موسوعة الإمام الخوئي

الشيخ مرتضى البروجردي

فإنه عنوان وجودي منتزع من عدم الإتيان في مجموع الوقت ، ولا حالة سابقة له كي تستصحب ، نعم يجري الاستصحاب في منشأ الانتزاع ، لأن ذات الصلاة قد أتى بها ، وأما إيقاعها إلى القبلة فمشكوك فيستصحب عدم الإتيان بالصلاة إلى القبلة ، لكن إثبات عنوان الفوت الملازم لذلك الذي هو الموضوع للحكم بمثل هذا الاستصحاب من أظهر أنحاء الأصل المثبت ، فهذا التفصيل هو الوجيه ، ومنه يظهر فساد الاحتمالين الأولين.

بقي في المقام شي‌ء وهو أنه لا إشكال في أن الانحراف جهلاً إلى اليمين أو الشمال فضلاً عن الاستدبار موجب للإعادة لو كان الانكشاف في الوقت ، كما لا إشكال في أن الاستدبار موجب للقضاء لو كان في خارجه. وهل الانحراف إلى اليمين أو الشمال موجب للقضاء أم لا؟ فيه خلاف ، والأقوى عدم الوجوب. وسيجي‌ء التعرض لكل ذلك في بحث الخلل إن شاء الله تعالى.

وعلى المختار من عدم وجوب القضاء لو كان الانحراف إلى اليمين أو الشمال لا يكاد يتصور انكشاف الخلاف في المقام ، أما لو كانت الجهات الممكنة التي صلى إليها ثلاثاً فظاهر ، لأنه لو صلى إلى الشمال والمشرق والمغرب مثلاً فتبين بعد الوقت أن القبلة كانت في نقطة الجنوب فالقبلة واقعة في يمين المصلي أو يساره ، إذ لم يكن البعد بينه وبينها أكثر من تسعين درجة قطعاً ، والمفروض أن الانحراف إليهما لا يوجب القضاء وإنما الموجب الاستدبار وهو غير متحقق كي ينكشف خلافه. وكذا الحال لو كانت الجهات الممكنة ثنتين ، فلنفرض الجهتين المشرق والمغرب ، فإن القبلة لو كانت في نقطتي الجنوب أو الشمال كانت في يمين المصلي أو يساره اللذين لا يوجب الانحراف إليهما القضاء على الفرض ، ولو كانت بينهما وبين المشرق أو المغرب فالأمر أوضح ، لوقوعها حينئذ فيما بين المشرق والمغرب.

وبالجملة : الموجب للقضاء على هذا المبنى إنما هو الاستدبار ، ولا‌

٤٦١

ويشترط أن يكون التكرار على وجه يحصل معه اليقين بالاستقبال (١) في إحداها أو على وجه لا يبلغ الانحراف إلى حد اليمين واليسار ، والأولى أن يكون على خطوط متقابلات (٢).

______________________________________________________

يتصور في مثله كشف الخلاف إلا إذا كان قد صلى إلى جهة واحدة لعدم سعة الوقت ثم استبان كونها خلف القبلة.

(١) فإن تكرار الصلاة إلى الجوانب الأربعة المذكورة في مرسلة خراش التي هي مستند المشهور كما تقدم (١) لا موضوعية له وإنما هو طريق لإحراز الاستقبال واليقين بوقوع الصلاة إلى القبلة ، فلا بد من إيقاعها على وجه يحصل معه اليقين المزبور ، أو تكون على نحو يعلم بعدم بلوغ الانحراف إلى حد اليمين أو اليسار.

(٢) بأن تفرض الجهات في خطين متقاطعين بحيث يتشكّل منهما زوايا قوائم ، يكون البعد بين كل منها تسعين درجة.

وجه الأولوية : أن غاية الانحراف عن القبلة حينئذ إنما هو خمس وأربعون درجة ولا يحتمل أن يكون أكثر من ذلك ، لأن القبلة إن كانت في نفس إحدى الجهات فهو ، وإن كانت فيما بينها فان كانت أقرب إلى إحدى الجهتين من الجهة الأُخرى فالانحراف عنها بمقدار يسير يقل عن خمس وأربعين درجة قطعاً ، وإن كانت النسبة من كل من الطرفين متساوية بأن وقعت في النصف الحقيقي من ربع الدائرة المتشكل منه زاوية قائمة فبما أن الربع تسعون درجة ونصفه خمس وأربعون فالانحراف لا يزيد على هذا المقدار ، ومن هنا كان اختيار هذا النحو أولى ، لكن الأولوية غير لزومية (٢)

__________________

(١) في ص ٤٣٧.

(٢) يمكن أن يقال إنها لزومية ، فان ظاهر الأمر بالصلاة إلى أربع جهات هو تساوي بُعدها

٤٦٢

[١٢٤٠] مسألة ١٢ : لو كان عليه صلاتان فالأحوط أن تكون الثانية على جهات الاولى (*) (١).

______________________________________________________

فيجوز أن يصلي على خطوط غير متقابلة ، فيأتي بالأربع كيف ما اتفق مع رعاية الشرط المزبور ، أعني عدم بلوغ الانحراف إلى حدّ اليمين واليسار بأن يكون انحرافه عن القبلة أقل من تسعين درجة ، وذلك لأن المستفاد من الأدلة ومنها نفس الدليل الدال على جواز الصلاة إلى الجوانب الأربعة أن ما بين المشرق والمغرب قبلة للمتحير ، ولازمه اغتفار الانحراف بما دون تسعين درجة الذي هو ربع دائرة المحيط ، ومقتضى ذلك وإن كان جواز الاكتفاء بثلاث صلوات إلى زوايا مثلث مفروض في دائرة الأُفق ، إذ البعد بين كل زاويتين منها مائة وعشرون درجة ، فغاية الانحراف حينئذ ستون درجة ، لكن النص قد دل على لزوم الأربع فيؤخذ بهذا العدد تعبداً.

وبالجملة : فبعد البناء على أن ما بين المشرق والمغرب قبلة فالصلاة إلى الجهات الأربع في خطين متقاطعين وإن تشكل منهما زوايا حادة ومنفرجة يوجب القطع بأن الانحراف عن القبلة دون تسعين درجة ، وقد عرفت اغتفار الانحراف بهذا المقدار لكن اختيار النحو الأول أولى ، لكون انحرافه أقل ، فإن غايته خمس وأربعون درجة كما عرفت.

(١) لأنه لو صلى إلى جهات أُخرى مفروضة في أوساط الجهات الاولى‌

__________________

وكونها في خطين متقاطعين على نحو الزوايا القائمة كما سيعترف السيد الأستاذ ( دام ظله ) بهذا الظهور والتبادر في مطاوي المسألة الثالثة عشرة الآتية [ في الصفحة ٤٦٩ ] ، ويكون هذا الظهور تخصيصاً تعبدياً في أدلة « ما بين المشرق والمغرب قبلة » بالنسبة إلى هذا المورد بالخصوص. ويشهد بذلك أنه لولا ذلك للزم الاكتفاء بثلاث صلوات إلى ثلاث جهات في روايات المشهور ، فكما أن الالتزام بالأربع تعبد محض كما اعترف به الأُستاذ في المقام فكذلك الالتزام بالتخصيص المزبور.

(*) لا بأس بتركه.

٤٦٣

يعلم إجمالاً ببطلان إحدى الصلاتين ، لأن القبلة إن كانت في جهات الاولى فالثانية لم تقع إلى القبلة ، وإن كانت في جهات الثانية فالأُولى فاقدة للاستقبال ، بل لو كانتا مترتبتين كالظهرين والعشاءين يعلم تفصيلاً ببطلان الثانية ، لفقدها إما شرط الترتيب لو كانت القبلة في الثانية أو الاستقبال لو كانت في الأُولى. هكذا ذكروا في وجه الاحتياط.

ويظهر الخدش فيه مما مرّ آنفاً ، إذ بعد البناء على التوسعة في أمر القبلة بالنسبة إلى المتحير وأن ما بين المشرق والمغرب قبلة في حقه كما يفصح عنه نفس دليل الاجتزاء بالجهات الأربع ضرورة احتمال عدم وقوع شي‌ء من الصلوات إلى جهة القبلة وكونها واقعة فيما بين تلك الجهات فلا علم ببطلان شي‌ء من الصلاتين لا الاولى ولا الثانية لا إجمالاً ولا تفصيلاً ، بل كلتاهما محكومة بالصحة وأنها واجدة لشرط الاستقبال ، لأن الانحراف في كل منهما إلى ما دون اليمين والشمال ، وعلى كل حال فلا وجه لرعاية الاحتياط المزبور.

ويؤيد ما ذكرناه : أن الجمع بين المترتبتين كالظهرين والعشاءين وإن كان جائزاً عند الخاصة كما نطقت به الأخبار وعليه عملهم في الأعصار المتأخرة حتى اليوم ، لكنه لم يكن متداولاً في الأزمنة السابقة وفي عصر المعصومين عليهم‌السلام بل كان عملهم على التفريق إما لكونه أفضل أو مماشاةً مع العامة وعدم إظهار المخالفة ، حيث إنهم يرون وجوبه ، وبما أن التحير في أمر القبلة قلّما يتفق في البلدان لوجود الأمارات والعلامات غالباً لا أقل من محاريب المسلمين ، ففرض الاشتباه مع العجز عن التحري والاجتهاد لا يكاد يتحقق إلا في مثل الصحاري والبراري عند الأسفار مع كون السماء مغيمة أو في الليل المظلم ، بحيث لا يتمكن من تشخيص جهات الأُفق ولا يتميز المشرق عن المغرب ولا يرى الشمس والقمر ، وبطبيعة الحال من صلى الظهر مثلاً إلى جهات أربع والحال هذه وهو على جناح‌

٤٦٤

[١٢٤١] مسألة ١٣ : من كانت وظيفته تكرار الصلاة إلى أربع جهات أو أقل وكان عليه صلاتان ، يجوز له أن يتمّم جهات الاولى ثم يشرع في الثانية ، ويجوز أن يأتي بالثانية في كل جهة صلى إليها الاولى إلى أن تتم ، والأحوط اختيار الاولى ، ولا يجوز أن يصلي الثانية إلى غير الجهة التي صلى إليها الأُولى ، نعم ، إذا اختار الوجه الأول لا يجب أن يأتي بالثانية على ترتيب الاولى (١).

______________________________________________________

السفر وبناؤه على التفريق بينه وبين العصر المستلزم لإيقاع صلاة العصر بعد مدّة أُخرى في مكان آخر ، فهو لا يتمكن عادة من تشخيص الجهات التي صلى إليها الاولى وإحرازها كي يصلي الثانية إلى نفس تلك الجهات ، مع أنه مأمور بإيقاع الصلاة الثانية أيضاً إلى الجهات الأربع ما دامت الحيرة باقية. وهذا أقوى شاهد على عدم لزوم رعاية اتحاد الجهات ، بل إن هذا هو مقتضى إطلاق الأدلة أيضاً ، فلا موجب لرفع اليد عن الإطلاق من دون دليل على التقييد فضلاً عن قيام الدليل على العدم كما عرفت.

(١) الوجوه المتصورة في كيفية الإتيان بالصلاتين المترتبتين إلى الجهات الأربع أو الأقل ثلاثة :

الأول : أن يتمم جهات الاولى ثم يشرع في الثانية. وهذا لا إشكال في صحته ، سواء شرع في الثانية على النحو الذي شرع في الأُولى أم بخلافها كما لو بدأ بالعصر إلى الجهة التي فرغ فيها عن الظهر ، لأن الثلاثة الأُخر من باب المقدمة العلمية والواجب إنما هي صلاة واحدة ، فهو يعلم بوقوع عصر مترتبة على الظهر كل منهما إلى القبلة على كل حال كما هو ظاهر.

الثاني : وهو بإزاء الوجه الأول ، أن يصلي الثانية إلى غير الجهة التي صلى إليها الأُولى ، كما لو صلى الظهر إلى الشمال مثلاً والعصر إلى المغرب أو الجنوب ، وقد حكم في المتن ببطلان هذا الوجه ، للعلم بفساد الثانية حينئذ ،

٤٦٥

إما لفقد الاستقبال لو كانت القبلة في الجهة الأُولى ، أو لفقد الترتيب لو كانت في الثانية.

وهذا الذي أفاده قدس‌سره وجيه في الجملة لا على سبيل الإطلاق ، لما عرفت في المسألة السابقة من أنّ الانحراف بما دون تسعين درجة غير ضائر ، لأن ما بين المشرق والمغرب قبلة للمتحير.

وعليه فان صلى الثانية إلى جهة مقابلة للجهة الأُولى كأن صلاهما إلى نقطتي الشمال والجنوب أو المشرق والمغرب تم ما أفاده قدس‌سره لأنّ البعد بين النقطتين حينئذ مائة وثمانون درجة ، فيعلم لا محالة بالانحراف في إحدى الصلاتين بمقدار تسعين درجة أو أكثر ، فتكون فاقدة لشرط الاستقبال لعدم وقوعها ما بين المشرق والمغرب ، فيعلم إجمالاً ببطلان إحدى الصلاتين ، بل تفصيلاً ببطلان الثانية ، لفقدها الاستقبال أو الترتيب كما أُفيد.

وأما إذا صلى الثانية إلى جهة غير متقابلة مع الجهة التي صلى إليها الأُولى فكان البعد أقل مما ذكر كما لو صلى الاولى إلى الشمال مثلاً ، والثانية إلى المشرق أو المغرب فلا علم بالبطلان في شي‌ء منهما ، لعدم العلم بالانحراف بمقدار تسعين درجة ، بل لو كانت القبلة فيما بين الجهتين فغاية الانحراف حينئذ خمس وأربعون درجة ، فتكون كلتاهما محكومة بالصحة لوقوعهما فيما بين اليمين واليسار كما عرفت. فالظاهر صحة الإتيان بالمترتبتين على هذا الوجه أيضا ، هذا.

ولكن سيدنا الأُستاذ ( دام ظله ) عدل بعد ذلك عما أفاده في المقام فحكم بالبطلان في هذه الصورة تبعاً للمتن ، وأفاد ( دام ظله ) في وجهه : أنّ العصر إذا لم تقع في الجهة التي صلى إليها الظهر ، بل كان منحرفاً ولو بمقدار يسير كعشر درجات أو أقل فضلاً عن خمس وأربعين لم يحرز ترتب العصر على الظهر الصحيحة ، لاحتمال أن تكون العصر منحرفة عن القبلة بمقدار تسع وثمانين درجة مثلاً ، بحيث يكون الانحراف عن هذا الحد إلى الجانب الذي صلى الظهر ولو بدرجة واحدة موجباً للانحراف عن القبلة بتسعين درجة ، فحيث‌

٤٦٦

يحتمل انحراف الظهر عن القبلة بتسعين أو أكثر فلم يحرز صحتها ، ومعه لا يمكن الدخول في العصر ، لعدم إحراز شرط الترتيب بعد احتمال بطلان الظهر لكونها إلى غير القبلة ، وهكذا الحال في الصلاة إلى بقية الجهات (١) فلا بد من وقوع العصر إلى نفس الجهة التي صلى إليها الظهر فتأمل جيداً.

الثالث : أن يأتي بالثانية في كل جهة صلى إليها الاولى إلى أن تتم ، فيصلي الظهر إلى الشمال مثلاً وبعدها العصر ، ثم يصلي الظهر إلى الشرق وبعدها العصر ، وهكذا إلى أن تتم الجهات.

وقد يناقش في ذلك من وجهين :

أحدهما : عدم إحراز شرط الترتيب المعتبر في صلاة العصر حين الإتيان بها ، لاحتمال أن تكون الجهة غير القبلة ، وما لم يحرز الترتيب لا يشرع الدخول فيها.

ويدفعه : أنّ الجهة التي صلى إليها الظهر إن كانت هي القبلة. فالعصر مترتبة عليها ، وإلا فكلتا الصلاتين باطلة ، فهو محرز للترتيب على تقدير الصحة. وبعبارة اخرى : إنما يعتبر الترتيب في صلاة عصر صحيحة مأمور بها دون ما لم يتعلق به الأمر ، وإنما جي‌ء به من باب المقدمة العلمية ، الأجنبية عن ذات المأمور به بالكلية ، فصلاة العصر إن كانت صحيحة مأموراً بها لكونها إلى القبلة فقد وقعت الظهر إليها أيضاً ، فهو محرز للترتيب قطعاً لوقوعهما في جهة واحدة على الفرض ، وإلا فليست هي من حقيقة الصلاة في شي‌ء لكون القبلة من الأركان ، وهذا عمل عبث ولغو بصورة الصلاة ، ولا دليل على اعتبار الترتيب في غير الصلاة المأمور بها كما هو ظاهر جدّاً.

ثانيهما : عدم الجزم بالنية عند الشروع في العصر فلا يتمشى منه قصد‌

__________________

(١) نعم ، ولكنه بعد الفراغ من الجهات يعلم إجمالاً بوقوع ظهرين صحيحتين ومترتبتين في إحداها كما لا يخفى.

٤٦٧

القربة بعد احتمال البطلان وعدم تعلق الأمر به ، الناشئ من احتمال فقد شرط الترتيب.

وفيه : أنّ الجزم بالنية غير حاصل حتى مع إحراز الفراغ من الظهر باستكمال جهاتها والشروع في العصر بعد ذلك كما في الصورة الأُولى ، لاحتمال كون القبلة في غير الجهة التي شرع فيها ، غايته أنّ عدم الجزم هناك لاحتمال فقد الاستقبال الذي لا يكون معه الأمر حينئذٍ ، وفي المقام لهذه الجهة ولاحتمال فقد الترتيب ، ولا فرق في عدم الجزم بين أن ينشأ من جهة أو من جهتين بالضرورة ، مع أنه لا ريب في الصحة في تلك الصورة كما تقدم ، هذا نقضاً.

وأما الحلّ : فهو أنه لا دليل على اعتبار الجزم بالنية في صحة العبادة ، بل يكفي مجرد الإضافة إلى المولى ولو لاحتمال الأمر والإتيان بقصد الرجاء ، فيصلي العصر في كلتا الصورتين برجاء المحبوبية وباحتمال الأمر. وأما الترتيب فهو وإن لم يحرز في المقام عند الشروع في العصر لاحتمال كون الذمة مشغولة بعدُ بالظهر ، لكنه بعد استكمال الجهات في كلتا الصلاتين يقطع بحصوله وترتب عصر صحيحة بعد ظهر كذلك ، وإن لم يميزهما من بين الجهات ، إذ لا دليل على اعتبار التمييز ولا الجزم بالنية كما قرر في محله (١).

وفذلكة الكلام في المقام : أنه بناءً على ما ذكرناه سابقاً (٢) من إمكان تحصيل العلم بالقبلة عيناً بالتوجّه إلى سبع دائرة الأُفق المتضمن للكعبة ، لا بدّ في تحصيل الجزم بالاستقبال لدى الاشتباه من تكرار الصلاة إلى جهات سبع بتقسيم دائرة الأُفق إلى أقواس سبعة والصلاة إلى كل قوس منها.

كما أنه بناء على الاجتزاء عند الاشتباه بالصلاة إلى ما بين اليمين واليسار الراجع إلى اغتفار الانحراف بما دون تسعين درجة ، يجزئه التكرار إلى ثلاث‌

__________________

(١) شرح العروة ١ : ٥٠.

(٢) في ص ٤٣١.

٤٦٨

جوانب ، فيقسم دائرة الأُفق إلى ثلاثة أقواس ويصلي في كل قوس ، إذ البعد بين كل قوس حينئذ مائة وعشرون درجة ، فغاية الانحراف ستون درجة الذي هو أقل من التسعين.

وأما إذا بنينا على وجوب التكرار إلى جهات أربع استناداً إلى مرسلة خراش المتقدمة (١) كما عليه المشهور ، فحيث إنّ المتبادر منها أن تكون الجهات متقابلة فيستفاد منها أنّ غاية الانحراف المغتفر لدى الاشتباه إنما هو بمقدار خمس وأربعين درجة ، ضرورة أنّ التكرار لدى تقابل الجهات يوجب القطع بعدم الانحراف عن القبلة أكثر من هذا المقدار ، إذ البعد بين كل جهة وأُخرى تسعون درجة الذي هو ربع دائرة الأُفق فنصفه خمس وأربعون ، فان كانت القبلة أقرب إلى جهة منها إلى الأُخرى كان الانحراف أقل من خمس وأربعين بالضرورة ، وإلاّ بأن كانت في الوسط الحقيقي بين الجهتين فكانت النسبة متساوية من الجانبين ، كان الانحراف خمساً وأربعين درجة لا أكثر كما هو ظاهر.

وهذه الوجوه المذكورة في هذه المسألة كلها مبنية على هذا المبنى الأخير ، أي لزوم عدم الانحراف عن القبلة أكثر من خمس وأربعين الذي هو لازم مسلك المشهور كما عرفت.

وحينئذ نقول : المتعين من بين الوجوه الثلاثة المتقدمة (٢) إنما هو الوجه الأول والأخير ، بأن يشرع في الثانية بعد استكمال جهات الاولى ، سواء صلى إلى نفس تلك الجهات أو إلى جهات اخرى متقابلات كما أشرنا إلى هذا التعميم في المسألة السابقة ، أو أن يصلي الثانية في كل جهة صلى إليها الاولى.

وأما الوجه الثاني ، وهو الإتيان بالثانية في غير الجهة التي صلى إليها‌

__________________

(١) في ص ٤٣٧.

(٢) في ص ٤٦٥.

٤٦٩

الاولى الذي هو ثالث الوجوه في المتن فغير جائز كما عليه الماتن مطلقاً وإن كان انحراف كل جهة عن الأُخرى يسيراً جدّاً ، للعلم ببطلان العصر في بعض الصور ، وعدم الجزم بحصول الترتيب في البعض الآخر حتى بعد استكمال الجهات.

وبيانه : أنه إذا صلى العصر إلى جهة تبعد عن الجهة التي صلى إليها الظهر أكثر من تسعين درجة في جميع الأطراف مع حفظ تقابل الجهات الذي هو محل الكلام ، بأن صلى الظهر إلى نقطة الشمال مثلاً ثم صلى العصر بعد ذلك إلى ما بين الجنوب والمغرب ثم صلى الظهر الثانية إلى المغرب ، والعصر إلى ما بين الجنوب والمشرق ، والظهر الثالثة إلى الجنوب والعصر إلى ما بين المشرق والشمال ، والظهر الرابعة إلى المشرق والعصر إلى ما بين الشمال والمغرب ، فإنه يعلم حينئذ تفصيلاً ببطلان العصر الاولى إما لعدم الاستقبال أو لفقد الترتيب ، إذ المفروض أن البعد بين الجهتين أكثر من تسعين درجة ، وقد بنينا على عدم اغتفار الانحراف عن القبلة أكثر من خمس وأربعين درجة ، وحينئذ فان كانت الظهر الاولى إلى القبلة بالمعنى المتقدم أي لم يكن البعد عنها أكثر من خمس وأربعين كانت العصر إلى غير القبلة قطعاً ، لامتناع أن لا تكون بعيدة عنها حينئذ أكثر من هذا المقدار كما هو ظاهر فتبطل لفقد الاستقبال ، وإن كانت العصر إلى القبلة كانت الظهر إلى غيرها ، لعين ما ذكر فتبطل وبتبعه تبطل العصر أيضاً لفقد الترتيب ، فالعصر باطلة على كل حال لفقدها أحد الشرطين من الاستقبال أو الترتيب.

وكذا الحال في العصر الثانية بعين البيان المتقدم.

وأما العصر الثالثة الواقعة ما بين المشرق والشمال فتحتمل فيها الصحة ، لاحتمال كون القبلة ما بين الشمال والمشرق فتكون هذه العصر مع الظهر الاولى إلى القبلة ، وقد حصل الترتيب بينهما.

وكذا العصر الواقعة ما بين الشمال والمغرب ، لاحتمال كون القبلة بينهما فتكون هي مع الظهر الاولى بل الثانية أيضاً إلى القبلة ، إذ لا يزيد انحراف كل‌

٤٧٠

منهما عن القبلة على خمس وأربعين درجة ، والترتيب حاصل بينهما ، لكن ذلك مجرد احتمال لا جزم معه بالامتثال ، لاحتمال كون القبلة في نقطة الجنوب مثلاً فلم يحرز الترتيب ووقوع عصر بعد ظهر كلاهما إلى القبلة.

وأما إذا صلى العصر إلى جهة تبعد عن الظهر بمقدار تسعين درجة تحقيقاً كما لو صلى الظهر إلى الشمال والعصر إلى المغرب ، والظهر الثانية إلى المغرب والعصر إلى الجنوب ، والثالثة إلى الجنوب والعصر إلى المشرق ، والرابعة إلى المشرق ، والعصر إلى الشمال ، فلا جزم بالبطلان حينئذ في شي‌ء من الصلوات ، لاحتمال كون القبلة في أوساط الجهات تحقيقاً فيكون بُعدُ الجهتين اللتين صلى إليهما الظهر والعصر عنها خمساً وأربعين درجة ، وهو مغتفر على الفرض لكنه لا جزم بالصحة أيضاً ، لاحتمال أن تكون القبلة منحرفة عن الشمال إلى المغرب مثلاً بأكثر من خمس وأربعين درجة ، بأن كانت على رأس خمسين درجة مثلاً ، فان الظهر الاولى تبطل حينئذٍ لفقد الاستقبال وبتبعه تبطل العصر الاولى لفقد الترتيب. وأما الظهر الثانية فهي وإن كانت صحيحة لأن انحرافها عن القبلة أربعون درجة لكنه لا تأتي بعد ذلك عصر صحيحة أبداً ، لكونها منحرفة عن القبلة أكثر من خمس وأربعين درجة قطعاً فلاحظ.

ومن ذلك يظهر أنه لو صلى العصر إلى غير الجهة التي صلى إليها الظهر فكان منحرفاً عن تلك الجهة ولو بمقدار عشر درجات فضلاً عن الأكثر من ذلك ، لا يمكن معه إحراز صحة العصر في شي‌ء من الجهات ، فلو صلى الظهر إلى الشمال والعصر منحرفاً عنه إلى المغرب بعشر درجات ثم صلى الظهر الثانية إلى المغرب والعصر منحرفاً إلى الجنوب بعشر درجات وكذا الظهر الثالثة والرابعة إلى الجنوب والمشرق مع تأخر العصر بعشر درجات لا يمكن الجزم بصحّة العصر ، لاحتمال أن تكون القبلة منحرفة عن الشمال إلى المغرب بمقدار خمسين درجة ، فإن الظهر الاولى تبطل حينئذ ، لكون الانحراف أكثر من خمس وأربعين درجة ، وبتبعه تبطل العصر الاولى لفقد‌

٤٧١

[١٢٤٢] مسألة ١٤ : من عليه صلاتان كالظهرين مثلاً مع كون وظيفته التكرار إلى أربع إذا لم يكن له من الوقت مقدار ثمان صلوات بل كان مقدار خمسة أو ستة أو سبعة ، فهل يجب إتمام جهات الاولى وصرف بقية الوقت في الثانية أو يجب إتمام جهات الثانية وإيراد النقص على الاولى؟ الأظهر الوجه الأول ويحتمل وجه ثالث وهو التخيير ، وإن لم يكن له إلا مقدار أربعة أو ثلاثة ، فقد يقال بتعين الإتيان بجهات الثانية وبكون الاولى قضاءً ، لكن الأظهر وجوب الإتيان بالصلاتين وإيراد النقص على الثانية كما في الفرض الأول ، وكذا الحال في العشاءين (١).

______________________________________________________

الترتيب ، وإن كانت هي صحيحة من حيث الاستقبال لكون الانحراف حينئذ أربعين درجة. وأما الظهر الثانية فهي وإن صحّت لكون انحرافها عن القبلة أربعين درجة لكن العصر الثانية باطلة ، لأن انحرافها خمسون درجة ، وأما العصر الثالثة والرابعة فانحرافهما أزيد بكثير فلم يترتب على الظهر الثانية عصر صحيحة ، والعصر السابقة عليها وإن صحت من حيث القبلة لكنها فاقدة للترتيب كما عرفت.

فظهر من جميع ما ذكرناه أنه لا يكاد يحصل الجزم بالامتثال إلا بأن يصلي العصر إلى عين الجهة التي صلى إليها الظهر ، أو أن يشرع فيها بعد استكمال جهات الظهر كما كان في الوجه الأول ، ولا يجوز الإتيان بالثانية إلى غير الجهة التي صلى إليها الاولى ، للقطع ببطلان العصر حينئذ في بعض التقادير ، وعدم الجزم بصحتها في التقادير الأُخر كما أوضحناه بما لا مزيد عليه.

هذا غاية ما بنى عليه سيدنا الأُستاذ ( دام ظله ) أخيراً عند تخرجه عن المسألة بعد أن أطال المقام وعدل كرة بعد أُخرى.

(١) إذا اشتبهت القبلة في جهات أربع وقلنا بوجوب التكرار إليها كما عليه المشهور ، وكان عليه صلاتان مترتبتان كالظهرين ، فاما أن يتمكن من تحصيل‌

٤٧٢

الموافقة القطعية بالإضافة إلى كلتا الصلاتين كما لو بقي من الوقت مقدار ثمان صلوات أو أكثر ، أو يتمكن من تحصيلها بالإضافة إلى إحدى الصلاتين دون الأُخرى كما لو لم يسع الوقت لثمان ، بل كان مقدار سبع صلوات أو ست أو خمس ، أو لم يتمكن من تحصيل الموافقة القطعية لشي‌ء منهما بل كانت الموافقة في كلتيهما احتمالية كما لو بقي مقدار أربع صلوات أو أقل ، فصور المسألة ثلاث (١) :

أما الصورة الاولى فلا إشكال في وجوب تحصيل الموافقة القطعية لكل منهما بعد فرض سعة الوقت والتمكن من ذلك. وفي كيفية الامتثال وجوه تقدمت في المسألة السابقة ، وقد عرفت أنّ المتعين منها وجهان : الشروع في الثانية بعد استكمال جهات الاولى ، أو الإتيان بهما معاً في كل جهة. وأما الإتيان بالثانية في غير الجهة التي صلى إليها الاولى فغير جائز كما مر.

وأما الصورة الثانية أعني ما إذا لم يتمكن من تحصيل الموافقة القطعية إلا في إحداهما دون الأُخرى ، كما لو بقي من الوقت مقدار خمس صلوات أو أزيد دون الثمان فلا إشكال حينئذ في وجوب صرف ما عدا الأربع الأخيرة وهي الاولى لو كانت خمساً ، وهي مع الثانية لو كانت ستاً ، وهما مع الثالثة لو كانت سبعاً في الظهر ، لفعلية أمرها وعدم جواز تقديم العصر عليها اختياراً كما هو ظاهر.

كما لا إشكال في وجوب صرف الصلاة الأخيرة في العصر للقطع بسقوط الأمر بالظهر حينئذ ، إما بالامتثال لو كانت القبلة في الجهات التي صلى إليها الظهر ، أو لخروج وقتها لو لم تكن فيها ، فان مقدار أربع ركعات من آخر الوقت مختص بصلاة العصر قطعاً.

إنما الكلام في الثلاث المتوسطة المتخللة بين الأخيرة من الصلوات وما‌

__________________

(١) [ تنحلّ الصورة الثانية إلى صورتين كما يأتي في ص ٤٧٨ ، فالصور أربع ].

٤٧٣

تقدمها ، وأنها هل تصرف في الظهر بمقدار تحصل معه الموافقة القطعية بالنسبة إليها فيورد النقص على العصر ويقتصر فيها على الموافقة الاحتمالية كما اختاره في المتن ، أو يعكس فتصرف في العصر ويورد النقص على الظهر فتكون الموافقة فيها احتمالية وفي العصر قطعية ، أو يتخير بين الأمرين لعدم ترجيح في البين كما احتمله في المتن؟ وجوه.

قد يقال كما عن الشهيد (١) بتقديم العصر ، بدعوى أنّ المراد بوقت الاختصاص الوقت الذي تؤتى فيه الفريضة بمقدماتها العلمية ، فمصداق الوقت المزبور يختلف حسب حالات المكلف ، فعند تبين القبلة مقدار أربع ركعات ، وعند الاشتباه ستة عشرة ركعة من أول الوقت للظهر ومن آخره للعصر.

وهذه الدعوى ساقطة قطعاً ، ضرورة انصراف وقت الاختصاص بل ظهور دليله في إرادة ذات الفريضة أو هي مع مقدماتها الوجودية على كلام ، من غير فرق بين صورتي العلم والجهل ، وأما المقدمات العلمية الأجنبية عن ذات المأمور به بالكلية إنّما يؤتى بها تحصيلاً للقطع بالفراغ فلا مساس لها بوقت الاختصاص كما هو ظاهر جدّاً.

وقد يقال بتقديم الظهر من أجل كونها مقدمة على العصر بحسب الرتبة.

وهذا أيضاً يتلو سابقه في الضعف ، إذ فيه بعد الغض عن أن التقدم الرتبي لا محصل له في المقام كما لا يخفى أن تقدم ذات الظهر على العصر خارجاً لا يستوجب تقديم امتثال إحداهما على الأُخرى بعد كون وجوبيهما فعليين عرضيين وفي مرتبة واحدة من دون ترجيح لأحدهما على الآخر.

فمن هنا قد يقوى في النظر بدواً القول بالتخيير كما هو الشأن في كل واجبين متزاحمين لم يتمكن المكلف من امتثالهما أو لم يتمكن من تحصيل‌

__________________

(١) [ لم نعثر عليه للشهيد الأول ولعله الشهيد الثاني ، راجع روض الجنان : ١٩٤ السطر ١٤ ].

٤٧٤

الموافقة القطعية إلا في أحدهما ، بعد فرض تساوي الوجوبين في الملاك وعدم احتمال أهمية أحدهما بالنسبة إلى الآخر ، فان المكلف مضطر حينئذ إلى ترك واحد منهما لا محالة فيتخير في اختيار أيّ منهما شاء.

هذا ، ولكن التأمل يقضي بخلاف ذلك والذهاب إلى التفصيل بتقديم جانب الظهر في تقدير ، والحكم بالتخيير في تقدير آخر ، فان الكبرى المزبورة وإن كانت مسلّمة لكنها غير منطبقة على المقام بنحو الإطلاق ، وذلك لأن صلاة العصر تمتاز عن الظهر باعتبار الترتيب فيها دونها ، ولا شك أن هذا حكم واقعي محفوظ في صورتي العلم بالقبلة والجهل بها ، فتجب رعايته في الوقت المشترك مهما أمكن ، بحيث لو بقي من الوقت مقدار صلاتين فضلاً عن الأكثر لا يجوز الإخلال به عمداً ، بل يجب الإتيان بالعصر على نحو لو صحّت فهي واجدة للترتيب.

وعليه فاذا كان الباقي من الوقت مقدار خمس صلوات أو ست فهو وإن كان متمكناً من تحصيل الموافقة القطعية بالإضافة إلى الظهر بالصلاة إلى الجهات الأربع ، لكنه لا يتمكن منها بالنسبة إلى العصر ، إذ لو صلى الظهر إلى الجهة أو الجهتين وخص الأربع الأخيرة بالعصر لم يحرز سقوط الأمر به ، لاحتمال كون القبلة في غير الجهة التي صلى إليها الظهر فتبطل ، ويوجب فساد العصر أيضاً لفقد الترتيب ، فلا جزم بحصول الترتيب المعتبر في صحة العصر فلا قطع بالامتثال.

وبالجملة : إنما يجوز الإتيان بمحتملات العصر فيما إذا علم عند الشروع فيها أنه لم يخل بالترتيب عمداً وأنه لو أتى بالعصر إلى القبلة فهو مترتب على الظهر ، وهذا لا يتحقق فيما لو صرف الجهة أو الجهتين في الظهر وصرف الباقي في العصر ، لاحتمال أن لا تكون تلك الجهة إلى القبلة فيكون مكلفاً واقعاً بإتيان الظهر ، لأن الوقت المشترك باق بعدُ والوقت يسع لهما مترتبتين ، فالأمر الواقعي برعاية الترتيب منجّز في حقه كما عرفت ، فلو صرف الوقت‌

٤٧٥

في العصر يحتمل أن يكون مخلًّا بالترتيب عمداً فلا تحصل بذلك الموافقة القطعية لصلاة العصر بالضرورة ، فلا مناص له حينئذ إما من صرف الأربعة الاولى في الظهر والباقي في العصر ، فتحصل بذلك الموافقة القطعية للظهر والاحتمالية للعصر ، أو يصرف بعضها في الظهر وبعضها في العصر بأن يصلي الظهر والعصر إلى جهة ثم يصليهما إلى جهة ثانية ، ثم يصلي العصر إلى جهة ثالثة لو كانت الصلوات خمساً أو هي مع الظهر لو كانت ستاً فتحصل الموافقة الاحتمالية في كل منهما. ولا ريب أنه كلّما دار الأمر بين تحصيل الموافقة القطعية لتكليف والاحتمالية لآخر ، وبين الموافقة الاحتمالية لكل منهما ، كان الأول أولى في نظر العقل. وعليه فيتعين الصرف في الظهر وإيراد النقص على العصر.

نعم لو كان الباقي من الوقت مقدار سبع صلوات يمكن حينئذ تحصيل الموافقة القطعية لإحدى الصلاتين على البدل ، أما بالنسبة إلى الظهر فظاهر ، وأما بالإضافة إلى العصر فبأن يصلي الظهر والعصر معاً في جهات ثلاث ، ثم يصلي العصر في الجهة الرابعة ، أو يصلي الظهر أوّلاً إلى ثلاث جهات ، ثم يصلي العصر في الجهات الأربع مخيراً في الابتداء بأي منهما شاء ما عدا الجهة الأخيرة التي لم يصل إليها الظهر ، إذ لو بدأ بها لم يحرز رعاية الترتيب ، لاحتمال كون القبلة في نفس هذه النقطة ، والمفروض عدم وقوع الظهر إليها فيكون مخلًّا بالترتيب مع بقاء الوقت المشترك وتنجز الحكم الواقعي المحفوظ في صورتي العلم والجهل كما مرّ ، فلا يكون مثله محققاً للاحتياط ومحصلاً للموافقة القطعية ، فاللازم إبقاء هذه الجهة إلى الصلاة الأخيرة فيصرف رابعة العصر فيها ، فإنه يقطع حينئذ بعدم الإخلال بالترتيب ، لأن القبلة إن كانت في غيرها فقد صلى الظهر والعصر إليها مترتبتين ، وإن كانت فيها فبما أن هذا وقت الاختصاص فالترتيب ساقط جزماً ، فلا يكون مخلًّا بالترتيب على أي حال.

٤٧٦

وإن شئت فقل : إنّا نقطع بسقوط الأمر بالظهر في هذا الحين ، إما بالامتثال لو كانت القبلة في الجهات السابقة ، أو بخروج الوقت لو لم تكن فيها ، فانّ مقدار أربع ركعات من آخر الوقت مختص بصلاة العصر ، فلا يكون هناك إخلال بالترتيب من ناحية المكلف قطعاً.

وبالجملة : فيمكن تحصيل الموافقة القطعية لإحدى الصلاتين لا بعينها في هذه الصورة ، أعني فيما لو بقي من الوقت مقدار سبع صلوات عند مراعاة الشرط المزبور دون الصورة السابقة وهي ما لو بقي مقدار ست صلوات أو خمس فتنطبق الكبرى المتقدمة حينئذ ويحكم بالتخيير ، لكون الوجوبين عرضيين من دون ترجيح في البين وعدم احتمال أهمية إحدى الصلاتين من الأُخرى.

وما يقال : من لزوم تقديم الظهر في هذه الصورة أيضاً بدعوى أنه وإن لم تحرز أهمية إحدى الصلاتين من الأُخرى ، إلا أن الظهر لما كانت شرطاً في صحة العصر بمقتضى الترتيب المعتبر بينهما ، فالأمر بالعصر يدعو إلى فعل الظهر كما يدعو إلى فعل العصر ، فقد تعلق بالظهر أمران أمر بها بنفسها وأمر آخر ينشأ من قبل الأمر بالعصر لكونها مقدمة لها ، فالإتيان بالظهر امتثال لأمرها ولأمر العصر معاً. وعليه فلا يجوّز العقل فعل العصر وترك الظهر ، إذ ليس في فعلها الا امتثال وجوبها لا غير ، وهذا المقدار كاف في الترجيح.

مدفوع أوّلاً : بعدم اتصاف المقدمة بالوجوب الغيري كما حقق في الأُصول (١) ، فلم يتعلق بالظهر إلا أمر واحد كالعصر.

وثانياً : لو سلم فالتحقيق أنّ الواجب إنما هي المقدمة الموصلة دون غيرها ، ولا علم بالإيصال في المقام ، بل قد تكون المقدمة مفوّتة لذيها لا موصلة إليها ، كما لو استكمل جهات الظهر الأربع وصلى العصر بعد ذلك إلى جهات ثلاث وكانت القبلة واقعاً في الجهة الرابعة التي لم يصل إليها‌

__________________

(١) محاضرات في أُصول الفقه ٢ : ٤٣٦.

٤٧٧

العصر ، فإن الإتيان بالظهر في هذه الجهة مفوّت لإتيان العصر إليها ، إذ المفروض عدم سعة الوقت لأكثر من سبع صلوات ، فالإتيان بالمقدمة ربما يؤدي إلى انهدام ذي المقدمة وتفويته رأساً فضلاً عن أن توصل إليه.

وكيف ما كان ، فقد عرفت أنّ الأقوى في هذه الصورة التخيير ، وفي الصورة السابقة ترجيح الظهر على العصر.

ومحصل الكلام : أن صور المسألة أربع :

الأُولى : ما إذا تمكن من تحصيل الموافقة القطعية لكلتا الصلاتين ، كما لو بقي من الوقت مقدار ثمان صلوات أو أكثر ، وحكمها ظاهر كما مر.

الثانية : ما إذا تمكن من تحصيل الموافقة القطعية لإحدى الصلاتين لا بعينها ، وهذا فيما إذا بقي من الوقت مقدار سبع صلوات. والحكم هنا التخيير ، لتزاحم الواجبين العرضيين من دون ترجيح في البين ، كما هو الشأن في كل تكليفين كذلك كما عرفت.

الثالثة : ما إذا تمكن من تحصيل الموافقة القطعية لخصوص الظهر ، وأما العصر فاحتمالية ، كما لو بقي من الوقت مقدار ست صلوات أو خمس واللازم حينئذ تقديم الظهر وإيراد النقص على العصر ، لدوران الأمر بين الموافقة القطعية لأحد التكليفين والاحتمالية للآخر ، وبين الموافقة الاحتمالية لكل منهما ، ولا شك أنّ الأول أولى كما تقدم.

وأما عكس هذه الصورة فلا يكاد يتصور كما لا يخفى.

الصورة الرابعة : ما إذا لم يتمكن من تحصيل الموافقة القطعية في شي‌ء منهما ، بل كانت في كل منهما احتمالية كما لو بقي من الوقت مقدار أربع صلوات فما دون.

أما إذا كان الباقي مقدار صلاتين فلا ينبغي الإشكال في تعين صرف الأول في الظهر ، والثاني في العصر ، لأن مقدار الوقت المشترك بعدُ باقٍ ، فالأمر الواقعي بالترتيب المحفوظ في صورتي العلم بالقبلة والجهل بها كما تقدم غير ساقط ، فلا يجوز صرف الأول في العصر ، للقطع بالإخلال بالترتيب‌

٤٧٨

حينئذ. كما لا يجوز صرف الثاني في الظهر ، لكونه وقتاً مختصاً بالعصر كما مرّ.

ودعوى لزوم صرفهما في العصر ، لأن المراد بوقت الاختصاص فعل الفريضة بمحتملاتها من الأربع فما دون كما عن الشهيد قدس‌سره قد عرفت فسادها.

وبالجملة : لا مجال لصرفهما في العصر لاستلزامه الإخلال بالترتيب ، كما لا مجال لصرفهما في الظهر لمنافاته لوقت الاختصاص ، فيتعين التوزيع بصرف الأول في الظهر والثاني في العصر ، فتحصل بذلك الموافقة الاحتمالية لكل منهما. ولا فرق في ذلك بين الإتيان بهما في جهة واحدة أو جهتين ، لسقوط الترتيب (١) عند الشروع في الثاني الذي هو وقت مختص بالعصر ، فلا يحتمل الإخلال به وإن تعددت الجهة كما لا يخفى.

وأما إذا كان الباقي مقدار ثلاث صلوات فلا إشكال في لزوم صرف الأول في الظهر والأخير في العصر كما علم مما مرّ آنفاً ، إنما الكلام في المتخلل بينهما فهل يصرف في الظهر ويورد النقص على العصر كما اختاره في المتن ، أم يعكس ، أم يتخير؟

الأقوى هو الأخير ، إذ لا يتيسّر للمكلف أكثر من الموافقة الاحتمالية في كل منهما على الفرض وبما أنّ الوجوبين عرضيان وفي حدّ سواء من دون ترجيح في البين ، ولا احتمال لأهمية إحدى الصلاتين ، فاللازم هو التخيير‌

__________________

(١) لم يظهر وجه لسقوط الترتيب في وقت الاختصاص مطلقاً ، وإنما يسقط إذا لم يأت بالظهر رأساً دون ما إذا أتى ببعض محتملاتها كما في المقام. وعليه فبما أن الظهر المأتي بها يحتمل صحتها ووقوعها إلى القبلة ويمكنه رعاية الترتيب في هذا التقدير بأن يصلي العصر إلى نفس جهة الظهر لم يكن معذوراً في تعمد الإخلال به بالإتيان بها إلى جهة أُخرى.

وبعبارة اخرى : إن صلى العصر إلى نفس جهة الظهر احتمل تحقق الترتيب ، وإن صلى إلى غيرها قطع بعدمه ، ولا ريب في أن الأول أولى. ومنه تعرف أن اختيار الجهة الواحدة لكلتا الصلاتين إن لم يكن أقوى فلا ريب أنه أحوط.

٤٧٩

في إيراد النقص على أي منهما شاء ، فله أن يصلي الظهر أوّلاً إلى جهة ، ثم ثانياً إلى جهة أُخرى ، ثم يصلي العصر حيث شاء فيورد النقص عليها ، كما له إيراد النقص على الظهر فيصلّيها إلى جهة ثم يأتي بعصرين إلى جهتين ، لكن اللازم حينئذ أن يأتي بالعصر الاولى إلى الجهة التي صلى إليها الظهر ، إذ لو صلاها إلى جهة أُخرى لم يكن محرزاً للترتيب اللازم رعايته بعد بقاء الوقت المشترك كما مرّ ، لاحتمال كون القبلة في نفس هذه النقطة التي صلى إليها العصر فتكون الظهر الأُولى فاسدة ومفسدة للعصر أيضاً لفوات الترتيب.

نعم ، لا جزم بالبطلان ، لاحتمال كون القبلة في الوسط الحقيقي بين الجهتين فتكون العصر الاولى مع الظهر السابقة كلاهما إلى القبلة ، لعدم كون الانحراف في شي‌ء منهما أكثر من خمس وأربعين درجة ، فيحصل بذلك الترتيب أيضاً ، إلا أنّ هذا مجرد احتمال معارض باحتمال الخلاف ، ولا بد من الإتيان بعصر يحرز معه الترتيب لو كان إلى القبلة ، ولا يكون ذلك إلا بالإتيان في نفس الجهة التي صلى إليها الظهر. وأما العصر الثانية فحيث إن الترتيب ساقط فيها لأجل وقت الاختصاص كما مرّ غير مرة ، فله الإتيان بها في أي جهة شاء.

ومما ذكرنا يظهر الحال فيما لو بقي من الوقت مقدار أربع صلوات فإن الأول والأخير مختص بالظهر والعصر ، وفي الثنتين المتخللتين مخير بين الأمرين ، فله الصرف في الظهر فيأتي بالظهر إلى ثلاث جهات ثم بالعصر حيث شاء ، وله الصرف في العصر فيصلي الظهر والعصر إلى جهة ثم يأتي بعصرين في جهتين ، وليس له الإتيان بالعصر الاولى في غير الجهة التي صلى إليها الظهر كما علم وجهه مما مرّ آنفاً. وله التوزيع بصرف ثنتين في الظهر وثنتين في العصر ، بأن يصلي الظهر والعصر إلى جهة ، ثم يصليهما معاً إلى جهة أُخرى ، أو يصلي الظهر أوّلاً إلى جهة ثم ثانياً إلى جهة أُخرى ، ثم يأتي بعصرين ، لكن في هذه الصورة وإن كان مخيراً بالإتيان بالعصر الثانية حيث شاء ، إلا أن العصر الاولى لا يؤتى بها في غير الجهتين اللتين صلى إليهما‌

٤٨٠