فما يجري على الألسنة بأنّ ما قامت الأمارة على خمريته مثلاً خمر تعبّداً ، أو أنّ نفس البيّنة علم تعبّداً ، فممّا لا محصّل له ، وليس له معنى معقول ، إذ الخمرية أو العلم من الأُمور التكوينية الواقعية التي لا تنالها يد الجعل تشريعاً. مضافاً إلى أنّه لم يرد في آية ولا رواية أنّ ما قامت البيّنة على خمريته خمر ، أو أنّ الأمارة علم حتّى يصحّ دعوى كون المجعول هو الخمرية ، أو كون البيّنة علماً ولو بنحو المسامحة ومن باب الضيق في التعبير. وبالجملة : ما يكون قابلاً لتعلّق الجعل التشريعي به كبقيّة المجعولات التشريعية هو نفس صفة الكاشفية والطريقية لما ليس كذلك بحسب ذاته ، من دون تنزيل للمؤدّى منزلة الواقع ، ولا لتنزيل نفسه منزلة العلم الخ (١). وبنحو ذلك صرّح فيما حرّرته عنه قدسسره في هذه المقدّمة الثالثة.
والأصل في هذا كلّه هو ما صرّح به في المقدّمة الأُولى في بيان جهات العلم من أنّه بنفسه لا يكون قابلاً للجعل ، لكن الجهة الثانية منه وهي جهة الكشف والاراءة ، والجهة الثالثة وهي جهة البناء وعقد القلب ، كلّ منهما قابل للجعل الشرعي ، والأُولى منهما مجعولة للأمارات ، والثانية مجعولة للأُصول الاحرازية ، وقد تقدّم نقل ما حرّرته عنه قدسسره في بيان أنّ الجهة الثانية والجهة الثالثة من جهات القطع قابلان للجعل الشرعي لغير القطع ، بخلاف الجهة الأُولى منه والثانية (٢) فإنّهما غير قابلتين للجعل الشرعي أصلاً.
__________________
(١) أجود التقريرات ٣ : ٢٥.
(٢) [ هكذا في الأصل ، والظاهر أنّ المصنّف قدسسره يشير بذلك إلى ما نقله سابقاً عن شيخه قدسسره من المراتب الأربع للقطع ، فيكون المراد : أنّ المرتبة الثالثة والرابعة قابلتان للجعل الشرعي بخلاف المرتبة الأُولى والثانية ، فراجع الحاشية المتقدّمة في الصفحة : ٦٠ ـ ٦٢ ].