من هدى القرآن - ج ٦

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ٦

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-09-2
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٥٠٢

١
٢

سورة النحل

٣
٤

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

فضل السورة

عن الامام الباقر (ع) قال :

«من قرأ سورة النحل في كل شهر كفي الغرم في الدنيا ، وسبعين نوعا من أنواع البلاء ، أهونه الجنون والجذام والبرص ، وكان مسكنه في جنة عدن وهي وسط الجنان»

نور الثقلين ـ ص ٣٨ ـ الجزء ٣ ـ

عن النبي محمّد (ص) قال :

«من قرأها لم يحاسبه الله تعالى بالنعم التي أنعمها عليه في دار الدنيا ، وان مات في يوم تلاها أو ليلته ، أعطى من الأجر كالذي مات وأحسن الوصية»

البيان ـ ص ٣٤٧ ـ الجزء ٦ ـ

٥
٦

الإطار العام

لأنّ سورة النحل تذكرنا بنعم الله. حتى سميت بسورة النعم عند البعض. وسورة النحل (والعسل واحد من أفضل أنواع الشراب) عند الآخرين. فان الإطار العام للسورة ـ كما يبدو لي ـ هو كيف نتعامل مع نعم الخالق .. وجملة القول في ذلك.

١ ـ ضرورة توحيد الله ونفي الشركاء عمن أنعم علينا.

٢ ـ تكميل نعمه التي لا تحصى بأعظم نعمة وهي الوحي والرسالة.

٣ ـ الالتزام بحدود الله في الاستفادة من هذه النعم (التقوى).

كل ذلك يجعلنا من اتباع إبراهيم الخليل الذي كان شاكرا لأنعم الله.

وتكاد آيات الدرس الأول تذكرنا بكل موضوعات السورة جملة واحدة.

وتستوقفنا للتدبر الآية الثانية (يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ* أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ) وهكذا تذكرنا بالوحي. والتوحيد

٧

والتقوى. وهي الموضوعات الرئيسية في السورة. والتي يريدنا الذكر الحكيم. ان نستفيدها من نعم الله. ونجعل الأيمان بها شكرا عليها :

ثم تذكرنا بآيات الله. تمهيدا لذكر النعم وأعظم الآيات خلق السموات والأرض وثم خلق الإنسان من نطفة. وخلق ما يحتاجه من الأنعام ..

وبعد ذكر أهم المنافع للأنعام. تبين الآية (٩) ان السبيل القويم للحياة. الطيبة. وبالتالي لطريقة الانتفاع بنعم الله. انما هو السبيل الذي يهدينا اليه الله سبحانه اما السبل الآخرة فهي جائرة. وهكذا يصل السياق بين نعمة الوحي وسائر النعم باعتباره متمما أساسيا لها.

وفي الآيات (١٠) يذكرنا الرب بنعم الماء والزرع والثمرات وكيف سخر لنا الشمس والقمر. وسخر البحر وما فيه من نعمة الأسماك والطرق البحرية للتجارة. ونعمة الجبال وما فيها من فائدة حفظ الأرض ومخازن الماء وكيف جعل النجوم علامات.

ويأمرنا بالتفكر والتعقل والتذكر والشكر. لعلنا نهتدي الى حقيقة التوحيد. وان الله الذي يخلق ليس كالشركاء الذين لا يخلقون.

وتتابع الآيات (١٩) التذكرة بالخالق. الذي يحيط بنا علمه. وان علينا الخشية منه. والا نستكبر أو نستنكف عن عبادته سبحانه. لأنه يعلم ذلك منا وانه لا يحب المستكبرين.

ويحذرنا من انكار الرسالة. ويذكرنا بمصير المستكبرين كيف أتى الله بنيانهم من القواعد فاذا بالسقف يخر عليهم. في الدنيا. اما في الآخرة فلهم الخزي والنار ، وانهم أسلموا حين جاءهم ملائكة الموت فادخلوهم جهنم لأنهم تكبروا.

٨

ويستمر السياق (٣٨) في معالجة حالة الاستكبار (ولعلها أعظم عقبة في طريق الأيمان بالوحي) وذلك بالتذكرة بالبعث. وكيف ان الهدف منه بيان الواقع الذي يتمثل في كذب الكفار.

وفي الآية (٤١) يذكرنا الرب بأجر المهاجرين لماذا؟ لعل ذلك تنبيه الى ضرورة مقاومة اغرار النعم. إذا خيّر المؤمن بينها وبين الحق.

ويعود ويذكرنا بالوحي. وكيف ان النبي ليس بدعا من الرسل.

ومرة أخرى (٤٥) يذكرنا الله سبحانه بان الذين مكروا السيئات لا أمان لهم من مكر الله. ولعلّ ذلك لكي يعالج غرور الاستكبار في النفس ثم يذكرنا بان كل شيء في الطبيعة يسجد لله سبحانه وان الملائكة لا يستكبرون عن عبادة الله. بل يخافون ربهم وأن الله قد نهى عن اتخاذ شريك له وأمر بالخوف منه وتقواه. أو ليست النعم منه. وإذا فقدنا منها شيئا أو لسنا نجأر اليه؟ ومع ذلك يشركون بالله بعد ان يكشف عنهم الضر.

ويستمر السياق في تسفيه فكرة الشرك. والاعتقاد بأن النعم من غير الله. ونسبة الأمثلة السيئة الى ربهم سبحانه مثلا. ان الواحد منهم يكره البنت ولكنهم يزعمون ان لله البنات سبحانه.

كلّا لله المثل الأعلى. وللمشركين مثل السوء. وان لهم النار وان الشيطان وليهم.

ولعلّ آيات الدروس الأخيرة هذه تهدينا الى ضرورة التسليم بان النعم من الله. وعدم الانبهار بالنعم وبمن يملك النعم من البشر. أو بما هي وسيلة للنعم من مصادر الطبيعة. أقول عدم الانبهار بها لكي يهبط الإنسان الى حضيض الشرك فينسى ان

٩

المثل الأعلى لله سبحانه.

وهكذا الآيات (٦٤) فهي في الوقت الذي تذكرّنا بانّ الرزق والوحي من الله. تبيّن لنا : مجموعة من النعم مثل الماء الذي ينزله الله من السماء فيحي به الأرض. ويرزقنا شرابا لذيذا من بين فرث ودم لبنا خالصا. ويرزقنا السكر من ثمرات النخيل والأعناب. وشراب ثالث يرزقنا من النحل فيه شفاء للناس.

تلك نعم الله فلما ذا نشكر غيره أم نعبد سواه؟ ويقلب الله البشر من حياة الى موت. وربما الى هرم ويفضل بعض الناس في الرزق. فهل نعبد سواه. فهل يملك الرزق غيره؟

وهو الذي جعل للناس من أنفسهم أزواجا وأولادا وحفدة. ورزقهم من الطيبات فلما ذا يكفرون بنعمة الله. ويعبدون غيره وهو لا يملك رزقا. أو يقرنوه بسوء ويضربون له الأمثال سبحانه؟

ويبدو ان الآيات هذه تخفف من (سورة) الانبهار بنعم الله. لكي يخلص المرء لربه عبادته. ويمحّضه حبّه.

وهكذا الآيات (٧٥) تذكر الناس بان الله وحده يملك ناصية الأقدار بينما الشركاء المزعومون هم كعبد مملوك لا يقدر على شيء. فمن هو أحق بالعبادة؟ وان الله يملك غيب السموات والأرض. كما يملك امر الساعة. وهو الذي أنعم على البشر بالعلم بعد أن خرج من بطن امه لا يعلم شيئا. وهذه الطيور في جوّ السماء ما يمسكهن الّا الله.

هكذا الولاية لله. وانه السلطان القائم بأمر العالمين وهكذا نعم السكن الدائم أو المتنقل كالخيم ونعمة الأثاث والمتاع. ونعمة الظلال. والأكنان والثياب أيام

١٠

السلم والدروع للحرب أو ليست من تمام نعمة الله؟ فلما ذا الكفر وانكار نعمة الله؟

ويستمر السياق وعبر الآيات (٨٤) ينذر الكفار والظالمين والمشركين الذين يبعثون ولا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون. ولا ينقذهم شركاؤهم والقوا جميعا السلم الى الله. وبيد ان كبراءهم أشد عذابا. ويؤكد السياق على شهادة الرسول هنا لك. وان الكتاب لا بدّ ان يقرن بالشاهد على الناس. وانهما لن يفترقا.

ويعود القرآن الكريم (٩٠) يبيّن واحدا من أهم نعم الله. وهو الكتاب الذي أوحاه الرب لعبده يتم نعمته على الناس. ويبين السبيل الى الانتفاع بالنعم وجملة القول في تنظيم الحياة حتى تكون طيبة : هي العدل. والإحسان وإيتاء حقوق ذوي القربى. واجتناب الفحشاء والمنكر والبغي. وهكذا الوفاء بعهد الله. والالتزام بالأيمان. (ويشدد عليها القرآن توكيدا وربما لأنها أهم منظم للعلاقات الاجتماعية).

ورعاية التساوي امام القانون. لكي لا تستضعف طائفة طائفة ثانية. بل لما تعتقد انها أرجى منها. واجتناب استغلال اليمين استغلالا سيئا.

ثم الصبر (ولعله لمقاومة إغراء الشهوات).

ويشجع السياق العمل الصالح لأنه مفتاح الحياة الطيبة. وهكذا يبين الكتاب منهاجا كاملا للحياة الطيبة.

ولكن كيف نستفيد من القرآن؟ لأن الشيطان قد يغوينا عنه. أو يجعلنا نحرف آياته فان الآيات (٩٨) تبين لنا منهاجا لفهم القرآن.

أولا : بالاستعاذة بالله حين قراءته من الشيطان.

١١

ثانيا : بالتسليم لكل آياته لأن روح القدس قد نزله بأمر الله فلا اختلاف ولا نقص فيه وشبهات الكفار مرفوضة حيث قالوا بان رجلا أعجميا يعلم الرسول هذا القرآن الذي هو قمة البلاغة.

ثالثا : اجتناب الافتراء على الله «الكذب».

السبيل الى الأيمان التعالي عن الحياة الدنيا. واستحباب الآخرة عليها. وهكذا تكون النعم في الدنيا نافعة لمن ملكها وأما من ملكته النعم واستحب الحياة الدنيا على الآخرة فان الله لا يهديه لأنه يكفر بالله وبرسالاته.

هكذا تبيّن الآيات (١٠٦) الموقف السليم من نعم الله. ويبدو ان الذين يستحبون الحياة الدنيا. ويفضلون نعمها على نعم الله في الآخرة هم الذين يشرحون للكفر صدرا فيسلب منهم الرب أدوات الوعي. وأولئك هم الغافلون.

أما من يسمو بنفسه عن الدنيا. ويهاجر بعد ان يفتن في الله ويجاهد ويعبد فان الله بعدها لغفور رحيم.

أن تساميه عن الدنيا ينفعه يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها.

وإنّ الكفر بالله. يسلب النعم في الدنيا أيضا. كما ضرب الله مثلا قرية أسبغ الله عليها نعمة الأمن والرزق فلما كفرت أذاقها الله لباس الجوع والخوف.

هكذا جزاء من امتلكته الدنيا ولم يسمع لنداء الرسول. وبالتالي لم يستفد من نعمة الوحي التي تحافظ على سائر النعم.

وهذا لا يعني أبدا ترك نعم الله. كلّا. بل يعني :

اولا : تنظيم العلاقة معها. بحيث لا تنسينا ذكر الله.

١٢

وثانيا : تنظيم الاستفادة منها كما امر الله.

وهكذا تبيّن الآيات (١١٤) حدود الله في الانتفاع بنعمه. وهذا بعد من ابعاد التقوى التي جاءت الآيات الأولى في هذه السورة لتأمرنا بها.

علينا الّا نحرم الطيبات على أنفسنا. بل نأكل منها ونشكر الله على نعمه.

أما المحرمات فهي الميتة والدم. ولحم الخنزير وما اهلّ لغير الله به (الا عند الاضطرار)

وحرام الافتراء على الله ، والكذب عليه بان هذا حلال وهذا حرام.

أما اليهود فقد ظلموا أنفسهم فحرم عليهم أشياء بسبب ظلمهم.

أما رحمة الله على هذه الأمة فهي واسعة حيث ان الله رفع القلم عمّن عمل سوء بجهالة ثم تاب وأصلح.

ويعطي القرآن الكريم وعبر الآيات (١٢٠) أسوة للذين آمنوا من قصة إبراهيم كيف كان شاكرا لأنعم الله. وعلينا اتباع ملته.

أما قصة السبت وحرمة الصيد فيه. فهي خاصة بالذين اختلفوا فيه (١٢٤).

والرسول مهبط وحي الله يدعو قومه بالحكمة والموعظة الحسنة. وهو المثل الأعلى للعدل والإحسان وللصبر والاستقامة. وسعة الصدر. وسيرة الرسول شاهدة على صدق رسالته. و (إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ) (١٢٥).

وهكذا تحدد سورة النحل العلاقة السليمة مع نعم الله. حيث يزداد المؤمن بها ايمانا لربه. وتسليما لرسالات ربه ونبذا للشركاء واستقامة امام المفسدين والحمد لله رب العالمين.

١٣
١٤

سورة النّحل

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(أَتى أَمْرُ اللهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (١) يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاتَّقُونِ (٢) خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٣) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (٤) وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (٥) وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (٦) وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ

______________________

٦ [تريحون] : من أراح بمعنى رد الانعام بالعشي الى المراح وهو محل استراحة الحيوانات.

[تسرحون] : ترسلونها صباحا الى محل الرعي والسرح وهي مأخوذة من السروح.

١٥

الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (٧) وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ (٨) وَعَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْها جائِرٌ وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ (٩)

______________________

٩ [قصد] : القصد استقامة الطريق.

١٦

وعلى الله قصد السبيل

هدى من الآيات :

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

باسم الله ، برحمته الواسعة الدائمة ، بعلمه وحكمته ، بقدرته وتدبيره ، تشرع هذه السورة.

يستعجل المشركون دائما جزاء أعمالهم ، زاعمين أن التأخير دليل العدم ، كلا .. فها هو أمر الله المتمثل في تحقيق ما أنذر به الرسول قد أتاكم ليجازيكم على شرككم ، دون أن يقدر الشفعاء على انقاذكم من عذاب الله.

وتهبط الملائكة بين حين وآخر من أمر الله ، بالروح الذي يحمل رسالة ربه إلى الناس بالإنذار بضرورة التوحيد ، والأمر بالتقوى. ولا أحد يفر من الجزاء ، لأن خلق السماوات والأرض قائم على أساس الحق ، ولا إله ينقذ البشر من عذاب الله. تعالى الله عن شركهم.

١٧

ومن الذي يستكبر على الله؟! إنّه هذا الإنسان الذي كان أصل خلقه نطفة ، فإذا به يديم الجدال وبكلّ وقاحة في الحقائق ، بالرغم من انه لا يزال بحاجة إلى نعم الله ، فهذه الأنعام خلقها الله للإنسان يستدفئ بها ، وينتفع منها ، ويأكل منها ، ويتخذ منها وسائل الزينة ، ووسائل النقل الى بلد بعيد يشق على الأنفس الوصول إليه ، كلّ ذلك آية رحمة الله ورأفته بالبشر ، كما خلق الرب الخيل والبغال والحمير لكي يمتطيها البشر ويتخذ منها زينة ، هذه نعم ظاهرة ، وهناك نعم باطنة لا نعرفها ، والله الذي هيأ النعم حدد البرامج التفصيلية للانتفاع الأفضل منها ، حين بين لنا بفضله السبيل المستقيم إليها ، ولكن دون أن يفرض علينا السير عبره ، ولو شاء الله لهدى الناس جميعا.

بينات من الآيات :

بين الخلق والأمر :

[١] يبدو ان أمر الله هو إبداعه وانشاؤه الذي يتم باحداث الإرادة ، ويعبر عنها القرآن بكلمة ـ كن ـ قائلا : «إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ» ويبدو أن هناك فرقا بين الأمر والخلق ، فالخلق قد يكون بالواسطة ، وحسب السنن التي أجراها الله ، بينما الأمر هو الخلق المباشر الذي لوحظ فيه الإنشاء والإبداع. وعذاب الله للأمم المنحرفة ، كما ورسالة الرسل أمران إلهيان إبداعيان ، لا يخضعان للسنن المعروفة لدينا.

وحين جاء الرسل بالإنذار استعجل الكفار ما انذروا به ، واتخذوا من التأخير دليلا على عدم وجود الجزاء ، وجاءت الآية تنذرهم باقتراب ساعة الجزاء ..

(أَتى أَمْرُ اللهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ)

١٨

والواقع أن شركهم بالله ، وزعمهم ان هناك آلهة تمنعهم من دون الله ، هو الذي جعلهم يطمئنون ولا يأخذون الإنذار بجدية كافية ، ونفى ربنا ما أشركوا به ..

(سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ)

فهو منزه وهو أسمى من أن تساويه بشريك ، وهو خالق كل شيء.

روح رسالات الله :

(يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ)

[٢] والله ينزل الملائكة ملكا بعد ملك ، مؤيدين بالروح ، والروح ـ حسبما يظهر من النظر في مختلف الآيات التي تحدّثنا عنه ـ هو : ذلك الملك العظيم الذي يؤيد الله به رسله ، والذي يأتي الى الأرض في ليلة القدر مع الملائكة وهناك قول آخر يقول : ان الروح كلمة الحياة التي يلقيها الله سبحانه الى الأشياء فيجيبها لمشيئته ، وعدّ إلقاءه وانزاله على نبيه إيحاء في قوله : «وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا» (١) فإن الوحي هو الكلام الخفي والتفهيم بطريق الإشارة والإيماء ، فيكون إلقاء كلمته تعالى ـ كلمة الحياة ـ الى قلب النبي (ص) وحيا للروح إليه (٢)

وإذا كان الروح ملكا ، فإن الباء هنا تدلّ على الاستعانة ، أي مستعينا بالروح ومؤيدا ، أما إذا كان الروح جوهر الرسالة المركب من نور العلم والهدى ، وهو الذي يحيي البشر كما قال سبحانه : «اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ» فإن الروح يكون النور الذي جاء به الملائكة الى الأرض ، وهذا المعنى قريب أيضا من

__________________

(١) الشورى (٥٢)

(٢) الميزان للعلامة الطباطبائي ـ ج ١٢ ـ ص ٢٠٦.

١٩

قوله سبحانه : «يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ».

(مِنْ أَمْرِهِ)

والملائكة تصدر انطلاقا من أمر الله ، فلا تعمل حسب أهوائها ، لذلك فهم يهبطون الى عباد الله المصطفين.

(عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ)

فالرسل عباد لله وليسوا أنصاف آلهة ، أما محتوى الرسالة وجوهرها فهو التالي :

(أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ)

إخلاص العبادة لله في كلّ الشؤون ، والذي يتجسد في التقوى ، هو جوهر الرسالات الإلهية.

[٣] وحين ينذر ربنا عباده من الانحراف عن خط التوحيد ، فإن ذلك ينسجم مع أساس الخلق ، حيث خلق السماوات والأرض بالحق ، وانه هو المهيمن عليها دون شريك ، فالبشر إذا شذوا عن سنة الكون ، فلا أحد ينقذهم من جزاء انحرافهم ، لأنّ ربنا تعالى عن الشركاء الذين يدعوهم الكفار أندادا له سبحانه فلا يغنون من عذاب الله شيئا.

(خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ)

[٤] ومن هو هذا الإنسان الذي يخالف سنة الكون؟! أو لم يخلق من نطفة ، فإذا به يتحول الى مجادل يلقي الحجة بعد الحجة. ويختار رأيه الخاص به ، ويفند سائر الآراء بل تراه قد يتحدى سنة الحق بلا استحياء!!.

٢٠