موسوعة الإمام الخوئي

الشيخ مرتضى البروجردي

منها صلاة واجبة على كل مسلم أن يشهدها إلا خمسة : المريض والمملوك والمسافر والمرأة والصبي » (١) وهي كسابقتها تدل بالعموم الوضعي على شمول الوجوب لجميع الأفراد ، والسند أيضاً صحيح ، فإن أحمد بن محمد الواقع في الطريق المراد به أحمد بن محمد بن عيسى وهو موثق على الأقوى كما مرَّ سابقاً.

ومنها : صحيحة محمد بن مسلم وزرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام « قال : تجب الجمعة على كل من كان منها على فرسخين » (٢) ودلالتها ظاهرة كسندها.

ومنها : صحيحة زرارة قال : « قال أبو جعفر عليه‌السلام : الجمعة واجبة على مَن إن صلى الغداة في أهله أدرك الجمعة ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إنما يصلي العصر في وقت الظهر في سائر الأيام كي إذا قضوا الصلاة مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله رجعوا إلى رحالهم قبل الليل ، وذلك سنّة إلى يوم القيامة » (٣) وهذه هي الرواية التي أشرنا إليها آنفاً ، ودلالتها كسندها ظاهرة.

ومنها : صحيحة أبي بصير ومحمد بن مسلم قالا : « سمعنا أبا جعفر محمد بن علي عليه‌السلام يقول : من ترك الجمعة ثلاثاً متواليات بغير علة طبع الله على قلبه » (٤) في الطريق محمد بن عيسى بن عبيد وهو وإن استثناه ابن الوليد لكن عرفت توثيقه سابقاً. ودلالتها على الوجوب ظاهرة ، فان الطبع على القلب من أوصاف المنافقين ، فهو كناية عن العصيان والنفاق كما أُشير إليه في القرآن (٥) وتومئ إليه الرواية الآتية.

__________________

(١) الوسائل ٧ : ٢٩٩ / أبواب صلاة الجمعة ب ١ ح ١٤.

(٢) الوسائل ٧ : ٣٠٩ / أبواب صلاة الجمعة ب ٤ ح ٥.

(٣) الوسائل ٧ : ٣٠٧ / أبواب صلاة الجمعة ب ٤ ح ١.

(٤) الوسائل ٧ : ٢٩٨ / أبواب صلاة الجمعة ب ١ ح ١١.

(٥) التوبة ٩ : ٨٧ ، محمد ٤٧ : ١٦.

٢١

ومنها : صحيحة زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام « قال : صلاة الجمعة فريضة والاجتماع إليها فريضة مع الإمام ، فإن ترك رجل من غير علة ثلاث جمع فقد ترك ثلاث فرائض ، ولا يدع ثلاث فرائض من غير علة إلا منافق » (١) السند صحيح والدلالة ظاهرة كما مرّ.

إلى غير ذلك من الروايات التي لا يسعنا التعرض لجميعها وهي لا تخفى على المراجع.

ولا يخفى أن هذه الروايات الكثيرة العدد وإن كانت قوية السند واضحة الدلالة على الوجوب كما عرفت ، ولا مجال للتشكيك في شي‌ء منها ، غير أنها برمّتها لا تدل على الوجوب التعييني بخصوصه إلا بالإطلاق ، وإلا فلا صراحة في شي‌ء منها في ذلك ، وإنما الصراحة والظهور في أصل الوجوب الجامع بينه وبين التخييري ، والإطلاق وإن كان حجة يعوّل عليه في تعيين الأول كلّما دار الأمر بينهما كما ذكر في محله (٢) إلا أنه مقيّد بعدم قيام القرينة على التقييد ، وفي المقام شواهد وقرائن تمنع من إرادة الوجوب التعييني ، فلا مناص من الحمل على التخييري.

أما أوّلاً : القرينة العامة التي تمسكنا بها في كثير من المقامات وأسميناها بالدليل الخامس ، وهي أن الوجوب التعييني لو كان ثابتاً في مثل هذه المسألة الكثيرة الدوران لظهر وبان وشاع وذاع ، وكان كالنار على المنار كسائر الفرائض الخمس اليومية ، ولم يختلف فيه اثنان كما لم يختلف فيها ، مع أنك عرفت (٣) التسالم وقيام الإجماع على نفي الوجوب التعييني من قدماء الأصحاب ، بل أنكر بعضهم المشروعية رأساً كابن إدريس وسلار ، وإنما حدث الخلاف من زمن الشهيد الثاني ومن تأخر عنه ، فلو كان الوجوب ثابتاً‌

__________________

(١) الوسائل ٧ : ٢٩٧ / أبواب صلاة الجمعة ب ١ ح ٨.

(٢) مصباح الأُصول ٢ : ٤٤٩ وما بعدها.

(٣) في ص ١٤.

٢٢

تعييناً فكيف أنكره الأصحاب ، وهذه الأخبار بمرأى منهم ومسمع ، وكتبهم الحديثية وغيرها مشحونة بهاتيك الأحاديث بحيث لا يحتمل غفلتهم عنها وعدم ظفرهم بها على كثرتها ، وهل يحتمل في حقهم مع جلالتهم وعظمتهم ، وهم أساطين المذهب وحفّاظ الشريعة ، وحملة الدين المبين وأُمناء الله في أرضه ترك فريضة من فرائض الله وإنكار وجوبها ، حاش لله إن هذا إلا بهتان مبين.

وثانياً : استقرار سيرة أصحاب الأئمة عليهم‌السلام لا سيما الصادق عليه‌السلام على كثرتهم ، على عدم إقامة هذه الصلاة ، مع أنهم هم الرواة لهذه الأحاديث ونقلة تلك الأخبار ، فلو كان واجباً تعييناً كيف أهملوها ولم يعتنوا بشأنها ، مع علوّ مرتبتهم وارتفاع منزلتهم ، وهم من أركان الدين وأعمدة المذهب وحملة الفقه الجعفري ، لا سيما زرارة الذي هو الراوي لأكثر تلك الأخبار ، وهو على ما هو عليه من عظم الشأن وعلوّ المقام ، فلو كان واجباً حتمياً لكانوا هم أحق بفهمه منها فكيف أهملوها ولم يهتمّوا بها ، وهل هناك فسق أعظم من التجاهر بترك فريضة مثل الصلاة التي هي عماد الدين ومن أهمّ الفرائض التي يمتاز بها المسلم عن الكافرين.

ويكشف عما ذكرناه من تركهم لهذه الصلاة مضافاً إلى أنهم لو أقاموها لظهر وبان ، ونُقل إلينا بطبيعة الحال ، ولَمّا ينقل عن أحدهم قط أنه يستفاد ذلك من بعض الأخبار :

منها : صحيحة زرارة قال : « حثّنا أبو عبد الله عليه‌السلام على صلاة الجمعة حتى ظننت أنه يريد أن نأتيه ، فقلت : نغدوا عليك ، فقال : لا إنما عنيت عندكم » (١) فانّ الحثّ والترغيب على إقامة الجمعة من الصادق عليه‌السلام لمثل زرارة الذي هو الراوي لأغلب تلك الأخبار كما عرفت يكشف عن عدم التزامه بها ، بل إهماله لها ، بل هو يدل على الاستحباب ، بمعنى كونها أفضل‌

__________________

(١) الوسائل ٧ : ٣٠٩ / أبواب صلاة الجمعة ب ٥ ح ١.

٢٣

عِدلي الواجب التخييري ، وإلا فلا معنى للحث بالإضافة إلى الواجبات التعيينية كما لا يخفى.

ومنها : موثقة عبد الملك أخي زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : « قال : مثلك يهلك ولم يصل فريضة فرضها الله ، قال قلت : كيف أصنع؟ قال : صلوا جماعة ، يعني صلاة الجمعة » (١). وهذه أظهر من سابقتها ، لظهورها في عدم مباشرة عبد الملك مع جلالته لهذه الصلاة طيلة حياته قط ، حتى أن الامام عليه‌السلام يوبّخه بأنّ مثله كيف يموت ولم يأت بهذه الصلاة في عمره ولا مرّة ، ومن هنا فزع فقال : « كيف أصنع ».

وبالجملة : هؤلاء الأساطين كانوا لا يزالون مستمرين في الترك ومواظبين عليه كما تفصح عنه هاتان الصحيحتان.

ودعوى : أن من الجائز أنهم كانوا يقيمونها مع المخالفين تقية فيكون الحث في تلك الرواية والتوبيخ في هذه على الإتيان بالوظيفة الواقعية عارية عن التقية.

مندفعة : بعدم تأتّي التقية في مثل هذه الصلاة لبطلان الصلاة معهم ، فلا تنعقد الجماعة التي هي من مقوّماتها. نعم في سائر الصلوات يشاركهم في صورة الجماعة تقية ، فيأتي بها فرادى ويقرأ في نفسه متابعاً لهم في الصلاة إراءة للاقتداء بهم. وأما في المقام فبعد فرض بطلان جمعتهم ، لا بد من قصد الظهر المخالف لصلاة الجمعة في عدد الركعات ، ولا بدّ من ضم ركعتين أُخريين ولو بنحو يتخيل لهم أنها النافلة إذ لا موجب لتركهما. فلم يكن المأتي به صلاة جمعة تقية وإنما هي صلاة الظهر منفرداً.

وثالثاً : طوائف من الأخبار تشهد بعدم الوجوب التعييني وتنافيه :

منها : الأخبار المتظافرة الدالة على سقوط الصلاة عمن زاد على رأس‌

__________________

(١) الوسائل ٧ : ٣١٠ / أبواب صلاة الجمعة ب ٥ ح ٢.

٢٤

فرسخين ، كصحيحة زرارة الأُولى المتقدمة (١) وصحيحة محمد بن مسلم وزرارة المتقدمة أيضاً (٢) ، وصحيحة محمد بن مسلم قال : « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الجمعة؟ فقال : تجب على كل من كان منها على رأس فرسخين ، فان زاد على ذلك فليس عليه شي‌ء » (٣) فإنه لو كان واجباً تعيينياً على كل أحد ولم يكن مشروطاً بإمام خاص ، لم يكن وجه لسقوط الصلاة عن البعيدين عن محل الانعقاد ، بل كان عليهم الاجتماع والانعقاد في أماكنهم ، فكيف ينفى عنهم الوجوب مصرحاً في الصحيحة الأخيرة بأنه ليس عليه شي‌ء.

وحملها على عدم تحقق شرط الانعقاد ، لعدم استكمال أقل العدد ، أو عدم وجود من يخطب كما ترى ، فإنه فرض نادر التحقق جدّاً ، إذ الغالب وجود نفر من المسلمين في تلك الأماكن وما حولها إلى الفرسخين بحيث تنعقد بهم الجمعة كما لا يخفى.

ومنها : الأخبار النافية لوجوبها على أهل القرى إذا لم يكن لهم من يخطب بهم كصحيحة محمد بن مسلم عن أحدهما عليه‌السلام قال : « سألته عن أُناس في قرية هل يصلّون الجمعة جماعة؟ قال : نعم ، ويصلّون أربعاً إذا لم يكن من يخطب » (٤).

وصحيحة الفضل بن عبد الملك قال : « سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : إذا كان القوم في قرية صلّوا الجمعة أربع ركعات ، فان كان لهم من يخطب لهم جمعوا .. » إلخ (٥).

وموثقة سماعة عن الصادق عليه‌السلام قال فيها : « فان لم يكن إمام‌

__________________

(١) في ص ١٨.

(٢) في ص ٢١.

(٣) الوسائل ٧ : ٣٠٩ / أبواب صلاة الجمعة ب ٤ ح ٦.

(٤) ، (٥) الوسائل ٧ : ٣٠٦ / أبواب صلاة الجمعة ب ٣ ح ١ ، ٢.

٢٥

يخطب فهي أربع ركعات وإن صلّوا جماعة » (١).

وموثقة ابن بكير قال : « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن قوم في قرية ليس لهم من يجمع بهم ، أيصلّون الظهر يوم الجمعة في جماعة؟ قال : نعم إذا لم يخافوا » (٢).

فان المراد بمن يخطب في هذه الأخبار الّذي علّق على وجوده وجوب الجمعة ، وعلى عدمه وجوب الظهر ، ليس هو مجرد من يتمكن من إقامة الخطبة شأناً وإن لم يكن قادراً عليها فعلاً ، إذ مضافاً إلى أن ذلك خلاف الظاهر من سياق الكلام جدّاً كما لا يخفى ، أنه فرض نادر التحقق ، بل لا يكاد يتحقق خارجاً من لا يقدر على أداء الخطبة فعلاً كي يُعلّق عليه نفي الجمعة حتى المسمى منها ، وأقل الواجب الذي هو التحميد والثناء ، وقراءة سورة ولا أقلّ من الحمد الذي يعرفها كل أحد ، والوعظ المتحقق بقوله : أيها الناس اتقوا الله ، لا سيما بعد ملاحظة كون الرجل ممن يتمكن من إمامة الجماعة كما هو المفروض في تلك الأخبار ، حيث أمرهم الإمام عليه‌السلام حينئذ بالإتيان بأربع ركعات جماعة.

فلا مناص من أن يراد بمن يخطب الفعلية كما هو المتبادر منها ، وحاصل المعنى حينئذ : أنه إن كان هناك من يقدم لإقامة الخطبة فعلاً ومتهيئاً لذلك وجبت الجمعة ، وإن لم يقدم بالفعل مع قدرته عليها كما عرفت سقطت وصلّوا الظهر جماعة. وهذا كما ترى لا يلائم الوجوب التعييني ، إذ عليه يجب الاقدام والتصدي للخطبة تعييناً وتركها موجب للفسق ، فكيف يصح الائتمام به كما هو صريح الأخبار ، بل يصح الاستدلال بها للمطلوب حتى لو أُريد بها الشأنية دون الفعلية ، ضرورة أنها لو كانت واجبة تعييناً لزم التصدي لتعلم الخطبة ولو كفاية ، كي لا يؤدي إلى ترك هذه الفريضة التعيينية ، لوجوب‌

__________________

(١) الوسائل ٧ : ٣١٠ / أبواب صلاة الجمعة ب ٥ ح ٣.

(٢) الوسائل ٧ : ٣٢٧ / أبواب صلاة الجمعة ب ١٢ ح ١.

٢٦

تحصيل المقدمات التي يفوت بتركها الواجب في ظرفه عقلاً ، فعدم التصدي والإهمال في ذلك المستوجب لترك الواجب فسق وعصيان ، وبه يسقط صاحبه عن صلاحية الاقتداء به ، فكيف أمر بالائتمام به في تلك الأخبار.

والمتحصل من جميع ما قدمناه لحدّ الآن : أن الروايات التي استدل بها الخصم وإن كانت ظاهرة في الوجوب التعييني بالظهور الإطلاقي ، إلا أنه لا يسعنا الأخذ بهذا الظهور لأجل تلكم القرائن والشواهد التي منها بعض نفس تلك الأخبار كما عرفت فلا مناص من حملها على الوجوب التخييري.

بقي في المقام روايات أُخر استدل بها على الوجوب التعييني ، وفي بعضها ما لا يقبل الحمل على الوجوب التخييري.

منها : الروايات التي أُنيط الوجوب فيها على مجرد اجتماع سبعة من المسلمين من دون تعليق على شرط آخر ، وهي كثيرة وبعضها قوية السند ، كصحيحة زرارة قال : « قلت لأبي جعفر عليه‌السلام على من تجب الجمعة؟ قال : تجب على سبعة نفر من المسلمين ، ولا جمعة لأقل من خمسة من المسلمين أحدهم الإمام ، فإذا اجتمع سبعة ولم يخافوا أمّهم بعضهم وخطبهم » (١) ونحوها غيرها ، فان المستفاد من ذيلها أنه مهما اجتمعت السبعة وجبت الجمعة من دون فرق بين زمني الحضور والغيبة بمقتضى الإطلاق.

والجواب : أن الرواية إن كانت ناظرة إلى بيان شرط الواجب وما يعتبر في صحة الجمعة وانعقادها ، فهي حينئذ أجنبية عن محل الكلام بالكلية كما لا يخفى.

وإن كانت ناظرة إلى بيان شرط الوجوب وأنه معلّق على مجرد وجود السبعة كما عليه مبنى الاستدلال ، وهو الظاهر منها بقرينة السؤال الذي هو عن نفس الوجوب ، إذ الإعراض عنه والتعرض لبيان حكم آخر كما هو مبنى الاحتمال الأول خلاف الظاهر بعيد عن سياق الكلام.

__________________

(١) الوسائل ٧ : ٣٠٤ / أبواب صلاة الجمعة ب ٢ ح ٤.

٢٧

إلا أنه يتوجه عليها : أن تعليق الوجوب على الشرط بهذا المعنى أعني إناطته بوجود السبع مستدرك لحصوله دائماً فتلزم اللغوية ، إذ بعد ملاحظة اختصاص الحكم بالحاضرين لسقوط الوجوب التعييني عن المسافر جزماً كما نص على استثنائه في غير واحد من الأخبار ، فما من بلد بل ولا قرية إلا ويوجد فيها وما حولها إلى ما دون أربع فراسخ من كل جانب الذي هو حدّ السفر الشرعي آلاف من النفوس فضلاً عن سبع نفر من المسلمين ، ففرض مكان يسكن فيه مكلف غير مسافر ولم يبلغ السبعة من الجوانب الأربعة البالغ مساحةً ستة عشر فرسخاً نادر التحقق ، بل لا يكاد يتفق خارجاً إلا بالإضافة إلى القاطنين في المناطق الجبلية والمرتفعات الشاهقة من الرهبان ونحوهم ممن يعيش منعزلاً عن المجتمعات البشرية ، ولا يحتمل أن يكون التقييد في هذه الروايات احترازاً عن مثل هذه الأفراد كما لا يخفى.

وعليه فيلزم من تعليق الحكم على مثل هذا الشرط الحاصل في كل زمان ومكان ما ذكرناه من اللغوية.

فلا مناص من أن يكون المراد بالشرط اجتماع العدد المزبور بصفة الانضمام وعلى سبيل الهيئة الاتصالية المعتبرة في إقامة الجمعة ، احترازاً عما إذا كانوا متفرقين غير قاصدين لإقامتها فلا تجب حينئذ على أحد منهم ، ولازم ذلك عدم ثبوت الوجوب التعييني قبل الإقامة.

نعم ، مقتضى الرواية أنه لو اتفق الاجتماع المزبور وجبت عليهم إقامتها حينئذ تعييناً لحصول الشرط ، لكن الوجوب محمول على التخييري بقرينة سائر الأخبار. وإن شئت قل : تتقيد الرواية بوجود مَن يخطب ، جمعاً بينها وبين الروايات المتقدمة التي أُنيط الوجوب فيها بوجود مَن يخطب فعلاً ، فيكون حاصل المعنى حينئذ : أنه إذا اجتمع سبعة من المسلمين أَمَّهم بعضهم وخطبهم إذا كان هناك من يقدم بالفعل لأداء الخطبة ، وإلا فلا تجب. وهذا بحسب النتيجة يؤول إلى الوجوب التخييري بل هو عينه كما لا يخفى.

٢٨

ومنها : صحيحة منصور عن أبي عبد الله عليه‌السلام في حديث « قال : الجمعة واجبة على كل أحد ، لا يعذر الناس فيها إلا خمسة : المرأة والمملوك والمسافر والمريض والصبي » (١) وهذه هي الرواية التي أشرنا إلى إبائها عن الحمل على الوجوب التخييري ، فإن التعبير بعدم المعذورية إنما يصح بالإضافة إلى الواجبات التعيينية ، وإلا فمن اختار أحد عدلي الواجب التخييري فهو معذور في ترك الآخر ، فلا يصح في حقه مثل هذا التعبير الذي هو كالنص في الوجوب التعييني كما عرفت.

والجواب : أن الاستدلال بها موقوف على أن يكون متعلق الوجوب في قوله « الجمعة واجبة .. » إلخ هي الإقامة نفسها دون الحضور والسعي إليها بعد فرض الانعقاد وتحقق الإقامة خارجاً ، والظاهر من الصحيحة بل المتعين هو الثاني بقرينة استثناء المسافر ، إذ الساقط عنه إنما هو الحضور دون المشروعية وأصل الوجوب ، وإلا فهي مشروعة منه لو أحب الحضور ورغب فيه ، بل هي أفضل من اختيار الظهر ، وثوابها أعظم من الجمعة التي يقيمها المقيم كما أُشير إليه في بعض الأخبار (٢) فلا يصح الاستثناء (٣) لو كان النظر إلى أصل الإقامة دون الحضور لثبوتها في حقه كالحاضر ، كما لا يصح استثناء مَن كان على رأس فرسخين الوارد في غير واحد من الأخبار وقد تقدّم بعضها ، إذ هو إنما يتجه لو كان الواجب هو الحضور في البلد الذي تقام فيه الجمعة فيرفع الحكم عنهم إرفاقاً كي لا يتحملوا مشقة الحضور من مساكنهم ، وإلا فلو كانت الإقامة بنفسها واجبة تعييناً كان اللازم على البعيدين عقدها في أماكنهم مع اجتماع‌

__________________

(١) الوسائل ٧ : ٣٠٠ / أبواب صلاة الجمعة ب ١ ح ١٦.

(٢) الوسائل ٧ : ٣٣٩ / أبواب صلاة الجمعة ب ١٩ ح ٢.

(٣) بل يصح على التقديرين ، فان وجوب الإقامة شي‌ء والمشروعية شي‌ء آخر ، ولا مانع من أن تكون الصلاة مشروعة في حق المسافر ومع ذلك لم تجب عليه الإقامة ولا الحضور بعدها.

٢٩

الشرائط ، إذ لا فرق في الوجوب التعييني بين القريب والبعيد فلم يكن مجال لاستثنائهم.

وكذا الحال في الاستثناء حال نزول المطر كما ورد به النص الصحيح (١) فإنه إنما يتجه لو كان الواجب هو الحضور بعد الانعقاد ، وإلا فوجوب العقد والإقامة تعييناً لا يكاد يسقط بمثل هذه الأحوال والعوارض كما في سائر الفرائض.

ويؤيده : استثناء المرأة والمملوك في هذه الصحيحة وغيرها ، فان المشروعية (٢) ثابتة في حقهما أيضاً لو رغبا في الحضور كالمسافر على ما نطقت به بعض الأخبار (٣) وإن كان سندها لا يخلو عن خدش ، وإنما الساقط عنهما وجوب الحضور.

وبالجملة : سياق الرواية بمقتضى القرائن الداخلية والخارجية يشهد بأنها في مقام بيان وجوب الحضور بعد العقد والنظر في عدم المعذورية إلى ذلك ، ولا خفاء في دلالتها على الوجوب التعييني في هذه المرحلة ، لا إلى الإقامة ابتداءً كي تدل على وجوب العقد تعييناً.

ومن هنا يتجه التفصيل بين العقد والانعقاد ، فلا يجب في الأول ويجب الحضور تعييناً في الثاني.

ومما ذكرنا يظهر الجواب عن صحيحة أبي بصير ومحمد بن مسلم : « من ترك الجمعة ثلاثاً متواليات بغير علة طبع الله على قلبه » ونحوها صحيحة زرارة المتقدمتين (٤) فان المراد بقرينة الصحيحة المتقدمة آنفاً وغيرها إنما هو ترك الحضور بعد فرض الانعقاد لا ترك العقد والإقامة ابتداءً.

__________________

(١) الوسائل ٧ : ٣٤١ / أبواب صلاة الجمعة ب ٢٣ ح ١.

(٢) قد عرفت أن المشروعية غير وجوب الإقامة.

(٣) الوسائل ٧ : ٣٣٧ / أبواب صلاة الجمعة ب ١٨ ح ١.

(٤) في ص ٢١ ، ٢٢.

٣٠

ومن جميع ما قدّمناه يظهر سقوط القول بالوجوب التعييني ، وأن المستفاد من الأدلة إنما هو الوجوب التخييري.

ومنه يظهر الحال في المقام الثاني ، أعني أصل المشروعية في قبال القائل بالحرمة ، إذ بعد ثبوت الوجوب التخييري بالأدلة المتقدمة لا يبقى مجال للتشكيك في المشروعية ، فالقول بحرمتها في زمن الغيبة ساقط جدّاً وسيأتي تفصيل الكلام فيه.

وفذلكة الكلام في المقام : أن صلاة الجمعة لا تجب تعييناً بدون الإمام أو المنصوب الخاص ، وقد تسالم عليه الأصحاب وقام عليه إجماعهم ، وإنما هي واجبة تخييراً ، هذا في العقد الابتدائي ، وأما الحضور بعد العقد فوجوبه التعييني وإن لم يكن بعيداً ، بل هو الأقوى بالنظر إلى الأدلة ، لكن الأصحاب حيث لم يلتزموا بذلك فالجزم به مشكل ، ومن هنا كان مقتضى الاحتياط الوجوبي رعاية ذلك والله العالم.

المقام الثاني : في إثبات أصل المشروعية قبال من ينكرها رأساً ويدّعي الحرمة في زمن الغيبة ، والحال فيه وإن كان قد ظهر مما مرّ إجمالاً كما أشرنا إليه ، لكن من الجدير التعرض لما استدل لذلك وتزييفه تفصيلاً استقصاءً للبحث.

فنقول : استدل المنكرون وهم القليل من الأصحاب كابن إدريس (١) وسلاّر (٢) ومن تبعهما بأنّ إقامة الجمعة من المناصب المختصة بالإمام عليه‌السلام ومن شؤونه ومزاياه فلا يجوز عقدها بدونه ، أو المنصوب من قبله بالخصوص ، وحيث لا يتيسّر الوصول إليه عليه‌السلام في عصر الغيبة ولا الاستئذان الخاص ، فلا محالة يسقط الوجوب من أصله ، لانتفاء المشروط‌

__________________

(١) السرائر ١ : ٣٠٣.

(٢) المراسم : ٧٧.

٣١

بانتفاء شرطه ، فتختص المشروعية بزمن الحضور فحسب.

والجواب : أنه إن أُريد بذلك نفي الوجوب التعييني فهو وإن كان صواباً كما عرفت ، لكنّا في غنى عن إقامة الدليل عليه ، إذ يكفي في نفيه عدم قيام الدليل على الوجوب ، وقد علم مما مرّ عند إبطال أدلة القائلين بالتعيين ، فلا حاجة إلى إقامة الدليل على العدم بعد أن كان هو مقتضى الأصل.

وإن أُريد به نفي المشروعية وإنكار الوجوب من أصله ، الجامع بين التعييني والتخييري ، لمكان الاشتراط المزبور ، فتدفعه إطلاقات الأدلة من الكتاب والسنّة ، إذ ليس في شي‌ء منها إيعاز بهذا الشرط كي تتقيد به المطلقات. فلا بد في التقييد من إقامة الدليل عليه. وقد استدلّ له بأُمور :

الأول : الإجماع على عدم المشروعية ما لم يقمها إمام الأصل أو المنصوب من قِبَله بالخصوص.

وفيه : أن الإجماع إنما قام على عدم الوجوب التعييني كما قدّمناه في صدر المبحث ، وأما نفي المشروعية رأساً فليس معقداً للإجماع ، بل ولا مورداً للشهرة ، فان الأشهر بل المشهور إنما هو الوجوب التخييري ، والمنكرون للمشروعية جماعة قليلون كما نبّهنا عليه فيما تقدم. فدعوى الإجماع في المقام لا تخلو عن المجازفة.

الثاني : دعوى استقرار سيرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمة المعصومين من بعده على نصب أشخاص معيّنين لإقامة الجمعات ، فكان لا يقيمها إلا من هو منصوب من قبلهم عليهم‌السلام بالخصوص ، فيكشف ذلك عن اشتراط العقد بالاذن الخاص ، فلا تشرع بدونه.

وهذه الدعوى كما ترى ، بل هي من الغرابة بمكان ، أما عصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فلا سبيل لنا إلى العلم بإقامة الجمعة في غير بلده صلى‌الله‌عليه‌وآله من سائر القرى والبلدان ، إذ لم ينقله التاريخ ولم يرد به النص ، وعلى‌

٣٢

تقدير الإقامة فلم يعلم اشتراطها بالاذن ونصب شخص لها بالخصوص ، فلا طريق لنا إلى استكشاف الحال واستعلام الوضع في ذلك العصر.

وأما زمن مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام فهو وإن كان ينصب الولاة والقضاة في أقطار البلاد ، وبطبيعة الحال كانوا هم المقيمين للجمعات إلا أنهم كانوا منصوبين لعامة الأُمور وكافة الشؤون ، وكان تصدّيهم للجمعة من مقتضيات مقامهم حسب ما يقتضيه التعارف الخارجي ، لا أنهم كانوا منصوبين بالخصوص لهذا الشأن ، وبين الأمرين بون بعيد.

وأما في عصر سائر المعصومين عليهم‌السلام فلم يثبت منهم النصب رأساً ولا في مورد واحد ، بل قد ثبت منهم الإذن على سبيل الإطلاق من دون تعيين شخص خاص كما تفصح عنه الأخبار المرخّصة لإقامتها في القرى إذا كان فيهم من يخطب لهم وغيرها (١) فدعوى استقرار السيرة مع عدم ثبوت النصب حتى في مورد واحد من غرائب الكلام.

الثالث : الأخبار الدالة على سقوط الصلاة عمّن بَعُد عن محل إقامتها بأزيد من فرسخين التي تقدمت الإشارة إليها (٢) فان المراد بها بيان حكم سكنة القرى والبلدان البعيدة عن البلد الذي تقام فيه الجمعة ، دون المسافرين وعابري السبيل ، للمقابلة بين العنوانين في تلك الأخبار وغيرها كما لا يخفى.

ومن الواضح أنه لا وجه لسقوط الوجوب المساوق لعدم المشروعية إلا اشتراط كون المقيم لها هو إمام الأصل أو نائبه الخاص غير المتحقق في تلك المحالّ ، وإلا فلولا هذا الاشتراط وكانت مشروعة على الإطلاق كان عليهم الاجتماع وإقامتها في أماكنهم ، إذ الغالب حصول سائر الشرائط من العدد ووجود مَن يخطب لهم ، ولا أقل من أداء مسمى الخطبة وأقل الواجب منها‌

__________________

(١) الوسائل ٧ : ٣٠٦ / أبواب صلاة الجمعة ب ٣.

(٢) في ص ٢٥.

٣٣

المتيسر لكل أحد ، لا سيما من يتمكن من إقامة الجماعة ، فمن عدم إيجابها عليهم عندئذ رأساً يستكشف اشتراط الاذن وعدم المشروعية بدونه.

والجواب : أنّ هذه الروايات المفصّلة بين من كان على رأس فرسخين ومن زاد عنهما ناظرة إلى وجوب الحضور وعدمه دون أصل الإقامة ، فيجب على الأوّلين السعي والحضور إلى المحلّ الذي تقام فيه الجمعة تعييناً أو تخييراً فيما إذا لم تجتمع شرائط العقد لدى مَن بَعُد عنها بثلاثة أميال كما هو مقتضى الجمع بين الأخبار.

وأما غيرهم فلا يجب عليهم ذلك ، لا أنها ساقطة عنهم رأساً وغير مشروعة منهم ، فلا نظر فيها إلى أصل وجوب الإقامة وعدمها كما نبّهنا عليه سابقاً ، بل مقتضى الإطلاق في بقية الأخبار شمول الوجوب لهم مع اجتماع الشرائط ، غايته تخييراً لا تعييناً كما تقدم.

الرابع : أن إيجاب مثل هذا الحكم في زمن الغيبة مثار للفتنة وموجب للهرج والمرج فلا يظن بالشارع الحكيم تشريعه ، فإن الإلزام باقتداء الكل خلف شخص واحد وإيكال تعيينه إليهم ، مع تأبّي النفوس عن الائتمام خلف من يراه مثله أو دونه في الأهلية ، وميل الطباع لاشغال ذاك المنصب وحيازته ، معرض للافتتان ، بل موجب لاختلال النظام ، لتشاحّ النفوس في طلب الرئاسة والتصدي لمقام الإمامة ، فربما يؤدي إلى التشاجر والنزاع بين المسلمين ، لانتصار أهل كل محلة لإمامها ، وقد ينجرّ إلى القتل كما اتفق في عصرنا الحاضر في بعض البلاد ، فلا بد وأن يكون التعيين بنظر الشارع وإذنه الخاص كي تنحسم به مادة النزاع.

وفيه أوّلاً : أن هذا التقرير على تسليمه فإنما يجدي لنفي التعيين لا أصل المشروعية ولو تخييراً ، فانّ الوجوب التخييري حيث لا إلزام فيه على سبيل الحتم والبتّ لوجود المندوحة ، فلا يتضمن الفتنة ، لإمكان التخلص منها باختيار العدل الآخر وهو صلاة الظهر.

٣٤

وثانياً : أن الفتنة ممنوعة من أصلها حتى على القول بالوجوب التعييني ، فإنّ من قدّم للإمامة إما أن يرى غيره أهليته لها لاستجماعه الشرائط أو لا ، فعلى الأول يجب عليه الائتمام ولا حزازة فيه ، وإن كان دونه في المقام فقد حثّ الشارع على التواضع ومجاهدة النفس ، وحذّر عن الأنانية والكِبَر ، وقد شاهدنا بعض زهّاد العصر يأتم خلفه جمّ غفير من الجهابذة والأساطين وهم أفقه منه وأعظم شأناً بمراتب غير قليلة.

وعلى الثاني : الجماعة باطلة بنظره ، فلم تنعقد جمعة صحيحة كي يجب السعي إليها والحضور فيها. هذا بناء على المختار احتياطاً من عدم الوجوب إلا بعد الانعقاد ، وكذا على القول بوجوب العقد ، فإنه يسقط عندئذ بناء على ما هو الأظهر من عدم جواز عقد جمعتين في بلد واحد حتى مع العلم ببطلان إحداهما ، فلم يكن هناك موجب للافتتان وباعث على الجدال والنزاع من ناحية إيجاب الجمعة في حدّ نفسه ، وأما البواعث الأُخر فهي أجنبية عن هذا التشريع كما لا يخفى ، فتدبر جيداً.

الوجه الخامس : ما رواه الصدوق في العيون (١) والعلل (٢) بسنده عن الفضل ابن شاذان عن الرضا عليه‌السلام في وجه صيرورة صلاة الجمعة ركعتين دون أربع ، وقد اشتمل الحديث على بيان علل شتى قد استشهد للمطلوب بفقرتين منها :

إحداهما : قوله عليه‌السلام : « لأن الصلاة مع الإمام أتم وأكمل ، لعلمه وفقهه وفضله وعدله » (٣) حيث يظهر منها أن الامام المقيم للجمعة يمتاز عنه في بقية الجماعات ، لاعتبار كونه عالماً فقيهاً فاضلاً عادلاً ، ولا شك في عدم اعتبار شي‌ء من هذه الصفات في أئمة الجماعات ما عدا الأخير ، فيعلم من ذلك عدم‌

__________________

(١) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ١١١ / ١.

(٢) علل الشرائع : ٢٦٤ / ٩.

(٣) الوسائل ٧ : ٣١٢ / أبواب صلاة الجمعة ب ٦ ح ٣.

٣٥

صلاحية كل أحد لإقامة الجمعة إلا من كان حاوياً لهذه الخصال ولا يكون إلا الإمام أو المنصوب الخاص.

ثانيتهما : قوله عليه‌السلام : « إنما جعلت الخطبة يوم الجمعة لأنّ الجمعة مشهد عام ، فأراد أن يكون للأمير كما عن العلل (١) للإمام كما عن العيون ، سبب إلى موعظتهم ، وترغيبهم في الطاعة وترهيبهم عن المعصية ، وتوقيفهم على ما أراد من مصلحة دينهم ودنياهم ، ويخبرهم بما ورد عليهم من الآفاق ومن الأهوال التي لهم فيها المضرة والمنفعة ، ولا يكون الصابر في الصلاة منفصلاً وليس بفاعل غيره ممن يؤم الناس في غير يوم الجمعة .. » إلخ (٢) والجملة الأخيرة أعني قوله : « وليس بفاعل ... » إلخ غير مذكورة في العيون كما نبّه عليه في الوسائل.

وكيف كان ، فالمستفاد من هذه الفقرة من الحديث أيضاً امتياز إمام الجمعة عن غيرها وعدم أهلية كل شخص لها ، بل يعتبر أن يكون المقيم من له خبرة بالأُمور واطلاع بأحوال البلاد ، وما يجري فيها من الحوادث ، كي يعلن للناس ما يرد عليه من الآفاق ، ويرشدهم إلى ما فيه صلاحهم وفسادهم ، ويوقفهم على ما يمسّهم من المضارّ والمنافع ، ويعظهم ويمنّيهم ويرغّبهم ويرهبهم ، ومَن هذا شأنه لا بد وأن تكون له السيطرة على الأُمور والتسلط على كافة الشؤون ، وليس هو إلا الإمام ( عليه الإمام ) أو المنصوب الخاص ، فليس لغيره التصدّي لهذا المقام.

والجواب : أن الامتياز المزبور مما لا مساغ لإنكاره ، غير أنه ليس لأجل اعتبار هذه الأُمور في إمام الجمعة شرعاً بحيث لا تنعقد مع الفاقد لها ، بل لأن طبع الحال يقتضي ذلك ، إذ بعد كون الجمعة مشهداً عظيماً يشترك فيه جميع المسلمين ، لانحصار عقدها في البلد ونواحيها إلى ما دون الفرسخين من كل‌

__________________

(١) [ بل الموجود في العلل للإمام ].

(٢) الوسائل ٧ : ٣٤٤ / أبواب صلاة الجمعة ب ٢٥ ح ٦.

٣٦

جانب في جمعة واحدة ، فلا محالة يتقدم الأصلح منهم ، الأفقه الأفضل الأعدل ، الخبير بأحوال المسلمين والبصير بشؤونهم ، كي يتمكن من أداء خطبة ينتفع منها جميع الحاضرين ، دون غير الأصلح المقتصر على مسمى الخطبة أو ما لا تتضمن مصالحهم ، فاتصاف الامام بهذه الصفات في مثل هذه الصلاة التي تمتاز عن صلاة بقية الأيام بما ذكر ، مما تقتضيه طبيعة الحال والجري الخارجي المتعارف بين المسلمين ، فهو اعتبار عرفي لا شرط شرعي ، وبين الأمرين بون بعيد.

هذا كله مع أن الرواية ضعيفة السند ، لضعف طريق الصدوق إلى الفضل بن شاذان ، فان في الطريق علي بن محمد بن قتيبة ولم يوثّق ، وعبد الواحد بن عبدوس النيشابوري العطار الذي هو شيخ الصدوق ولم يوثق أيضاً. نعم قد ترضّى عليه الصدوق عند ذكره فقال : رضي‌الله‌عنه (١) ، لكنه غير كاف في التوثيق كما لا يخفى.

السادس : موثقة سماعة قال : « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الصلاة يوم الجمعة ، فقال : أما مع الامام فركعتان ، وأما لمن صلى وحده فهي أربع ركعات وإن صلوا جماعة » (٢) هكذا رواها الشيخ (٣) والصدوق (٤) غير أنها في طريق الثاني خالية عن القيد الأخير أعني قوله « وإن صلوا جماعة ».

وكيف كان ، فهي كالنص في تغاير إمام الجمعة مع أئمة بقية الجماعات ، للتصريح بأنه مع فقد الإمام فهي أربع وإن صلّوا جماعة. فيظهر أن إمام الجماعة في بقية الصلوات غير مَن هو الإمام في صلاة الجمعة ، وأن من يقيمها ليس هو‌

__________________

(١) الفقيه ٤ ( المشيخة ) : ٥٤.

(٢) الوسائل ٧ : ٣١٤ / أبواب صلاة الجمعة ب ٦ ح ٨.

(٣) [ بل رواها مطابقة لمتن رواية الكليني الآتية ، لاحظ التهذيب ٣ : ١٩ / ٧٠ ].

(٤) الفقيه ١ : ٢٦٩ / ١٢٣٠.

٣٧

مطلق مَن يصلي بالناس جماعة ، وإنما هو شخص معيّن وليس إلا الإمام عليه‌السلام أو المنصوب بالخصوص.

والجواب عن ذلك يظهر من رواية الكليني (١) هذه بعين السند ، بحيث لا يحتمل تعدد الروايتين مع اختلاف يسير في المتن يكشف القناع عن هذا الإجمال ، قال : « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الصلاة يوم الجمعة ، فقال : أما مع الامام فركعتان ، وأما مَن يصلي وحده فهي أربع ركعات بمنزلة الظهر ، يعني إذا كان إمام يخطب ، فان لم يكن إمام يخطب فهي أربع ركعات وإن صلوا جماعة ». والظاهر أن التفسير من الراوي.

وعليه فالمراد بالإمام هو مَن يخطب ، أي يكون متهيئاً بالفعل لأداء الخطبة التي يتمكن من مسمّاها وأقل الواجب منها كل أحد كما مرّ غير مرة ، فلا دلالة فيها على اعتبار إمام خاص.

السابع : عدة روايات دلت على أن الجمعة من مناصب الامام عليه‌السلام كالخبر المروي عن دعائم الإسلام عن علي عليه‌السلام أنه « قال : لا يصلح الحكم ولا الحدود ولا الجمعة إلا للإمام أو من يقيمه الامام عليه‌السلام » (٢).

والمروي عن كتاب الأشعثيات مرسلاً « أن الجمعة والحكومة لإمام المسلمين » (٣).

والمرسل الآخر عنهم عليهم‌السلام : « إن الجمعة لنا والجماعة لشيعتنا » (٤) ونحوها غيرها.

__________________

(١) الوسائل ٧ : ٣١٠ / أبواب صلاة الجمعة ب ٥ ح ٣ ، الكافي ٣ : ٤٢١ / ٤.

(٢) دعائم الإسلام ١ : ١٨٢ وفيه : « لا يصلح الحكم ولا الحدود ولا الجمعة إلاّ بإمام ».

(٣) الموجود في النص هو « لا يصح الحكم ولا الحدود ولا الجمعة إلا بإمام » المستدرك ٦ : ١٣ / أبواب صلاة الجمعة وآدابها ب ٥ ح ٢ ، الأشعثيّات : ٤٣.

(٤) أورده في الجواهر ١١ : ١٥٨ نقلا عن رسالة ابن عصفور.

٣٨

والجواب : مضافاً إلى ضعف أسانيد الجميع بالإرسال ، أنّ غاية ما يستفاد منها كون الجمعة حقاً للإمام عليه‌السلام ومِن مناصبه بحسب الجعل الأوّلي ، فلا ينافي ذلك إذنهم عليهم‌السلام للشيعة وترخيصهم في إقامتها على سبيل الإطلاق كما ثبت في الحكم ونحوه ، وقد ثبت الاذن العام عنهم عليهم‌السلام في المقام بمقتضى الأخبار المتقدّمة الدالة على الوجوب التخييري التي منها ما دلت على الوجوب إذا كان هناك إمام يخطب.

ومن ذلك يظهر الجواب عما استدلوا به من قوله عليه‌السلام في الصحيفة السجادية في دعاء يوم الجمعة والأضحى : « اللهم إنّ هذا المقام لخلفائك وأصفيائك ومواضع أُمنائك في الدرجة الرفيعة التي اختصصتهم بها قد ابتزوها وأنت المقدّر لذلك إلى قوله عليه‌السلام حتى عاد صفوتك وخلفاؤك مغلوبين مقهورين مبتزين يرون حكمك مبدّلاً وكتابك منبوذاً .. » إلخ (١). فإن غايته أن هذا المقام أي إقامة الجمعة حق مختص بهم عليهم‌السلام فلا ينافي تفويضه لشيعتهم وترخيصهم في إقامتها من دون تعيين شخص خاص كما عرفت.

الثامن : الأخبار الواردة فيما إذا اجتمع عيد وجمعة المتضمنة لإذن الإمام عليه‌السلام في خطبة العيد للنائين بالرجوع إلى أماكنهم إن شاؤوا وعدم حضور الجمعة الكاشفة عن كون الإقامة حقاً مختصاً به عليه‌السلام وإلا فكيف يسوغ له الترخيص في ترك فريضة عينية إلهية ، وهل ذاك إلا كترخيصه في ترك صلاة الغداة مثلاً.

فمنها : صحيحة الحلبي « أنه سأل أبا عبد الله عليه‌السلام عن الفطر والأضحى إذا اجتمعا في يوم الجمعة ، فقال : اجتمعا في زمان علي عليه‌السلام ، فقال : من شاء أن يأتي إلى الجمعة فليأت ، ومن قعد فلا يضرّه‌

__________________

(١) الصحيفة السجادية : ٣٥١ / ١٥٠.

٣٩

وليصلّ الظهر ، وخطب خطبتين جمع فيهما خطبة العيد وخطبة الجمعة » (١).

وخبر سلمة عن أبي عبد الله عليه‌السلام « قال : اجتمع عيدان على عهد أمير المؤمنين عليه‌السلام فخطب الناس فقال : هذا يوم اجتمع فيه عيدان فمن أحب أن يجمع معنا فليفعل ، ومن لم يفعل فانّ له رخصة ، يعني من كان متنحياً » (٢).

ورواية إسحاق بن عمار عن جعفر عن أبيه عليه‌السلام « أن علي بن أبي طالب عليه‌السلام كان يقول : إذا اجتمع عيدان للناس في يوم واحد فإنه ينبغي للإمام أن يقول للناس في خطبته الاولى : إنه قد اجتمع لكم عيدان فأنا أُصليهما جميعاً ، فمن كان مكانه قاصياً فأحبّ أن ينصرف عن الآخر فقد أذنت له » (٣).

والجواب : أن شيئاً من هذه الروايات لا دلالة لها على المطلوب.

أما الصحيحة ، فلأنها بيان للحكم المجعول في الشريعة المقدسة على سبيل القضية الحقيقية ، وأنه مهما اجتمع عيدان فالمكلفون مخيّرون بين حضور الجمعة وتركها بترخيص ثابت من قبل الشارع الأقدس كما في سائر الاحكام ، لا أنه حق مختص بالإمام عليه‌السلام كي يكون الاذن المزبور مستنداً إليه كما لعلّه ظاهر.

وأما خبر سلمة ، فمخدوش لضعف السند أوّلاً ، فانّ في الطريق معلى بن محمد ولم يوثّق ، وكذا الحسين بن محمد ، وإن كان الظاهر أن المراد به الحسين بن محمد بن عامر بن عمران الثقة بقرينة روايته عن معلى بن محمد. وكيف كان فيكفي الأول في قدح السند لولا وقوعه في إسناد كامل الزيارات (٤).

__________________

(١) ، (٢) الوسائل ٧ : ٤٤٧ / أبواب صلاة العيد ب ١٥ ح ١ ، ٢.

(٣) الوسائل ٧ : ٤٤٨ / أبواب صلاة العيد ب ١٥ ح ٣.

(٤) وقد عدل ( قده ) عن ذلك أخيراً.

٤٠