من هدى القرآن - ج ١٠

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ١٠

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-12-0
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٥٠٤

١
٢

سورة الروم

٣
٤

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

فضل السورة :

في كتاب ثواب الأعمال للشيخ الصدوق بإسناده إلى أبي عبد الله (ع) قال :

«من قرأ سورة العنكبوت والروم في شهر رمضان ليلة ثلاث وعشرين فهو ـ والله يا أبا محمد ـ من أهل الجنة لا استثني فيه أبدا ، ولا أخاف أن يكتب الله على يميني إثما ، وإنّ لهاتين السورتين من الله مكانا»

تفسير نور الثقلين / ج (٤) / ص (١٦٩)

٥
٦

الإطار العام

الاسم :

استوحي اسم السورة من واقعة تاريخية هامة جرت بين الروم الذين كانوا على هدى المسيح بن مريم (ع) ظاهرا ، وبين الفرس ، في عصر الرسول (ص).

تدور آيات هذه السورة حول عدة محاور ، أبرزها :

أـ تبصير الإنسان بهيمنة الربّ على السموات والأرض ، وأنّ هناك تقديرا ظاهرا ، وقضاء خفيّا ، ويضرب القرآن مثلا من هذه الحقيقة بغلبة الفرس على الروم في أدنى الأرض ، كيف أنّها جرت ضمن تقديرات الخليقة ، إلّا أنّه ينبئنا بقضاء الله الذي لا يردّ بنصر الله ، وهذا وعد إلهي لا يخلف ، بيد أنّ أكثر الناس لا يعلمون سوى الظاهر من الحياة الدنيا.

وأعظم ما يجهله أغلب الناس من الحياة : أنّ الله خلقها بالحق وأجل مسمّى ،

٧

ولذلك ترى الظالمين قد دمّروا حين خالفوا الحق ، ولكن عند ما حان أجلهم ، بالرغم من شدة قوّتهم وعظيم عمرانهم.

ب ـ ويتّصل هذا المحور بالمحور الثاني ، ألا وهو مسئولية الإنسان عن أفعاله دون أن يقدر الشركاء المزعومون على نجاته من جزاء السيئات.

ويطول الحديث حول هذا المحور (١٢) و (٢٨) حيث يبيّن القرآن أنّ المجرمين يبلسون عند قيام الساعة ، وأنّ الناس يومئذ يتفرّقون بين صالحين يجزون وكافرين يحضرون في العذاب.

ويحتجّ الذكر وجدانيّا لوحدانية الربّ وضرورة إخلاص الدين له وتطهيره من دنس الشرك ، ويحذّر من الشرك في السياسة باتباع القادة الذين لم يأمر الله باتّباعهم ، ومن الشرك في الاجتماع بالتحزّب والتوسل بغير الله ، ومن الشرك في الاقتصاد بالاستئثار بالثروة وعدم إنفاقها في سبيل الله ، وكذلك بالربا الذي لا يربو عند الله.

ويبيّن القرآن أنّ ما يظهر من الفساد في البر والبحر إنّما هو بما كسبت أيدي الناس ، وأنّ الحكمة منه : تحسيس الناس بنتائج بعض أعمالهم السيئة ، لعلّهم يرجعون عن غيّهم.

وهذا دليل واضح على المسؤولية ، وهناك دليل آخر يتمثّل في عاقبة المشركين من قبل الذين يأمر الله بالسير في الأرض للنظر في نهايتهم.

ج ـ ولكي يعي البشر مسئوليته أكثر فأكثر ، لا بدّ أن يؤمن بالساعة ، حين يبعث للجزاء. وهذا هو المحور الثالث والأهم في السورة. ولكن كيف يؤمن البشر بالبعث ، وهوى نفسه ، وشيطان قلبه يزيّنان له سوء عمله ، ويطوّلان أمله ، ويلقيان

٨

في روعه الشبهات؟

والجواب : بمعرفة الله. أليس الله بقادر على أن يعيد الإنسان بعد هلاكه؟ بلى. أو ليس حكيما ، ومن حكمته أن يجزي الصالحين بالحسنى والكفار بالنار؟ بلى. إذا فالساعة آتية لا ريب فيها.

وليزداد المؤمن معرفة بخالقه ، فيزداد إيمانا وتصديقا بالنشور ، ووعيا للساعة ، يذكّرنا الربّ بآياته المبثوثة في الآفاق والمحسوسة في النفس مساء وصبحا وعشيّا وعند الظهيرة ، والتي يتجلّى بها أنّ حقّ التسبيح والحمد لله وحده.

ويهدينا إلى روعة الحياة ، وكيف يخرج الحيّ من الميت والميت من الحي ، ويأمر بالتفكر في أنفسنا : كيف خلقنا من التراب ، ثم جعل لنا أزواجا نسكن إليها ، ويأمرنا بتعلّم آياته في السماء والأرض ، وفي اختلاف ألسنة الناس ، وكيف ننام ليلا ثم يبعثنا نهارا لاكتساب المعائش ، ويذكّرنا بنعمة الغيث الذي يحيي به الأرض بعد موتها ، ويلفت نظرنا إلى عظمة السموات والأرض .. ويستدل بذلك كلّه على أنّه عزيز حكيم (١٧).

ومرة أخرى يبيّن لنا نعمة الرياح التي تبشّر ببركات الغيث ، كما تحمل الفلك ، وتوجب الشكر ، ويصف لنا سبحانه نزول الغيث بأروح وصف ، ويأمرنا بأن ننظر الى آثار رحمته ، وكيف يحيي الأرض بعد موتها .. ثم يذكّرنا بأنّه سبحانه على كلّ شيء قدير.

ويبيّن لنا آياته في أنفسنا : كيف نتقلّب بين ضعف وقوة ، ثم ضعف وشيبة ، ويذكّرنا ـ مرة أخرى ـ بأنّه العليم القدير (٤٦).

ويصوّر لنا بعض مشاهد القيامة حيث يعالج طول الأمل عند الإنسان ، وأنّه لا

٩

ينفعه يومئذ عذر ولا هو يستتاب.

وبالإضافة إلى هذه المحاور نجد في السورة حديثا مبثوثا بين أرجائه عن شروط المعرفة ، وعن أهميتها ، وأنّ في القرآن من كلّ مثل.

كما أنّ السورة فذكّرنا بالزمن ، وموقف المؤمنين منه ، وضرورة الصبر حتى يأتي وعد الله.

١٠

سورة الرّوم

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الم (١) غُلِبَتِ الرُّومُ (٢) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (٣) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (٤) بِنَصْرِ اللهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٥) وَعْدَ اللهِ لا يُخْلِفُ اللهُ وَعْدَهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٦) يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ (٧) أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ ما خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ

___________________

٤ [بضع] : البضع القطعة من العدد ما بين الثلاثة الى العشرة ، وهو من بضعته أي قطعته.

١١

بِلِقاءِ رَبِّهِمْ لَكافِرُونَ (٨) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٩) ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ وَكانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ (١٠)

___________________

٩ [وأثاروا] : من الآثار بمعنى التقليب ، لأجل الزرع والإنبات.

١٠ [السوآى] : العقوبة المتناهية في السوء.

١٢

لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ

هدى من الآيات :

تبين آيات هذا الدرس الأوّل من سورة الروم ، العوامل الخفيّة التي تغرب عن بال كثير من الناس ، ويضرب الله سبحانه مثلين على ذلك :

الأوّل : الهزيمة التي لم تلبث أن تحوّلت إلى انتصار للروم ، الذين كانوا يعتبرون أصحاب رسالة مقارنة مع الفرس الذين كانوا مجوسا.

وقد كان الكفار ـ الذين يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا ـ قد تفاءلوا بانكسار الروم ، بيد أنّ الله سبحانه أكدّ نصر عباده ، وهكذا كان حيث فرح المؤمنون بنصر الله.

الثاني : يضرب الله مثلا لأولئك الذين امتلكوا حضارة كانوا أشدّ قوة ، وأثاروا الأرض وعمروها أكثر مما عمروها ، وكذبوا برسالة الله لما جاءتهم.

إنّ الناظر البسيط الساذج سيظن أنّ تلك الحضارة لن تبيد أبدا ، ولكن من ينظر

١٣

إلى عواقب الأمور ، ويستدلّ بالظواهر عمّا وراءها من السنن الخفيّة ، فيرى في الحضارة مثلا جراثيم التخلف ، والظلم ، والبغي ، وسحق الكرامات ، يعرف أنّها حضاره هالكة في سنوات تطول أو تقصر حسب حجم الانحراف فيها ، الا أن يغيّروا ما بأنفسهم.

بينات من الآيات :

(١) (الم)

ـ كما سبق القول ـ ربما تكون هذه الحروف المقطّعة إشارة إلى القرآن الحكيم ، وتهدينا هنا إلى عظمة كشف القرآن لأسرار الخليقة ، وربما تكون رموزا لا يهتدي إليها سوى أولياء الله.

(٢) (غُلِبَتِ الرُّومُ)

انتصرت الفرس على الروم ، وكان المسلمون يأملون انتصار الروم ، لأنهم مثلهم أصحاب رسالة ، بعكس الفرس.

(٣) (فِي أَدْنَى الْأَرْضِ)

في الشرق الأدنى. وقد روى التاريخ أنّ حربا طاحنة دارت رحاها خلال (٢٤) عاما بين الفرس والروم بين السنين (٦٠٤) وهاجم القائدان الفارسيان (شهر براز) و (شاهين) الأراضي المستعمرة للروم ، واحتلّت القوات الفارسية الشامات ومصر وآسيا الصغرى ، وكان ذلك حوالي السنة السابعة من بعثة الرسول. (١)

__________________

(١) تفسير نمونه / ص (٣٦٩) / ج (١٦).

١٤

ولقد سجّل القرآن أعظم الحوادث التاريخية ، وبيّن عبرها والبصائر التي نستوحيها منها ، وهكذا اختصر هنا الإشارة إلى تلك الحادثة ، ثم أشار إلى نهاية الحرب فقال :

(وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ)

إنّهم سوف ينتصرون بعد أن غلبوا وانهزموا. وهذه نبوءة قرآنية بدأ الله بها سورة الروم ، لكي لا ننخدع بظاهر الأمور ، بل نرى القوى الخفيّة التي تكمن وراءها.

فبالرغم ممّا حقّق الفرس من انتصار ، إلّا أنّ هذا الانتصار كان مقدمة لانتكاستهم ، لأنّ هذا الانتصار كان سببا لترهّلهم ، واسترخائهم ، وكان من أسباب انتكاستهم انتشار الطبقية المقيتة.

وفي عام (٦٢٢) قاد الإمبراطور الروماني (هر قل) حملة مضادة ، وألحق هزائم متتالية بجيش الملك الإيراني (خسرو) ، واستمرت حملاته لعام (٦٢٨) حيث صادف العام الخامس أو السادس للهجرة ، حيث كانت الجزيرة العربية تشهد ولادة حضارة إلهيّة ، وتتوالى انتصارات المسلمين ، ولعلّ أعظمها عسكريّا تمثّلت في هزيمة الأحزاب في حرب الخندق ، واعتراف قريش بقوّة المسلمين في صلح الحديبية.

(٤) وبعد بضع سنين إذا بالروم ينتصرون على الفرس ، وتتحقّق نبوءة القرآن فيهم.

(فِي بِضْعِ سِنِينَ)

وهذا التعبير يدلّ على تأثير عامل الزمن على جريان سنن الله ، فبعض الناس يريدون أن تجري سنن الله بلا أجل ، وهذا لا يكون ، لأنّه يتنافى وحكمة الابتلاء ،

١٥

وقد جاء في الأثر : أنّ الفترة بين دعوة موسى واستجابة الله له كانت أربعين سنة.

فقد روي عن زرارة عن أبي جعفر (ع) قال :

أملى الله تعالى لفرعون ما بين الكلمتين أربعين سنة ثم أخذه الله نكال الآخرة والأولى ، وكان بين أن قال الله عز وجل لموسى وهارون : «قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما» وبين أن عرّفه الإجابة أربعون (٢)

ثم يؤكد القرآن أنّ هذه السنة إنّما هي سنّة ظاهرة ، وأنّ السنّة الخفيّة ، والاسم الأعظم بيد الله ، الذي يشاء أن ينتصر الفرس أو ينهزموا ، أو ينهزم الروم أو ينتصروا ، إذا ما غيّر أيّ طرف ما بأنفسهم ـ سلبا أو إيجابا ـ.

(لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ)

وهذه الآية تعبير عن كلمة «إنشاء الله» فإذا شاء الله سينتصر الروم على الفرس ، وإن لم يشأ لا ينتصرون ، قال تعالى : (وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) (٣)

كما أنّ هذه الآية تهدينا إلى سنّة الحريّة التي ضمنها الله للإنسان ليبتليه في الدنيا ، إذ جعل ربّنا لنفسه البداء في كل شيء ولا يكون لايّ شيء فرض حتم عليه ، إلّا ما حتّم على نفسه ووعد به فلا يخلف وعده سبحانه.

(وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ)

بماذا يفرح المؤمنون؟

__________________

(٢) تفسير نور الثقلين / ج (٢) / ص (٣١٥).

(٣) الكهف / (٢٣).

١٦

(بِنَصْرِ اللهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ)

فبعزّته يأخذ الكافرين ، وبرحمته يفتح للمؤمنين.

(٦) لا شيء يحدّد أو يعجز إرادة الربّ العزيز المقتدر ، وكل شيء مستجيب طوعا أو كرها لمشيئته التي لا ترد ، ولكن ذلك لا يعني أنّه سبحانه يريد شيئا بلا حكمة أو يخلف وعدا أو ينقض عهدا ، كلا .. لقد وعد عباده الصالحين النصر ، وهو لا يخلف وعده أبدا.

(وَعْدَ اللهِ لا يُخْلِفُ اللهُ وَعْدَهُ)

وانّما يخلف العاجز أو الجاهل ، وربّنا عزيز عليم.

(وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ)

فتراهم يركنون إلى الظالمين خشية بطشهم ، ولا يأوون إلى ركن الحق الذي وعد الله بنصره.

(٧) أكثر الناس لا يعلمون طبيعة الدنيا ، لأنهم :

(يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ)

فهم غافلون عن عواقب الأمور ، وإنّما يرون ظاهر الأمور ، ومن العواقب التي يغفلون عنها النشور.

إنّ الآخرة هي غيب الدنيا ، والدنيا منطوية عليها ، ولكنّ أكثر الناس ينظرون إلى هذا الظاهر المشهود دون ذلك الغيب. إنّهم ينظرون إلى سلطة الجبابرة ولا يعلمون أنّ سنة الله (التي يسمونها بلغتهم المادية قانون الطبيعة) تقتضي زوال

١٧

الظلم ، لأنّه باطل ، ولأنّ المظلوم يثور ضدّه. ولأنّ صراع الظالمين كفيل بالقضاء عليهم و.. و..

وإنّ سنن الله تجري ولكن عبر مسيرة الزمن ، فكما أنّ من يزرع القمح سوف يحصده بعد مدة ، كذلك من يزرع الظلم سوف يحصد الانقلاب ، ولكن بعد مدّة أيضا.

وهذه هي حقيقة الجزاء التي تتجلّى جزئيا في عواقب الأمور في الدنيا ، بينما تتجلّى في الآخرة بصورة تامّة ، حيث يجزى المرء على أعماله هنا لك الجزاء الأوفى.

ولعلّ كلمة الآخرة هنا تدلّ على عاقبة الأمر سواء قبل الموت أو بعده ، حيث فسرها البعض بالعاقبة في الدنيا ، بينما الكلمة تطلق عادة على ما بعد الموت ، وإنّما نستوحي من الكلمة هذا المعنى الشامل لأنّ الدنيا والآخرة في منطق القرآن ـ حسبما يبدو لي ـ لا تنفصلان ، إنّما هما حقيقة واحده تنكشف لذوي الأبصار في الدنيا ، ولا تنكشف لغيرهم إلّا بعد الموت.

(٨) أو لا ينظرون إلى أنّ تركيبة الحياة قائمة على أساس الحق ، والأجل؟

فالزمن جزء من الكون ، لأنّ الكون متغيّر ، والتغيّر جزء من الكون ، والزمن جزء من التغيّر.

(أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ ما خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى)

والأجل المسمّى يدلّ على :

أولا : أنّ الله إنّما خلق الكون بحكمة ولهدف محدّد سلفا ، وكذلك الإنسان

١٨

فما هو الهدف من خلقه الإنسان؟ الهدف ليس إلّا البعث بعد الموت.

ثانيا : هذه الآية تدلّ على أنّ الكون ينتهي لأنّه لأجل مسمّى.

وجاء في الحديث القدسي :

«يا ابن آدم إنّما أنت أيّام فإذا مضى يوم فقد مضى بعضك»

إنّ النظرة الجامدة إلى الخليقة مسئولة عن أخطاء منهجيّة عديدة ، ومن لم يحسب للزمن حسابه فإنّه ليس فقط لا ينجح في حياته ، ويأوي إلى ظلّ الكسل والترهّل ، بل وأيضا لا يعي حقيقة الدنيا التي جعل الأجل جزء هامّا فيها.

من جهة ثانية : إنّ الحق الذي يعني جملة السنن الإلهية أساس الخليقة ، فما من شيء إلّا وتحيط به أنظمة إلهيّة تحدّد مسيرته.

وإذا تعمّق الإنسان في هاتين الحقيقتين الحق والأجل اهتدى إلى الإيمان بالبعث والنشور ، لأنّه يعرف أنّ الأساس الذي خلق عليه الخلق هو ذاته الأساس الذي خلق به الإنسان.

(وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ لَكافِرُونَ)

(٩) (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ)

لينظروا بأعينهم تجسيد تلك الحقائق التي سبقت.

(كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها)

١٩

فلا ينخدع البشر بما صنعه ، من أسلحة تدميريّة ، ومن إثارته للأرض واستخراج خيراتها ، واستنبات وتحسين نوعيّة المزروعات ، ولا ينخدع بما عمّر من ناطحات السحب والمحطّات و.. و..

يجب أن نفكّر حقّا في العاقبة ، بالرغم من أنّنا نراهم أشد قوّة ، وإثارة للأرض ، وعمارة لها.

(وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ)

لقد أكمل الله لهم الحجّة ، فأرسل الرسل ينذرونهم من الله ومن عذابه ، فلما كذّبوا برسله :

(فَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ)

حين أرسل عليهم عذابه الوبيل.

(وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)

(١٠) بعد ذلك يذكّرنا الربّ بأحد سننه وتقاديره في الحياة والتي قد لا يراها البعض ، وهي : إنّ عاقبة الذين أساؤا ستكون السوأى ، بأن يكذّبوا بآيات الله ، ومن ثمّ الاستهزاء بها ، وهذه الآية ـ في الواقع ـ تهزّ الإنسان من الأعماق ، ذلك أنّ الشيطان حين يخدع البشر يهوّن عليه السيئات إلى أن يستدرجه من الذنب الصغير إلى أكبر منه ، حتى تغطّي الذنوب كلّ أعماله ، ومن ثمّ يأتي إلى عقيدته ويسلبها منه ، ويتركه في جهنّم ، وإنّ السيئات تشبه منحدرا ، كلما هوى أكثر كلّما ازدادت جاذبية الأرض وضعفت مقاومته.

ولكنّ السؤال : كيف يصل البشر إلى هذه المرحلة من الضلال ، فيكذّب بآيات

٢٠