موسوعة الإمام الخوئي

الشيخ مرتضى البروجردي

الظهر ، وقد ذكر عليه‌السلام في ذيل الحديث : أنه لم يبدأ بشي‌ء قبل المكتوبة ، الشاملة لكل منهما.

وفي صحيحة حريز قال : « سمعته يقول أما أنا إذا زالت الشمس يوم الجمعة بدأت بالفريضة .. » إلخ (١) والفريضة شاملة لهما.

فالصحيح حينئذ أن يقال : إن التضييق والتوقيت في هذه الروايات بأجمعها ناظر إلى وقت الفضيلة دون الإجزاء ، والمراد تحديد الوقت من ناحية المبدأ ، وأن يوم الجمعة بما هو سواء أكانت الفريضة فيه هي الجمعة أم الظهر يمتاز عن بقية الأيام ، لا أن صلاة الجمعة تمتاز عن بقية الصلوات ، وذلك فان وقت الفضيلة في بقية الأيام يتسع رعاية للنوافل المتقدمة على الفريضة ، وللمكلف تأخير الفريضة عن أول الزوال بمقدار القدم أو القدمين والابتداء بالنوافل ، كما أن له تركها والبدأة بالفريضة لدى الزوال فلا تضييق في وقت الفضيلة ، بل يتسع مبدؤه كما عرفت رعاية لشأن النوافل.

وأما في يوم الجمعة فحيث إن النوافل ساقطة لتقدمها على الزوال ـ (٢) فيتضيق وقت الفضيلة لا محالة ، ويكون مبدؤه هو الزوال لعدم الموجب للتأخير كي يتسع الوقت على حذو سائر الأيام ، وهذا كما ترى من خصوصيات يوم الجمعة بما هو ، لانتفاء المزاحم في هذا اليوم سواء أكان الفرض هو الظهر أم الجمعة (٣).

__________________

(١) الوسائل ٧ : ٣٢٠ / أبواب صلاة الجمعة ب ٨ ح ٢٠.

(٢) بل يستحب الإتيان بركعتين منها عند الزوال كما عليه النص والفتوى فلاحظ.

(٣) قد يختلج بالبال عدم حسم مادة الإشكال الوارد على الضيق الحقيقي الذي هو الظاهر من الأخبار كما تقدم بالالتزام بوقت الفضيلة ، لعدم الفرق بين الوجوب والاستحباب فيما هو المناط في الاشكال من قبح تشريع حكم لا يقبل الامتثال بالإضافة إلى عامة الناس ، وقد عرضت ذلك على سيدنا الأُستاذ قدس‌سره فأفاد بأن الحكم الاستحبابي حيث لا إلزام فيه فيكفي في تشريعه مجرد إمكان الامتثال ولو من بعض الأفراد في بعض

١٤١

وبالجملة : فهذه الروايات لا دلالة فيها على التضييق في وقت صلاة الجمعة بحيث ينقضي الوقت بعد مضي مقدار أدائها كما زعمه أبو الصلاح وابن زهرة (١) بوجه ، بل الضيق فيها باعتبار السعة في غيرها لا بمعنى لزوم وقوعها في الأول التحقيقي من الزوال.

هذا وقد استدل للجعفي بمرسلة الصدوق قال : « وقال أبو جعفر عليه‌السلام أول وقت الجمعة ساعة تزول الشمس إلى أن تمضي ساعة فحافظ عليها ، فان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : لا يسأل الله عبد فيها خيراً إلا أعطاه » (٢).

وقد رواها الشيخ في مصباح المتهجد عن حريز عن زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام بعين هذا المتن (٣). ومن هنا قد يطمأن بل يقطع باتحاد الروايتين ، لاتفاقهما في ألفاظ الرواية زائداً على المعنى.

وكيف كان ، فلا يمكن الاستدلال بالرواية لهذا القول ، لا لضعف السند بدعوى الإرسال في الأُولى وجهالة طريق الشيخ إلى حريز في الثانية فتكون كالمرسل أيضاً كما قيل ،

إذ فيه : أن طريقه إليه مبيّن في الفهرست (٤) ، وقد ذكر له طرقاً ثلاثة كلها صحيحة ، ومن الواضح أن الطرق المذكورة في الفهرست إلى الرواة لا تختص بما يرويه عنهم في كتاب دون كتاب ، بل قد صرح بالإطلاق في المقام بقوله :

__________________

الأحيان ، وأيّده قدس‌سره بأنه لا ريب في استحباب المبادرة لكل صلاة فريضة أم نافلة في أول وقتها الحقيقي ولو من باب استحباب المسارعة والاستباق إلى الخير بحيث لو اتفق وقوعها في أول الوقت تحقيقاً كان مجزئاً بل مصداقاً للفرد ، فلولا إمكان التضييق في وقت الفضيلة لم يتحقق الاستحباب في الفرض.

(١) تقدّم ذكر المصدر في ص : ١٣٦.

(٢) الوسائل ٧ : ٣١٨ / أبواب صلاة الجمعة ب ٨ ح ١٣ ، الفقيه ١ : ٢٦٧ / ١٢٢٣.

(٣) الوسائل ٧ : ٣٢٠ / أبواب صلاة الجمعة ب ٨ ح ١٩ ، مصباح المتهجد : ٣٦٤.

(٤) الفهرست : ٦٢ / ٢٣٩.

١٤٢

أخبرنا بجميع كتبه ورواياته فلان عن فلان ، فلا يقاس بالطرق المذكورة في مشيخة التهذيب المختصة بالروايات المذكورة في كتاب التهذيب غير النافعة بالإضافة إلى الرواية المبحوث عنها في المقام ، لكونها مذكورة في كتاب المصباح دون التهذيب كما لا يخفى ، فالنقاش من حيث السند في غير محله (١).

بل الوجه في عدم صلاحية الاستدلال قصور الدلالة.

أما أوّلاً : فلأن الساعة المذكورة في الرواية لا يراد بها معناها المصطلح الحادث في العصر الحاضر ، أعني ستين دقيقة التي هي جزء من أربعة وعشرين جزءاً من الليل والنهار بالضرورة ، فإنّ هذا الإطلاق لم يكن معهوداً في الأزمنة السابقة قطعاً ، بل هي بمعناها اللغوي ، وهي في اللغة تطلق على معنيين :

الأول : نفس الوقت والزمان ، ومنه إطلاقها في صدر هذه الرواية أعني قوله عليه‌السلام « ساعة تزول الشمس » أي وقت زوالها.

الثاني : الجزء من الزمان ومقدار منه دون أن يحدّد بحدّ مضبوط يقال : صليت مع زيد ساعة ، أي برهة من الزمن ، سواء أكان مقدارها نصف ساعة بالمعنى المصطلح أم ساعتين. والساعة المذكورة في ذيل الرواية أعني قوله عليه‌السلام : « إلى أن تمضي ساعة » إنما هي بهذا المعنى كما لا يخفى.

وعليه فالتحديد المذكور في هذه الرواية قابل للانطباق على مذهب المشهور ، أعني بلوغ الظل مثل الشاخص ، إذ يصدق على هذا المقدار أيضاً أنه ساعة بعد الزوال ، فلا دلالة في الرواية على التحديد بأقل من ذلك كي يكون قولاً آخر مقابل قول المشهور.

وثانياً : لو سلّم أن المراد بالساعة في الرواية أقل من ذلك أو أنه المعنى‌

__________________

(١) بل في محله ، إذ لم يعلم أن الشيخ أخذ هذه الرواية من كتاب حريز حتى يكون طريقه في الفهرست إلى الكتاب مجدياً ، وقد تقدم منه قدس‌سره نظير هذا الإشكال في صلاة الغفيلة فراجع [ ص ٧٤ ] ولاحظ.

١٤٣

المصطلح ، فلا دلالة فيها على مضي الوقت من أصله بعد انقضاء هذا المقدار من الزمان كي ينتقل إلى الظهر كما يدعيه هذا القائل ، ضرورة أن التحديد فيها إنما هو لأول الوقت لا لأصله ، لقوله عليه‌السلام فيها « أول وقت الجمعة ... » حيث إن لكل صلاة وقتين كما نطقت به جملة من الأخبار وقد تقدم بعضها ، وهذا تحديد لأول الوقت ، أي للوقت الأول من حيث المبدأ والمنتهى ، وأنه يبتدئ من الزوال وينتهي بعد ساعة ، ثم يدخل الوقت الثاني ، وإن كان مفضولاً بالإضافة إلى الأول ، فلا دلالة فيها على انقضاء الوقت من أصله بعد انقضاء الساعة كما هو المدعى.

ويؤيده : قوله عليه‌السلام بعد ذلك : « فان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ... » إلخ المشعر بأنّ هذه الخاصية من آثار وقت الفضيلة ولذا ينبغي الاهتمام بها والمحافظة عليها.

وبالجملة : فلا نظر في الرواية إلى التحديد بالإضافة إلى أصل الوقت.

وأما مقالة المجلسيين من التحديد بالقدمين فيستدل لها بأحد وجهين :

الأول : ما تضمنته جملة من روايات الباب (١) وقد تقدم بعضها وغيرها من أنّ وقت العصر في يوم الجمعة وقت الظهر في سائر الأيام بضميمة ما هو المعلوم من الخارج من أن وقت الظهر في سائر الأيام إنما هو ما بعد القدمين ، فإنه يدل بالالتزام على انتهاء وقت الجمعة عند القدمين كي يدخل حينئذ وقت العصر رعاية للترتيب المعتبر بينهما.

والجواب عن هذا ظاهر جدّاً ، فان المستفاد من تلك الأخبار بمقتضى الإطلاق أنّ وقت العصر يوم الجمعة هو ما ذكر ، سواء أكانت وظيفته هي الجمعة أم الظهر ، كما لو كان مسافراً وغيره ممن كان معذوراً عن إقامة الجمعة ، فيظهر من ذلك أنّ هذا من خصوصيات يوم الجمعة دون صلاتها ، وإلا لاختص الحكم بمن يؤدي فريضة الجمعة وهو منافٍ للإطلاق كما عرفت ، ولا‌

__________________

(١) الوسائل ٧ : ٣١٥ / أبواب صلاة الجمعة ب ٨ ح ١ ، ٣ ، ٥.

١٤٤

ريب في امتداد وقت الظهر في هذا اليوم كغيره إلى الغروب.

فالسر في هذه الخصوصية الموجبة لامتياز هذا اليوم عن سائر الأيام ليس هو التضيق في وقت صلاة الجمعة أو الظهر بالضرورة ، بل هو تقدم النوافل على الزوال في هذا اليوم ، فيرتفع المزاحم الذي كان هو الموجب للتأخير في سائر الأيام بمقدار أربعة أقدام ، ونتيجة ذلك عدم المقتضي لتأخير صلاة العصر في يوم الجمعة إلا بمقدار أداء الظهر أو الجمعة غير المستوعب من الوقت إلا بمقدار القدمين.

وبالجملة : إنما يتأخر وقت فضيلة الظهرين عن الزوال بمقدار الذراع أو الذراعين رعاية للنوافل المتقدمة عليهما كما سبق وأما مع سقوط النوافل كما في السفر ، أو تقدمها على الزوال كما في يوم الجمعة فحيث لا مزاحم في البين فلا موجب للتأخير ، بل يكون مبدأ الظهر أو الجمعة هو الزوال ، ومبدأ العصر هو الفراغ عن الفريضة السابقة ، فلا محالة يصادف وقت العصر في يوم الجمعة وقت فضيلة الظهر في سائر الأيام وهو القدمان كما عرفت.

الثاني : أن مقتضى العمومات وجوب صلاة الظهر على كل مكلف في كل يوم من الزوال إلى الغروب ، وقد ثبت في يوم الجمعة قيام الخطبتين مقام الركعتين الأُوليين ، أي بدلية الجمعة عن الظهر ، فيكون ذلك بمنزلة المخصص لعموم العام ، والمتيقن من البدلية ما لو أتى بالجمعة قبل بلوغ الفي‌ء إلى القدمين ، وأما في الزائد على ذلك فحيث يشك في البدلية فيندرج المقام حينئذ في كبرى الدوران بين التمسك بعموم العام أو استصحاب حكم المخصص ، وحيث إن المختار في تلك المسألة هو الأول فيجب الإتيان بالظهر تمسكاً بعموم الدليل ، فلا تجزئ الجمعة بعد التجاوز عن القدمين.

وفيه : أن المقام أجنبي عن ذلك البحث ، فان الموضوع في تلك المسألة ما إذا لم يكن لدليل المخصص إطلاق يثبت به عموم التخصيص بحيث انتهى الأمر إلى الأصل العملي وهو الاستصحاب ، فيكون عموم العام مقدّماً عليه حينئذ كما أُفيد.

١٤٥

وأما مع ثبوت الإطلاق فلا ريب في أنه هو المتّبع ، ومعه لا يبقى مجال للترديد المزبور ، ومن الواضح ثبوت الإطلاق في المقام ، فان قوله عليه‌السلام في بعض تلك الأخبار : « تجب الجمعة إذا كان لهم من يخطب بهم » غير قاصر الشمول بالإضافة إلى ما بعد القدمين ، بل مقتضى الإطلاق عموم البدلية من الزوال إلى الغروب ، لعدم التحديد بوقت معيّن في شي‌ء من الأخبار ، فيكون وقتها هو وقت الظهر فضيلة وإجزاءً.

ومن هنا كان الأوجه في النظر ابتداءً هو ما اختاره الحليّ والشهيد من استمرار الوقت إلى الغروب كالظهر وأن وقتيهما واحد ، عملاً بإطلاق دليل البدلية.

إلا أنه يمنع عن الأخذ بهذا الإطلاق أمران :

الأول : عدم فتوى المشهور بذلك ، بل تسالم الأصحاب على خلافه تقريباً ، وقد تقدم من العلامة (١) دعوى الإجماع على انتهاء الوقت عند صيرورة الظل مثل الشاخص ، فكأنه لم يعتن بخلاف الحليّ والشهيد فادعى الإجماع غير مكترث بخلافهما ، بل لعل عدم الامتداد إلى الغروب من مرتكزات المتشرعة والمغروس في أذهانهم كما لا يخفى.

الثاني : عدم معهودية وقوعها قبل الغروب ولو بساعة أو ساعتين أو أكثر لا في زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ولا في زمن الأئمة عليهم‌السلام ولا من بعدهم مع كثرة الطوارئ والعوارض الموجبة للتأخير كما في غيرها من سائر الصلوات من السفر والمرض ونحوهما ، فلو جاز التأخير لاتفق ولو في مورد واحد ، ولنقل إلينا بطبيعة الحال ولو في رواية واحدة مع عدم الإشارة إلى ذلك في شي‌ء من الأخبار لا قولاً ولا فعلاً ، فيقطع من ذلك بعدم اتحاد الوقتين ، وأنّ وقت الجمعة أقل من الظهر تحقيقاً.

وعليه فلا بد من رفع اليد عن الإطلاق المزبور بالمقدار اللازم وما تقتضيه‌

__________________

(١) في ص : ١٣٧.

١٤٦

ووقت فضيلة الظهر من الزوال إلى بلوغ الظل الحادث بعد الانعدام أو بعد الانتهاء مثل الشاخص ، ووقت فضيلة العصر من المثل إلى المثلين على المشهور ، ولكن لا يبعد أن يكون من الزوال إليهما (١).

______________________________________________________

الضرورة اقتصاراً على المقدار المتيقن من التقييد وهو بلوغ الظل مثل الشاخص ، فيحكم بعدم جواز التأخير عن هذا الحد لقيام الشهرة بل الإجماع كما عرفت.

وأما ما عدا ذلك ، أعني التأخير عن الزوال إلى هذا الحد فيشمله الإطلاق ، لعدم الموجب لرفع اليد عنه أكثر من المقدار المعلوم. ومن ذلك تعرف مستند القول المشهور ، وأنّ هذا هو الأقوى وإن لم يرد التحديد بذلك صريحاً في شي‌ء من الأخبار كما تقدم.

(١) بعد الفراغ عن امتداد وقت إجزاء الظهرين من الزوال إلى الغروب كما تقدم ، يقع الكلام في وقت الفضيلة ، فالمشهور أن وقت فضيلة الظهر من الزوال إلى بلوغ الظل الحادث بعد الانعدام أو الانتهاء كما تقدم توضيحه مثل الشاخص ، فهذا هو الوقت الفضلي الاختصاصي للظهر. وأما العصر فيبتدئ وقته من المثل وينتهي إلى المثلين. وذهب السيد الماتن قدس‌سره إلى ابتداء وقتيهما من الزوال ، فما بين الزوال إلى المثل وقت فضلي مشترك بينهما إلا أن هذه قبل هذه رعاية للترتيب ، وإلا ففضيلة الوقت في حدّ ذاته صالح لكل منهما ، وما بين المثل إلى المثلين وقت اختصاص لفضيلة العصر.

هذا بحسب الفتوى ، وأما بالنظر إلى الروايات الواردة في المقام فالكلام فيها يقع تارة في التحديد من حيث المبدأ وأُخرى من ناحية المنتهي.

أما من حيث المبدأ : فالأخبار الواردة في ذلك على طوائف ثلاث :

الاولى : ما تضمن التحديد بالقدم والقدمين فدلت على أن الوقت إنما يدخل بعد مضي قدم للظهر وقدمين للعصر.

١٤٧

فمنها : صحيحة إسماعيل بن عبد الخالق قال : « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن وقت الظهر ، فقال : بعد الزوال بقدم أو نحو ذلك إلا في يوم الجمعة أو في السفر فان وقتها حين تزول » (١).

ومنها : موثقة سعيد الأعرج عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « سألته عن وقت الظهر أهو إذا زالت الشمس؟ فقال : بعد الزوال بقدم أو نحو ذلك إلا في السفر أو يوم الجمعة ، فإنّ وقتها إذا زالت » (٢) وقد تقدّم أن طريق الشيخ إلى الحسن بن محمد بن سماعة موثق.

ومنها : موثقة ذريح المحاربي عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « سأل أبا عبد الله عليه‌السلام أُناس وأنا حاضر إلى أن قال فقال بعض القوم : إنّا نصلي الأُولى إذا كانت على قدمين والعصر على أربعة أقدام ، فقال أبو عبد الله عليه‌السلام النصف من ذلك أحبّ إلى » (٣) ، فان النصف من ذلك هو القدم والقدمان.

الطائفة الثانية : ما تضمن التحديد بالقدمين والأربعة أقدام قدمان للظهر وأربعة أقدام للعصر المساوق للذراع والذراعين ، وهي كثيرة لا يبعد فيها دعوى التواتر الإجمالي وأكثرها صحاح.

فمنها : صحيحة الفضلاء عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما‌السلام أنهما « قالا : وقت الظهر بعد الزوال قدمان ، ووقت العصر بعد ذلك قدمان » (٤).

وقد يتوهم أنّ النظر في الصحيحة إنما هو إلى التحديد من ناحية المنتهي ، وأن الوقت ينتهي بالقدمين والأربعة أقدام ، لا أنّ ذلك مبدأ للوقت فهو نظير قولنا : إن وقت صلاة الغداة ما بين الطلوعين ونحو ذلك ممّا يكون النظر فيه إلى الانتهاء.

__________________

(١) الوسائل ٤ : ١٤٤ / أبواب المواقيت ب ٨ ح ١١.

(٢) الوسائل ٤ : ١٤٥ / أبواب المواقيت ب ٨ ح ١٧.

(٣) الوسائل ٤ : ١٤٦ / أبواب المواقيت ب ٨ ح ٢٢.

(٤) الوسائل ٤ : ١٤٠ / أبواب المواقيت ب ٨ ح ١ ، ٢.

١٤٨

وفيه : مضافاً إلى أنّ ذلك بعيد عن سياق الكلام في حدّ نفسه وخلاف الظاهر جدّاً ، ضرورة أن المتبادر من مثل قوله عليه‌السلام : « وقت الظهر بعد الزوال قدمان .. » إلخ أن المبدأ هو القدمان والأربع دون المنتهي ، أن الشيخ قدس‌سره روى هذه الرواية بعينها عن الجماعة المذكورين ، وزاد قوله : وهذا أول وقت إلى أن تمضي أربعة أقدام للعصر (١) ، فهذا الذيل قرينة ظاهرة على ما ذكرناه ، ومن المظنون قوياً اتحاد الروايتين لبعد كونها رواية أُخرى غير الاولى كما لا يخفى.

وأصرح من ذلك : صحيحة زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : « سألته عن وقت الظهر ، فقال : ذراع من زوال الشمس ، ووقت العصر ذراعان من وقت الظهر ، فذاك أربعة أقدام من زوال الشمس ، ثم قال : إن حائط مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كان قامة ، وكان إذا مضى منه ذراع صلى الظهر ، وإذا مضى منه ذراعان صلى العصر .. » إلخ (٢). فان قوله عليه‌السلام في الذيل : « وكان إذا مضى .. » إلخ صريح فيما ذكرناه من كون التحديد ناظراً إلى المبدأ.

ونحوها في الدلالة صحيحة عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليه‌السلام في حديث « قال : كان حائط مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قبل أن يظلل قامة ، وكان إذا كان الفي‌ء ذراعاً وهو قدر مربض عنز صلى الظهر ، فاذا كان ضعف ذلك صلى العصر » (٣).

وهذه الرواية مروية بطريقين ، والعبرة بالطريق الثاني ، وأما الأول فهو ضعيف ، لمكان سهل بن زياد فلاحظ.

ونحوها أيضاً صحيحة إسماعيل الجعفي عن أبي جعفر عليه‌السلام « قال :

__________________

(١) التهذيب ٢ : ٢٥٥ / ١٠١٢.

(٢) الوسائل ٤ : ١٤١ / أبواب المواقيت ب ٨ ح ٣ ، ٤.

(٣) الوسائل ٤ : ١٤٢ / أبواب المواقيت ب ٨ ح ٧.

١٤٩

كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إذا كان في‌ء الجدار ذراعاً صلى الظهر ، وإذا كان ذراعين صلى العصر ... » إلخ (١) فان الظاهر أن المراد بإسماعيل الجعفي هو إسماعيل بن جابر الجعفي وقد وثقه النجاشي صريحاً (٢). نعم ذكره الشيخ في رجاله (٣) في طيّ أصحاب الباقر عليه‌السلام بعنوان الخثعمي بدل الجعفي ووثقه ، وذكره أيضاً بهذا العنوان في باب أصحاب الصادق عليه‌السلام ساكتاً عن توثيقه ، كما أنه في باب أصحاب الكاظم عليه‌السلام ، وكذا في الفهرست (٤) تعرض لهذا الاسم دون أن يذكر شيئاً من اللقبين ودون أن يوثقه ، والظاهر أن الخثعمي سهو من قلمه الشريف أو من النساخ ، والصحيح هو الجعفي ، فان الخثعمي لم يوجد ذكر له في كتب الرجال أصلاً ، ويشهد له أن العلامة في الخلاصة (٥) ذكره بعين عبارة الشيخ بعنوان الجعفي ووثقه ، فالرجل موثق بتوثيق النجاشي والشيخ والعلامة.

وكيف كان ، فهذا الاسم ، أعني إسماعيل الجعفي ، مردد بين إسماعيل بن جابر وإسماعيل بن عبد الرحمن ، وإسماعيل بن عبد الخالق ، والكل موثقون ، فالرواية صحيحة على كل حال.

وهناك روايات أُخرى كثيرة أعرضنا عن ذكرها ، وقد عرفت أنه لا يبعد بلوغها حدّ التواتر ولو إجمالاً فلاحظ.

الطائفة الثالثة : ما تضمن التحديد بالمثل والمثلين الذي ذهب إليه المشهور وهي عدة روايات استندوا إليها ، وأكثرها مخدوشة سنداً أو دلالة.

فمنها : رواية يزيد بن خليفة قال : « قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : إن‌

__________________

(١) الوسائل ٤ : ١٤٣ / أبواب المواقيت ب ٨ ح ١٠.

(٢) رجال النجاشي : ٣٢ / ٧١.

(٣) رجال الطوسي : ١٢٤ / ١٢٤٦ ، ١٦٠ / ١٧٨٩ ، ٣٣١ / ٤٩٣٤.

(٤) الفهرست : ١٥ / ٤٩.

(٥) خلاصة الأقوال : ٥٤ / ٣٠.

١٥٠

عمر بن حنظلة أتانا عنك بوقت ، قال : إذن لا يكذب علينا ، قلت : ذكر أنك قلت : إن أول صلاة افترضها الله تعالى على نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله الظهر ، وهو قول الله عز وجل ( أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ ) فاذا زالت الشمس لم يمنعك إلا سبحتك ثم لا تزال في وقت إلى أن يصير الظل قامة وهو آخر الوقت ، فاذا صار الظل قامة دخل وقت العصر فلم تزل في وقت العصر حتى يصير الظل قامتين وذلك المساء ، قال : صدق » (١) ودلالتها على المطلوب ظاهرة ، فان المتبادر من القامة هي قامة الإنسان ، فيراد حينئذ بالتحديد صيرورة الظل مثل الشاخص.

واحتمال إرادة الذراع من القامة كي تكون العبرة بالذراع والذراعين ، يدفعه مضافاً إلى بعده في نفسه ، وعدم شاهد عليه ، أنه غير محتمل في خصوص المقام لقوله عليه‌السلام في ذيل الرواية : « وذلك المساء » لعدم صدق المساء بعد مضي الذراعين من الزوال بالضرورة ، فلو سلّم إمكان إرادته منها في بقية الروايات فهو غير محتمل في خصوص هذه الرواية لهذه القرينة. فالدلالة تامة غير أن السند ضعيف بيزيد بن خليفة فإنه لم يوثق.

ومنها : رواية محمد بن حكيم قال : سمعت العبد الصالح عليه‌السلام وهو « يقول : إن أول وقت الظهر زوال الشمس ، وآخر وقتها قامة من الزوال ، وأول وقت العصر قامة ، وآخر وقتها قامتان ، قلت : في الشتاء والصيف سواء؟ قال : نعم » (٢).

وقد عرفت أن المتبادر من القامة هي قامة الإنسان ، وحملها على الذراع خلاف الظاهر جدّاً.

نعم ورد في بعض الأخبار أن المراد بها في كتاب علي عليه‌السلام أو‌

__________________

(١) الوسائل ٤ : ١٥٦ / أبواب المواقيت ب ١٠ ح ١.

(٢) الوسائل ٤ : ١٤٨ / أبواب المواقيت ب ٨ ح ٢٩.

١٥١

مطلقاً هو الذراع ، لكن تلك الأخبار ضعيفة السند (١) فلا يعتمد عليها. فالرواية قوية الدلالة غير أنها كسابقتها ضعيفة السند بمحمد بن الحكيم فإنه لم يوثق.

ومنها : رواية الحسن بن محمد الطوسي في المجالس بإسناد تقدم في كيفية الوضوء قال : « لما ولّى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام محمد بن أبي بكر مصر وأعمالها كتب له كتاباً إلى أن قال عليه‌السلام : فانّ رجلاً سأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عن أوقات الصلاة ، فقال : أتاني جبرئيل عليه‌السلام فأراني وقت الظهر ( الصلاة ) حين زالت الشمس ، فكانت على حاجبه الأيمن ، ثم أراني وقت العصر وكان ظل كل شي‌ء مثله » (٢) وهذه أصرح من سابقتها للتصريح فيها بصيرورة الظل مثله وعدم التعبير بالقامة كي يتطرق فيها الاحتمال المتقدم ، غير أنها ضعيفة السند بعدة من المجاهيل ، والسند قد ذكره صاحب الوسائل (٣).

ومنها : صحيحة البزنطي قال : « سألته عن وقت صلاة الظهر والعصر ، فكتب : قامة للظهر وقامة للعصر » (٤).

وفيه : أنها ناظرة إلى التحديد من ناحية المنتهي دون المبدإ الذي هو محل الكلام ، فكأنّ المبدأ مفروغ عنه وأنه الزوال ، وليس ذلك مورداً للسؤال ، إذ هو مضافاً إلى بعده عن سياق الرواية مخالف لظاهرها جدّاً كما لا يخفى ، لبعد خفائه على مثل البزنطي كي يسأل عنه. فالنظر مقصور على بيان غاية الحد ومنتهاه وهو أجنبي عن محل البحث ، فلا دلالة فيها على كون مبدأ العصر هو المثل‌

__________________

(١) ولكن الظاهر أنّ رواية علي بن حنظلة [ المروية في الوسائل ٤ : ١٤٧ / أبواب المواقيت ب ٨ ح ٢٦ ] معتبرة السند فلاحظ.

(٢) الوسائل ٤ : ١٦١ / أبواب المواقيت ب ١٠ ح ١٢ ، أمالي الطوسي : ٢٩ ، ٣١.

(٣) الوسائل ١ : ٣٩٧ / أبواب الوضوء ب ١٥ ح ١٩.

(٤) الوسائل ٤ : ١٤٤ / أبواب المواقيت ب ٨ ح ١٢.

١٥٢

دون الزوال كما يدعيه المشهور فيكون وزانها وزان صحيحة أحمد بن عمر عن أبي الحسن عليه‌السلام قال : « سألته عن وقت الظهر والعصر ، فقال : وقت الظهر إذا زاغت الشمس إلى أن يذهب الظل قامة ، ووقت العصر قامة ونصف إلى قامتين » (١) التي هي صريحة في التحديد من حيث المنتهي.

ويشهد له مضافاً إلى وضوحه في نفسه قوله عليه‌السلام : « قامة ونصف إلى قامتين » ، فان القامة والنصف لا قائل بكونها مبدءاً للعصر ، بل المبدأ إما الزوال أو القامة ، أي المثل كما عليه المشهور. فهذه الرواية أيضاً كالصحيحة لا دلالة لشي‌ء منهما على مسلك المشهور.

وقد يستدل لهم بموثقة زرارة قال : « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن وقت صلاة الظهر في القيظ فلم يجبني ، فلما أن كان بعد ذلك قال لعمرو بن سعيد ابن هلال : إن زرارة سألني عن وقت صلاة الظهر في القيظ فلم أخبره فحرجت من ذلك فاقرأه منّي السلام وقل له : إذا كان ظلك مثلك فصل الظهر ، وإذا كان ظلك مثليك فصل العصر » (٢).

وأنت خبير بأنّ ما جعله المشهور غاية للوقت وهو المثل والمثلان قد جعل في هذه الموثقة مبدءاً له فلا ينطبق على مذهبهم بوجه ، بل هي على خلاف مطلوبهم أدلّ.

والصحيح في توجيه الموثقة أن يلتزم باختصاصها بموردها وهو القيظ ، ويكون ذلك بمنزلة التخصيص في دليل وقت الفضيلة وأن مبدأه هو الزوال بمقتضى سائر الأخبار إلا في القيظ فيتسع الوقت ويتأخر بمقدار المثل والمثلين لأجل الحر إرفاقاً على الأُمة كي يصلّوا مطمئنين مع التوجه وحضور القلب.

ويشهد له ما في بعض الأخبار من الأمر بالإبراد في الصلاة معلّلاً بأن الحر من قيح جهنم (٣).

__________________

(١) الوسائل ٤ : ١٤٣ / أبواب المواقيت ب ٨ ح ٩.

(٢) الوسائل ٤ : ١٤٤ / أبواب المواقيت ب ٨ ح ١٣.

(٣) الوسائل ٤ : ١٤٢ / أبواب المواقيت ب ٨ ح ٥ ، ٦.

١٥٣

فتحصّل إلى هنا : أن شيئاً من الروايات المتقدمة لا تصلح للاستدلال بها لمذهب المشهور ، لضعفها من جهة السند أو الدلالة.

ولم يبق في البين إلا رواية واحدة هي العمدة في المقام ، وهي موثقة معاوية ابن وهب عن أبي عبد الله عليه‌السلام « قال : أتى جبرئيل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بمواقيت الصلاة فأتاه حين زالت الشمس فأمره فصلى الظهر ، ثم أتاه حين زاد الظل قامة فأمره فصلى العصر إلى أن قال : ثم أتاه من الغد حين زاد في الظل قامة فأمره فصلى الظهر ، ثم أتاه حين زاد في الظل قامتان فأمره فصلى العصر إلى أن قال : ثم قال : ما بينهما وقت » (١).

ولا يعارضها ما في بعض الأخبار الحاكية لقصة نزول جبرئيل بعين ما مرّ غير أنه ذكر فيها بدل القامة والقامتين الذراع والذراعان كما في رواية معاوية ابن ميسرة (٢) أو القدمان والأربعة أقدام كما في رواية مفضل بن عمر (٣) لضعف سند الروايتين بمعاوية ومفضل ، فلا يستند إليهما كي تعارض الموثقة بهما.

وبالجملة : فهذه الموثقة قوية السند ظاهرة الدلالة ، وهي عمدة مستند المشهور كما عرفت.

إلا أنه لا يمكن العمل بها لمعارضتها بالروايات الكثيرة المتقدمة الدالة على أنّ وقت الفضيلة دون ذلك وأنه القدمان والأربعة أقدام ، أو الذراع والذراعان على اختلاف التعبير الراجعان إلى معنى واحد كما مر التي لا يبعد فيها دعوى التواتر ولو إجمالاً ولا أقل أن فيها الصحاح والموثقات الكثيرة بحيث تعدّ من الروايات الواضحة المشهورة ، بل من السنّة القطعية ، وتكون هذه الموثقة في قبالها من الشاذ النادر فتطرح لكون الترجيح مع تلك الأخبار.

على أن هذه الموثقة موافقة للعامة ، وتلك مخالفة لهم ، فتكون هناك جهة أُخرى لترجيح تلك الأخبار على الموثقة.

__________________

(١) الوسائل ٤ : ١٥٧ / أبواب المواقيت ب ١٠ ح ٥.

(٢) ، (٣) الوسائل ٤ : ١٥٨ / أبواب المواقيت ب ١٠ ح ٦ ، ٧.

١٥٤

وإن أبيت إلا عن الأخذ بها وعدم طرحها فيمكن حملها ولو بعيداً على إرادة الذراع من القامة دون الشاخص ، باعتبار أن قامة رحل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كانت ذراعاً كما في رواية أبي بصير (١) فتدبر جيداً.

بقي الكلام في الجمع بين الطائفتين الأولتين ، أعني ما دلّ على كون العبرة بالقدم والقدمين ، وما دلّ على كون الاعتبار بالقدمين والأربعة أقدام.

والصحيح في وجه الجمع هو الحمل على اختلاف مراتب الفضل ، فالأفضل هو القدم والقدمان ، ودون ذلك في الفضيلة القدمان والأربعة أقدام.

ويشهد له ما ورد في غير واحد من الأخبار من الحث على التعجيل في وقت الفريضة والتخفيف في النافلة كي يبادر إلى الفريضة معجّلاً.

وبالجملة : فهذان وقتان للفضيلة مع اختلاف في مرتبتهما ، فالأفضل الإتيان بالظهر عند القدم ، وبالعصر عند القدمين بعد ما فرغ من النافلة قبلهما ، ودون ذلك عند القدمين والأربعة ، فلو فات كلا الوقتين ترك النافلة وبدأ بالفريضة.

وأصرح رواية تشهد لما ذكرناه من الجمع هي : موثقة ذريح المحاربي المصرّحة بأن النصف أعني القدم والقدمين أحبّ (٢) فتدل على أن هذا الوقت أفضل من القدمين والأربعة أقدام مع اشتراكهما في أصل الفضيلة.

فإن قلت : كيف يكون القدم والقدمان أفضل مع التصريح في بعض الأخبار كصحيحة زرارة المتقدمة (٣) وغيرها بأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يصلي الظهر عند الذراع والعصر عند الذراعين ، الظاهر في أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله كان لا يزال يستمر على ذلك فكيف كان يداوم على غير الأفضل؟

قلت : ما ذكرنا إنما كان بلحاظ مصلحة نفس الوقت ، والملاك الذي يشتمل عليه في حدّ نفسه ولا ينافي ذلك طروء عنوان آخر يتضمن ملاكاً أقوى‌

__________________

(١) الوسائل ٤ : ١٤٥ / أبواب المواقيت ب ٨ ح ١٦.

(٢) الوسائل ٤ : ١٤٦ / أبواب المواقيت ب ٨ ح ٢٢.

(٣) في ص ١٤٩.

١٥٥

يقتضي أفضلية التأخير إلى الذراع والذراعين في بعض الأحيان ، وهو اجتماع الناس والانتظار لذلك توسعة لهم وإرفاقاً عليهم.

وبالجملة : فالوقت الأفضل بحسب العنوان الأولي هو القدم والقدمان ، وبحسب العنوان الثانوي هو الذراع والذراعان ، ولا تنافي بين العنوانين كما هو ظاهر.

بل يمكن أن يقال : إن وقت الفضيلة ليس له مبدأ معيّن ، بل العبرة بالفراغ عن النافلة كي يرتفع المانع المزاحم عن التعجيل ، فان التحديد بالقدم والقدمين ونحوهما إنما هو لمكان السبحة ومراعاة للنافلة ، ولذا يكون الأفضل في السفر ويوم الجمعة المبادرة أول الزوال حيث لا نافلة فيهما يزاحم الوقت.

ويشهد له صريحاً : موثقة محمد بن أحمد بن يحيى الأشعري : « لا القدم ولا القدمين ، إذا زالت الشمس فقد دخل وقت الصلاتين وبين يديها سبحة ، وهي ثمان ركعات ، فإن شئت طوّلت وإن شئت قصّرت .. » إلخ (١).

وعليه فالأحسن أن يقال : إن مبدأ وقت الفضيلة هو الزوال ، وبعد الفراغ عن النافلة فقد يكون بمقدار القدم ، وقد يكون أقل ، وقد يكون أكثر حسب اختلاف أمد النافلة قصراً وطولاً.

والمتحصل من جميع ما قدمناه : أنّ ما عليه المشهور من تحديد مبدأ العصر بالمثل الظاهر في اختصاص ما بينه وبين الزوال بالظهر لا شاهد عليه ، بل الحق ما عليه الماتن قدس‌سره من كون مبدئهما معاً هو الزوال ، وأنّ الوقت مشترك بينهما ، هذا كله من حيث المبدأ.

وأما من ناحية المنتهي : فالصحيح ما عليه المشهور ومنهم الماتن من انتهاء وقت فضيلة الظهر بالمثل ، والعصر بالمثلين.

ويدلُّ عليه جملة من النصوص المتقدمة :

__________________

(١) الوسائل ٤ : ١٣٤ / أبواب المواقيت ب ٥ ح ١٣.

١٥٦

منها : موثقة معاوية بن وهب ، وعدم العمل بها من ناحية المبدأ لمكان المعارضة كما تقدم لا ينافي الأخذ بها من ناحية المنتهي كما لا يخفى.

ومنها : صحيحة البزنطي ، وقد مرّ (١) أن التحديد فيها ناظر إلى المنتهي دون المبدأ ولا المجموع منهما.

ومنها : صحيحة أحمد بن عمر ، وقد عرفت ظهورها في التحديد من ناحية الغاية لا سيما بملاحظة قوله عليه‌السلام : « قامة ونصف » إذ لا قائل بكونها مبدأ للعصر أصلاً ، فيكون ذلك هو الأفضل ، ودونه في الفضل التأخير إلى القامتين.

وبالجملة : فهذه الروايات تدل على التحديد المزبور.

وقد عرفت سابقاً أن ليس المراد بالمثل والمثلين بلوغ الظل هذا الحدّ كيف ما اتفق ، إذ قد يكون ذلك مقارناً لأول الزوال ، لاختلاف عرض البلاد من حيث القرب إلى خط الاستواء والبعد عنه كاختلافها حسب الفصول أيضاً ، بل العبرة ببلوغ الفي‌ء هذا الحد ، إما بعد انعدام الظل رأساً أو بعد الانتهاء والأخذ في الازدياد بالميل من جهة الغرب إلى الشرق ، فالمدار على الظل الحادث بعد الانعدام أو الانتهاء.

هذا وقد يجعل منتهى وقت فضيلة العصر ثمانية أقدام ، أي مثل الشاخص بإضافة سبعة ، فإن قامة كل شخص تساوي سبعة أقدامه ، أو فقل سبعة أشبار من أشباره ، فان شبر كل شخص يعادل قدمه.

ويستدل له بصحيحة الفضلاء على رواية الشيخ عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما‌السلام أنهما « قالا : وقت الظهر بعد الزوال قدمان ، ووقت العصر بعد ذلك قدمان ، وهذا أول وقت إلى أن تمضي أربعة أقدام للعصر » (٢).

__________________

(١) في ص ١٥٢.

(٢) الوسائل ٤ : ١٤٠ / أبواب المواقيت ب ٨ ح ٢.

١٥٧

بدعوى : أن المشار إليه في قوله عليه‌السلام « وهذا أول وقت ... » إلخ هو وقت صلاة العصر الذي أُشير إليه بقوله : « ووقت العصر بعد ذلك قدمان » أعني الأربعة أقدام ، ويكون حاصل المعنى : أنّ أوّل وقت صلاة العصر هو أربعة أقدام بعد الزوال ويستمر ذلك بمقدار أربعة أقدام اخرى لصلاة العصر ، وعليه فيكون منتهى وقت العصر ثمانية أقدام بعد الزوال.

ولا يخفى أن هذا الاستظهار لو تم فهو لا ينافي ما دلت عليه الروايات المتقدمة من التحديد بالمثلين ، لإمكان الجمع بينهما بالحمل على اختلاف مراتب الفضل كما تقدم نظيره في المبدأ ، فيلتزم بأن الأفضل الإتيان بها قبل ثمانية أقدام فيفرغ منها قبل المثل وسبعه ، ودونه في الفضل الإتيان بها قبل المثلين ، لكن الاستظهار غير تام ، فإنه بعيد عن سياق الكلام ، بل ظاهر الإشارة رجوعها إلى وقت صلاة الظهر ، أي القدمان بعد الزوال وإن مضيّ أربعة أقدام مقدّمة لدخول العصر بعد ذلك ، لا أنه بنفسه ظرف للعصر ليكون المراد بالأربعة الأربعة الثانية كما كان كذلك على الاحتمال الأول ، ويكون حاصل المعنى حينئذ أن القدمين بعد الزوال أول وقت فضيلة الظهر ويستمر هذا الوقت بمقدار قدمين آخرين إلى أن تمضي أربعة أقدام من الزوال كي يدخل بعد ذلك وقت صلاة العصر.

وبعبارة اخرى : فرق واضح بين أن يقال : أن تمضي أربعة أقدام العصر ، وبين أن يقال : أن تمضي أربعة أقدام للعصر ، فإن العبارة الثانية كالصريح في أنّ مضيّ الأربعة مقدمة لدخول وقت العصر ، لا أنها بنفسها وقته كما هو ظاهر العبارة الأُولى.

وما ذكرناه لو لم يكن ظاهراً فلا أقل من الاحتمال المورث للإجمال المسقط للصحيحة عن الاستدلال.

هذا وتؤيد المشهور رواية يزيد بن خليفة (١) فإنها صريحة في ذلك ، لا سيما‌

__________________

(١) الوسائل ٤ : ١٥٦ / أبواب المواقيت ب ١٠ ح ١.

١٥٨

ووقت فضيلة المغرب من المغرب إلى ذهاب الشفق أي الحمرة المغربيّة ووقت فضيلة العشاء من ذهاب الشفق إلى ثلث الليل ، فيكون لها وقتا إجزاء : قبل ذهاب الشفق وبعد الثلث إلى النصف (١).

______________________________________________________

مع ذكر المساء الذي لا يتطرق معه احتمال إرادة الذراع من القامة كما تقدّم ، غير أنّ الرواية ضعيفة كما مرّ. ومن هنا لا تصلح إلا للتأييد.

فتحصل من جميع ما مرّ : أنّ وقت فضيلة الظهرين يبتدئ معاً من الزوال وينتهي الظهر بالمثل والعصر بالمثلين كما أفاده في المتن.

(١) لا إشكال نصاً وفتوى في أنّ وقت المغرب يبتدئ بدخول المغرب ، وهل المراد به سقوط القرص أو ذهاب الحمرة المشرقية عن قمة الرأس؟ فيه كلام سيجي‌ء قريباً إن شاء الله تعالى.

وينتهي بذهاب الشفق أي الحمرة المغربية كما أنّ وقت العشاء يدخل بذهاب الشفق وينتهي إلى ثلث الليل ، وقد اتفقت الروايات وتظافرت على ذلك كموثقة معاوية بن وهب وصحيحة ذريح وغيرهما (١) ، وهل هذا وقت فضيلة وما بعده إلى نصف الليل وقت الإجزاء ، أو أنّ الأول وقت اختياري ، والثاني اضطراري؟ فيه كلام قد تقدم (٢) وقد عرفت أن الأقوى وفاقاً للمشهور هو الأول.

ومن جملة تلك الروايات هي رواية موسى بن بكر عن زرارة (٣) غير أنها ضعيفة السند بموسى بن بكر فإنه لم يوثق (٤). نعم ذكر الكشي (٥) روايتين تشتملان على مدحه إلا أن الراوي لهما هو موسى بن بكر بنفسه فلا يعتمد‌

__________________

(١) الوسائل ٤ : ١٥٧ / أبواب المواقيت ب ١٠ ح ٥ ، ٨.

(٢) في ص ١١٢.

(٣) الوسائل ٤ : ١٥٦ / أبواب المواقيت ب ١٠ ح ٣.

(٤) ولكنه قدس‌سره بنى في المعجم ٢٠ : ٣١ / ١٢٧٦٧ على وثاقته.

(٥) رجال الكشي : ٤٣٨ / ٨٢٥ ، ٨٢٦.

١٥٩

ووقت فضيلة الصبح من طلوع الفجر إلى حدوث الحمرة في المشرق (١)

______________________________________________________

عليهما ، ومن هنا تكون الرواية مؤيّدة للمطلوب.

وكيف كان ، فقد علم مما مرّ أنّ لصلاة العشاء وقت فضيلة وهو من سقوط الشفق إلى ثلث الليل ووقتا إجزاء ، أحدهما : من المغرب إلى الشفق ، والثاني : من ثلث الليل إلى نصفه أو آخره على كلام تقدم. نعم قد ورد في بعض الأخبار كما مرّ سابقاً أن منتهى الوقت للحاضر إنما هو ربع الليل ، ولا بأس بالحمل على اختلاف مراتب الفضل جمعاً.

(١) هكذا عبّر المشهور وإن وقع البحث في أن ما بعد الحمرة إلى طلوع الشمس هل هو وقت الإجزاء كي يكون الوقت الأول للفضيلة ، أو أنّ الثاني اضطراري والأول اختياري على حدّ ما تقدم في بقية الصلوات؟ وقد مرّ الكلام فيه سابقاً.

وكيف كان ، فهذا العنوان أعني التحديد بالحمرة المشرقية لم يذكر في شي‌ء من الأخبار ، بل الوارد في لسان النصوص أحد هذه العناوين :

الأول : الإضاءة كما في رواية يزيد بن خليفة عن أبي عبد الله عليه‌السلام « قال : وقت الفجر حين يبدو حتى يضي‌ء » (١) ، والمراد بالإضاءة فيها إضاءة تمام الفضاء وجميع أُفق السماء بحيث لا تبقى نقطة ظلماء المساوق للأسفار والتنوير ، كما أن المراد بها في رواية موسى بن بكر عن زرارة : « فإذا طلع الفجر وأضاء صلّى الغداة » (٢) إضاءة الأُفق من ناحية المشرق خاصة المقارن لطلوع الفجر ، فلا تنافي بين الروايتين ، فإن الأُولى ناظرة إلى منتهى وقت الفضيلة ، والثانية إلى مبدئها ، هذا مع الغض عن سندهما ، وإلا فكلتاهما ضعيفتان كما تقدم.

الثاني : التنوير كما في موثقة معاوية بن وهب : « ثم أتاه حين نوّر الصبح‌

__________________

(١) الوسائل ٤ : ٢٠٧ / أبواب المواقيت ب ٢٦ ح ٣.

(٢) الوسائل ٤ : ١٥٦ / أبواب المواقيت ب ١٠ ح ٣.

١٦٠