من هدى القرآن - ج ١

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ١

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-04-1
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٧٣٦

وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ (١٧) شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١٨) إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللهِ فَإِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (١٩) فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (٢٠)

____________________

[الأسحار] : جمع سحر. وهو الوقت الذي قبيل طلوع الفجر أصله الخفاء لخفاء الشخص من ذلك الوقت.

١٨ [شهد] : حقيقة الشهادة : الاخبار بالشيء عن مشاهدة أو ما يقوم مقام المشاهدة.

١٩ [الدين] : الطاعة وأصله الجزاء وسميت الطاعة دينا لأنها للجزاء.

[الإسلام] : أصله السلم معناه دخل في السلم ، وأصله التسليم لأنه تسليم لأمر الله. وهو تأدية الطاعات على السلامة من الإدغال.

٥٢١

الحياة

بين آفاق المستقبل وشهوة الحاضر

هدى من الآيات :

النفس البشرية بين العقل والشهوة :

[١٤] النفس البشرية ، تفضّل العصفور الواحد في اليد على عشرة على الشجرة ، حتى إذا كان المرء قادرا ان يصيد العشرة بقليل من الجهد.

من هنا يفضل البشر الشهوات الحاضرة على التطلعات البعيدة المدى ، فالطالب يفضل الراحة والكسل عن تحصيل العلم ، على الميزات التي يحصل عليها بعد التخرج ، كما يفضل العامل صرف راتبه بالكامل في سبيل راحته ، على تحويله الى رصيد ، يشتري به أسهما في شركة رابحة.

وعقل الإنسان ، يدفعه أبدا الى الموازنة ، بين المستقبل وبين الحاضر فيأمر الطالب بالاكتفاء بشيء من الراحة ، والجهد من أجل الحصول على راحة أكثر بعد التخرج وكذلك يأمر العامل بادخار علاوة معاشه من أجل أيام ضعفه.

٥٢٢

والعلاقة بين الدنيا والاخرة هي ذات العلاقة بين الحاضر والمستقبل إذ تدعونا الشهوات الى صرف كل طاقاتنا في الدنيا حتى إذا انتقلنا الى الدار الآخرة لا نجد فيها شيئا بينما العقل يدعونا الى الموازنة بين الدنيا والاخرة.

وحين يتطلع الإنسان الى الاخرة ، فإنّ مستقبل دنياه أيضا مضمون ، إذ كل عمل يوفره البشر للآخرة يعطيه مردودا دنيويا أيضا.

بينما حين يهتم المرء فقط بالدنيا وشهواتها الحاضرة يكفر بالمستقبل لأنه لا يراه بل لا يريد ان يراه وهكذا تحجب عنه جدران الشهوات ، النظر الى رحاب المستقبل الواسع.

وحب الإنسان للشهوات طبيعي ، كما ان تطلع البشر الى مستقبل الحقيقة فطري إلّا أنّ المهم الا يختار المرء الواحد على الآخر. من هنا عبّرت الآية عن الشهوات بأنها زيّنت للنفس.

وشهوات النفس تتدرج الى أنواع هي :

(١) شهوة الجنس ـ والبنين.

(٢) شهوة الخلود ومتطلباته من الثروة الطائلة كقناطير من الذهب والفضة ، والقنطار يعني في عرفنا غاصة النقد.

(٣) شهوة الرئاسة والفخر ، ومتطلباتهما من الخيل المسوّمة ، اي المعروفة لمن هي ، والانعام والحرث.

تقول الآية :

(زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ

٥٢٣

الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعامِ وَالْحَرْثِ ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا)

إلّا أنّ هذه الشهوات العاجلة يجب أن تبقى في حدودها المعينة وذلك بالتفكر في أنّ هناك تطلعا اسمى منه يجب ان يوازن به الإنسان حياته. ذلك التطلع هو ما عند الله فما ذا عند الله؟

(وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ)

اي المستقبل المضمون ، والجيّد.

[١٥] (قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ)

ولم يسترسلوا مع الشهوات إلى نهاية الشوط ، انما وجّهوا شهواتهم حسب تطلعات عقولهم. وقيم دينهم لهؤلاء عند الله.

(جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ)

وهذه تشبع في الإنسان الاحساس بطلب ضرورات حياته.

(خالِدِينَ فِيها)

وهذه تشبع فيه تطلعه الى الخلود.

(وَأَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ)

يوازن بها المؤمن شهوة الجنس في الدنيا.

(وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ).

يشبع به المؤمن حبه للمديح في الدنيا.

٥٢٤

إنك ترى كيف ان الذي اتقى في الدنيا من الإفراط في الشهوات ، نال في الاخرة عن كل شهوة دنيوية اتقى منها ما يتناسب معها من نعم عظيمة. وبذلك يتم التوازن في قلب المؤمن ، بين حاضر شهوات الدنيا ، ومستقبل تطلعات الاخرة.

معنى التقوى

يبقى ان نعرف أنّ التقوى هي رقابة ذاتية ، إذ ليس هناك من شخص يراقبك أو يحاسبك ، على مدى توجيهك لشهوات ذاتك ، إنما أنت تراقب نفسك وتحاسبها ، حتى إذا ذهبت الى الله لا يفاجئك حسابك العسير.

وهذا ما يؤكده قول الله في نهاية الآية :

(وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ)

إذ ما دام الله يحاسب الإنسان ، فعلى الإنسان أن يخشى المفاجئة السيئة امام الله العليم فيتقي الله ما استطاع.

[١٦] من المتقي؟ وكيف يوازن المتقي بين شهوات الدنيا وتطلعات الآخرة؟ وبالتالي كيف يربّي ذاته لتقبل الحقيقة؟

للتقوى منطلق نفسي ، ومظاهر خارجية ، فمن وجدهما في ذاته فليعرف انه تقي فعلا.

الجذر هو الايمان بالحساب ، وإنّ الذنب سيحاسب عليه حسابا عسيرا.

(الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَقِنا عَذابَ النَّارِ)

إن التقوى هي وجود رادع في النفس يمنعها من الإفراط في الشهوات.

٥٢٥

[١٧] أما مظاهر التقوى الخارجية فهي الصفات النفسية التالية والمتدرجة على بعضها :

(أ) الصبر

الصبر عن الشهوات وعن الاسترسال معها الى مرحلة الإفراط. إنها الصفة الأولى والأساسية في شخصية المؤمنين باليوم الآخر ، وحين يصبر عن الشهوات يبتعد عن الزيغ وآنئذ يكون صادقا.

(ب) الصدق

وهو تعبير عن الاستقامة على الحق ، واي انحراف يطرأ على قلب الإنسان فلا بد ان يظهر في كلامه بصورة أو بأخرى. إذ لا يمكن ان يستمر الإنسان في الانحراف العملي دون ان يظهر في قوله.

والذي يلتزم بالصدق فلا بد ان يحاول إصلاح انحرافه. وقد جاء رجل الى الامام الصادق عليه السلام وطلب منه ان ينصحه ويوجز. فقال له : لا تكذب.

(ج) القنوت.

بعد ان تتربى النفس على الصبر عن الأهواء والصدق ، فإنها تستعد لقبول الحق.

إذ تكون آنئذ قانتة مسلّمة للحق ، إذ تزول من طريقها آنئذ العقبة الرئيسية التي تمنع من اتباع الحق وهي اتباع الهوى.

(ء) الإنفاق.

٥٢٦

وابسط وأهم مظهر للقنوت للحق هو العطاء. إذ ما دامت النفس شحيحة فليس من المؤكد انها تتبع الحق فعلا.

(ه) الاستغفار

بعد ان تعرف النفس شحها ، وتخرج من سجن الذات الى رحاب الحق ، عليها ان تتحدى ضغوط الحياة لكي لا تزين الباطل للنفس ، فتحتاج النفس الى تصفية ذاتية للرواسب اليومية التي تلحق بها ، وذلك بالاستغفار في الأسحار.

ان الاستغفار أشبه شيء بحمام دوش يستعمله العمال كلما آووا إلى بيوتهم فينظفون أنفسهم من آثار العمل ، بالرغم من انهم عملوا المستحيل من أجل تجنبه خلال النهار.

هذه هي الصفات الظاهرة للتقوى. وهي كما تقول الآية :

(الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ)

بين الوحدة والتوحيد :

[١٨] بعد الحديث عن الروح العملية في الآيات السابقة ، وتصفية العقبات النفسية التي تعترض طريق الايمان الصحيح ، دخل القرآن في صلب الموضوع الرئيسي وهو التوحيد والوحدة فذكّر أنّ الله لا اله الا هو .. يقوم بالنظام العادل والمتمثل في الإسلام ، الدين الوحيد لله ، وهو لا يعني الخضوع لفئة من الناس ، ولا حتى لشخص معيّن ، إنّما يعني التسليم لله وحده. وبذلك يضع القرآن أرضية الوحدة بين أبناء الرسالات السماوية.

قد ينكر أحدنا اعترافه بالله ، ولكنه يعرف قبل غيره أنّ أفكاره ليست سوى تكبر

٥٢٧

يتكلف به تكلّفا ، وإنّه حين يستغشي ثيابه بالليل ويبدأ يفكر بعيدا عن التكبر والمصلحة ، آنئذ يؤمن بربه ايمانا أقوى من إيمانه بنفسه.

إنّ هيمنة الله على كل مرافق الحياة ، وتجليه للناس في آيات الطبيعة حينا ، وفي خلجات القلب أحيانا ، هي أكبر شاهد على أنه لا اله الا هو ، وهل يكون شيء أكبر من الله وكل نظام قائم به ، أو يكون شيء أكثر ظهورا من الله والسموات والأرضون آياته؟!

ان الله هو ذاته دليل ذاته وهاد العباد اليه. وهو دليل الى كل شيء غيره.

من هنا قالت الاية :

(شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ)

وحين تشهد الملائكة وأولو العلم فليس ذلك سوى دليل بسيط جدا. أمام شهادة الله ذاته إلا انّها قد تنفع الذين تغرّبهم الطبيعة بقوتها أو بغموضها ، فيقول لهم القرآن إنّ الملائكة الموكلة بالطبيعة وأولو العلم العارفين بالطبيعة هم بدورهم مؤمنون بالله.

وأكبر صفات الله العدل الذي يجريه في الطبيعة ، حيث يسنن للحياة سننا يجريها عليها بقدرة وسلطان. فلا يدع جانبا منها يطغى على جانب آخر. فقط الإنسان أكرمه بالحرية ، ولكنه حدد حريته بوقت ، فبعده يعيده الى حدوده بالقوة إن لم يعد إليها بالهداية.

من هنا قال الله :

(قائِماً بِالْقِسْطِ)

اي مطبّقا للنظام العادل في الحياة.

٥٢٨

(لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)

ومن أولى بتطبيق العدالة في الحياة من العزيز (المقتدر) الحكيم (الخبير بالأمور).

[١٩] كانت هذه تقدمة جيّدة لبيان إنّ لله دينا واحدا فقط ، قد تختلف بعض تفاصيله من عصر لعصر ولكن أصوله هي تبقى واحدة. وتجري عليها الأمم المسلمة جيلا بعد جيل.

(إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ)

ولكن لماذا يختلف الناس إذا في الدين؟

هل لان الله هو الذي أوحى باختلاف الرسالات بالطبع لا .. بل لأنّ الاختلاف نابع من اختلاف الطبيعة ، والمصلحة ، لا من اختلاف الرسالة والعقل.

(وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ)

فجذر الاختلاف نابع من البغي وهو استهداف الظلم واغتصاب حقوق الآخرين وحين يسود السلام قلب الإنسان ، والعدالة علاقات الناس مع بعضهم ، فسوف يزول الاختلاف وتنتهي أسبابه من واقعه.

والاختلاف في الدين بمثابة الكفر بآيات الله ، وإذا ماذا تنفع قشور الدين إذا جردت من اي مضمون؟ ماذا ينفع الايمان بآيات الله إذا فسّرت هذه الآيات بما يخالف معناها؟ ماذا ينفع الدين الذي اتخذ أداة للبغي ، والظلم الاجتماعي ، وسببا للاختلاف وضرب الناس بعضهم ببعض؟ من هنا قال الله تعالى :

(وَمَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللهِ فَإِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ)

وكيف يحاسب الناس الذين يكفرون بآياته؟

٥٢٩

بالطبع هناك طرق لا تحصى ولكن أبسطها هو عدم الانتفاع برسالته النيّرة ، إذ إنّ الرسالة النافعة هي التي تعرف بتفسير الله وبيانه وليست التي تفسّرها أهواء الناس والتي تضر ولا تنفع.

فمثلا : حين كانت رسالة النبي عيسى (ع) تعني عند تابعيه الإخاء والنشاط والطيب ، اعطت المسيحية لهم التقدم والهناء ، أما حين أصبحت تعني التعصب والجهل والاختلاف ، أعطتهم التخلف والعذاب.

[٢٠] ان الدين يجب ان يتخذ أرضية مشتركة للتوافق. وبالطبع لا يكون الدين هكذا إلا إذا كان مخلصا ومجرّدا عن الأهواء المتمثلة في المصالح العنصرية والولاءات المادية ، وبالتالي مجردا عن اية صبغة جاهلية هنالك فقط يكون الدين وسيلة جمع لا وسيلة تفرقة.

متى يكون الدين مجردا عن الماديات؟ حين يكون الايمان بالله وحده القيمة الاجتماعية ، من هنا دعت رسالة الإسلام أبناء الرسالات السابقة الى هذ القيمة وقالت :

(فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ).

إن القرآن جرّد رسوله من مسئولية القبول أو الرد من قبل أبناء الرسالات السابقة ، ولخّص مسئوليته في البلاغ لكي لا يرقى الى نقاء التوحيد في رسالته ادنى شك.

ان الطريق الوحيد للوحدة هو إخلاص كل الأطراف لذات المبادئ الواحدة حتى تكون بمثابة بوتقة ينصهر الجميع فيها.

٥٣٠

إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٢١) أُولئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٢٢) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ (٢٣) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٢٤) فَكَيْفَ إِذا جَمَعْناهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٢٥)

٥٣١

نتائج ضعف الروح الدينية

هدى من الآيات :

يتحدث القرآن هنا عن قوم من أتباع الديانات السابقة ، تفشت فيهم صفات سيئة بسبب ضعف الروح الدينية فيهم. وهذه الصفات هي التي تهدد وحدة الأمة.

من هذا الجانب يتحدث القرآن عنها وهي :

أولا : إنهم قاموا بتصفية رجال الله في الأرض وهم الأنبياء (ع) والمطالبون بالعدالة من الناس.

ثانيا : انهم كانوا لا يتحاكمون الى كتابهم إذا اختلفوا بينهم ، انما يتولى الفريق المتضررة مصالحه ـ بحكم الكتاب ـ يتولى عن الكتاب ، وبذلك يبقى الدين معطلا عن التأثير الاجتماعي.

ثالثا : الفكر العنصري المنتشر فيهم ، واعتقادهم انهم أفضل من غيرهم ، لا بأعمالهم انما بأجسامهم ودمهم ونسبهم.

٥٣٢

وهذه الأسباب الثلاثة لا تختص باليهود فقط ، وانما قد تهبط كل امة مؤمنة الى دركها ، وربما لذلك لم يذكر القرآن اسم اليهود.

بينات من الآيات :

كيف يتسافل الإنسان؟

[٢١] كيف يهبط الإنسان الى مستوى متدن في الأخلاق ويقتل رجلا لا لشيء الّا لاخلاصه ، أو صدقه ، ونقاء إيمانه ، وحبه لله وللمجتمع. ان الإنسان لا يهبط فجأة الى هذا المستوى السحيق ، إنما في البداية يكفر بآيات الله ، وحين يختار موقف الكفر ينظّم الى صفوف المعارضة ، وتنمو في قلبه السلبيات الصغيرة .. حقده على رجال الله. حسده من تقدمهم ، اعتبارهم أعداء مصالحه. اعتبارهم أعداء وطنه و. و. حتى يغطي العداء كامل قلبه. وهناك يقدم على تصفيتهم جسديا ، فيصل به الأمر الى قتل الأنبياء وهناك يستحق العذاب الأليم .. يقول الله :

(إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ).

إنّهم قتلوا الأنبياء والصالحين لأنهم يأمرون بالقسط ، بالعدالة ، بالمساواة ، فكيف يرضى الطغاة والظالمون والمستكبرون بالقسط؟ فلكي يفتحوا طريقهم الى الظلم كانوا يقتلون رجال الله الذين يضعون من أنفسهم سدا امام رغبات الظالمين.

والعذاب الأليم الذي ينتظر هذه الفئة يتلخص فيما يلي :

[٢٢] حبط أعمالهم في الدنيا والآخرة. إذ ماذا تنفع الصلاة مع الظلم ، أو الحج مع الاغتصاب ، أو إنفاق جزء من ثروة حصلت كلها من طريق غير مشروع.

وبالتالي : ماذا تنفع سائر الواجبات إذا جردت من روحها الحقيقية وأهدافها

٥٣٣

الاجتماعية.

ومن هنا قال عنهم ربنا :

(أُولئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا)

إذ لا تعطيهم الوظائف الدينية المجردة عن الايمان الحقيقي لا تعطيهم المردود الدنيوي الذي لا بد ان تعطيه. فالصلاة لا تهذب نفوسهم ، والحج لا يحافظ على وحدتهم ، والزكاة لا ترفع الطبقية عنهم وكذلك حبطت اعمال هؤلاء في (الآخرة) لأنه كما جاء في آية اخرى : «إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ».

(وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ)

فلا تنصرهم أعمالهم المحبطة. كما لا ينتصر لهم تاريخهم الحافل بالجرائم أو انتماؤهم الكاذب الى الرسالة.

تفسير الدين على الهوى :

ثم تناولت الآيات المشكلة الثانية وهي تفسير الدين حسب أهوائهم .. فقالت :

[٢٣] (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ)

ان هذا الكتاب هو كتاب اليهود الذي جاء ليرفع اختلافهم ويوحّد طاقاتهم. فبدل ان يتحاكموا اليه ، ويتنازل كل فريق عن أهوائه ، وآرائه ، ومصالحه ، تسليما لأمر الكتاب وخضوعا لحكمه ، بدلا من ذلك أعرضوا عن الكتاب وبذلك جرّدوا واقعهم الاجتماعي من أهم منفعة فيه.

٥٣٤

ان اية امة رسالية لا تستطيع الاستمرار والتصاعد إذا لم تجعل كتابها المقدس فوق رغباتها ومصالحها ، والأمة الاسلامية لا تخرج بالطبع عن هذه القاعدة.

ولكن يبقى سؤال : العلة وراء رفض الاحتكام الى الكتاب؟

تجيب الآية التالية :

[٢٤] (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ)

فالفكرة العنصرية هي التي فرّغت واقع الامة من الروح الرسالية ، وأبقت الطقوس مجردة من محتوياتها الاجتماعية الاصلاحية. إذ الامة لا ترى في البدء تفضيلا لها على سائر الأمم الا بقدر توفر قيم الحضارة فيها من التعاون على البر والتقوى والنشاط والتنظيم ولذلك تتسابق على بلوغ المزيد من هذه القيم. ولكنها قد تصل الى درجة من التشبع الحضاري فتتحول نظرتها الى ذاتها ، وتحسب انّها مفضّلة على غيرها لما فيها من روح الهية ، وما في غيرها من طينة العبودية ، وآنئذ لا تجد في ذاتها باعثا الى عمل الخير ، أو رادعا عن فعل الشر. فما داموا قد خلقوا لرضوان الله والجنة ، خيرا عملوا أم سوء ، وما دام أعداؤهم قد خلقوا السخط الله والنار ، مهما عملوا من خير أو شر فلما ذا يجهدون أنفسهم بعمل الخير أو التسابق الى المكرمات.

ان خطورة القضية تكمن في تسرب هذه الفكرة العنصرية الى مفاهيم الدين نفسه ، فاذا بهم يفسّرون الدين بطريقة لا تدعو الى العمل الصالح. والايمان الصادق ، بقدر ما تدعوا الى تمجيد ذوات وتقديس أسماء ، وانتماءات كاذبة.

من هنا قال الله سبحانه :

(وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ)

اي تفسير مفاهيم دينهم.

٥٣٥

(ما كانُوا يَفْتَرُونَ)

بحيث سرّبوا وادخلوا افكارهم الشاذة في تفسير نصوص الدين. وعوضا من ان يفسروا الاحداث وفق رؤي دينهم وبصائره ، فسروا الدين وفق افكارهم الكاذبة.

[٢٥] كلا : ان الله حين يجمع الناس في اليوم المعهود والموعود الذي لا ريب فيه يوم القيامة ، يجمعهم في صعيد واحد ، دون ان يفضّل بعضهم على بعض ، بحسب أو نسب ، هناك يأخذ كل شخص نصيبه بالكامل ودون تفسيرات عنصرية.

ان مجرد التفكير بذلك اليوم يجعل الفكرة العنصرية بلا دليل ، وبالتالي يفندها من الأساس ، إذ ان أساس الفكرة العنصرية مبتن على حب الذات ، والمغالات في تعظيمها وبالتالي تقديسها وجعلها قيمة اساسية. فاذا تصورنا ـ ولو مجرد تصور ـ اننا سنقف للحساب امام الله ، فان تقديس الذات سيذوب في النفس ليعود إليها الخشية على الذات من سوء العمل.

من هنا يتساءل القرآن.

(فَكَيْفَ إِذا جَمَعْناهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ)

من خير وشر وجوزيت جزاء كاملا على أعمالها.

(وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ)

وكلمة اخيرة : قلنا سابقا ان الايمان بالآخرة حجر الزاوية في فكر المسلم. وأقول الآن انه كذلك حجر الزاوية في التفكير السليم ، إذ انه مثلا يناقض التفكير العنصري ، وفيما يلي من الآيات سنجد ان الله يذكرنا بالآخرة ، عند ما يذّكر بضرورة إصلاح الفكر ، أو إصلاح النفس في اي جانب من الجوانب.

٥٣٦

قُلِ اللهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٦) تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَتُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (٢٧) لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ (٢٨) قُلْ إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللهُ وَيَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٩)

____________________

٢٦ [تنزع] : النزع قلع الشيء عن الشيء.

٢٧ [تولج] : الإيلاج الإدخال.

٥٣٧

يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ (٣٠)

٥٣٨

القيادة الصحيحة

في المنظور القرآني

هدى من الآيات :

يبدو ان سورة آل عمران تدخل مع هذه الآيات في رحاب موضوعها الرئيسي وهو ضرورة الالتفاف حول القيادة الصحيحة ، ونبذ القيادات الدخيلة وضرورة ذلك في الوحدة. فتهيء النفوس ـ قبل ذلك ـ ببيان ان الملك لله ، وان القدرة المطلقة بيده.

ثم ينهى عن قبول قيادة كافرة الّا عبر التقية ، ثم يأمر بالطاعة للقيادة الاسلامية ويربط بين طاعة القيادة الرسالية الصحيحة وبين الايمان بالله. بل بينها وبين حب الله.

ثم ـ حذّر من طرف خفي ـ الذين لا يتبعون القيادة : بأنهم كفار يتعرضون لسخط الله تعالى.

بينات من الآيات :

لمن الملك؟ لله

[٢٦] الله وحده يملك الملك ويعطيه لمن يشاء وعلينا ان نلتمس الملك ، من الله

٥٣٩

وليس من عند الكفار يقول الله :

(قُلِ اللهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).

ولكن السؤال : لمن يعطي الله الملك؟ هل لكل من هب ودب؟ أم لكل من تمنى على الله وربي في نفسه أحلاما ذهبية؟ بالطبع لا .. إنما هناك سنن جعلها الله في الطبيعة وهدى البشر الى تلك السنن عبر مناهج أوحى بها عن طريق أنبيائه وهدى العقول إليها. وليس من ريب ان أولى تلك السنن ، هي الالتفاف حول القيادات الرسالية التي يتحدث عنها القرآن فيما يلي.

شمولية القدرة الإلهية :

[٢٧] وليس الحياة الاجتماعية فقط بيد الله ، وانما أيضا الطبيعة. والذي بيده الطبيعة أولى بقيادة الحياة الاجتماعية ، فالله هو الذي نتوجه اليه قائلين :

(تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَتُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ)

وحتى الرزق الذي ينزل على الإنسان من تعاقب الليل والنهار. فانه من الله ، يعطيه لمن يتبع مناهجه وسننه التي غرزها في الطبيعة ، وأوحى بها الى العقول والرسل.

بين مفهومي القدرة والقيادة :

[٢٨] وما دام الله هو الذي بيده الملك ، فلما ذا تبعية المسلم للكفار؟!

ومن هنا

٥٤٠