موسوعة الإمام الخوئي

الشيخ مرتضى البروجردي

عليه جملة وافرة من النصوص المعتبرة فيها الصحاح والموثقات ، أما غير المعتبرة فكثيرة.

فمن جملة الروايات المعتبرة صحيحة عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : سمعته يقول : « وقت المغرب إذا غربت الشمس فغاب قرصها » (١).

ومنها : صحيحة زرارة قال : « قال أبو جعفر عليه‌السلام : وقت المغرب إذا غاب القرص فإن رأيت بعد ذلك وقد صليت أعدت الصلاة ومضى صومك وتكف عن الطعام إن كنت أصبت منه شيئاً » (٢).

ومنها : صحيحته الأُخرى عن أبي جعفر عليه‌السلام « قال : إذا زالت الشمس دخل الوقتان الظهر والعصر ، وإذا غابت الشمس دخل الوقتان المغرب والعشاء الآخرة » (٣).

ومنها : موثقة إسماعيل بن الفضل الهاشمي عن أبي عبد الله عليه‌السلام « قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يصلي المغرب حين تغيب الشمس حيث تغيب حاجبها » (٤).

وهذه أصرح روايات الباب في الدلالة على دخول الوقت بمجرد الاستتار ، فان التعبير بالحاجب لمشابهة آخر القرص به عند الغروب.

نعم ، لا يراد من ذلك وقوع أول جزء من الصلاة مقارناً لغروب آخر جزء من الحاجب على سبيل التدقيق ، بل المراد إيقاع الصلاة حينئذ على النهج المتعارف من الإتيان بالمقدمات كالأذان والإقامة ونحوهما بعد دخول الوقت ، لا أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يقدّم هذه الأُمور كلها على الوقت ليصلي حين تغيب حتى يلتجئ إلى حمل الرواية على النسخ كما صنعه (٥) صاحب الوسائل.

__________________

(١) الوسائل ٤ : ١٧٨ / أبواب المواقيت ب ١٦ ح ١٦ ، ١٧.

(٢) الوسائل ٤ : ١٧٨ / أبواب المواقيت ب ١٦ ح ١٦ ، ١٧.

(٣) الوسائل ٤ : ١٨٣ / أبواب المواقيت ب ١٧ ح ١.

(٤) الوسائل ٤ : ١٨٢ / أبواب المواقيت ب ١٦ ح ٢٧.

(٥) الذي دعاه إلى ما صنع هو علاج المعارضة وتقديم نصوص زوال الحمرة ، لا ما ذكر فلاحظ.

١٨١

ومنها : موثقة إسماعيل بن جابر عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « سألته عن وقت المغرب ، قال : ما بين غروب الشمس إلى سقوط الشفق » (١).

ومنها : صحيحة صفوان بن مهران الجمال قال : « قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : إن معي شبه الكرش المنشور فأُؤخر صلاة المغرب حتى عند غيبوبة الشفق ثم أُصليهما جميعاً يكون ذلك أرفق بي ، فقال : إذا غاب القرص فصل المغرب فإنما أنت ومالك لله » (٢).

ومنها : موثقة سماعة بن مهران قال : « قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام في المغرب : إنّا ربما صلينا ونحن نخاف أن تكون الشمس خلف الجبل أو قد سترنا منها الجبل ، قال فقال : ليس عليك صعود الجبل » (٣).

ونوقش في السند باشتماله على أحمد بن هلال المرفوض حديثه عند القوم ، بل قيل في حقه إنه لا دين له ، لانتسابه إلى الغلو مرّة وإلى النصب اخرى ، ولكنا بنينا أخيراً على وثاقته وأن ما قيل في حقه إما لا أساس له ، أو لا ينافي وثاقته. على أنه مذكور في طريق الشيخ ، وأما طريق الصدوق فهو خال عنه وليس فيه من يغمز فيه ما عدا عثمان بن عيسى ، وقد عدّه الكشي من أصحاب الإجماع (٤) ، مع أنه من رجال كامل الزيارات. إذن فالرواية نقية السند.

كما أنها واضحة الدلالة ، ضرورة أن خوف كون الشمس خلف الجبل إنما يستقيم لو كان الاعتبار بالاستتار ، أما لو كان بالذهاب عن القمّة فلا موضوع له ، بداهة عدم الذهاب عنها قبل سقوط القرص ، فلو ذهبت الحمرة كما هو مقتضى فرض الدخول في الصلاة فقد تحقق السقوط جزماً. فأيّ معنى للشك بعد هذا ليجيب عليه‌السلام : « بأنه ليس عليك صعود الجبل ».

__________________

(١) الوسائل ٤ : ١٨٢ / أبواب المواقيت ب ١٦ ح ٢٩.

(٢) الوسائل ٤ : ١٩٣ / أبواب المواقيت ب ١٨ ح ٢٤.

(٣) الوسائل ٤ : ١٩٨ / أبواب المواقيت ب ٢٠ ح ١.

(٤) رجال الكشي : ٥٥٦ / ١٠٥٠.

١٨٢

وعلى الجملة : الغروب بهذا المعنى لا يتصور فيه شك يزول بالصعود على الجبل ، وإنما يزول بالفحص عن تجاوز الحمرة عن قمة الرأس صعد أم لم يصعد وإنما ينفع الصعود لو كان الغروب بمعنى استتار القرص ، لاحتمال كونه خلف الجبل فيصعد ليفحص عن الأُفق فيصح النهي عنه على هذا التقدير.

ثم إن الرواية لمّا كانت بظاهرها مخالفة للقواعد ، إذ مع الشك في الغروب كان المرجع أصالة عدمه ، ومعه لا يسوغ الإفطار ولا الدخول في الصلاة ، ولذا قال في الحدائق إنها لا تنطبق على شي‌ء من القولين في الغروب. فمن ثم حملها جمع من الأصحاب ومنهم صاحب الحدائق على التقية (١).

أقول : لا يبعد حمل الرواية على صورة وجود أمارة معتبرة على الغروب كارتفاع الحمرة عن نقطة المشرق ومطلع الشمس ، حيث عرفت أنه ملازم لسقوط القرص واستتاره في الأُفق ، فيحتمل أن سماعة قد دخل في الصلاة اعتماداً على تلك الأمارة ، وبعد أن دخل غفل عن الملازمة فعرضه الشك ، وقد نهاه عليه‌السلام عن الصعود اكتفاءً بتلك الأمارة. إذن فلا مقتضي للحمل على التقية بعد انطباق الرواية على القول المشهور من تحقق الغروب بغيبوبة الشمس.

نعم ، هناك رواية أُخرى نظير هذه ولا تصلح للاستدلال ، وهي رواية أبي أُسامة أو غيره قال : « صعدت مرّة جبل أبي قبيس والناس يصلون المغرب فرأيت الشمس لم تغب إنما توارت خلف الجبل عن الناس ، فلقيت أبا عبد الله عليه‌السلام فأخبرته بذلك ، فقال لي : ولِم فعلت ذلك؟ بئس ما صنعت إنما تصليها إذا لم ترها خلف جبل غابت أو غارت ما لم يتجللها سحاب أو ظلمة تظلها ، وإنما عليك مشرقك ومغربك ، وليس على الناس أن يبحثوا » (٢) فان مقتضاها تحقق الغروب بمجرد غيبوبة القرص عن النظر ، سواء أغابت في الأُفق‌

__________________

(١) الحدائق ٦ : ١٦٨.

(٢) الوسائل ٤ : ١٩٨ / أبواب المواقيت ب ٢٠ ح ٢.

١٨٣

أم لا ، وأن من لم يرها حلّ الوقت بالإضافة إليه وإن لم تغب في الأُفق ، بل ولو مع العلم بذلك وكونها موجودة خلف الجبل. وهذا مما لم يقل به أحد من الأصحاب ومخالف لجميع نصوص الباب التي لا يبعد فيها دعوى التواتر الإجمالي فهي مطروحة لا محالة.

والذي يسهّل الخطب أنها ضعيفة السند للإرسال على طريق الشيخ ، حيث رواها عن أبي أُسامة أو غيره (١). وأما الصدوق (٢) فهو وإن رواها عن أبي أُسامة زيد الشحام وقد وثقه الشيخ (٣) إلا أن طريقه إليه ضعيف بأبي جميلة مفضل بن صالح ، فلا يعوّل عليها على التقديرين.

هذا كله في الروايات المعتبرة الدالة على القول المشهور. وأما غير المعتبرة المؤيدة لها فقد عرفت أنها كثيرة جدّاً كمرسلة الصدوق ورواية جابر ومرسلة علي بن الحكم (٤) وغيرها ، ولا يبعد بلوغ المجموع من الطرفين حدّ التواتر الإجمالي ، فهي على تقدير تواترها قطعية ولا أقل من أن شطراً وافراً منها معتبرة صحيحة أو موثقه ، فهي قوية السند واضحة الدلالة.

وأما نصوص القول الأشهر فقد عرفت أنها ضعيفة السند أو الدلالة على سبيل منع الخلو فلا تنهض لمقاومتها. مضافاً إلى أنها بين ما هو ظاهر في القول المشهور وما هو مجمل لا يدل على شي‌ء من القولين ، وليس فيها ما يدل على هذا القول صريحاً عدا مرسلة ابن ابي عمير غير القابلة للاعتماد لمكان الإرسال وغير الناهضة لمقاومة النصوص المزبورة.

إذن لم يكن بد من الالتزام بما عليه المشهور من دخول الوقت بمجرد الاستتار وسقوط القرص.

__________________

(١) التهذيب ٢ : ٢٦٤ / ١٠٥٣.

(٢) الفقيه ١ : ١٤٢ / ٦٦١.

(٣) الفهرست : ٧١ / ٢٨٨.

(٤) الوسائل ٤ : ١٧٩ / أبواب المواقيت ب ١٦ ح ١٨ ، ٢٠ ، ٢٥.

١٨٤

وينبغي التنبيه على أُمور :

الأول : أن صاحب الوسائل بعد أن تعرّض لنصوص القول الأشهر حكم بترجيحها على نصوص القول الآخر بوجوه ، منها أنها أقرب إلى الاحتياط (١).

وفيه : ما لا يخفى ، فان المستفاد من الآية المباركة ( أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ ) (٢) بضميمة ما ورد في تفسيرها ، هو أنّ كل جزء مما بين الحدين وقت لإحدى الصلوات الأربع ، فمن الدلوك إلى المغرب للظهرين ، ومنه إلى الغسق للعشاءين.

إذن فأول وقت المغرب هو آخر وقت الظهرين مقارناً مبدؤه لمنتهاه ومتصلاً به من غير فترة فاصلة. والظاهر أن هذا مما لا خلاف فيه ، بل في الرياض دعوى الإجماع عليه (٣).

وعليه فلو فسّرنا المغرب بزوال الحمرة عن قمة الرأس فنسأل عن أن الفترة المتخللة بينه وبين سقوط القرص الذي تستوعب أكثر من عشر دقائق هل يجوز إيقاع الظهرين فيها أو لا يجوز ، بل يكون حالها كما بين طلوع الشمس وزوالها الذي لا يكون وقتاً لشي‌ء من الصلوات؟ فان قيل بالثاني كان ذلك مخالفاً لما عرفت من الاتصال ، وأن أحد الوقتين عقيب انتهاء الآخر بلا فصل ، وإن قيل بالأول فالخطب أفضع ، وكيف يصح القول بجواز إتيانهما في هذه الحالة والنصوص تنادي بانتهاء وقتهما بسقوط القرص وغيبوبة الشمس ، بل كيف يصح التوصيف بصلاة الظهر وقد دخل الليل وانتهى النهار بكامله.

وعلى الجملة : لازم القول الأشهر بعد ملاحظة الاتصال المزبور المفروغ عنه بينهم كما عرفت ، جواز إيقاع الظهرين بعد الغروب ، وهو مخالف للاحتياط جدّاً لو لم يكن مقطوع العدم ، فيكف يدعى أنه موافق له.

__________________

(١) الوسائل ٤ : ١٧٧.

(٢) الإسراء ١٧ : ٧٨.

(٣) الرياض ٣ : ٣٤.

١٨٥

وهذا بخلاف ما لو فسّرناه بسقوط القرص ، فإنه لا بشاعة في الالتزام بلازمه من جواز الإتيان بصلاة المغرب حينئذ مباشرة ، بل قد نطقت به جملة من النصوص كما سمعت.

نعم ، الأحوط عملاً التأخير حذراً عن مخالفة القول الأشهر وهو أمر آخر.

الأمر الثاني : أنّ ما أسلفناك من توصيف القول باعتبار ذهاب الحمرة المشرقية عن قمّة الرأس بالأشهر والقول الآخر بالمشهور إنما هو لمتابعة المحقق حيث عبّر عن القولين بمثل ذلك.

وبعد ملاحظة الكلمات يظهر أن المصرحين بزوال الحمرة عن قمة الرأس قليلون ، والوارد في عبائر الأكثرين هكذا : ذهاب الحمرة عن المشرق أو زوال الحمرة المشرقية. وهذه العبارة كما ترى غير ظاهرة في ذلك لو لم تكن ظاهرة في زوالها عن نقطة المشرق ومطلع الشمس الملازم لغيبوبة القرص تحت الأُفق ، والذي عرفت ظهور جملة من الأخبار فيه ، أو حملها عليه. إذن فمن الجائز حمل كلماتهم كالنصوص على هذا المعنى. وعليه فينقلب الأمر ويكون الأشهر هو القول باستتار القرص ، والذهاب عن القمة قولاً نادراً في المسألة.

الأمر الثالث : بناءً على تفسير الغروب باستتار القرص كما هو المختار فالأمر في الطلوع واضح ، فإنه يراد به صيرورة الشمس فوق الأُفق في مقابل الغروب المراد به صيرورتها تحته وهذا ظاهر.

وأما بناءً على تفسيره بذهاب الحمرة عن قمة الرأس فربما يقال إن مقتضى المقابلة الالتزام بمثله في الطلوع أيضاً ، وأنه يتحقق قبل الطلوع الحسي ، أي قبل ظهور الشمس فوق الأُفق بمقدار تأخر زوال الحمرة عن استتار القرص تحت الأُفق ، أي ما يعادل عشر دقائق تقريباً وإن لم نشاهدها حساً كما كان هو الحال في الغروب ، حيث عرفت أن أرباب هذا القول يزعمون أن الشمس موجودة قبل ذهاب الحمرة فوق الأُفق وإن لم تكن مرئية. وعليه فينتهي وقت صلاة الصبح عند ظهور الحمرة ، أي قبل عشر دقائق تقريباً من طلوع الشمس حساً.

١٨٦

ويعرف نصف الليل بالنجوم (*) الطالعة أول الغروب إذا مالت عن دائرة نصف النهار إلى طرف المغرب ، وعلى هذا فيكون المناط نصف ما بين غروب الشمس وطلوعها لكنه لا يخلو عن إشكال (*) (١) ،

______________________________________________________

ولكنه بمراحل عن الواقع ، بداهة أن مفهوم الطلوع المجعول غاية لوقت صلاة الفجر كمفهوم الغروب أمر بيّن لدى العرف يعرفه كل أحد من غير شائبة الإجمال ولا تردد في فهم المراد ، فإنه عبارة عن ظهور الشمس حساً فوق الأُفق أو استتارها كذلك تحته ، ما لم يكن حاجب من الجبال والأطلال ونحوهما. فالمفهوم العرفي لكل منهما واضح لا غبار عليه ، غاية الأمر ورود روايات ظاهرة أو صريحة كما يزعمون في أنّ الغروب إنما يتحقق بزوال الحمرة ، وأن الغروب الشرعي مغاير مع الغروب العرفي. وهذا لا يستلزم بوجه الالتزام بمثله في الطلوع ، والتصرف في ظاهره بعد عرائه عن مثل تلك النصوص.

وبعبارة اخرى : الخروج عن المفهوم العرفي في الغروب لأجل الروايات الخاصة القاضية بذلك لا يستدعي الخروج عنه في الطلوع وارتكاب خلاف الظاهر فيه أيضاً من غير ضرورة تقتضيه ولا ملزم يدعو إليه ولا سيما بعد ورود روايات في الطلوع خالية عن الإيعاز إلى ذلك وهي واردة في مقام البيان. إذن لا ينبغي التشكيك في امتداد وقت فريضة الفجر إلى أن تبرز الشمس عن الأُفق بروزاً حسياً تحفظاً على إبقاء اللفظ على ما هو عليه من معناه العرفي سواء أقلنا بذلك في الغروب أم لا.

(١) هل المراد من منتصف الليل المجعول غاية للعشاءين ومبدءاً لصلاة الليل هو نصف ما بين غروب الشمس وطلوعها ، أو ما بينه وبين طلوع الفجر ،

__________________

(*) هذا إنّما يتم فيما إذا كان مدار النجم متحداً مع مدار الشمس.

(**) الظاهر أنّه لا إشكال فيه ، ورعاية الاحتياط أولى.

١٨٧

وحيث إن ما بين الطلوعين يعادل ساعة ونصف الساعة تقريباً ، فالتفاوت بين القولين يكون حوالي ثلاثة أرباع الساعة.

لعل المعروف هو الثاني حيث لم ينسب الأول إلا إلى نفر يسير ، ولكنه مع ذلك هو الأقوى ، لأجل التعبير بالغسق في قوله تعالى ( أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ ) (١) بضميمة الروايات المفسّرة له بمنتصف الليل.

وتوضيحه : أن الغسق وإن فسّر في اللغة بظلمة أول الليل تارة وبشدة ظلام الليل اخرى (٢) ، لكن النصوص الواردة في تفسير الآية المباركة تعيّن المعنى الثاني.

ففي صحيحة زرارة « ... وغسق الليل هو انتصافه .. » إلخ (٣).

وفي صحيحة بكر بن محمد : « ... وآخر وقتها إلى غسق الليل يعني نصف الليل » (٤) وذلك لأن اشتداد ظلمة الليل ونهايتها إنما هو في المنتصف مما بين غروب الشمس وطلوعها.

توضيح المقام : أن تنوّر أيّ نقطة من الكرة الأرضية أو ظلامها يستند إلى الاقتراب من الشمس أو الابتعاد عنها ، كما أن شدّتهما وضعفهما يستندان إلى كمية الاقتراب أو الابتعاد ، فعند أوان الفجر يبدو ضياء خفيف في الأُفق ثم يزداد شيئاً فشيئاً حتى تطلع الشمس ، ثم يأخذ في الاشتداد تدريجاً نتيجة اقتراب الشمس حتى تبلغ دائرة نصف النهار فيصل النور حينئذ إلى قمته ومنتهاه ، لأنها نهاية اقتراب الشمس من الأرض في قوس النهار.

وبعد الميل والانحدار عن تلك الدائرة تأخذ في الابتعاد ، ولأجله يضعف الضياء وينتقص النور شيئاً فشيئاً إلى أن تصل الشمس نقطة الغروب فيظلم‌

__________________

(١) الإسراء ١٧ : ٧٨.

(٢) مجمع البحرين ٥ : ٢٢٢.

(٣) الوسائل ٤ : ١٠ / أبواب أعداد الفرائض ب ٢ ح ١.

(٤) الوسائل ٤ : ١٧٤ / أبواب المواقيت ب ١٦ ح ٦.

١٨٨

الجو حينئذ بمقدار ضئيل ، وكلما أخذت الشمس في الابتعاد أخذت الظلمة في الاشتداد إلى أن تصل النقطة المسامتة لدائرة نصف النهار ، ولنعبّر عنها بدائرة نصف الليل ، فان هذه النقطة هي غاية ابتعاد الشمس ، وبطبيعة الحال هي غاية اشتداد الظلام ، ثم ترجع بعدئذ وتأخذ في سبيل الاقتراب الموجب للاضاءة والإنارة إلى أن يطلع الفجر حسبما عرفت.

ومنه يظهر أن شدّة الظلام ومنتهاه هو عند ما تصل الشمس إلى ما يقابل دائرة نصف النهار من قوس الليل ، فهو عبارة عن منتصف ما بين غروب الشمس وطلوعها ، إذ في النصف ما بينه وبين طلوع الفجر الذي يكون حوالي ثلاثة أرباع الساعة قبل هذا الوقت لم تتحقق بعد غاية الظلام (١) ولا نهاية البعد ، فلم يكن هذا الحين مصداقاً للغسق ليتصف بمنتصف الليل ، ونتيجة ذلك انطباق نصف الليل على النقطة المتوسطة ما بين غروب الشمس وطلوعها.

ويعضده : أن المتفاهم العرفي من هذه اللفظة عند الإطلاق هو ذلك ، لأن النهار عندهم هو ما بين طلوع الشمس وغروبها ، فنصف النهار هو الساعة الثانية عشرة ، ومقتضى المقابلة أن يكون نصف الليل هو الساعة الثانية عشرة أيضاً التي هي منتصف ما بين غروب الشمس وطلوعها.

ويتأيد ذلك بروايتين لولا ضعفهما لكانتا دليلين على المطلوب :

إحداهما : رواية عمر بن حنظلة « أنه سأل أبا عبد الله عليه‌السلام فقال له : زوال الشمس نعرفه بالنهار فكيف لنا بالليل؟ فقال : للّيل زوال كزوال الشمس ، قال : فبأيّ شي‌ء نعرفه؟ قال : بالنجوم إذا انحدرت » (٢) حيث يستفاد منها أنه كما أن انحدار الشمس بعد ارتفاعها ونهاية صعودها يدل على الزوال وحلول نصف النهار ، فكذلك انحدار النجوم الطالعة عند الغروب ، فإنه يدل‌

__________________

(١) لعل هذا خلاف ما هو المحسوس بالوجدان من عدم اختلاف الساعات المتوسطة من الليل في شدّة الظلام.

(٢) الوسائل ٤ : ٢٧٣ / أبواب المواقيت ب ٥٥ ح ١.

١٨٩

على انتصاف الليل ، أي النصف من غروب الشمس إلى طلوعها على غرار نصف النهار.

بيد أن عمر بن حنظلة لم يوثق فلا تصلح إلا للتأييد.

ولا يخفى أن كون الانحدار المزبور علامة على الانتصاف موقوف على أمرين :

أحدهما : إرادة النجوم الطالعة أول الليل وعند الغروب.

ثانيهما : إرادة النجوم الدائرة في مدار الشمس والمتحدة معها في مداراتها ضرورة أنها مختلفة ، ومن ثم قد يكون الليل أطول من النهار ، وقد يكون أقصر وربما يتساويان أي المدارات.

فإنه لو انتفى الأمر الأول فكانت النجوم طالعة قبل الغروب بأمتار أو بعده بزمان ، فلا جرم تنحدر قبل الانتصاف في الأول وبعده في الثاني ، فلا يكون انحدارها دليلاً على الانتصاف ، كما أنه لو انتفى الأمر الثاني فاختلف المدار وكان مسير الشمس ومدارها ليلاً أربع عشرة ساعة مثلاً وسير النجوم أقل من ذلك أو بالعكس ، فإنها تنحدر قبل الانتصاف أو بعده بطبيعة الحال وإن اتحدت معها في الطلوع.

نعم ، مع الاتحاد من كلتا الناحيتين كان انحدارها علامة على الانتصاف ، شريطة اللحاظ من الغروب إلى طلوع الشمس كما عرفت. وأما لو لوحظ الانتصاف منه إلى طلوع الفجر فكلاّ ، ضرورة تحقق الانتصاف حينئذ قبل الانحدار.

ثانيتهما : رواية أبي بصير عن أبي جعفر عليه‌السلام « قال : دلوك الشمس زوالها ، وغسق الليل بمنزلة الزوال من النهار » (١) فإنها ظاهرة الدلالة على تحقق الانتصاف عند ما تزول الشمس عن دائرة نصف الليل المحاذية لدائرة نصف‌

__________________

(١) الوسائل ٤ : ٢٧٣ / أبواب المواقيت ب ٥٥ ح ٢.

١٩٠

لاحتمال أن يكون نصف ما بين الغروب وطلوع الفجر كما عليه جماعة (١) والأحوط مراعاة الاحتياط هنا وفي صلاة الليل التي أوّل وقتها بعد نصف الليل.

______________________________________________________

النهار ، غير أن السند ضعيف بأحمد بن عبد الله القروي مضافاً إلى جهالة طريق (١) السرائر إلى كتاب محمد بن علي بن محبوب ، فلا تصلح إلا للتأييد.

(١) بل هو المشهور كما تقدم ، فان القول الآخر الذي عرفت أنه الصواب لم ينسب إلا إلى جماعة قليلين.

وكيف ما كان ، فهذا القول مبني إما على دعوى أن ما بين الطلوعين ملحق بالنهار وأن الليل إنما هو من الغروب إلى طلوع الفجر كما هو المشهور بين الأصحاب على ما يظهر من الجواهر حيث قال ما لفظه : سواء قلنا بأن ساعة الفجر من النهار واليوم كما هو المعروف ... إلخ. وقال أيضاً : لكن لا ينبغي أن يستريب عارف بلسان الشرع والعرف واللغة أن المنساق من إطلاق اليوم والنهار والليل في الصوم والصلاة ومواقف الحج ، والقسم بين الزوجات ، وأيام الاعتكاف وجميع الأبواب ، أن المراد بالأولين من طلوع الفجر الثاني إلى الغروب ، ومنه إلى طلوعه بالثالث ، كما قد نص عليه غير واحد من الفقهاء والمفسرين واللغويين فيما حكي عنهم ... إلخ (٢).

أو على دعوى أنه بحياله زمان مستقل لا من الليل ولا من النهار.

لكن الدعوى الثانية مضافاً إلى شذوذ قائلها موهونة في نفسها ، لضعف مستندها فإنه روايتان :

إحداهما : رواية أبي هاشم الخادم قال : « قلت لأبي الحسن الماضي ( عليه‌

__________________

(١) بل هو صحيح ، لوصول الكتاب إليه بخط الشيخ الطوسي ، وطريقه إليه صحيح كما نبّه عليه الأُستاذ قدس‌سره غير مرّة.

(٢) الجواهر ٧ : ٢١٩ ، ٢٢٠.

١٩١

السلام ) لِمَ جعلت صلاة الفريضة والسنة خمسين ركعة لا يزاد فيها ولا ينقص منها؟ قال : لأن ساعات الليل اثنتا عشرة ساعة ، وفيما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس ساعة ، وساعات النهار اثنتا عشرة ساعة ، فجعل الله لكل ساعة ركعتين ، وما بين غروب الشمس إلى سقوط الشفق غسق فجعل للغسق ركعة » (١) وهي ضعيفة السند بعدة من المجاهيل. مضافاً إلى أن مقتضاها أن ما بين المغرب وسقوط الشفق أيضاً ساعة مستقلة لم تكن من الليل والنهار ، ولم يقل به أحد.

ثانيتهما : رواية عمر بن أبان الثقفي قال : « سأل النصراني الشامي الباقر عليه‌السلام عن ساعة ما هي من الليل ولا هي من النهار ، أيّ ساعة هي؟ قال أبو جعفر عليه‌السلام : ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس. قال النصراني : إذا لم يكن من ساعات الليل ولا من ساعات النهار فمن أيّ ساعات هي؟ فقال أبو جعفر عليه‌السلام : من ساعات الجنة وفيها تفيق مرضانا ، فقال النصراني : أصبت » (٢). ورواها في الجواهر عن أبان الثقفي (٣) ، والصواب ما عرفت. وكيف ما كان فهي أيضاً ضعيفة السند.

والعمدة إنما هي الدعوى الاولى ، ويستدل لها بالكتاب والسنة : أما الكتاب فقد استدل في الجواهر (٤) بعدة آيات قاصرة (٥) الدلالة عمدتها قوله تعالى :

__________________

(١) الوسائل ٤ : ٥٢ / أبواب أعداد الفرائض ب ١٣ ح ٢٠.

(٢) المستدرك ٣ : ١٦٥ / أبواب المواقيت ب ٤٩ ح ٥. [ والموجود في المصدر تفسير القمي ١ : ٩٨ إسماعيل بن أبان عن عمر ( عمير ) بن عبد الله الثقفي ، والرواية معتبرة على مبناه قدس‌سره من توثيق رجال القمي ].

(٣) الجواهر ٧ : ٢٢٧.

(٤) الجواهر ٧ : ٢٢١ ٢٢٥.

(٥) لا قصور في جملة منها كقوله تعالى في سورة القدر ( سَلامٌ هِيَ حَتّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ ) [ القدر ٩٧ : ٥ ] بناء على ظهور « حتى » في أن ما بعده غاية للموضوع لا أنه مقيد له

١٩٢

( وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ ) (١) بدعوى أن المراد بالطرفين الغداة والمغرب كما فسّرت بذلك في صحيحة زرارة (٢) وحيث إنّ طرف الشي‌ء داخل فيه فيكون الغداة داخلاً في النهار.

وفيه : أن طرف الشي‌ء كما يطلق على ما هو داخل فيه كالجزء الأول والأخير ، كذلك يطلق على ما هو خارج عنه متصل به كحدّ له ، ولا شبهة أن المراد من أحد الطرفين في الآية المباركة هو المعنى الثاني كما سمعت من تفسيره بالمغرب الذي هو خارج عن النهار قطعاً ، فلا بد بمقتضى المقابلة واتحاد السياق (٣) أن يكون الطرف الآخر أيضاً كذلك. إذن فالآية المباركة على خلاف المطلوب أدلّ.

وأما السنّة فروايات : منها :

النصوص الواردة في استحباب الغلس بصلاة الفجر ، أي الإتيان بها عند طلوع الفجر وأول ما يبدو قبل استعراض البياض ، وأن الصادق عليه‌السلام كان يفعل كذلك ، ويقول : إن ملائكة الليل تصعد وملائكة النهار تنزل عند‌

__________________

بإخراج بعض الليل ، بل في الجواهر أنه مما لا ينبغي الإصغاء إليه ، وآيات الصوم ، والآيات التي قوبل فيها بين الليل والصبح ، أو بين البيات والنهار ، وناهيك قوله سبحانه ( وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ ) [ ق ٥٠ : ٣٩ ٤٠ ] لظهوره بمقتضى المقابلة في أن التسبيح قبل الطلوع المراد به صلاة الفجر واقع في غير الليل ، إلى غير ذلك مما هو مذكور في الجواهر وغيره ولا سيما في البحار ٨٠ : ٧٤ حيث أسهب المجلسي في الموضوع وأعطى البحث حقه فليلاحظ.

(١) هود ١١ : ١١٤.

(٢) الوسائل ٤ : ١٠ / أبواب أعداد الفرائض ب ٢ ح ١.

(٣) لا قرينيّة لاتحاد السياق عند السيد الأُستاذ ( طاب ثراه ) وأما الصحيحة فهي معارضة بنصوص أُخر وردت في تحديد الطرفين كما يظهر للمراجع هذا ، والطرف في اللغة [ لسان العرب ٩ : ٢١٦ ] هو منتهى الشي‌ء وحرفه ، ومنه أطراف الإنسان وطرف الثوب فهو جزء منه وداخل فيه واستعماله في الخارج مجاز.

١٩٣

طلوع الفجر فأنا أُحب أن تشهد ملائكة الليل وملائكة النهار صلاتي (١).

وفي موثقة إسحاق بن عمار : « ... فاذا صلى العبد صلاة الصبح مع طلوع الفجر أُثبتت له مرتين ، تثبته ملائكة الليل وملائكة النهار » (٢). فإنها لو لم تكن من الصلوات النهارية لم تشهدها ملائكة النهار.

ويندفع : بأن المشهدية المزبورة منوطة بوقوع الفريضة لدى طلوع الفجر مباشرة كي تتلقاها الطائفتان ، ومن الضروري أن الوقوع في نفس ذاك الآن تحقيقاً مما لا يتيسر عادة ، لعدم العلم به من غير المعصوم عليه‌السلام ، بل لا بد من التأخير شيئاً ما ولو من باب المقدمة العلمية. على أن نوعاً من التأخير مما لا بدّ منه لأجل تحصيل المقدمات ولا أقل من الأذان والإقامة.

وعليه فتتوقف المشهدية إما على تقديم ملائكة النهار هبوطاً لو كان مبدؤه طلوع الشمس ، أو تأخير ملائكة الليل صعوداً لو كان المبدأ طلوع الفجر حتى تشهدها الطائفتان من الملائكة ، فارتكاب أحد التأويلين مما لا مناص منه بعد امتناع الجمود على ظاهر النص ، ولا ترجيح (٣) لأحدهما على الآخر ، ومعه تصبح الرواية من هذه الجهة مجملة ، لقصورها عن الدلالة. على أن فريضة الفجر من الصلوات النهارية أو الليلية.

ومنها : ما رواه الصدوق في الفقيه بإسناده عن يحيى بن أكثم القاضي « أنه سأل أبا الحسن الأول عن صلاة الفجر لِمَ يجهر فيها بالقراءة وهي من صلوات‌

__________________

(١) الوسائل ٤ : ٢١٣ / أبواب المواقيت ب ٢٨ ح ٣.

(٢) الوسائل ٤ : ٢١٢ / أبواب المواقيت ب ٢٨ ح ١.

(٣) لا يبعد ترجيح الثاني ، إذ لا يستلزم إلا التأخير بضع دقائق. أما الأول فيستلزم تقديم ساعة ونصف تقريباً ، بل إن ذلك هو المتعين بقرينة القضية الشرطية الواردة في الموثقة ، حيث إن مفهومها أنه لو لم يصلها كذلك بل أخّرها إلى وسط الوقت أو ما قبل طلوع الشمس لم تثبت مرتين ، لأن ملائكة الليل حينئذ صاعدة والمفروض أن ملائكة النهار منذ الفجر هابطة ، ولعمري أنها لقرينة واضحة على أن المبدأ هو طلوع الفجر فلاحظ.

١٩٤

النهار وإنما يجهر في صلاة الليل؟ فقال : لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يغلس بها فقرّبها من الليل » (١) ورواها في العلل بسند آخر (٢) دلت على إمضاء ما اعتقده السائل من أن فريضة الفجر من الصلوات النهارية.

وفيه : أن السند ضعيف في كلا الطرفين بعدة من المجاهيل فلا يعوّل عليها وإن كانت الدلالة تامة.

ثم إنه مما يرشدك إلى القول الآخر الذي عرفت أنه المختار أعني دخول ما بين الطلوعين في الليل زيادة على ما تقدم ، النصوص المتضمنة لإطلاق نصف النهار على الزوال ، كصحيحة الحلبي عن أبي عبد الله عليه‌السلام « أنه سأل عن الرجل يخرج من بيته وهو يريد السفر وهو صائم ، قال فقال : إن خرج من قبل أن ينتصف النهار فليفطر وليقض ذلك اليوم ، وإن خرج بعد الزوال فليتم يومه » (٣).

وصحيحة محمد بن مسلم عن أبي عبد الله عليه‌السلام « قال : إذا سافر الرجل في شهر رمضان فخرج بعد نصف النهار فعليه صيام ذلك اليوم ويعتدّ به من شهر رمضان » (٤).

وفي صحيحة زرارة : « ... وقال تعالى ( حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى ) وهي صلاة الظهر ، وهي أول صلاة صلاها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وهي وسط النهار ... » إلخ (٥).

فانّ من الواضح الجلي أن توصيف الزوال بنصف النهار كما في الأُوليين أو بوسطه كما في الأخيرة إنما يستقيم بناءً على كون مبدئه طلوع الشمس ، إذ لو كان طلوع الفجر لتحقق الانتصاف قبل الزوال بثلاثة أرباع الساعة تقريباً.

__________________

(١) الوسائل ٦ : ٨٤ / أبواب القراءة ب ٢٥ ح ٣. الفقيه ١ : ٢٠٣ / ٩٢٦.

(٢) علل الشرائع : ٣٢٣.

(٣) الوسائل ١٠ : ١٨٥ / أبواب من يصح منه الصوم ب ٥ ح ٢ ، ١.

(٤) الوسائل ١٠ : ١٨٥ / أبواب من يصح منه الصوم ب ٥ ح ٢ ، ١.

(٥) الوسائل ٤ : ١٠ / أبواب أعداد الفرائض ب ٢ ح ١.

١٩٥

ويعرف طلوع الفجر باعتراض البياض الحادث في الأُفق المتصاعد في السماء الذي يشابه ذنب السرحان ويسمّى بالفجر الكاذب وانتشاره على الأُفق وصيرورته كالقبطية البيضاء وكنهر سوراء بحيث كلّما زدته نظراً أصدقك بزيادة حسنه. وبعبارة اخرى انتشار البياض على الأُفق بعد كونه متصاعداً في السماء (١).

______________________________________________________

نعم ، ورد في الأخيرة بعد ذلك قوله : « ووسط صلاتين بالنهار صلاة الغداة وصلاة العصر » حيث دل على أن صلاة الغداة من النهار ، فيكون مبدؤه طلوع الفجر. مع أن مقتضى ما عرفت أن مبدأه طلوع الشمس ، فيتراءى من ذلك نوع تهافت بين الصدر والذيل.

ويمكن دفعه بابتناء الإطلاق المزبور على ضرب من التوسع والتجوز (١) بعلاقة المجاورة والمشارفة ، نظراً إلى امتداد الوقت إلى طلوع الشمس وجواز الإتيان بها قبيل ذلك ، بل لعله هو الغالب لعامة الناس ، فمن ثم صح إطلاق صلاة النهار عليها وإن لم تكن منها حقيقة.

ويؤيد المطلوب ما اصطلح عليه أهل الهيئة والنجوم من تقسيم الدائرة الوهمية المحيطة بالكرة الأرضية إلى قوسي الليل والنهار ، يعنون بالأول ما بين غروب الشمس إلى طلوعها ، وبالثاني ما بين طلوعها إلى غروبها ، ومن ثم يطلقون اليوم ويريدون به ما بين طلوع الشمس إلى الغروب. إذن فلا مناص من الالتزام بأنّ المراد من منتصف الليل هو ما بين غروب الشمس وطلوعها حسبما عرفت.

(١) بلا خلاف فيه بين الإمامية ، بل عليه أكثر العامة ، بل هو مختار المذاهب‌

__________________

(١) هذا ليس بأولى من ابتناء التعبير بوسط النهار أو نصفه على التوسع والتجوز ، بل إن الأخير هو المتعيّن ، لكثرة المسامحة في استعمالات لفظ الوسط والاكتفاء بالوسطية التقريبية وكذلك النصف العرفي ، وهذا بخلاف لفظ النهار ، إذ كيف يصح إطلاق النهار على جزء من الليل باعتبار قربه من النهار وإلا كانت صلاة المغرب أيضاً في النهار وهو كما ترى.

١٩٦

الأربعة على ما في كتاب الفقه على المذاهب الأربعة (١) ، والمخالف شاذ لا يعبأ به. فالمسألة كأنها مورد لاتفاق الفريقين ، وأن طلوع الفجر الصادق الذي هو مبدأ لوجوب الصلاة والصيام هو البياض المعترض في الأُفق الحادث بعد الفجر الكاذب ، وهو البياض المستطيل المتصاعد في السماء الذي شبّه في الأخبار بذنب السرحان (٢) والسرطان (٣) وبعد زوال هذا البياض ببضع دقائق يحدث البياض المعترض في الأُفق الذي شبّه في الروايات بالقبطية البيضاء ، أو ببياض نهر سوراء أو نباضه بتقديم النون ثم الباء الموحدة كما في الوافي وحبل المتين (٤) ، من نبض الماء إذا سال ، وإنما سمي الأول بالكاذب لتعقبه بالظلمة فلم يكن كاشفاً عن الصبح. فالعبرة بالبياض المعترض الحادث بعد ذلك الذي ينبسط في عرض الأُفق ، ويستدل لذلك بجملة من الأخبار.

منها : صحيحة زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام « قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يصلي ركعتي الصبح وهي الفجر إذا اعترض الفجر وأضاء حسناً » (٥).

وفيه : أن الفعل المحكي عن المعصوم وإن كان مبنياً على الاستمرار كما قد يستفاد من كلمة « كان » مجمل لا لسان له ليدل على التحديد ، ولعل المواظبة مستندة إلى الأفضلية وإن ساغ التقديم ، فالدلالة قاصرة وإن صح السند.

ومنها : مرسلة الصدوق قال : « وروى أن وقت الغداة إذا اعترض الفجر فأضاء حسناً ، وأما الفجر الذي يشبه ذنب السرحان فذلك الفجر الكاذب ، والفجر الصادق هو المعترض كالقباطي » (٦). والقباطي واحِدها قبطي ثياب‌

__________________

(١) الفقه على المذاهب الأربعة ١ : ١٨٥.

(٢) بكسر السين وسكون الراء وهو الذئب [ تهذيب اللغة ٤ : ٣٠١ ].

(٣) حيوان عشاري ذو ذنب طويل [ مجمع البحرين ٤ : ٢٥٢ ].

(٤) الوافي ٧ : ٣٠٢ ، الحبل المتين : ١٤٤.

(٥) الوسائل ٤ : ٢١١ / أبواب المواقيت ب ٢٧ ح ٥.

(٦) الوسائل ٤ : ٢١٠ / أبواب المواقيت ب ٢٧ ح ٣ ، الفقيه ١ : ٣١٧ / ١٤٤١.

١٩٧

بيض رقيقة تجلب من مصر ، وهي وإن كانت واضحة الدلالة لكنها لمكان الإرسال غير صالحة للاستدلال.

ومنها : ما رواه الكليني بإسناده عن علي بن مهزيار قال : « كتب أبو الحسن بن الحصين إلى ابي جعفر الثاني عليه‌السلام معي : جعلت فداك قد اختلف موالوك ( مواليك ) في صلاة الفجر ، فمنهم من يصلي إذا طلع الفجر الأول المستطيل في السماء ، ومنهم من يصلي إذا اعترض في أسفل الأُفق واستبان ولست أعرف أفضل الوقتين فأُصلي فيه ، فان رأيت أن تعلمني أفضل الوقتين وتحدّه لي وكيف أصنع مع القمر والفجر لا يتبين ( تبين ) معه حتى يحمر ويصبح ، وكيف أصنع مع الغيم ، وما حدّ ذلك في السفر والحضر ، فعلت إن شاء الله ، فكتب عليه‌السلام بخطه وقرأته : الفجر يرحمك الله هو الخيط الأبيض المعترض ، وليس هو الأبيض صعداً فلا تصلّ في سفر ولا حضر حتى تتبينه ... » إلخ (١). ورواها الشيخ أيضاً بإسناده عن الحصين ( ابن أبي الحصين ) قال : كتبت إلى أبي جعفر عليه‌السلام وذكر مثله (٢).

وفيه : أنها ضعيفة السند بطريقيها ، أما الأول فبسهل بن زياد. وأما الثاني فبالحصين (٣) لعدم توثيقهما فلا يعوّل عليها.

ومنها : رواية هشام بن الهذيل عن أبي الحسن الماضي عليه‌السلام قال : « سألته عن وقت صلاة الفجر ، فقال : حين يعترض الفجر فتراه مثل نهر سوراء » (٤).

__________________

(١) الوسائل ٤ : ٢١٠ / أبواب المواقيت ب ٢٧ ح ٤. الكافي ٣ : ٢٨٢ / ١.

(٢) التهذيب ٢ : ٣٦ / ١١٥.

(٣) بل قد وثقه الشيخ [ رجال الطوسي : ٣٧٩ / ٥٦٢٣ ] ولعله محرّف أبو الحصين بن الحصين ، لاحظ المعجم ٢٢ : ١٣٩ / ١٤٢٠٣ فالرواية إذن معتبرة.

(٤) الوسائل ٤ : ٢١٢ / أبواب المواقيت ب ٢٧ ح ٦.

١٩٨

وفيه : أنها أيضاً ضعيفة السند بهشام بن الهذيل.

فالنصوص المذكورة لحد الآن غير صالحة للاستدلال لقصورها سنداً أو دلالة ، نعم هناك روايتان تدلان على المطلوب لتماميتهما من حيث السند والدلالة :

إحداهما : صحيحة أبي بصير ليث المرادي قال : « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام فقلت : متى يحرم الطعام والشراب على الصائم وتحل الصلاة صلاة الفجر؟ فقال : إذا اعترض الفجر فكان كالقبطية البيضاء فثم يحرم الطعام على الصائم ، وتحل الصلاة صلاة الفجر ، قلت : أفلسنا في وقت إلى أن يطلع شعاع الشمس؟ قال : هيهات أين يذهب بك ، تلك صلاة الصبيان » (١).

وهي كما ترى صحيحة السند صريحة الدلالة ، بيد أنه حكى في الحدائق (٢) عن صاحب المنتقى أنه ناقش في سندها بتردد الراوي بين أبي بصير المكفوف كما في رواية الشيخ (٣) ، وبين ليث المرادي كما في رواية الصدوق (٤) ، وأما الكليني فقد روى وأطلق ولم يقيده بأحدهما (٥) ، فحيث إن الراوي مردد بين المرادي الثقة وبين المكفوف الضعيف لأجل اختلاف المشايخ الثلاثة في تعابيرهم فلا وثوق إذن بصحة الرواية.

نعم ، رجح الأول في الحدائق بقرينة الراوي عنه وهو عاصم بن حميد حيث إنه لا يروي إلا عن المرادي.

__________________

(١) الوسائل ٤ : ٢٠٩ / أبواب المواقيت ب ٢٧ ح ١.

(٢) الحدائق ٦ : ٢٠٩.

(٣) التهذيب ٤ : ١٨٥ / ٥١٤. [ رواية الشيخ في التهذيب أيضاً خالية عن التقييد بالمكفوف ، وإنّما المقيّد به رواية أُخرى متحدة المضمون معها رواها في التهذيب ٢ : ٣٩ ح ١٢٢ ، والاستبصار ١ : ٢٧٦ ح ١٠٠٢ ، ورواها في الوسائل ٤ : ٢١٣ / أبواب المواقيت ب ٢٨ ح ٢ ].

(٤) الفقيه ٢ : ٨١ / ٣٦١.

(٥) الكافي ٤ : ٩٩ / ٥.

١٩٩

أقول : القرينة وإن صحت لكنا في غنى عن ذلك ، لما ذكرناه في محله (١) من وثاقة المكفوف أيضاً ، فالرجل موثق والرواية معتبرة على التقديرين ، ومن ثم لم نناقش لحدّ الآن في الروايات الواردة عن أبي بصير بصورة الإطلاق ولم نتصد لتعيين المراد.

على أنها مروية بسند آخر ، وهو ما رواه الشيخ بإسناده عن علي بن إبراهيم كما أشار إليه صاحب الوسائل في ذيل الصحيحة الآتية ، فلا ينبغي النقاش فيها بوجه.

ثانيتهما : صحيحة علي بن عطية عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنه « قال : الصبح ( الفجر ) هو الذي إذا رأيته كان معترضاً كأنه بياض نهر سوراء » (٢).

ونوقش في سندها أيضاً باشتمال طريق الصدوق إلى ابن عطية على علي بن حسان المردد بين الواسطي الثقة والهاشمي الضعيف ، لتأليفه تفسيراً باطنياً لم يوجد فيه من الإسلام شي‌ء.

ويندفع : بأن المراد هو الواسطي لا غير كما صرح به الصدوق في بعض الروايات التي يرويها عن علي بن عطية ، وأما الهاشمي فهو لا يروي إلا عن عمّه عبد الرحمن بن كثير في تفسيره ولم تعهد له رواية عن ابن عطية ولا عن غيره. على أن كلا من الكليني والشيخ (٣) رواها بطريق صحيح. فالمسألة لا إشكال فيها.

بقي شي‌ء : وهو أن ظاهر تعليق الإمساك على التبين في قوله تعالى ( وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ) (٤) إن للتبين موضوعية في تعلق الحكم وتحقق الفجر ، فما دام لم ير البياض المنتشر في‌

__________________

(١) معجم رجال الحديث ٢١ : ٨٩ / ١٣٥٩٩.

(٢) الوسائل ٤ : ٢١٠ / أبواب المواقيت ب ٢٧ ح ٢.

(٣) الكافي ٣ : ٢٨٣ / ٣ ، التهذيب ٢ : ٣٧ / ١١٨.

(٤) البقرة ٢ : ١٨٧.

٢٠٠