من هدى القرآن - ج ١

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ١

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-04-1
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٧٣٦

وحتى داخل المجتمعات الصغيرة بل داخل تجمع صغير لو سادت هذه المبادئ لكانت وسيلة للتلاحم الأكثر ، والانتاج الأفضل ، لو سادت قيمة المساواة امام القانون ، وقيمة التوحيد وعدم الاعتقاد بأية قيمة ارضية باطلة ، وقيمة الحرية وعدم الاستعباد.

ان هذه الآية تجسد جوهر سورة آل عمران .. فهي دعوة الى الوحدة وعلى أساس الحق وبناء التجمع التوحيدي الذي يتمحور حول الحق وينبذ القيم الباطلة.

[٦٥] حين رفعت الآية السابقة لواء المساواة وعدم استعباد فريق لفريق ، فانها تضمنت دعوة صريحة لنبذ صنمية وعبادة الأشخاص ، والتمحور حولهم ومحاولة الانتساب إليهم.

تلك الحالة التي تقف امام وحدة المجتمع البشري ، كما انها تعترض طريقه نحو التقدم والصعود ، حيث يفقد البشر قدرته على الإبداع. وثقته بذاته من أجل التقدم.

وضربت هذه الآية مثلا على ذلك من واقع إبراهيم عليه السلام ، حيث حاولت اليهود والنصارى الارتباط به ، والاختلاف عليه ، ومحاولة كل فريق دعم فريقه باسمه ، متناسين ان عظمة إبراهيم لم تكن بسبب عنصره المتفوق ، أو بسبب لوالده أو قومه أو إقليمه بل لأنه سلّم نفسه لله وأخلص في التوحيد.

ولو انهم اتبعوا ملة إبراهيم في التوحيد ، إذن لوحدتهم تلك الملة ، بدل ان تفرقهم ، ولما فكّروا تفكيرا حزبيا ضيّقا ، ولم يحاول كل فريق ان يكون لجماعته أشد من انتمائه للحق.

(يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ

٥٨١

بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ)

ان عليكم ان تجعلوا إبراهيم رمزا للوحدة ، لا سببا للتفرقة والجدل الطائفي بينكم ذلك لأن الاختلاف جاء بعد إبراهيم لا قبله.

[٦٦] ثم يتابع القرآن حديثه ويقول :

ان التعصب يدعو صاحبه الى العمى ، حيث انه لا يفكر تفكيرا علميا ، بل يحاول إثبات جانبه بأي ثمن فإبراهيم كيف يمكن ان يكون يهوديا؟ واليهودية متأخرة عنه ، أم كيف يكون مسيحيا؟

(ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ حاجَجْتُمْ فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ)

والأفضل ان نوحد الله ونسلم له حتى نبتعد عن العصبية الطائفية ، ونستفيد من العلم والعقل.

[٦٧] من كان ـ إذا ـ إبراهيم؟ انه كان عبدا لله ولم يكن منتميا لطائفة أو عنصر. وبذلك أصبح عظيما.

(ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ)

انه رفض الانحرافات الاجتماعية التي سادت مجتمعة ، وحنف ومال عنها ثم توجه الى الله ووحده فعبده ، وبالتالي تحرر من ضغط الجبت والطاغوت ، فلم يخضع لاية قوة فكرية أو اجتماعية أو سياسية غير الله.

[٦٨] هذا إبراهيم فمن أراد ان يهتدي اليه فليبدأ برفض مجتمعة الفاسد ،

٥٨٢

وليمل عنه باتجاه معاكس تماما الى الله ، وليسلم نفسه لله والحق ، وليتحرر من كل القوى المستعبدة للبشر هذا هو الانتماء الصحيح لإبراهيم ، ولا تجده الّا في النبي محمد (ص) والمؤمنين به.

(إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ)

وأخلصوا التوحيد لله.

(وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ)

٥٨٣

وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَما يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (٦٩) يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (٧٠) يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٧١) وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٧٢) وَلا تُؤْمِنُوا إِلاَّ لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللهِ أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٧٣) يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ

____________________

٦٩ [ودت] : أي تمنت.

٧٢ [وجه النهار] : أوله وسمى وجها لأنه أول ما يواجهك منه.

٥٨٤

الْعَظِيمِ (٧٤) وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٧٥) بَلى مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ وَاتَّقى فَإِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (٧٦)

٥٨٥

مواقف أهل الكتاب

عصبية وتضليل

هدى من الآيات :

ما هي مواقف أهل الكتاب من الرسالة الجديدة «الإسلام» الذي اتبعه إبراهيم؟

ان أهل الكتاب أهم ما يميز مواقفهم ، هو التعصب الأعمى لطائفتهم على حساب الحق ، انهم لا يفكرون في أن يهتدوا ، بل يحاولون تضليل المؤمنين أيضا ، ومع علمهم بان الرسول حق ، فهم يكفرون به ، انطلاقا من عصبيتهم الطائفية ، وعنصريتهم القومية ، ويستخدمون وسائل ما كرة وغير شريفة في إضلال المؤمنين ، مثل ان يتظاهروا في الصبح انهم مؤمنون ، ثم يكفرون مساء ، لعلهم يضعضعون إسلام المؤمنين بالرسول ، أو انهم يشيعون في أوساطهم فكرة الطائفية ، ويحاولون اللعب بمشاعر الناس الاستقلالية ، وينفخون في كبريائهم القومية ويقولون لهم لماذا تتبعونهم دعوهم ، فهم يتبعونكم ، فأنتم أولى بالاتباع ، وكأن المسلمين يدعونهم الى اتباع أنفسهم.

٥٨٦

وتبرز هذه المواقف كأسوإ ما تكون في العنصرية ، التي تدّعي ان اليهودي لا يعذب شيئا ، إذا خان الناس من غير اليهود. انظر كيف تنحرف المفاهيم ، بسبب العصبية الطائفية.

ويرد القرآن ـ كما نبين قريبا ـ هذه الأفكار وتلك المواقف بحجج قوية.

بينات من الآيات :

نتائج التعصب :

[٦٩] ان أهل الكتاب ليسوا سواء ، هذا ما توحي به هذه الآية وتبينه آية تأتي لتؤكد لنا : ان جزاء العصبية ليست عصبية مثلها ، بل التقييم السليم ، والاحتكام الى الحق فقط ، فاذا قالوا لنا أنتم كلكم منحرفون ، لا نرد عليهم القول ذاته فنقول : بل أنتم المنحرفون جميعا ، بل نقول الحق أبدا. فليس كلّ الطوائف من أهل الكتاب يكفرون بنمط واحد ، انما هناك طائفة من أهل الكتاب يودون تضليل المؤمنين بالرسالة الجديدة ، وهم يستفيدون من الدين المنحرف السابق ، سواء كانوا الكبراء أو الأحبار أو الأثرياء أو من أشبه.

ولكن هذا التضليل سوف يسبب لأنفسهم مزيدا من الضلالة ، إذ ان الذي يحاول تضليل غيره سوف تتكرس في نفسه الأفكار الباطلة ، التي يلوك بها من أجل اقناع الآخرين بها ، ذلك لأنه سوف يفتش عن بعض الأدلة الباطلة ، التي تدل عليها ، ويكررها ، حتى يصدق هو بها ، كما وتأخذه حالة التحدي ، والاعتزاز بالإثم ، ولا ينظر الى الأفكار المعاكسة لفكرته. كل ذلك سوف يسبب له مزيدا من الضلالة.

(وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما

٥٨٧

يَشْعُرُونَ)

[٧٠] العصبية أعمى لا بصيرة لها .. انها تسبب الكفر بالحق بكل صراحة ، فاذن من يخسر بالكفر؟ أو ليس الكافر نفسه؟!

(يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ)

هل هناك فائدة في الكفر بآيات الله الواضحة.

[٧١] انهم لم يكونوا يكفرون بالحق فقط ، بل يحاولون إضلال المؤمنين بشتى الوسائل ، التي منها أولا : خلط الحق بالباطل ودمج الباطل به ، وخداع البسطاء فيه ، وهم أهل الكتاب الذين أؤتمنوا عليه ..

(يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ)

هل هذا في كتابكم أم من أجل تحقيق أهوائكم الضالة.

والأسلوب الثاني : كتمان جوانب من الحق ، من أجل ألّا تصبح حجّة عليهم أمام الناس ..

(وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ)

انه الحق من ربكم ..

ان الله حمل أهل الكتاب مسئولية بيانه للناس ، وكانت ثقة الناس بهم آتية من منطلق انهم سوف يحققون مسئولية العلم التي على أكتافهم ، ولكنهم خانوا الله وخانوا بالجماهير ، حين كتموا الحق ، وخلطوه عمدا بالباطل.

[٧٢] وقاموا بخطوات عملية ما كرة ، لزرع الشك بالحق في قلوب البسطاء من

٥٨٨

أتباعهم أن يؤمنوا بالرسالة الجديدة.

فلقد كانوا يتظاهرون بالإيمان في فترة من الوقت ، ثم يكفرون ويعودون لجماعتهم ، ويقولون : نعم خدعنا وآمنا لاننا كنا طيّبي القلب ، ومخلصين ، ولكننا اكتشفنا انهم على باطل.

(وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)

انظر كيف يؤدي الكفر بالحق الى اتخاذ مواقف خطيرة ضد الحق ، ومن أجل إضلال الناس عنه.

[٧٣] وكانوا يثيرون في أنفس اتباعهم العصبية الجاهلية البعيدة كل البعد عن روح الدين ، فيقولون لهم : دعوهم هم يتبعون دينكم ، لأنكم أنتم أصحاب الدين الحقيقي. علما بأن الدين لله ليس لهؤلاء ولا لأولئك.

(وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللهِ)

وليس هدى عنصر أو قوم معين ، ثم ان الرسالة التي هبطت على قلب محمد (ص) ، هي مكملة لرسالة الله وخاتمة لها .. بينما رسالات الله السابقة لم تكن بذلك المستوى.

(أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ)

أيها المسلمون : فلا ترتابوا في دينكم ، لمجرد ان طائفة من الأحبار يؤمنون ثم يكفرون ، أو لمجرد انهم يقولون اننا حملة الرسالة التقليديون ، فكيف انتقلت الرسالة؟ الى العرب وهم ليسوا بمستوى حمل الرسالة كلا : ان الله يعلم أين يضع رسالته.

٥٨٩

(أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ)

وليس يختص بفضل الله بنو إسرائيل ، لان الله الذي خلق بني إسرائيل ، وتفضل عليهم برسالته ، هو الذي خلق العرب. والخلق امامه سواء ، وانما خصهم الآن بالرسالة لما علمه من كفاءات حملها فيهم.

(وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ).

ولأنه واسع لا يخصص فضله لجماعة دون اخرى ، ولأنه عليم يجعل في كل فترة رسالته في موقع معين ، تبعا للحكمة البالغة والمصلحة العامة.

[٧٤] (يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ).

[٧٥] لذلك نجد ان الله يختار اليهود تارة ، والعرب تارة. وبالطبع ان هذه العنصرية لم تكن جزءا من رسالتهم السماوية ، بدليل ان بعضهم ـ وهم المتمسكون جيدا برسالتهم ـ كانوا يؤدون الأمانة ، حتى القنطار من الذهب.

(وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً)

وتطالبه به بقوة حتى تستلم أمانتك منه ، ولكن لماذا يخونون الامانة؟

(ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ)

فلا يحاسبنا الله على الخيانة بالعرب الأميين ، أو بالأحرى على الخيانة بكل شعب غير شعب اليهود ، الذي نزلت عليه ومن اجله فقط رسالة السماء.

(وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ)

٥٩٠

إذ لم ينزل الله دينا عنصريا لناس دون ناس. ولكن دوافع هؤلاء الحقيقية هي دوافع مصلحية ، وعصبية ، ولذلك يتلبسون بالدين عمدا.

[٧٦] وقد رأينا كيف ان الله يمدح طائفة من اليهود ، لأنهم يؤدون الأمانة ، ان ذلك دليل بسيط على ان رسالة السماء لا تعترف بالعنصرية أبدا ، والقيمة الوحيدة عندها هي العمل الصالح.

(بَلى مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ وَاتَّقى فَإِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ)

سواء كان ذلك العهد ، هو المال كما في الآية السابقة ، أو كان العلم الذي حمله إياه الله لكي ينشره بين الناس ، ولكن العصبيّة الجاهلية العمياء ، هي التي أملت على اليهود مخالفة الهدى من ربهم لمجرد انه أنزله على العرب ، والواقع إنّ هذه العصبية انتهت بهم الى عنصرية عمياء ، فاذا بهم تجدهم يخونون أمانات الناس ـ مثلا ـ من دون اي حرج ، بزعمهم أنهم يحاسبون على الذنوب التي يرتكبونها في حق الأميين.

٥٩١

إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٧٧) وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٧٨) ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللهِ وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ

____________________

٧٨ [يلوون] : أصل اللّيّ الفتل من قولك لويت يده إذا فتلتها ومنه لويت الغريم.

٧٩ [ربانيين] : الرباني هو الرب يرب أمر الناس بتدبيره

٥٩٢

وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (٧٩) وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (٨٠) وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (٨١) فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٨٢) أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (٨٣) قُلْ آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَما أُنْزِلَ عَلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ

____________________

وإصلاحه إياه يقال رب فلان أمره إذا دبره وأصلحه فيكون العالم ربانيا لأنه بالعلم يرب الأمر ويصلحه. قيل أنه مضاف الى علم الرب وهو علم الدين الذي يأمره به الا انه غير في الاضافة ليدل على هذا المعنى فقيل لصاحب علم الدين الذي امر به الرب رباني.

٥٩٣

مُوسى وَعِيسى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (٨٤) وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ (٨٥)

٥٩٤

العلماء بين

تبرير الهزائم وتفجير الطاقات

هدى من الآيات :

بالرغم من أن آيات الدرس السابق كانت عامة ، إلّا ان رجال الدين التحريفيين وانصاف المثقفين كانوا أولى الناس بها ، إذ انهم هم ابرز (أهل الكتاب). فالكتاب يعرفونه قبل غيرهم ويدرّسونه ويعلّمونه الآخرين فهم أهله بالاولوية ..

والحديث في هذا الدرس يتركز على هؤلاء بالذات ، ويبدأ بان العلم أمانة ، والذين لا يتحملون مسئولية العلم لبعض المال ، ويخونون أمانته ينالون جزاءهم في الآخرة.

وخيانة العلم قد تكون بالتفسير الخاطئ للدين. بتحريف معاني نصوصه وجعلها تتوافق ومصالحه الدينية.

وهؤلاء ليسوا أمناء الله على رسالته ، انما امناؤه الأنبياء الذين يخلصون الدعوة

٥٩٥

الى الله لا الى أنفسهم ، ولا الى الملائكة أو الأنبياء ، ويصدق بعضهم ببعض ، وفقا للميثاق الذي اتخذه الله منهم قبل ان يحمّلهم مسئولية الرسالة. أن يؤمنوا بالنبي الذي يبعث إليهم وينصروه. فوافقوا جميعا عليه. واشهدوا الله على أنفسهم.

وهذا في الواقع هو الإسلام بمعناه الصادق ، فهو تجرد كامل عن الذاتية ، وتسليم مطلق لله. تماما كما أسلمت السماوات والأرض لسنن الله.

وبالنسبة لنا يعني هذا الإسلام ، الايمان بجميع الرسل انطلاقا من وحدة الرسالات السماوية ، التي سيبحثها القرآن في الدروس التالية مباشرة.

بينات من الآيات :

الرسالة مسئوليات وواجبات :

[٧٧] رسالة الله مسئولية كبيرة يحملها الإنسان في الحياة ، وتتركز عند الأنبياء والصديقين ، وعند الذين ينصبون أنفسهم دعاة الى الدين. وهي ـ في ذات الوقت ـ مسئولية ثقيلة وذات قيمة كبيرة ، لأنها أداة لتوجيه الناس الى الحياة السعيدة والى مقاومة الجبت والطاغوت ، ولنا أن نتصور ان قدرة الإنسان في ضبط نفسه عن شهواته متصلة بفهمه الصحيح لرسالة الدين في الحياة. إذ انها هي التي تحذره من مغبة الاسترسال مع الشهوات.

وتبين له ان لقمة واحدة يمضغها الإنسان بشهواته ، قد تمنعه من الاكل الهنيء طول حياته. وان ساعة واحدة من الغفلة واللاإرادة ، قد تجعل حياته والى الأبد جحيما لا يطاق ، وان اي شهوة طائشة ، أو جريمة ، أو ذنب ، أو هفوة ، توجب عليه الحساب والعقاب الأليم في الآخرة. وبالتالي رسالة الدين تجعل إرادة الإنسان قوية وقادرة على ضبط الشهوات وتوجيه طاقاته نحو الجد.

٥٩٦

نتائج التحريف :

أما لو جاء رجل دين منحرف ، ومن أجل المماشاة مع أصحاب الشهوات والربح عليهم. وجمع أكبر عدد منهم حوله ، برّر لهم سيئاتهم وهوّن عليهم امر العقاب وأخذ ينشر فيهم أفكارا من قبيل ان الله غفور رحيم ، أو ان الأنبياء والأولياء يشفعون لك ذنوبك ، وانك سوف توفق للتوبة وهكذا. فان النتيجة ستكون خطيرة ، إذ ان اداة الضبط تتراخى في النفس وتندفع الشهوات في كل اتجاه. وقد يقدم صاحبها على أكبر الجرائم اعتمادا على تلك التبريرات السخيفة.

ان مجازر الحروب الصليبية ارتكبت بفعل تحريف رسالة الدين ، وتحويلها من أداة لضبط الشهوات الى أداة لتبريرها .. بل وتكريسها واعطائها الشرعية.

كما ان هتلر كان قد استغل في مجازره الرهيبة بعض رجال الدين التحريفيين ، الذين زوروا له الدين ، ورسموا له الصليب المعكوف ..

وإسرائيل تقترف الآن الجرائم باسم الدين ، ولكن أيّ دين ذلك الدين الذي يبرر الجرائم بدل أن يدينها.

هذا عن الجبت. أما الطاغوت المتمثل في السلطات الديكتاتورية والمستغلة والمستعبدة للبشرية. فان القوة الوحيدة التي تستطيع ان تتحرك ضدها ـ هي قوة الشعب ، الذي يجب أن يحافظ على حريته وثرواته ويجاهد ضد مستغليه. ولكن الشعب بحاجة الى سلاح فكري يساعده في تجميع قواه ، وتوحيد طاقاته ، وتبرير تضحياته ... وذلك السلاح هو الدين. ولكن يشترط ألّا يسرق رجال الدين سلاح الشعب منه ، ويبيعوه الى الطواغيت ، (بِثَمَنٍ بَخْسٍ ـ دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ).

ولنا أن نتصوركم ألف ألف جريمة ترتكب في كلّ يوم بسبب خيانة رجال

٥٩٧

الدين لرسالة الدين. وكم يستعبد ملايين الناس لهذا السبب وهل لها قيمة الدراهم التي يقبضها هؤلاء الخونة لقاء تلك الجرائم الكبيرة التي يتحملون وزرها.

من هنا نجد القرآن شديدا مع هؤلاء ويقول :

(إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً)

فمهما يكون الثمن الذي يقبضه الإنسان لقاء جريمته بحق الشعوب ، فهو قليل والعهد والايمان سيتحدث عنهما القرآن في الآية (٨١).

(أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ)

انهم في الآخرة بلا رصيد ، بالرغم من بعض مظاهر الطاعة التي عندهم من صلاة وصيام.

إذ انهم يبيعون دينهم في الدنيا ، فلا يبقى منه شيء للآخرة ، وأولئك هم الأذلون في يوم القيامة ، إذ انهم طلبوا من وراء بيعهم للدين الحصول على بعض الجاه ـ فجزاهم ربهم بعقاب مناسب حين إذ لهم في القيامة.

(وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ)

وهؤلاء دائما يزكون أنفسهم ، ويجعلونها مقدسة ، ومتعالية عن النقد ، وأيّ نقد يوجه إليهم يعتبرونه نقدا موجها الى الدين ، ويكفرون صاحبه لذلك قال الله عنهم.

(وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ)

جزاء للذات البسيطة التي استفادوها ببيعهم الدين.

٥٩٨

[٧٨] ان ملايين الناس يتمردون على الدين ذاته بسبب وصاية هؤلاء الخونة على رسالته المقدسة. إذ ان هؤلاء يصورون الدين اداة للتبرير. وللكسل ، والجمود والاستسلام للطاغوت ، والرضا بالاستعباد ، وهذا التفسير الماكر يستخرجونه من بعض النصوص بطريقة ماكرة.

(وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ)

والتعبير ب (يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ) تعبير دقيق لحالة هؤلاء النفسية والسلوكية فهم من الناحية النفسية يحاولون تحريف الدين وإلوائه بأي شكل من الاشكال ، وهم من الناحية السلوكية يعيشون الكتاب على صعيد الألسن فقط دون أن تتعمق رؤي الكتاب في قلوبهم ، أو تظهر في حياتهم. انهم اتخذوا الكتاب أحرفا يتعاملون بها كما يتعاملون مع قطعة حلوى يصنعون منها ما يشاءون صورا شتى حسب المواقع وحسب الظروف المصلحية.

[٧٩] ان الكذبة الكبيرة التي قالها هؤلاء الخونة ـ من رجال الدين والعلم التحريفيين ـ هي عبادة عيسى ، واتخاذه إلها من دون الله ، ومثله عبادة سائر الأنبياء والأولياء ، والعظماء. وكان الهدف الخبيث وراء هذه الكذبة :

أولا : التعصب المذهبي ، حتى لا يتحول النصارى مثلا الى مسلمين بفعل الاعلام الاسلامي أو لا يتحول أهل مذهب الى مذهب أو جماعة حزب الى حزب ثان.

ثانيا : ان يعطوا لأنفسهم نوعا من القداسة المزيفة ، فاذا كان عيسى إلها فالأحبار أنبياء أو انصاف آلهة ، ان عبادة الذوات تقع بالضبط في الطرف الآخر

٥٩٩

لعبادة الله وان التمحور حول الأشخاص متناقض تماما للالتفاف حول الحق ، كما ان هؤلاء الخونة يريدون إبعاد البشر عن الحق وعن الله معا.

فإنهم يشيعون عبادة الذوات في الناس تلك التي يقول عنها ربنا :

(ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ)

كعيسى الذي لم يكن لديه شيء إلّا من عند الله سبحانه ، وكان واحدا من الناس فرفعه الله الى درجة الحكم والنبوة ..

(ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللهِ)

لا يمكن ذلك. أولا : لأنه يعلم قبل غيره ان كل شيء يملكه هو من عند الله فلا يعمل عملا يسلبه الله كل شيء.

ثانيا : لان الله لا يختار لنبوته رجلا خائنا حاشاه.

(وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ)

هذه دعوة عيسى الى رجال الدين ، قال لهم كونوا رجال دين تقدرون ربكم قبل ذواتكم وقبل مصالحكم ، لماذا؟

(بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ)

ان دراسة الكتاب وتعليمه للآخرين يحمّلكم مسئولية كبري ، هي ضرورة التطوع لله وعدم التفكير أبدا في ذواتكم ، تماما بعكس عبادة الذات.

[٨٠] كذلك لم يكن عيسى (ع) ليأمركم باتخاذ الملائكة والنبيين أربابا ، مثلما فعلت النصارى حين دخلت في ثقافتهم الأفكار الصنمية المشركة من مذاهب

٦٠٠