الوجه الثاني ضمّ مقدّمة عقليّة إلى مقدّمة لفظيّة ، وحاصله أنّ غاية ما ثبت إلى هنا قصور هيئة الكلام الدالّة على حكم الرخصة في ما لا يعلمون وعنوان المشكوك عن إفادة الحكم ، لما ذكرنا من المحاذير ، ولكن هنا شيء آخر يستفاد من المادّة وهو كون الشكّ في حدّ ذاته مقتضيا تامّا للترخيص والإباحة بحيث لا نقص فيه من حيث الاقتضاء ، فالشكّ في التكليف بناء على هذا شيء يكون في جميع الأحوال مقتضيا للترخيص بمقتضى ما استفيد من تلك الأخبار باعتبار هذا الجزء الذي قد سمّيناه في بحث المقدّمة بإطلاق المادّة ، فنحن نعلم بإطلاق مادّة هذه الأخبار بأنّ كلّا من المشتبهين يكون المقتضي لترخيص نفسه وإباحته في نفسه تامّا ، غاية الأمر لم يمكننا جرّ الهيئة إليهما ومشموليّتهما للإذن والترخيص الفعليين بحكم العقل.
وبعد الاستفادة المذكورة من اللفظ نقول : لا شبهة أنّه لو وقع التزاحم والتعارض في مقام فعليّة التأثير بين سببين ومقتضيين عقليين بحيث لم يمكن الجمع بينهما ، بل دار الأمر بين تأثير أحدهما ولغويّة الآخر ، فحكم العقل أوّلا ملاحظة الأهميّة ، فإن كان أحدهما أهمّ كان مرجّحا ومقدّما على الآخر ، وعلى تقدير التساوي كما هو الحال في المقام ـ حيث إنّ المتعارضين كلّ منهما شكّ في التكليف ـ كان حكم العقل التخيير بينهما وأن لا يسقط أحدهما عن التأثير بعد عدم إمكان تأثير كليهما.
مثلا لو قال المولى : أنقذ الغريق ، فابتلى المكلّف بغريقين لا يقدر على إنقاذ كليهما فلا شكّ أنّه يلزم بحكم العقل تخصيص هيئة «أنقذ» الدالّة على الإيجاب بالنسبة إلى المجموع ؛ إذ لا إيجاب مع العجز ، وإذا علم أنّ جمع الغريقين تحت حكم العام غير معقول فأصالة عمومه بالنسبة إلى هذا بعينه أو ذاك بعينه أيضا لا يمكن لنا إجرائها ، للترجيح بلا مرجّح ، لأنّ كلا منهما مصداق للعام ، فلا وجه لتخصيص أحدهما بالدخول تحته ، والحاصل : لا بدّ من رفع اليد عن ظهور الهيئة في كليهما.