ويهددونه ، وفي لحظة الحسم ينصر الله النبي والمؤمنين ، ويأخذ الكافرين بعذاب شديد ، ولعل العذاب يتناسب ونوع الفساد.

ويبدأ النبي بالتذكرة بالله ، والأمر بتقواه وطاعته ، وينذرهم عذاب ربهم.

ويؤكد الأنبياء على أنهم لا يطالبونهم بأجر ، وانما أجرهم على الله ، وبالتالي لا يدعون للناس مجالا للشك في صدق رسالاتهم ، وبالإضافة الى ذلك فإن هناك شواهد على صدق رسالات الله ، فهي تدعو الى الله ، وتتعالى على حواجز الدم ، والأرض ، والزمن ، وهي تتحدى بقوة الله كل القوى مما يستحيل على البشر ، وتحارب الفساد الأكبر في المجتمع.

ويد الغيب تمتد لنصرتهم في الوقت المناسب بإهلاك أعدائهم ، هذا بالإضافة الى قوة الحجة ، وسلامة السلوك ، والمعاجز الظاهرة كالعصى ، والناقة ، وخمود

٨

النيران ، وانفلاق البحر ، والطوفان.

وفي خاتمة السورة يبين ربنا : أن القرآن أنزله رب العالمين ، نزل به الروح الأمين ، وبلغة عربية مبينة ، وقد شهد على صدقه علماء بني إسرائيل.

وبعد أن بيّن الفروق الأساسية بين وحي الحق ، وأفكار الشيطان ، وأمره الرسول بإنذار عشيرته ، والعطف على المؤمنين ، والبراءة من العصاة ، والتوكل على العزيز الرحيم ، بعدئذ يبين القرآن ميزات وحي الشيطان الذي يتنزل على كل أفّاك أثيم ، وان الشعراء (أدعياء العلم والدين) انما يتّبعهم الغاوون ، وينعتهم بالاسترسال واللامسؤولية ، وتختم السورة بأن الظالمين سيعلمون اي منقلب ينقلبون.

٩
١٠

سورة الشعراء

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(طسم (١) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (٢) لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (٣) إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ (٤) وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلاَّ كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ (٥) فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبؤُا ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٦) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (٧) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (٨) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٩) وَإِذْ نادى رَبُّكَ مُوسى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٠) قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ (١١) قالَ رَبِّ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (١٢) وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسانِي فَأَرْسِلْ

___________________

٣ [باخع] : أي مهلك أو قاتل نفسك أسفا.

٥ [محدث] : جديد.

١١

إِلى هارُونَ (١٣) وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (١٤) قالَ كَلاَّ فَاذْهَبا بِآياتِنا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ (١٥)

١٢

إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ

هدى من الآيات :

كلما ازدادت معرفتك بالله كلما توسعت آفاق إيمانك ، وعرفت المزيد من اسرار السموات والأرض ، وهكذا كان :

«أول الدين معرفته» (١)

وتفتتح هذه السورة التي تحدثنا عن رسالات الله كما سورة الفرقان بالتذكرة بالله لأنها السبيل الى معرفة الوحي.

ويمضي السياق في بيان حرص النبيّ على هداية قومه ، حتى ليكاد يهلك نفسه ، ويسلّيه بأن حكمة الله قضت بأن يكون الناس أحرارا ، وإلا فهو قادر على ان ينزل عليهم آية يكرههم بها على الايمان ، ولكنهم لن يهربوا من جزاء أعمالهم.

__________________

(١) نهج البلاغة / خ (١) / ص (٣٩) / صبحي الصالح.

١٣

ويعود السياق يذكرنا بربنا الذي أنبت الأرض من كل زوج بهيج ، لعلنا نهتدي الى ربنا بهذه الآية ، ونعرف أنه العزيز الرحيم ، ونعرف بالتالي أنه أرسل بعزته ورحمته أنبياء ، فقد أمر موسى (ع) بأن يأتي الظالمين من قوم فرعون ، ويحذرهم عذاب الله ، ولكن موسى خشي تكذيبهم ، وخاف أن يضيق صدره ، ولا ينطلق لسانه بكل معاني الرسالة ، وطلب أن يكون أخوه هارون معه رسولا ، وطلب العون من الله لمواجهة خطر الموت على يدهم ، لأنّه قتل منهم شخصا ، وجاءه النداء : كلا .. وعاد الربّ وأمره بالذهاب إليهم ، وطمأنهم بأنه سيكون معهم.

بينات من الآيات :

[١] (طسم)

تحدّثنا عن الحروف المقطعة في القرآن أكثر من مرة ، وقلنا : انها اشارة الى القرآن ، وأنها رموز بين الله وأوليائه.

وجاء في الحديث المأثور عن الصادق (عليه السلام):

«وأما طسم : فمعناه : انا الطالب ، السميع ، المبدئ ، المعيد» (٢)

[٢] (تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ)

تأتي هذه الجملة في الأغلب بعد الحروف المقطعة ، مما يدعونا الى الاعتقاد بأن المعنى الظاهر لتلك الحروف هو الاشارة إلى القرآن وحروفه.

[٣] لأن إخلاص الرسول شديد لرسالة ربه ، وحرصه على مصلحة الناس

__________________

(٢) نور الثقلين / ج (٤) / ص (٤٤).

١٤

عظيم ، فهو يكاد يهلك نفسه حينما يرى كفر الناس بالرسالة.

(لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ)

[٤] ولكن هل الرسول قادر على ما يريده من ايمان الناس بالرسالة من دون اذن الله ، كلا .. لأن الله منح الناس حرية القرار ، ولم يرد إكراههم على الإيمان ، ودليل ذلك أنه لا ينزل عليهم عذابا غليظا يجعلهم خاضعين للحق.

(إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ)

ولكن ربنا شاء ان يؤمنوا بكامل حريتهم ، ولو أنزل عليهم عذابا فآمنوا خشية وقوعه عليهم لم يكن ينفعهم إيمانهم ، انما ينفع الإيمان إذا جاء بلا إكراه.

روي عن أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ انه قال وهو يتحدث عن الأنبياء وحكمة الابتلاء :

«ولو أراد الله ـ جل ثناؤه ـ حين بعثهم ، ان يفتح لهم كنوز الذهبان ، ومعادن البلدان ، ومغارس الجنان ، وان يحشر طير السماء ، ووحش الأرض معهم لفعل ، ولو فعل لسقط البلاء ، وبطل الجزاء ، واضمحل الابتلاء ، ولما وجب للقائلين أجور المبتلين ، ولا لحق المؤمنين ثواب المحسنين ، ولا لزمت الأسماء أهاليها على معنى مبين ، ولذلك لو أنزل الله من السماء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين ، ولو فعل لسقط البلوى عن الناس أجمعين» (٣)

[٥] رسالات الله تستثير العقل ، وتستنهض الفطرة ، وتطهر القلب من رواسب

__________________

(٣) المصدر / ص (٤٦).

١٥

التقليد ، وتفك القيود والأغلال التي تمنع الانطلاق ، وأولئك الذين يكفرون بها إنما يعرضون عن ذكرهم ، ويتشبثون بالتقاليد البالية.

(وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ)

وقد سمى الله القرآن ذكرا لأنه يقوم بدور المنبّه للإنسان ، كمن يمشي في ظلام وهو يملك مصباحا غفل عنه ، فيأتيه من يذكره بمصباحه.

(مُحْدَثٍ)

بالرغم من ان رسالات الله واحدة عبر القرون حتى ان الجاهلين قالوا : إن هي الا أساطير الأولين ، إلّا أنّ الذكر القرآني محدث ، وجديد. لماذا؟

أولا : لان القرآن جاء بعد هجعة من البشر ، حيث فترت علاقاتها بالقيم ، فكان ذكرا جديدا.

ثانيا : لأن رسالات الله تدعو الى العقل ، والعقل إمام الإنسان الذي يقوده إلى الأمام أبدا ، والذي يفك به البشر قيود التقليد ، وأغلال الجمود ، لذلك كانت تصطدم الرسالات الإلهية بالتقاليد حيث كانوا يعرضون عنها.

(إِلَّا كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ)

[٦] أنهم تشبثوا بالماضي واستهزءوا بالمحدث ، فكذبوا بالرسالة ، وسيأتيهم خبرها : أنها استعلوا على باطلهم ، وسيندمون ولكن عبثا.

(فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبؤُا ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ)

[٧] ولو نظروا في آيات الله ، وعرفوا ربهم من خلالها ، وآمنوا بأسمائه الحسنى ،

١٦

لما كذبوا.

لو كانت نظرة الإنسان الى الخلق من حوله سليمة لعرف صدق رسالات الله ، لأنها تعبير صادق عن سنن الله في خلقه.

(أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ)

سر في الأرض ، واطلع على حقل ناضر ، وقف عند شجرة مثمرة ، ماذا ترى؟ أنها جد متكاملة ، تضرب بجذورها في الأرض ، وتقوم على ساقها الغليظة ، وتنشر فروعها من حولها بتناسق ، وتتحدى الرياح والأنواء والآفات بعشرات من الأنظمة التي أودعها الرب فيها ، ثم ماذا ترى؟ ترى ان هذه الشجرة ـ بالرغم من تكاملها الكريم ـ بحاجة الى زوج تتكامل به. كيف جعلها الله غنية وكريمة من كل جانب ، وكيف جعلها محتاجة الى غيرها في هذا الجانب بالذات.

أو ليس في ذلك دليل يهدينا الى ربنا ، والى أنه رحيم ، وآية رحمته تكاملية نعمه وشموليتها ، وأنه عزيز وآية عزته انه جعل كل شيء في الخلق محتاجا الى غيره ، فخلق من كل شيء زوجين اثنين ليهدينا إلى أنّه وحده العزيز الغني سبحانه.

[٨] (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً)

أنها تكفي الإنسان حجة لو بحث عن الحجة ، ودليلا لو انه اهتدى بدليل ، ولكن أكثر الناس لا يبحثون عن حجة ، ولا يريدون دليلا.

(وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ)

فلا تنتظر إيمان الناس حتى تؤمن معهم ، إنما بادر الى التسليم للحق.

١٧

[٩] ان عزة الله تتجلى في سنة (الزوجية) بينما تتجلى رحمته في الكرامة التي أسبغها على الأشياء ، فلم يمنع عن الناس حاجاتهم ، بل أودع في الأرض ما ينفعهم ، وكما خلق حاجة في هذا الطرف خلقها في الطرف الثاني ، فلم يزل هذا بذاك ، وذاك بهذا.

(وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ)

والنفس المؤمنة تعيش التوازن بين اسمي العزة والرحمة. أي بين الخوف من غضب الله ، والرجاء لرحمته ، وأكثر الناس تغرّهم رحمة الله ، فيغفلون عن عزته ، يقول الدعاء :

(الهي اذهلني عن اقامة شكرك تتابع طولك ، وأعجزني عن إحصاء ثنائك فيض فضلك ، وأشغلني عن ذكر محامدك ترادف عوائدك) (٤)

وجاء في دعاء آخر :

(ويحملني ويجرأني على معصيتك حلمك عني ، ويدعوني الى قلة الحياء سترك علي ، ويسرعني الى التوثب على محارمك معرفتي بسعة رحمتك ، وعظيم عفوك) (٥)

أنما المؤمنون يقاومون هذه الغفلة بذكر نعماء الله ، والتنبه الى احتمالات ذهابها.

[١٠] ومن آيات رحمة الله أنه بعث أنبياءه الى عباده الظالمين ، أو ليس الظلم ينغص النعم ، ويستدرج العذاب؟ فمن أولى من الرب الرحيم بأن يبعث الى

__________________

(٤) مناجاة الشاكرين / الصحيفة السجادية ص (١٢٢).

(٥) من دعاء أبي حمزة الثمالي ، مفاتيح الجنان ص (١٨٧).

١٨

عباده من ينذرهم عاقبة ظلمهم.

(وَإِذْ نادى رَبُّكَ مُوسى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)

النداء الواضح الذي لا يرتاب فيه السامع ، ولا يختلط بحديث النفس أو وساوس القلب ، يهبط هذا النداء الى موسى من الرب الذي لا تزال نعمه تتواتر على البشر ، طورا فطورا ، ومرحلة بعد أخرى.

[١١] والهدف واضح هو مقاومة الظلم ، ليس لمصلحة المظلومين فقط ، وإنما أيضا لمصلحة الظالمين الذين سيهلكهم ظلمهم.

لقد عاش موسى ردحا من عمره بين أولئك الظالمين ، دون ان يحمّل رسالة. أنها ـ إذا ـ رسالة الله ، وليست من عبقرية موسى.

(قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ)

هؤلاء الذين يظلمون الناس لماذا لا يخشون عذاب ربهم ويتقّونه؟!

[١٢] وأول ما يخشاه الإنسان قبل ان يشرع في العمل هو الفشل ، فكثير من الناس يتركون العمل لمجرد الخشية من فشلهم فيه ، ولأن القرآن يعالج كل أمراض البشر ، ولأن هذه السورة المباركة برنامج عمل متكامل للدعاة الى الله ، فإنها تفصّل القول في العقبات التي لا بد من تذليلها عبر قصة موسى وهارون. كيف دعيا الى الرب.

وتهدينا هذه الآية أولا : الى ضرورة مقاومة خوف الفشل ، الذي يعتري حتى الأنبياء قبل اعتصامهم بالله.

١٩

(قالَ رَبِّ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ)

وتأتي في نهاية السياق معالجة هذا الخوف بقوله سبحانه : «كلا».

[١٣] ثانيا : حمل رسالات الله إلى الظالمين لا يتمّ بسهولة ، انما يسبب المزيد من الصعاب لحاملها ، وبالرغم من أنّ قدرات الفرد تتسع لكل تلك الصعاب إلا أنّ المقياس هو مدى قدرة استيعاب صدره لمشاكل العمل.

(وَيَضِيقُ صَدْرِي) ثالثا : لعل شدّة تكذيب الناس تكون سببا في انعقاد اللسان ، أو ان هذا التكذيب بحاجة الى لسان طلق بليغ.

وقالوا : كان موسى ـ عليه السلام ـ ألثغا ، حيث لم يكن قادرا على الإفصاح عن بعض الحروف.

وإذا كان الأمر هكذا فان الدرس الذي يعطيه السياق هنا هو : ان هناك معوقات جسمية قد تقف حاجزا دون القيام برسالة الله ، وعلينا تحدّيها.

(وَلا يَنْطَلِقُ لِسانِي فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ)

ان حمل رسالات الله بحاجة الى إعلام قويّ ، وكان موسى ـ عليه السلام ـ يعلم مدى صعوبة الأمر ، فبادر الى طلب المساعد في هذا الحقل بالذات.

[١٤] رابعا : ليس بالضرورة ان يكون حامل الرسالة مقبولا حسب الأعراف والقوانين المرعية في البلد ، وليست تلك عقبة كأداء لا يمكن تجاوزها. إذا استصغرك القوم ، أو استهزءوا بك ، أو حتى إذا اعتبروك مجرما فلا تأبه ، وامض في طريقك ،

٢٠