موسوعة الإمام الخوئي

الشيخ مرتضى البروجردي

وثانياً : بقصور الدلالة بنحو ما مرّ في الصحيحة ، فإن قوله عليه‌السلام : « فان له رخصة » بيان للترخيص الثابت من قِبل الله تعالى الذي هو حكم من الأحكام ، لا أنه إعمال لحقه المختص به عليه‌السلام.

وأما رواية إسحاق ، فمضافاً إلى ضعف سندها بمحمد بن حمزة بن اليسع ومحمد بن الفضيل حسب نقل صاحب الوسائل ، لترددهما بين الموثق وغيره ، قاصرة الدلالة أيضاً ، فإنّ ظاهر الإسناد في قوله : « فقد أذنت له » وإن كان إلى الامام إلا أنه ليس بما هو إمام بل بما هو مبيّن للحكم الإلهي ويفرغ عن لسان الشارع المقدّس ، نظير ما يقوله المجتهد للمستفتي : أذنت لك في كذا ، أو لا آذن أن تفعل كذا ، فان الجميع بيان عن الحكم الثابت في الشريعة المقدّسة ، ولا خصوصية للإمام أو المجتهد بما هو كي يكشف عن الحق والاختصاص.

وقد تلخّص من جميع ما تقدّم عدم اشتراط إقامة الجمعة بالإذن الخاص ، لضعف مستند القائلين بالاشتراط ، فلا فرق في مشروعيتها بين عصري الحضور والغيبة عملاً بإطلاق الأدلة ، كما أنها غير واجبة تعييناً ، لقيام الدليل على العدم كما مرّ مستقصى. ونتيجة ذلك هو الوجوب التخييري على التفصيل الذي تقدم ، هذا كله بحسب ما تقتضيه الأدلة الاجتهادية.

وأمّا بالنظر إلى الأصل العملي فنقول : لو أغضينا النظر عن كل ما ورد في صلاة الجمعة من دليل يقتضي الوجوب تعييناً أو تخييراً أو الحرمة وفرضناها كأن لم تكن ، فتخرّجنا من المسألة ولمّا نجزم بشي‌ء ، فالمرجع حينئذ هي العمومات أو الإطلاقات الدالة على وجوب سبع عشرة ركعة على كل مكلف في كل يوم ، ونتيجة ذلك تعين الظهر يوم الجمعة كسائر الأيام.

ولو فرضنا التشكيك في ذلك ، لعدم ثبوت عموم أو إطلاق في تلك الأدلة فلا محالة ينتهي الأمر إلى الأصل العملي ، وصور الشك حينئذ أربع :

الاولى : أن يتردد الأمر بين وجوب الجمعة تعييناً أو تخييراً بعد الجزم بأصل‌

٤١

المشروعية ، والمرجع حينئذ أصالة البراءة عن تعيّن الجمعة ، لاندراج المقام في كبرى الدوران بين التعيين والتخيير ، والمختار فيها الرجوع إلى البراءة العقلية والنقلية ، للعلم بجامع الوجوب والشك في خصوصية زائدة مدفوعة بالأصل كما حرّر في الأُصول (١).

الثانية : أن تتردد بين الحرمة والوجوب مع القطع بعدم التعيين على تقدير الوجوب ، فيكون الدوران بين الحرمة والوجوب التخييري ، والحال فيه كما مرّ ، إذ احتمال الحرمة مساوق لاحتمال تعيّن الظهر ، فيدور الأمر بين وجوبها التعييني والتخييري ، والمرجع هي البراءة عن التعييني كما عرفت.

الثالثة : أن يدور الأمر بين كل من الحرمة والوجوب التعييني والتخييري ، وهذه الصورة أيضاً كسابقتيها في الاندراج تحت تلك الكبرى ، لدوران الأمر حينئذ بين تعيّن كل من الظهر أو الجمعة والتخيير بينهما ، فيرجع إلى البراءة عن التعييني ، غايته من الطرفين ، ونتيجة ذلك هو الوجوب التخييري أيضاً.

الرابعة : أن تتردد الجمعة بعد القطع بعدم الوجوب التخييري بين الحرمة والوجوب التعييني ، والمرجع حينئذ قاعدة الاشتغال ، للعلم الإجمالي بالتكليف والشك في المكلف به ، فيجب الجمع بين الظهر والجمعة تحصيلاً للقطع بالفراغ عن التكليف المعلوم.

هذا فيما إذا لم يتيقن بوجوب الجمعة في زمن الحضور تعييناً ، وأما مع اليقين به واحتمال انقلابه إلى التخيير أو الحرمة في زمن الغيبة ، فالمرجع هو الاستصحاب بناءً على ما هو المشهور من جريانه في الشبهات الحكمية ، وأما على ما هو التحقيق من المنع فالاستصحاب ساقط في المقام ، والمرجع هو ما ذكرناه على التفصيل الذي عرفت.

هذا تمام الكلام في صلاة الجمعة.

__________________

(١) مصباح الأصول ٢ : ٤٥٦.

٤٢

وأما النوافل فكثيرة ، آكدها الرواتب اليومية ، وهي في غير يوم الجمعة أربع وثلاثون ركعة ثمان ركعات قبل الظهر ، وثمان ركعات قبل العصر ، وأربع ركعات بعد المغرب ، وركعتان بعد العشاء من جلوس تعدّان بركعة (١).

______________________________________________________

(١) قد ورد الحثّ الأكيد والاهتمام البليغ بشأن الرواتب اليومية والمحافظة عليها في تضاعيف الأخبار (١) ، وأنها مكمّلة للفرائض ومن علامات المؤمن ، بل في بعضها : أنّ ترك البعض منها معصية ، أو فعلها واجب ونحو ذلك مما لم يرد في بقية النوافل ، ولأجله كانت هي أفضل وآكد ، مضافاً إلى ظهور الإجماع والتسالم عليه.

وأما عددها : فهي في غير يوم الجمعة أربع وثلاثون ركعة : ثمان ركعات قبل الظهر ، وثمان قبل العصر ، وأربع بعد المغرب ، وركعتان بعد العشاء من جلوس تعدّان بركعة ، وركعتان قبل صلاة الفجر ، وإحدى عشرة ركعة صلاة الليل ، فيكون المجموع بضميمة الفرائض إحدى وخمسين ركعة. وقد استفاضت النصوص بل تواترت بذلك (٢).

والظاهر اتفاق الأصحاب عليه وإن اختلفت كلماتهم كالنصوص في التعبير عنها بالخمسين تارة ، وباحدى وخمسين اخرى ، لكن ذلك مجرد اختلاف في التعبير وفي كيفية العدّ والاحتساب بعد التسالم على الحكم ، فان القصر على الخمسين مبني على عدم كون الوتيرة أعني نافلة العشاء من الرواتب بحسب الجعل الأوّلي وبلحاظ أصل التشريع ، إما لما في بعض الأخبار من أنها بدل عن الوتر (٣) فلم يجمع بين البدل والمبدل منه في العدّ ، أو لما في بعضها الآخر (٤) من‌

__________________

(١) الوسائل ٤ : ٧٠ / أبواب أعداد الفرائض ب ١٧ وما بعده من الأبواب.

(٢) الوسائل ٤ : ٤٥ / أبواب أعداد الفرائض ب ١٣.

(٣) الوسائل ٤ : ٤٥ / أبواب أعداد الفرائض ب ١٣ ح ٢ وب ٢٩ ح ٨.

(٤) الوسائل ٤ : ٩٥ / أبواب أعداد الفرائض ب ٢٩ ح ٣.

٤٣

أنها إنما شرّعت لاستكمال العدد كي يكون عدد النوافل ضعف الفرائض ، فكأنها لم تكن مجعولة بالذات ولذا لم تحسب منها.

وكيف كان ، فلا ينبغي الإشكال في الحكم نصاً وفتوى. نعم قد يتراءى من بعض الأخبار ما يوهم خلاف ذلك كصحيح زرارة الدال على أن المجموع أربع وأربعون ركعة بإسقاط ركعتين من نافلة المغرب ، وأربع ركعات من نافلة العصر ، قال : « قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : ما جرت به السنة في الصلاة؟ فقال : ثمان ركعات الزوال ، وركعتان بعد الظهر ، وركعتان قبل العصر ، وركعتان بعد المغرب ، وثلاث عشرة ركعة من آخر الليل منها الوتر وركعتا الفجر ، قلت : فهذا جميع ما جرت به السنة؟ قال : نعم » الحديث (١) لكنها لأجل مخالفتها مع تلكم النصوص المستفيضة كما عرفت لا بد من التصرف فيها ، إما بالحمل على اختلاف مراتب الفضل وأن هذه الست ركعات ليست بمثابة الباقي في الفضيلة ، فيكون المراد بما جرت به السنة هو الذي استمرت عليه سيرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بحيث لم يكن يأتي بأقل منها اهتماماً بشأنها ، أو أنها تحمل على التقية.

وربما يوجد في بعض الأخبار ما يوهم غير ذلك ، وهي أيضاً محمولة على اختلاف مراتب الفضل وليست من تعارض الأخبار كما لا يخفى.

ثم إن نافلة العصر لا إشكال في كونها ثمان ركعات قبل فريضة العصر كما عرفت وإن اختلف التعبير عن ذلك في لسان الأخبار ، ففي بعضها عبّر بمثل ذلك كما في رواية الفضل بن شاذان (٢).

وفي بعضها : أنها أربع بعد الظهر وأربع قبل العصر كما في رواية البزنطي (٣).

وفي ثالث : أنها ثمانية بعد الظهر كما في رواية الحارث بن المغيرة‌

__________________

(١) الوسائل ٤ : ٥٩ / أبواب أعداد الفرائض ب ١٤ ح ٣.

(٢) الوسائل ٤ : ٥٤ / أبواب أعداد الفرائض ب ١٣ ح ٢٣.

(٣) الوسائل ٤ : ٤٧ / أبواب أعداد الفرائض ب ١٣ ح ٧.

٤٤

ويجوز فيهما القيام (*) بل هو الأفضل (١) وإن كان الجلوس أحوط ، وتسمى بالوتيرة ، وركعتان قبل صلاة الفجر ، وإحدى عشرة ركعة صلاة الليل وهي ثمان ركعات ، والشفع ركعتان ، والوتر ركعة واحدة.

______________________________________________________

النضري (١). والموجود في الوسائل النصري بالصاد ، والصحيح ما ذكرناه.

وفي رابع : أنها ست ركعات بعد الظهر ، وركعتان قبل العصر كما في موثقة سليمان بن خالد (٢).

وبالجملة : فالمراد من الجميع شي‌ء واحد وإنما الاختلاف في مجرد التعبير.

ثم إن ما في بعض الأخبار من أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يأوي بعد العشاء الآخرة إلى فراشه ولم يكن يأتي بالوتيرة (٣) ، لا ينافي استحبابها وكونها من الرواتب ، إذ من الجائز أنّ ذلك من جهة أنها بدل عن نافلة الليل فيحتسب عنها فيما إذا لم يوفّق المكلف لها كما نص عليه في جملة من الأخبار ، وحيث أن نافلة الليل كانت واجبة عليه صلى‌الله‌عليه‌وآله ولم يكن هناك احتمال الفوت فلا موضوع للبدل بعد الجزم بإتيان المبدل منه.

(١) كما صرّح به وبأفضليته غير واحد على ما هو الشأن في سائر النوافل ، ويستدل له بروايتين ، إحداهما : موثقة سليمان بن خالد عن أبي عبد الله عليه‌السلام « قال : ... وركعتان بعد العشاء الآخرة يقرأ فيهما مائة آية قائماً أو قاعداً ، والقيام أفضل ، ولا تعدّهما من الخمسين » (٤).

ثانيتهما : معتبرة الحارث بن المغيرة « ... وركعتان بعد العشاء الآخرة كان أبي يصليهما وهو قاعد وأنا أُصليهما وأنا قائم ... » إلخ (٥) فإنّهما صريحتان في‌

__________________

(*) فيه إشكال ، بل الأظهر عدم جوازه.

(١) الوسائل ٤ : ٤٨ / أبواب أعداد الفرائض ب ١٣ ح ٩.

(٢) الوسائل ٤ : ٥١ / أبواب أعداد الفرائض ب ١٣ ح ١٦.

(٣) الوسائل ٤ : ٦١ / أبواب أعداد الفرائض ب ١٤ ح ٦.

(٤) الوسائل ٤ : ٥١ / أبواب أعداد الفرائض ب ١٣ ح ١٦ ، ٩.

(٥) الوسائل ٤ : ٥١ / أبواب أعداد الفرائض ب ١٣ ح ١٦ ، ٩.

٤٥

الجواز ، كما أن الاولى ناطقة بالأفضلية والثانية ظاهرة فيها ، نظراً إلى أن الاختلاف بين الصادق وأبيه عليهما‌السلام في الكيفية مستند إلى صعوبة القيام الناشئة من كبر السن وعظم جثته الشريفة كما أُشير إليه في رواية حنان بن سدير عن أبيه قال : « قلت لأبي جعفر عليه‌السلام : أتصلي النوافل وأنت قاعد؟ فقال : ما أُصليها إلا وأنا قاعد منذ حملت هذا اللحم وما بلغت هذا السن » (١). وأما الصادق عليه‌السلام فحيث لم يكن كذلك اختار القيام لأفضليته.

ولكن الظاهر عدم المشروعية فضلاً عن الأفضلية ، وأن الجلوس معتبر في حقيقة الوتيرة لتقييد دليل التشريع بذلك ، فان النصوص برمّتها قد تضمنت ذلك ، وفي بعضها (٢) التصريح بأنهما تحسبان بركعة واحدة تكملة لعدد النوافل لكي تكون ضعف الفرائض ، وفي بعضها (٣) أن الرضا عليه‌السلام كان يصليهما عن جلوس مع أنه عليه‌السلام لم يكن بديناً ، فلولا أنهما مقيدتان بالجلوس لم يكن وجه لاختياره وترك ما يدعى أنه الأفضل ، كما لم يكن وجه للتكميل المزبور ، لتقوّمه باحتسابهما ركعة واحدة ، فلو ساغ فيهما القيام لأصبحتا ركعتين وزاد عدد الفرائض عن ضعف الفرائض بركعة واحدة ولم تتحقق التكملة.

وأما الروايتان المزبورتان فالظاهر أنهما ناظرتان إلى صلاة أُخرى تستحب بعد العشاء غير الوتيرة ، ولا تحسبان من النوافل المرتّبة ولا تعدّان منها كما صرّح بذلك في ذيل موثقة سليمان بن خالد (٤) وهما اللتان يستحب فيهما القيام‌

__________________

(١) الوسائل ٥ : ٤٩١ / أبواب القيام ب ٤ ح ١.

(٢) الوسائل ٤ : ٩٥ / أبواب أعداد الفرائض ب ٢٩ ح ٣ ، ٦.

(٣) الوسائل ٤ : ٤٧ / أبواب أعداد الفرائض ب ١٣ ح ٧.

(٤) الوسائل ٤ : ٥١ / أبواب أعداد الفرائض ب ١٣ ح ١٦.

٤٦

وأما يوم الجمعة فيزاد على الست عشرة أربع ركعات ، فعدد الفرائض سبع عشرة ركعة ، وعدد النوافل ضعفها بعد عدّ الوتيرة ركعة ، وعدد مجموع الفرائض والنوافل إحدى وخمسون ، هذا (١).

______________________________________________________

وقراءة مائة آية ، فلا ربط لهما بما نحن بصدده من صلاة الوتيرة المعدودة من النوافل المرتبة ، هذا.

وأن صحيحة الحجّال صريحة فيما ذكرناه قال : « كان أبو عبد الله عليه‌السلام يصلي ركعتين بعد العشاء يقرأ فيهما بمائة آية ولا يحتسب بهما ، وركعتين وهو جالس يقرأ فيهما بقل هو الله أحد ، وقل يا أيها الكافرون .. » إلخ (١).

ونحوها صحيحة عبد الله بن سنان قال : « سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : لا تصل أقل من أربع وأربعين ركعة ، قال : ورأيته يصلي بعد العتمة أربع ركعات » (٢).

فما عن المحقق الهمداني عند تعرضه لهذه الصحيحة من أنه لم يعرف وجه هذه الأربع ركعات ولعلها صلاة جعفر عليه‌السلام (٣) في غير محله ، لما عرفت من دلالة الصحيحة المتقدمة على استحباب ركعتين أُخريين بعد العشاء غير الوتيرة يكون المجموع أربع ركعات ، وهما اللتان يكون القيام فيهما أفضل دون الوتيرة.

وظنّي أن من أفتى بأفضلية القيام فيها لم يعثر على هذه الصحيحة التي هي كالصريحة في أن مورد الأفضلية صلاة أُخرى غير الوتيرة فلاحظ.

(١) لا ريب في اختلاف نوافل يوم الجمعة عن غيرها عدداً وترتيباً كما تضمنه غير واحد من الأخبار ، بيد أنها مختلفة المفاد ، ففي بعضها أن الزائد أربع‌

__________________

(١) الوسائل ٤ : ٢٥٣ / أبواب المواقيت ب ٤٤ ح ١٥.

(٢) الوسائل ٤ : ٦٠ / أبواب أعداد الفرائض ب ١٤ ح ٤.

(٣) مصباح الفقيه ( الصلاة ) : ٥ السطر ٧.

٤٧

ويسقط في السفر نوافل الظهرين (١).

______________________________________________________

ركعات كما في المتن فيكون المجموع عشرين ركعة كما في صحيحة البزنطي قال : « سألت أبا الحسن عليه‌السلام عن التطوع يوم الجمعة ، قال : ست ركعات في صدر النهار ، وست ركعات قبل الزوال ، وركعتان إذا زالت ، وست ركعات بعد الجمعة ، فذلك عشرون ركعة سوى الفريضة » (١).

وفي بعضها الآخر أنه ست ركعات فيكون المجموع اثنتين وعشرين ركعة كما في صحيحة سعد بن سعد الأشعري عن أبي الحسن الرضا عليه‌السلام قال : « سألته عن الصلاة يوم الجمعة كم ركعة هي قبل الزوال؟ قال : ست ركعات بكرة وست بعد ذلك ، اثنتا عشرة ركعة ، وست ركعات بعد ذلك ، ثماني عشرة ركعة ، وركعتان بعد الزوال ، فهذه عشرون ركعة ، وركعتان بعد العصر فهذه ثنتان وعشرون ركعة » (٢).

وفي بعضها أنها كسائر الأيام عدداً ، وإن زاد فهو خير ، وإن اختلف معها في الترتيب كما في صحيحة سعيد الأعرج (٣) وحيث إن الاختلاف في هذه الأخبار محمول على اختلاف مراتب الفضل فلا مانع من العمل بكل منها ، والغرض منها إنما هو الإيعاز إلى ما لهذا اليوم من الفضيلة واهتماماً بشأن هذه الفريضة وما تستحقه من التجليل والتعظيم من غير إلزام في البين ، ومن ثم ساغ الاقتصار على عدد سائر الأيام كما سمعته من النص.

فما عن الصدوقين من أن يوم الجمعة كسائر الأيام من غير فارق (٤) إن أرادا به نفي الإلزام فنعم الوفاق وإلا فالفارق النص الذي لا سبيل للاجتهاد في مقابلته.

(١) بلا خلاف ولا إشكال ، بل إجماعاً كما ادعاه غير واحد ، بل عن المدارك‌

__________________

(١) ، (٢) ، (٣) الوسائل ٧ : ٣٢٣ / أبواب صلاة الجمعة ب ١١ ح ٦ ، ٥ ، ٧.

(٤) لاحظ الفقيه ١ : ٢٦٧ ، المقنع : ١٤٦.

٤٨

والوتيرة على الأقوى (*) (١).

______________________________________________________

نسبته إلى قطع الأصحاب (١).

وتدل عليه جملة وافرة من النصوص التي منها صحيحة محمد بن مسلم عن أحدهما عليهما‌السلام قال : « سألته عن الصلاة تطوّعاً في السفر ، قال : لا تصلّ قبل الركعتين ولا بعدهما شيئاً نهاراً » (٢) ونحوها غيرها مما يظهر منه أنّ السقوط على سبيل العزيمة كما يفصح عنه ما في ذيل رواية الحنّاط من قوله عليه‌السلام : « يا بني لو صلحت النافلة في السفر تمّت الفريضة » (٣).

كما لا إشكال أيضاً في عدم سقوط نوافل ما لا تقصير فيه كالفجر والمغرب وكذا نافلة الليل ، ويدلُّ عليه مضافاً إلى إطلاق أدلتها الشامل للحضر والسفر بعض النصوص الخاصة ، كما ورد في نافلة المغرب من قوله : « لا تدعهنّ في سفر ولا حضر » (٤).

وفي موثقة زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام « قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يصلي من الليل ثلاث عشرة ركعة ، منها الوتر وركعتا الفجر في السفر والحضر » (٥).

وصحيحة محمد بن مسلم قال : « قال لي أبو جعفر عليه‌السلام : صلّ صلاة الليل والوتر وركعتين في المحمل » (٦) ونحوها غيرها.

وإنما الإشكال في سقوط الوتيرة ، أعني نافلة العشاء في السفر ، وستعرف الحال فيها.

(١) على المشهور ، بل نسب إلى ظاهر العلماء ، بل عن ابن إدريس دعوى‌

__________________

(*) فيه إشكال والأحوط الإتيان بها رجاء.

(١) المدارك ٣ : ٢٦.

(٢) الوسائل ٤ : ٨١ / أبواب أعداد الفرائض ب ٢١ ح ١.

(٣) الوسائل ٤ : ٨٢ / أبواب أعداد الفرائض ب ٢١ ح ٤.

(٤) الوسائل ٤ : ٨٣ / أبواب أعداد الفرائض ب ٢١ ح ٧.

(٥) الوسائل ٤ : ٩١ / أبواب أعداد الفرائض ب ٢٥ ح ٦ ، ٢.

(٦) الوسائل ٤ : ٩١ / أبواب أعداد الفرائض ب ٢٥ ح ٦ ، ٢.

٤٩

الإجماع عليه (١) استناداً إلى إطلاق جملة من النصوص الواردة في سقوط نوافل الرباعية التي منها صحيحة عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليه‌السلام « قال : الصلاة في السفر ركعتان ليس قبلهما ولا بعدهما شي‌ء إلا المغرب ثلاث » (٢) وقد سمعت ما في رواية الحناط : « لو صلحت النافلة في السفر تمت الفريضة ».

ولكن جماعة منهم الشيخ في النهاية (٣) ذهبوا إلى عدم السقوط ، ومال إليه غير واحد من المتأخرين منهم المحقق الهمداني قدس‌سره لولا انعقاد الإجماع على خلافه (٤) ويستدل له بوجوه :

أحدها : ما رواه الصدوق بإسناده عن الفضل بن شاذان عن الرضا عليه‌السلام في حديث « قال : وإنما صارت العتمة مقصورة وليس تترك ركعتاها ( ركعتيها ) لأن الركعتين ليستا من الخمسين ، وإنما هي زيادة في الخمسين تطوعاً ليتمّ بهما بدل كل ركعة من الفريضة ركعتين من التطوع » (٥).

دلت بوضوح على عدم السقوط ، لعدم احتساب الوتيرة من النوافل المرتّبة في أصل التشريع ، وإنما زيدت لمكان التكميل ، فلا ينافي ما دل على سقوط نوافل المقصورة.

ومنه يظهر عدم سقوط الركعتين اللتين قلنا باستحبابهما بعد العشاء الآخرة مستقلا ، لعدم كونهما أيضاً من تلك النوافل كما تقدم.

وبالجملة فلا إشكال في الدلالة ، وإنما الكلام في السند.

فقد ناقش فيه صاحب المدارك باشتمال طريق الصدوق إلى الفضل بن‌

__________________

(١) السرائر ١ : ١٩٤.

(٢) الوسائل ٤ : ٨٢ / أبواب أعداد الفرائض ب ٢١ ح ٣.

(٣) النهاية : ٥٧.

(٤) مصباح الفقيه ( الصلاة ) : ١٢ السطر ٣٠.

(٥) الوسائل ٤ : ٩٥ / أبواب الفرائض ب ٢٩ ح ٣ ، علل الشرائع : ٢٦٧.

٥٠

شاذان على عبد الواحد بن عبدوس ، وعلي بن محمد بن قتيبة ولم يرد فيهما توثيق (١).

وأجاب عنه غير واحد بأنه يكفي في وثاقه الأول كونه من مشايخ الصدوق ، ولا سيما وقد ترضّى عليه كثيراً (٢) فإنه لا يقصر عن التوثيق الصريح.

وأضاف المحقق الهمداني بما لفظه : لا شبهة في أن قول بعض المزكّين بأنّ فلاناً ثقة أو غير ذلك من الألفاظ التي اكتفوا بها في تعديل الرواة لا يؤثّر في الوثوق أزيد مما يحصل من إخبارهم بكونه من مشايخ الإجازة (٣).

وأما الثاني فقد اعتمد عليه أبو عمرو الكشي في رجاله على ما حكاه النجاشي (٤) ، فهو من مشايخه واعتماده عليه لا يقل عن توثيقه له.

أضف إلى ذلك : أن العلامة قد صحح الطريق المشتمل على الرجلين ، حيث إنه روى حديث الإفطار على المحرّم ولم يتأمل في صحته إلا من ناحية ابن عبدوس (٥) ، وأخيراً حكم بوثاقته وصحح الحديث (٦). وهذا يدل طبعاً على توثيقه لعلي بن محمد بن قتيبة أيضاً.

أقول : قد ذكرنا في محلّه (٧) أن مجرد الشيخوخة لا يكفي في الوثاقة ، ولا سيما في مثل الصدوق الذي يروي عن كل من سمع منه الحديث ، حتى أنّ في مشايخه من هو في أعلى مراتب النصب كالضبي حيث قال في حقه : إنّي لم أر أنصب منه فقد كان يقول : اللهم صل على محمد منفرداً (٨).

__________________

(١) المدارك ٣ : ٢٧.

(٢) التوحيد : ٢٤٢ / ٤ ، عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ١٢١ / ١.

(٣) مصباح الفقيه ( الصلاة ) : ١٢ السطر ١٤.

(٤) رجال النجاشي : ٢٥٩ / ٦٧٨.

(٥) المختلف ٣ : ٣١٤.

(٦) خلاصة الأقوال : ٢٩٦ / ١١٠٣.

(٧) معجم رجال الحديث ١ : ٧٣.

(٨) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ٢٧٩.

٥١

نعم ، من كان ملتزماً بأن لا يروي بلا واسطة إلا عن الثقة كما يظهر ذلك من النجاشي فلا ريب أن روايته عنه توثيق له ، لكن من الواضح أنّ الصدوق وكذلك الكشي لم يكونا كذلك.

كما أن الترضّي أو الترحم لا يكشفان عن التوثيق ، بل غايته صدور عمل حسن استوجب ذلك ، ولا ريب أنّ التشيع نفسه خير عمل يستوجبهما ، وقد جرت عادة الصدوق على الترضّي على كل إمامي من مشايخه ، كما أن الأئمة عليهم‌السلام كانوا يترحمون على شيعتهم كافة وعلى زوار الحسين عليهم‌السلام خاصة وفيهم البرّ والفاجر ، فترضّيه على أحد لا يكشف إلا عن تشيعه ، وترحمه لا يزيد على ترحمهم عليهم‌السلام ولا يكاد يكشف عن التوثيق بوجه.

وأما اعتماد الكشي على ابن قتيبة فلم يتضح وإن حكاه النجاشي ، فإنا لم نجد بعد التتبع التام ما عدا روايته عنه في مواضع عديدة دون ما يشهد على اعتماده عليه (١) وقد عرفت أنّ مجرد الشيخوخة لا يكشف عن الوثاقة.

وأما تصحيح العلامة للحديث أو توثيقه للراوي فالظاهر أنه لا يعوّل على شي‌ء منهما.

أما الأوّل : فلبنائه على تصحيح رواية كل إمامي لم يرد فيه قدح ، وتضعيفها من غير الإمامي وإن ورد فيه توثيق فضلاً عن المدح ، إلا من قام الإجماع على قبول روايته ، ويتضح ذلك بملاحظة عدّة مواضع من كتابه.

فمن الأوّل : ما ذكره في ترجمة إبراهيم بن هاشم حيث قال : لم أقف لأحد من أصحابنا على قول في القدح فيه ، ولا على تعديل بالتنصيص ، والروايات‌

__________________

(١) غير خفي أن الواصل إلينا من رجال الكشي هو خصوص ما اختاره الشيخ الطوسي وقد كان تمامه موجوداً عند النجاشي ومعه كيف يسعنا إنكار ما يحكيه من الاعتماد ، والعمدة في الجواب ما صرّح به سيدُنا الأُستاذ قدس‌سره ، في المعجم ١٣ : ١٧١ من أنه يروي عن الضعفاء كثيرا ، كما صرّح به النجاشي في ترجمته فلا يكشف اعتماده عن التوثيق.

٥٢

عنه كثيرة ، والأرجح قبول قوله (١).

وما ذكره في ترجمة أحمد بن إسماعيل بن سمكة حيث قال ما لفظه : لم ينص علماؤنا عليه بتعديل ، ولم يرد فيه جرح ، فالأقوى قبول روايته مع سلامتها عن المعارض (٢).

ونحوهما غيرهما مما يجده المتتبع. راجع القسم الأول من الخلاصة في ترجمة من يعتمد على روايته.

ومن الثاني موارد : منها : ما ذكره في ترجمة إسماعيل بن أبي سمّال وقيل سماك بالكاف حيث قال : قال النجاشي : إنه ثقة واقفي فلا أعتمد حينئذ على روايته (٣) ، ونحوه ما ذكره في ترجمة أخيه إبراهيم (٤) فرفض الأخذ بروايتهما لمجرد كونهما من الواقفة وإن وثقهما النجاشي.

ومنها : ما ذكره في ترجمة إسحاق بن عمّار حيث قال : كان شيخاً من أصحابنا ثقة روى عن الصادق والكاظم عليهما‌السلام وكان فطحياً ، قال الشيخ إلا أنّه ثقة واصلة معتمد عليه ، وكذا قال النجاشي ، والأولى عندي التوقف فيما ينفرد به (٥).

ومنها : ما ذكره في أبان بن عثمان في جواب ابنه فخر المحققين على ما نقله الميرزا والسيد التفريشي (٦) قال : سألت والدي عنه ، فقال : الأقرب عدم قبول روايته ، لقوله تعالى ( إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ .. ) (٧) إلخ ، ولا فسق أعظم من عدم الايمان ، إلى غير ذلك مما يجده المتتبع.

__________________

(١) خلاصة الأقوال : ٤٩ / ٩.

(٢) خلاصة الأقوال : ٦٦ / ٨٦.

(٣) خلاصة الأقوال : ٣١٥ / ١٢٣٦.

(٤) خلاصة الأقوال : ٣١٤ / ١٢٣٠.

(٥) خلاصة الأقوال : ٣١٧ / ١٢٤٤.

(٦) منهج المقال : ١٧ ، نقد الرجال ١ : ٤٦.

(٧) الحجرات ٤٩ : ٦.

٥٣

وعلى الجملة : فتصحيح العلامة مبني على أصالة العدالة ومن ثم يصحح رواية كل شيعي لم يظهر منه فسق ، ولا يعتمد على رواية غيره وإن كان ثقة ثقة.

وبما أن الراوي في محل الكلام أعني علي بن محمد بن قتيبة وكذلك ابن عبدوس شيعيّان ولم يظهر منهما فسق فمن ثمّ صحّح حديثهما ، ومن البديهي أن مثل هذا التصحيح لا يجدي من لا يرى هذا المبنى ويعتبر وثاقة الراوي كما هو الأصح عندنا.

وأما الثاني : أعني توثيقه لابن عبدوس فهو أيضاً لا يركن إليه ، إذ مع الغض عما عرفت من ابتناء توثيقاته على أصالة العدالة ، أنها مبنية على الاجتهاد والحدس ، لعدم احتمال استنادها إلى الحس مع بُعد العهد والفصل الطويل بين عصره وعصر الرواة ، واحتمال استناد التوثيق إلى السماع ممّن رآه وهو ممن سمعه ، وهكذا إلى أن ينتهي إلى عصر الراوي الذي يوثقه ، فيكون التوثيق مستنداً إلى السماع من ثقة عن ثقة بعيد غايته ، بل لا يكاد يحتمل عادة ولا سيما بعد ملاحظة ما ذكره الشهيد الثاني في الدراية من أن العلماء بعد عصر الشيخ إلى مدة مديدة كانوا يتّبعون آراءه وأقواله حتى سمّوا بالمقلّدة (١). فلا جرم كانت توثيقاته بل وتوثيقات غيره من معاصريه فضلا عمّن تأخر عنه كالمجلسي وابن طاوس وابن داود وأضرابهم شهادات حدسيّة واجتهادات وقتية. ومن البيّن عدم حجية اجتهاد فقيه على مثله وعدم اعتبار الشهادة ما لم تستند إلى الحس ، وإلا فلا شبهة في أن توثيق هؤلاء الإعلام لا يقصر عن توثيق الرجاليين كالنجاشي وغيره.

والمتحصل : أنّ توثيقات العلامة كتصحيحاته ، وكذا توثيقات المتأخرين لا سبيل للاعتماد على شي‌ء منها. إذن فالرواية ضعيفة السند لجهالة الرجلين ومناقشة صاحب المدارك في محلها.

__________________

(١) الدراية : ٢٨.

٥٤

ثانيها : صحيحة الحلبي قال : « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام : هل قبل العشاء الآخرة وبعدها شي‌ء؟ قال : لا ، غير أنّي أُصلي بعدها ركعتين ولست أحسبهما من صلاة الليل » (١).

فان المحقق الهمداني قدس‌سره بعد أن استدل برواية الفضل المتقدمة بناء منه على اعتبارها أيّد المطلوب بهذه الصحيحة ، بتقريب أن المستفاد منها أن الركعتين بعد العشاء مستحبتان في نفسهما وليستا نافلة لها لتشملها النصوص المتقدّمة الناطقة بسقوط نوافل الرباعية في السفر (٢).

ويندفع : بتوقفه على أن يكون المراد من الركعتين هو الوتيرة ، ومن الجائز أن يراد بهما الركعتان اللتان يأتي بهما عن قيام ويقرأ فيهما مائة آية ، وعرفت أنهما صلاة أُخرى غير الوتيرة يستحب الإتيان بهما مستقلا بعد العشاء الآخرة زائدة على النوافل المرتبة.

بل إن هذا هو الظاهر منها بقرينة قوله : « ولست أحسبهما من صلاة الليل » فان ما يتوهم احتسابه منها هي هذه الصلاة ، دون الوتيرة التي تصلى جالساً وتعدّ بركعة ، فإنه لا مجال لتوهم كونها من صلاة الليل بوجه ، كيف والراوي هو الحلبي الذي هو من أعاظم الرواة ، وجلالته تأبى عن أن تخفى عليه الوتيرة ويكون جاهلاً بها ليسأل عنها. نعم لما كانت الركعتان المزبورتان غير معروفتين كان السؤال عنهما في محله.

ثالثها : ما استدل به هو قدس‌سره أيضاً من أن الأخبار المتقدمة الدالة على السقوط معارضة في الوتيرة بنصوص وردت فيها بالخصوص تضمنت أن من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يبيتن إلا بوتر ، المراد بها الوتيرة ، كما في ذيل رواية أبي بصير « قلت : تعني الركعتين بعد العشاء الآخرة؟ قال : نعم إنّهما بركعة » (٣).

__________________

(١) الوسائل ٤ : ٩٣ / أبواب أعداد الفرائض ب ٢٧ ح ١.

(٢) مصباح الفقيه ( الصلاة ) : ١٢ السطر ١٩.

(٣) الوسائل ٤ : ٩٦ / أبواب أعداد الفرائض ب ٢٩ ح ٨.

٥٥

والنسبة بينهما عموم من وجه ، لاختصاص تلك الأخبار بالسفر وإطلاقها لنافلة العشاء على العكس من هذه ، وليس الإطلاق في تلك أقوى منه في هذه لو لم يكن الأمر بالعكس لتضمن لسانها نوعا من التأكيد في الإطلاق ، حيث دلت على أن الإتيان بها ينبعث عن الايمان بالمبدإ والمعاد غير المختص بوقت دون وقت.

بل يمكن القول بأنّ لها نوع حكومة على تلك الأخبار ، حيث يفهم منها أن الوتيرة مربوطة بصلاة الليل ، وأن الإتيان بها بعد العشاء لأجل وقوعها قبل المبيت لا لارتباطها بالعشاء. وكيف ما كان فبعد التساقط في مادة الاجتماع يرجع إلى إطلاق دليل المشروعية في الوتيرة الذي مقتضاه عدم السقوط في السفر (١).

ويردّه أوّلاً : أن الوتر غير الوتيرة ، والموضوع في النصوص المزبورة هو الأوّل ، كما أن معنى البيتوتة إنهاء الليل إلى طلوع الفجر ، ويكون محصّل النصوص أن من كان يؤمن بالله واليوم الآخر لا يطلع عليه الفجر إلا بوتر ، والأخبار الواردة في الاهتمام بصلاة الليل بما فيها من الوتر كثيرة جدّاً ليكن هذا منها.

وأما نافلة العشاء فلم يطلق عليها لا الوتر ولا الوتيرة في شي‌ء من الأخبار ، وإن تداول على ألسنة الفقهاء التعبير عنها بالوتيرة. إذن فلا سبيل للاستدلال بهذه الروايات على استحبابها فضلا عن عدم سقوطها في السفر. نعم فسّرت الوتر بها رواية أبي بصير المتقدمة كما سمعت.

ومن هنا جعلها في الحدائق شارحة لإجمال تلك الأخبار (٢) ، ولكنها ضعيفة السند ، لأنّ أكثر رواتها بين مهمل أو مجهول فلا يعوّل عليها. إذن فالروايات‌

__________________

(١) مصباح الفقيه ( الصلاة ) : ١٢ السطر ٢٢.

(٢) الحدائق ٦ : ٤٧.

٥٦

الدالة على السقوط سليمة عن المعارض.

وثانياً : سلّمنا إرادة الوتيرة من الوتر إلا أنه لا يبعد القول بحكومة نصوص السقوط على الثبوت ، نظراً إلى أن الثانية مسوقة لبيان أصل المشروعية ، وأن الوتيرة من المستحبات الأكيدة ، أما الأُولى النافية للمشروعية والناطقة بأنه لا شي‌ء قبل المقصورة ولا بعدها مؤيدة بما دل على أنه لو صلحت النافلة في السفر لتمت الفريضة ، فهي مسوقة لبيان حكمها في السفر فارغاً عن أصل المشروعية ، فهي ناظرة إليها وما يضاهيها من النوافل المرتّبة وشارحة للمراد منها ، وأنها خاصة بغير السفر ، فلسانها لسان الشرح والتفسير ، فلا جرم تتقدّم عليها تقدّم الحاكم على المحكوم من دون أيّ تعارض في البين.

رابعها : رواية رجاء بن أبي الضحاك المتضمنة أن الرضا عليه‌السلام لم يترك الوتيرة في السفر.

وفيه : أنه إن أُريد بها ما هو الموجود في العيون وقد نقلها صاحب الوسائل عنه عن الرضا عليه‌السلام أنه كان في السفر يصلي فرائضه ركعتين ركعتين إلا المغرب فإنه كان يصليها ثلاثاً ، ولا يدع نافلتها ، ولا يدع صلاة الليل والشفع والوتر وركعتي الفجر في سفر ولا حضر ، وكان لا يصلي من نوافل النهار في السفر شيئاً (١). فهي مضافاً إلى ضعف سندها على خلاف المطلوب أدل ، لخلوها عن التعرض للوتيرة فلو كانت ثابتة لأشير إليها كما أُشير إلى صلاة الليل وغيرها من النوافل ، وإن أُريد بها غيرها فلم نعثر عليها ، بل الظاهر أنه لا وجود لها لا في العيون ولا في غيره كما اعترف به في الجواهر (٢).

والمتحصل مما تقدم لحد الآن : أنّ ما استدل به لعدم السقوط منظور فيه ، ومع ذلك كله فيمكن الاستدلال له بوجهين :

__________________

(١) الوسائل ٤ : ٨٣ / أبواب أعداد الفرائض ب ٢١ ح ٨ ، عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ١٨٢ / ٥.

(٢) الجواهر ٧ : ٥٠.

٥٧

أحدهما : أنّ الوتيرة خارجة عن موضوع دليل السقوط ، إذ لم يثبت كونها نافلة للعشاء (١) ليشملها ما دل على سقوط نوافل المقصورة في السفر ، وإنما هي صلاة مستحبة شرّعت بدلاً عن الوتر مخافة فوتها في ظرفها ، كما تدل عليه صحيحة فضيل بن يسار عن أبي عبد الله عليه‌السلام في حديث « ... منها ركعتان بعد العتمة جالساً تعدّ بركعة مكان الوتر .. » إلخ (٢) ولعلّه لأجل ذلك عددت النوافل والفرائض في جملة من النصوص بخمسين ركعة. إذن فلا معارض لما دل على استحبابها المطلق الشامل للسفر والحضر.

ثانيهما : صحيحة محمد بن مسلم عن أحدهما عليه‌السلام قال : « سألته عن الصلاة تطوعاً في السفر ، قال : لا تصل قبل الركعتين ولا بعدهما شيئاً نهاراً » (٣).

فإن السؤال عن مطلق التطوع في السفر ، فتخصيص النفي بالجواب بالنوافل النهارية يدل بمقتضى مفهوم الوصف على عدم تعلق الحكم بالطبيعي المطلق ، بل بحصّة خاصة منها ، وإلا لأصبح القيد لغواً على التفصيل الذي حققناه في الأُصول (٤) ، وربما يعضده حصر مقصورة الليل في العشاء الآخرة ، ضرورة عدم التقصير في المغرب والفجر. إذن فالتقييد بالنهارية في الصحيحة كأنه ناظر إليها خاصة إيعازاً إلى أنها غير ساقطة.

وعلى الجملة : فلا يبعد القول بعدم السقوط لهذين الوجهين ، ولكن المشهور حيث ذهبوا إلى السقوط كان الأحوط الإتيان بها بعنوان الرجاء حذراً عن مخالفتهم.

__________________

(١) لا حاجة إلى إثبات ذلك بعد إطلاق دليل السقوط الشامل للنافلة وغيرها ، إذ لا شك أن الوتيرة مستحبة بعد العشاء بهذا العنوان فيشملها قوله (ع) في صحيحة ابن سنان « ليس قبلهما ولا بعدهما شي‌ء » ودعوى الانصراف إلى النافلة كما ترى.

(٢) الوسائل ٤ : ٤٥ / أبواب أعداد الفرائض ب ١٣ ح ٢.

(٣) الوسائل ٤ : ٨١ / أبواب أعداد الفرائض ب ٢١ ح ١.

(٤) محاضرات في أُصول الفقه ٥ : ١٣٣.

٥٨

[١١٧٦] مسألة ١ : يجب الإتيان بالنوافل ركعتين ركعتين (١).

______________________________________________________

(١) المشهور اعتبار التسليم بين كل ركعتين من النوافل ، فلا يجوز الإتيان بها ركعة واحدة إلا الوتر ولا أكثر من ركعتين ما عدا صلاة الأعرابي التي هي أربع ركعات بتسليمة واحدة ، فيعتبر في غيرهما الإتيان بالنوافل مطلقاً ركعتين ركعتين.

وقد ادعي الإجماع على ذلك ، واستشكل في ذلك المقدّس الأردبيلي فأنكر الاشتراط المزبور عملاً بإطلاق الأدلة (١).

وغير خفي أنّ دعوى الإجماع في مثل المقام مع الاطمئنان أو الظن ولا أقل من احتمال استناد المجمعين إلى أمارة أو أصل كما سيجي‌ء موهونة جدّاً ، إذ معه لا يبقى وثوق بكونه إجماعاً تعبّدياً كاشفاً عن رأي المعصوم عليه‌السلام الذي هو المناط في حجيته.

وكيف كان فيستدل للمشهور بطائفة من الروايات :

الأُولى : رواية علي بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر عليه‌السلام قال : « سألته عن الرجل يصلي النافلة أيصلح له أن يصلي أربع ركعات لا يسلّم بينهنّ؟ قال : لا إلا أن يسلّم بين كل ركعتين » (٢).

ونوقش فيها سنداً تارة : بأن في الطريق عبد الله بن الحسن ولم يوثق ، ودلالة أُخرى : بأن غاية ما يستفاد منها عدم جواز الإتيان بأكثر من ركعتين قبال ما زعمه السائل من جواز الأربع ، ولا دلالة فيها على نفي الركعة.

أقول : المناقشة الاولى في محلها ، فان عبد الله بن الحسن مع كونه ذا نسب شريف وحسب أصيل مجهول لم يتعرض له في كتب الرجال كما أشرنا إليه سابقاً ، ولأجله لم نعتمد على كتاب الأشعثيات لوقوعه في الطريق.

__________________

(١) مجمع الفائدة والبرهان ٣ : ٤٢.

(٢) الوسائل ٤ : ٦٣ / أبواب أعداد الفرائض ب ١٥ ح ٢.

٥٩

وأما المناقشة الثانية : فيمكن الذبّ عنها بأن المستثنى منه في قوله عليه‌السلام « لا إلا أن يسلّم .. » إلخ لا يمكن أن يراد به خصوص الأربع الواقع في السؤال ، لامتناع استثناء الفرد عن الفرد ، فلا مناص من أن يراد به مطلق الكيفية التي يمكن إيقاع النافلة عليها من الركعة والثنتين والثلاث وهكذا ، كي يصح الاستثناء ، فيتجه الاستدلال حينئذ كما لا يخفى ، فالإنصاف عدم قصورها إلا من حيث السند كما عرفت.

الثانية : ما رواه ابن إدريس في آخر السرائر نقلاً عن كتاب حريز بن عبد الله عن أبي بصير قال : « قال أبو جعفر عليه‌السلام في حديث : وافصل بين كل ركعتين من نوافلك بالتسليم » (١).

ونوقش في سندها بجهالة طريق ابن إدريس إلى كتاب حريز ، إذ لم يدركه بنفسه كي يحتمل نقله عنه بلا واسطة ، وحيث إن تلك الواسطة مجهولة فهي في حكم المرسل.

ويندفع : بأن ابن إدريس ممن لا يعمل بأخبار الآحاد. وعليه فلا يحتمل أن تكون الواسطة شخصاً واحداً مجهولاً كي تكون الرواية في حكم المرسل ، بل طريقه إلى الكتاب إما ثابت بالتواتر أو أنه محفوف بالقرائن القطعية الموجبة للجزم بصحة الطريق لدى كل من اطلع عليها. وبذلك تخرج الرواية عن الإرسال كما لا يخفى (٢).

نعم ، لو كان الراوي غير ابن إدريس ممن يعمل بأخبار الآحاد اتجه الاشكال.

وبالجملة : بعد ملاحظة مسلكه قدس‌سره في حجية الأخبار لا وقع للمناقشة في سند الرواية.

__________________

(١) الوسائل ٤ : ٦٣ / أبواب أعداد الفرائض ب ١٥ ح ٣ ، السرائر ( المستطرفات ) ٣ : ٥٨٥.

(٢) ولكنه ( طاب ثراه ) عدل عن هذا المبنى أخيراً كما أوعزنا إليه في مطاوي هذا الشرح.

٦٠