وأمّا على تقدير اعتبار الأخبار من باب السببيّة فالمصرّح به في كلام شيخنا المرتضى والمحقّق الخراساني قدسسرهما أنّ المقام حينئذ من قبيل التزاحم ، وحكم العقل فيه التخيير ؛ لعدم الأهميّة في أحدهما ، ومقصودهما التخيير في الأخذ والالتزام ؛ لأنّ هذا معنى التخيير في الحجيّة التي هي المسألة الاصوليّة ، وهذا بإطلاقه محلّ نظر ، وتوضيح الحال يحتاج إلى ذكر الأقسام المتصوّرة في القول بالسببيّة.
فنقول وعلى الله التوكّل :
تارة يقال لدفع محذور تحليل الحرام وتحريم الحلال الذي أورده ابن قبة على التعبّد بالخبر بأنّ الحكم الواقعي يدور مدار قيام الحجّة ، وهذا المعنى غير معقول ، يعنى لا يمكن حصول العلم أو الظنّ بأمر يعلم الإنسان بتوقّف ثبوت ذلك الأمر على علمه أو ظنّه.
واخرى يقال بأنّ الخطاب الواقعي لا يتوقّف على حصول العلم والحجيّة فعلا ، بل يتعلّق بمن يعلم الله أنّه يصير ذا علم وذا حجّة ، وهذا معقول ولكنّه مجمع على بطلانه ، لقيام الضرورة والإجماع على أنّ لله تعالى في كلّ واقعة حكما يشترك فيه العالم والجاهل ومن قام عنده الحجّة وغيره.
وثالثة يقال بأنّ لله حكما واقعيا يشترك فيه كلّ الناس ، ولكن هذا الحكم يصير شأنيا في حقّ من يقوم الحجّة على خلافه ، فيكون قيام الحجّة على الخلاف موجبا لحدوث مصلحة في المؤدّي غالبة على ملاك الحكم الواقعي ، وأمّا الحجّة الموافقة فلا تأثير فيها أصلا ، نعم يكون مانعا عن المانع أعني الظنّ بالخلاف ، فتكون الحجيّة في الموافقة من باب الطريقيّة ، وفي المخالفة من باب السببيّة ، ولا مانع من جمعهما في خطاب واحد.
مثاله أنّه لو أمر المولى عبده بإنقاذ أبنائه ، فلم يلتفت العبد أو لم يعرف الأبناء فرأى المولى جماعة غريقين كلّهم أبيض القلنسوة بعضهم بنوه وبعضهم مطلوب الإنقاذ من أجل بياض القلنسوة ، فله أن يجمع الكل تحت خطاب واحد ويقول لعبده : أنقذ هؤلاء الابيض القلنسوة.