موسوعة الإمام الخوئي

الشيخ مرتضى البروجردي

النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمة عليهم‌السلام أنهم كانوا يصلّون الظهرين عند المثل والمثلين ، وبعد ضم ذلك إلى ما هو المحكي عنهم عليهم‌السلام أيضاً من أنهم كانوا يوصلون النافلة بالفريضة ينتج اتساع الوقت وامتداده إلى المثل والمثلين تحفظاً على ما بينهما من التواصل.

وفيه أوّلاً : أن المواصلة المدعاة غير ثابتة ، ومن الجائز أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يصلي النافلة في داره عند الذراع أو الذراعين ثم يخرج إلى الفريضة عند المثل أو المثلين ، فالدعوى المزبورة غير بينة ولا مبينة.

وثانياً : أن المستفاد من جملة من الروايات التي منها نفس الصحيحة المتقدمة أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يصلي عند الذراع والذراعين بدلاً عن المثل والمثلين. إذن فلم يثبت شي‌ء من الدعويين المبني عليهما الاستدلال.

ثالثها : الإطلاقات المتضمنة للأمر بالنافلة من غير تقييد بالذراع أو الذراعين وهي على طائفتين.

إحداهما : ما تضمن تعدادها وأنها ثمان ركعات للظهر ، وثمان للعصر ، أو أنها أربع ركعات بعد الظهر ، وأربع قبل العصر حسب اختلاف ألسنتها.

ثانيتهما : النصوص المتضمنة أنه لا حدّ للنافلة إن شاء طوّل وإن شاء قصّر كصحيحة منصور وغيره « إذا زالت الشمس فقد دخل وقت الظهر إلا أن بين يديها سبحة وذلك إليك إن شئت طوّلت وإن شئت قصّرت » (١) ونحوها غيرها مما عقد لها في الوسائل باباً. فان مقتضى إطلاق الطائفتين امتداد الوقتين إلى المثل والمثلين.

وفيه أوّلاً : أنّ النصوص المزبورة بطائفتيها لم تكن بصدد البيان من ناحية الوقت بوجه لينعقد لها الإطلاق ، بل هي إما وردت لبيان تعداد النوافل أو لبيان وقت الفرائض ، وأنه بمجرد الزوال يدخل وقت الظهرين وأنه لا مانع من‌

__________________

(١) الوسائل ٤ : ١٣١ / أبواب المواقيت ب ٥ ح ١.

٢٤١

الشروع في الثانية إلا السبحة طالت أم قصرت ، وأما أنّ هذه السبحة متى ينتهي وقتها وأنه هل هو الذراع أو المثل أو غيرهما فلا نظر فيها إليه بوجه. ومعه كيف يمكن التمسك بالإطلاق في الجهة التي لم تكن الروايات بصدد البيان من تلك الجهة.

وثانياً : لو سلّم انعقاد الإطلاق كان مقتضاه اختيار القول الأخير ، أعني الامتداد إلى الغروب ، إذ هي كما لم تقيد بالذراع لم تقيد بالمثل أيضاً ، فما هو وجه التخصيص بالثاني لتكون دليلاً على القول الثاني.

وثالثاً : مع الغض عن كل ذلك فاللازم تقييد المطلقات بما ورد في جملة من الروايات من تحديد وقت النافلة بالذراع والذراعين كما في صحيحة زرارة المتقدمة حيث ورد فيها « ... فإذا بلغ فيؤك ذراعاً من الزوال ، بدأت بالفريضة وتركت النافلة ، وإذا بلغ فيؤك ذراعين بدأت بالفريضة وتركت النافلة » (١) عملاً بصناعة الإطلاق والتقييد ، فإن هذا القانون وإن لم يكن مطرداً في باب المستحبات ، بل يحمل القيد على أفضل الأفراد ، إلا أنا ذكرنا في محله أنه يستثني من ذلك مورد واحد ، وهو ما إذا كانا متخالفين من حيث النفي والإثبات كما في المقام ، حيث ورد الأمر بالنافلة وورد النهي عنها بعد الذراع والذراعين لقوله : « وتركت النافلة .. » إلخ ، فإن اللازم حينئذ حمل المطلق على المقيد كما بيناه في محله في الأُصول ، هذا.

ومما ذكرناه يظهر لك بطلان القول الثالث الذي هو خيرة المتن من امتداد الوقت الى الغروب ، حيث إنّ مستنده إما إطلاق النصوص على حذو ما تقدم في القول الثاني ، وقد عرفت ما فيه من عدم كونها بصدد البيان من هذه الجهة فلم ينعقد لها الإطلاق ، وعلى تقديره فهو مقيد بنصوص الذراع والذراعين.

وإما الروايات الناطقة بأن النافلة بمنزلة الهدية متى ما اتي بها قبلت سواء قدّمتها أم أخّرتها ، التي منها ما رواه الكليني بإسناده عن عمر بن يزيد عن‌

__________________

(١) تقدم المصدر في ص ٢٣٩.

٢٤٢

[١١٩٢] مسألة ٢ : المشهور عدم جواز تقديم نافلتي الظهر والعصر في غير يوم الجمعة على الزوال وإن علم بعدم التمكن من إتيانهما بعده ، لكن الأقوى جوازه فيهما خصوصاً في الصورة المذكورة (*) (١).

______________________________________________________

أبي عبد الله عليه‌السلام قال « قال : اعلم أن النافلة بمنزلة الهدية متى ما اتي بها قبلت » (١).

وفيه : مضافاً إلى ضعف سند جملة منها كدلالة بعض ما صح سنده كما سيأتي في المسألة الآتية ، أن مقتضاها الالتزام بعدم التوقيت في النوافل وأنها موسعة ليس لها وقت مقرر في الشريعة المقدسة ، فيجوز الإتيان بها قبل الزوال مثلاً حتى اختياراً ، وهذا شي‌ء لا يمكن الالتزام به إلا أن يراد بذلك جواز الإتيان بها قبل الوقت المقرر وبعده لأنها هدية ، وهذا أمر آخر غير التوسعة في الوقت كما لا يخفى. فهذا القول يتلو سابقه في الضعف.

إذن فما هو الأشهر أو المشهور من التحديد بالذراع أو الذراعين هو الصحيح الحقيق بالقبول (٢).

ويؤيده وضوحاً بل يدل عليه صريحاً : موثقة إسماعيل الجعفي عن أبي جعفر عليه‌السلام « قال : أتدري لِمَ جعل الذراع والذراعان؟ قال : قلت : لِمَ؟ قال لمكان الفريضة لئلا يؤخذ من وقت هذه ويدخل في وقت هذه » (٣) حيث دلت بوضوح على عدم امتداد وقت النافلتين إلى ما بعد الذراع والذراعين فضلاً عن المثل والمثلين وأنّ ما بعدهما مختص بالفريضة ، فجعل التحديد المزبور كي لا يؤخذ من وقت هذه ويدخل في تلك ، وهو كما ترى صريح في المطلوب.

(١) لا ينبغي التأمل في جواز تأخير نوافل الظهرين عن أوقاتها المعينة ،

__________________

(*) الأقوى اختصاص الجواز بهذه الصورة.

(١) الوسائل ٤ : ٢٣٢ / أبواب المواقيت ب ٣٧ ح ٣ ، الكافي ٣ : ٤٥٤ / ١٤.

(٢) ولكنه قدس‌سره في تعليقته الشريفة وافق الماتن وكذا في المنهاج.

(٣) الوسائل ٤ : ١٤٦ / أبواب المواقيت ب ٨ ح ٢١.

٢٤٣

للنصوص الخاصة الناطقة بجواز قضاء النوافل كالفرائض ، غايته أنه في الثانية واجب وفي الاولى مندوب كنفس الأداء ، بل قد فسّرت الآية الشريفة بذلك في موثقة عنبسة العابد ، قال : « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن قول الله عز وجل ( وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً ) قال : قضاء صلاة الليل بالنهار وصلاة النهار بالليل » (١) ولا شبهة في اتصافها بالقضاء بعد الغروب ، والظاهر أنها كذلك بعد الذراع والذراعين أيضاً.

وعلى أيّ حال فلا ينبغي الإشكال في المشروعية ولو في الجملة مع الغض عن إمكان انطباق عنوان آخر كالتطوع في وقت الفريضة فيما لو اتي بها بعد الذراعين قبل صلاة العصر بناءً على عدم جوازه في الصلاة ، كما لا يجوز في الصيام بلا كلام ، فان ذلك بحث آخر سوف يأتي في محله إن شاء الله تعالى.

وأما تقديمها على أوقاتها في غير يوم الجمعة فالمشهور كما في المتن عدم الجواز ، وذهب الشيخ إلى الجواز فيما لو علم من حاله بانشغاله بما يمنعه عن الإتيان بها في أوقاتها ، ومال جمع من متأخري المتأخرين إلى الجواز مطلقاً ، وإن كان التأخير أفضل ، ومنشأ الخلاف اختلاف الأخبار الواردة في المقام.

فقد دلت جملة منها وبعضها صحاح وإن كان أكثرها ضعيف السند على جواز التقديم على سبيل الإطلاق ، كصحيحة محمد بن عذافر قال : « قال أبو عبد الله عليه‌السلام : صلاة التطوع بمنزلة الهدية متى ما اتي بها قبلت ، فقدّم منها ما شئت وأخّر منها ما شئت » (٢) المؤيدة برواية القاسم بن الوليد الغساني ، ومرسلة علي بن الحكم ، ورواية عبد الأعلى وغيرها (٣).

ولكن الإطلاق في هذه الأخبار مقيد بصورة الاشتغال المانع عن الامتثال لدى الزوال بمقتضى صحيحة إسماعيل بن جابر قال : « قلت لأبي عبد الله ( عليه‌

__________________

(١) الوسائل ٤ : ٢٧٥ / أبواب المواقيت ب ٥٧ ح ٢.

(٢) الوسائل ٤ : ٢٣٣ / أبواب المواقيت ب ٣٧ ح ٨.

(٣) الوسائل ٤ : ٢٣٣ / أبواب المواقيت ب ٣٧ ح ٥ ، ٦ ، ٧.

٢٤٤

السلام ) : إني أشتغل ، قال : فاصنع كما تصنع ، صلّ ست ركعات إذا كانت الشمس في مثل موضعها من صلاة العصر ، يعني ارتفاع الضحى الأكبر ، واعتدّ بها من الزوال » (١).

حيث إن الظاهر أنّ قوله « فاصنع ... » إلخ بقرينة التصدير بالفاء جزاء لجملة شرطية مطوية في الكلام تقديرها : إنك إذا كنت كما وصفت من الاشتغال فاصنع ... إلخ فتدل طبعاً بمقتضى المفهوم على عدم جواز التقديم في فرض عدم الاشتغال بما يمنعه عن الإتيان بالنافلة في وقتها.

وتؤيد الصحيحة رواية ابن ضمرة الليثي عن محمد بن مسلم قال : « سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن الرجل يشتغل عن الزوال أيعجّل من أول النهار؟ قال : نعم إذا علم أنه يشتغل فيعجلها في صدر النهار كلّها » (٢) فإنها صريحة في المطلوب ، غير أنّ جهالة الراوي تمنع عن الاستدلال بها.

ويؤكدها ما هو المعلوم المبيّن من أن المعصومين عليهم‌السلام لم يكونوا يصلّون شيئاً من النوافل قبل الزوال ، فلو كان سائغاً لصدر منهم ولو مرّة واحدة. وهذا مضافاً إلى معلوميته في نفسه تدل عليه بعض الأخبار أيضاً :

منها : صحيحة عمر بن أُذينة عن عدة أنهم سمعوا أبا جعفر عليه‌السلام « يقول : كان أمير المؤمنين عليه‌السلام لا يصلي من النهار شيئاً حتى تزول الشمس ولا من الليل بعد ما يصلي العشاء الآخرة حتى ينتصف الليل » (٣).

ولا يخفى أنّ ظاهر عبارة الوسائل أنّ هذه الرواية مروية عن محمد بن يحيى لرجوع الضمير في قوله : « وعنه ... » إلخ إليه ، وليس كذلك بل يرجع إلى علي ابن إبراهيم المذكور قبل ذلك ، وفي عبارته تقديم وتأخير جزماً قد صدر سهواً‌

__________________

(١) الوسائل ٤ : ٢٣٢ / أبواب المواقيت ب ٣٧ ح ٤.

(٢) الوسائل ٤ : ٢٣١ / أبواب المواقيت ب ٣٧ ح ١.

(٣) الوسائل ٤ : ٢٣٠ / أبواب المواقيت ب ٣٦ ح ٥.

٢٤٥

[١١٩٣] مسألة ٣ : نافلة يوم الجمعة عشرون ركعة ، والأولى تفريقها بأن يأتي ستاً عند انبساط الشمس ، وستاً عند ارتفاعها ، وستاً قبل الزوال (١) ،

______________________________________________________

كما يتضح بمراجعة الكافي (١) والتهذيب (٢).

ومنها : موثقة زرارة قال : « سمعت أبا جعفر عليه‌السلام يقول : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لا يصلي من النهار شيئاً حتى تزول الشمس ، فاذا زال النهار قدر نصف إصبع صلى ثماني ركعات ... » (٣) الحديث.

وهي معتبرة السند وإن اشتمل على موسى بن بكر إذ هو ثقة على الأظهر لشهادة صفوان بأنّ كتابه مما لا يختلف فيه أصحابنا ، مضافاً إلى وقوعه في أسناد تفسير القمي كما نبّه عليه سيدنا الأُستاذ قدس‌سره في المعجم (٤).

والمتحصل من جميع ما تقدم : أنّ الأصح ما اختاره الشيخ من التفصيل بين من له شغل مانع فيجوز له التقديم ، وبين غيره فلا يجوز.

(١) تقدم الكلام حول نوافل يوم الجمعة في صدر الكتاب في فصل أعداد الفرائض والنوافل وعرفت أنّ نصوص المقام مختلفة ، ففي بعضها أنها عشرون ركعة ، وفي بعضها أنها اثنان وعشرون ، وفي بعضها أنها كسائر الأيام مع الاختلاف في كيفية الإتيان ، فهي مختلفة كماً وكيفاً ، وحيث إنّ أكثرها معتبر السند فيجوز الأخذ بكل منها.

وتحمل على الاختلاف في مراتب الفضل ، وبطبيعة الحال يكون اختيار الأكثر أفضل.

__________________

(١) الكافي ٣ : ٢٨٩ / ٧.

(٢) التهذيب ٢ : ٢٦٦ / ١٠٦٠.

(٣) الوسائل ٤ : ٢٣١ / أبواب المواقيت ب ٣٦ ح ٧.

(٤) معجم رجال الحديث ٢٠ : ٣١ / ١٢٧٦٧.

٢٤٦

وركعتين عنده (١).

[١١٩٤] مسألة ٤ : وقت نافلة المغرب من حين الفراغ من الفريضة إلى زوال الحمرة (*) المغربية (٢).

______________________________________________________

(١) أي عند الوقت الذي يترقب فيه الزوال من دون العلم بتحققه وإلا فتتقدم الفريضة عندئذ ، ففي صحيحة عبد الله بن سنان قال : « قال أبو عبد الله عليه‌السلام : إذا زالت الشمس يوم الجمعة فابدأ بالمكتوبة » (١).

وفي صحيحة حريز (٢) قال : سمعته يقول : « أما أنا إذا زالت الشمس يوم الجمعة بدأت بالفريضة وأخّرت الركعتين إذا لم أكن صليتهما » (٣).

(٢) اتفقت كلمات الأصحاب على أنّ مبدأ وقت نافلة المغرب هو بعد فريضته ، وإنما الكلام في منتهى الوقت.

فالمشهور أنه زوال الحمرة المغربية الذي هو مبدأ وقت الفضيلة لفريضة العشاء ، بل ادعى بعضهم الإجماع عليه.

ولكن جماعة منهم الشهيد في الذكرى (٤) وصاحب المدارك (٥) ، وكاشف اللثام (٦) ذهبوا إلى امتداد الوقت بامتداد وقت الفريضة ، نظراً إلى أنه لم يرد في المقام ما يدل على التحديد بذهاب الحمرة كما ورد في الظهرين من التحديد‌

__________________

(*) لا يبعد امتداد وقتها بامتداد وقت الفريضة ، والأولى الإتيان بها بعد زوال الحُمرة من دون تعرّض للأداء والقضاء.

(١) الوسائل ٧ : ٣١٩ / أبواب صلاة الجمعة ب ٨ ح ١٥.

(٢) الوسائل ٧ : ٣٢٠ / أبواب صلاة الجمعة ب ٨ ح ٢٠.

(٣) ولكنهما معارضتان بصحيحي الأشعري وابن أبي نصر وغيرهما ، ففي الأُولى « وركعتان بعد الزوال » ، وفي الثانية « وركعتان إذا زالت » الوسائل ٧ : ٣٢٣ / أبواب صلاة الجمعة ب ١١ ح ٥ ، ٦.

(٤) الذكرى ٢ : ٣٦٧.

(٥) المدارك ٣ : ٧٤.

(٦) كشف اللثام ٣ : ٥٧.

٢٤٧

بالذراع أو بالذراعين حسبما تقدم ، وعليه فيكون المتبع هو الإطلاقات بعد سلامتها عن التقييد ، هذا.

ويستدل للمشهور كما في الجواهر (١) بوجوه :

أحدها : أن ذلك هو المعهود من فعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والمعصومين عليهم‌السلام.

ويردّه : أنه إن أُريد من المعهودية الالتزام بذلك في مقام العمل فهو أعم من التحديد على وجه يكون قضاءً بعد ذلك ، ولعله لأجل اختيار ما هو الأفضل فلا ينهض لتقييد المطلقات ، وإن أُريد بذلك أنهم متى فاتتهم النافلة قبل ذهاب الحمرة كانوا يأتون بها قضاءً ، فهو قول بلا دليل لعدم السبيل إلى إثباته بوجه.

ثانيها : أن ذلك هو مقتضى الانسباق والانصراف من النصوص الآمرة بالإتيان بالنافلة بعد صلاة المغرب.

وفيه : أن دعوى الانصراف بمثابة يمنع عن التمسك بالمطلقات بعد زوال الحمرة ، ولا سيما مع اهتمام الشارع بالإتيان بها بقوله عليه‌السلام : « لا تدعهن في حضر ولا سفر » (٢) كما ترى فإنها عارية عن كل شاهد كما لا يخفى.

ثالثها : أن وقت المغرب مضيق ينتهي بذهاب الحمرة كما نطق به بعض النصوص ، فاذا كانت الفريضة مضيّقة فنافلتها أحرى بذلك وأولى.

وفيه أوّلاً : أنه إن أُريد من الضيق في تلك النصوص الضيق الحقيقي بمعنى فوات المغرب بذهاب الحمرة وصيرورتها قضاءً فلا يلتزم به لا صاحب الجواهر ولا غيره ، ولا ينبغي الالتزام به ، فان الضيق المزبور محمول على الأفضلية بلا ريب كما تقدم سابقاً.

وإن أُريد منه الضيق التنزيلي الادعائي بمعنى أن التأخير حيث يستوجب فوات الفضيلة الثابتة أول الوقت فهو بمثابة فوات أصل الصلاة مبالغة في‌

__________________

(١) الجواهر ٧ : ١٨٦.

(٢) الوسائل ٤ : ٨٦ / أبواب أعداد الفرائض ب ٢٤ ح ١.

٢٤٨

مرجوحيته وأفضلية التقديم ، فلا مانع إذن من الالتزام بمثله في النافلة أيضاً بمناط واحد ، ولا يلزم من ذلك التحديد المدعى كي لا يجوز الإتيان بها بعد ذهاب الحمرة.

وثانياً : قد تقدم سابقاً توجيه الضيق في هذه الروايات وأنها ناظرة إلى الضيق بلحاظ أول الوقت حيث لا نافلة قبل صلاة المغرب ، بخلاف سائر الفرائض فتكون طبعاً مضيقة من ناحية المبدأ وهو خارج عما هو محل الكلام من التحديد من ناحية المنتهي.

وثالثاً : لو تنازلنا وسلمنا دلالتها على الضيق الحقيقي من ناحية المنتهي فليت شعري أيّ تلازم بين الضيق في وقت الفريضة وبينه في وقت النافلة ، ومن الجائز أنّ الفريضة لمكان أهميتها ورفعة شأنها لوحظ فيها التضييق ، ولم تكن النافلة بهذه المثابة لتستوجب العناية ، ومن ثم ساغ تأخيرها عملاً بإطلاق أدلتها الكاشف عن التوسع في التطوع.

رابعها : ما ذكره المحقق قدس‌سره (١) ولعله أحسن ما قيل في المقام : من أن التأخير عن ذهاب الحمرة يستوجب التطوع في وقت الفريضة وهي صلاة العشاء ، حيث إنّ وقتها وإن دخل منذ الغروب مترتباً على صلاة المغرب كما في الظهرين ، لكن أفضلية التأخير إلى ذهاب الحمرة تسوّغ الاشتغال بالتطوع في في هذه الفترة من غير أيّة حزازة ، فلا مانع من الإتيان بالنافلة في هذه الحالة. أما بعد ذلك فلأجل أنه مأمور فعلاً بفريضة العشاء لفعلية أمرها من جميع الجهات حتى من ناحية وقت الفضيلة ، فالتلبس بالنافلة عندئذ تطوع في وقت الفريضة ، وهو منهي عنه في الروايات الكثيرة ، فالتحفظ عن الوقوع في هذا المحذور يستلزم المصير الى التحديد المزبور الذي عليه المشهور.

أقول : يرد عليه أوّلاً : أنه مبني على القول بحرمة التطوع في وقت الفريضة ، وأما بناءً على جوازه وإن كان مكروهاً كما هو الأصح فغايته مرجوحية‌

__________________

(١) المعتبر ٢ : ٥٣.

٢٤٩

الإتيان بالنافلة بعد ذهاب الحمرة لا محدودية الوقت بذلك وتقييد الإطلاقات كما هو المدعى.

وثانياً : أنه لا يتم حتى على القول بالحرمة أو البناء على ارتكاب التقييد في الإطلاقات وإن قلنا بالكراهة ، وذلك لأن محل الكلام هو تحديد الوقت في حدّ ذاته وبعنوانه الأولي ، وأما المنع بالعنوان الثانوي العارضي فهو أمر آخر لا ربط له بمحل البحث ، ضرورة وضوح الفرق بين انقضاء الوقت بسقوط الحمرة وبين عدم جواز النافلة لمكان المزاحمة.

وتظهر الثمرة فيما لو استحب تأخير الفريضة عن أول وقت الفضيلة إما لانتظار الجماعة أو لاستكمال الأذان أو لأمر آخر ، فاذا كان الفصل بين ذهاب الحمرة وبين انعقاد الجماعة مثلا الذي مبدؤه قول المقيم : قد قامت الصلاة ، بمقدار يسع للإتيان بالنافلة ، ساغ بعنوان الأداء على الثاني دون الأول.

خامسها : أن جملة من النصوص قد نطقت بأن المفيض من عرفات إذا صلى المغرب بالمزدلفة أخّر النافلة إلى ما بعد العشاء (١) ، بدعوى أنّ الوجه في هذا التأخير إنما هو انقضاء الوقت ، إذ لو كان ممتداً لوقعت في وقتها على التقديرين فما هو الموجب للتأخير.

ويندفع : بمنع ذلك ، ومن الجائز أن يكون الوجه في التأخير المزبور التحفظ عن التطوع في وقت الفريضة ، حيث إن الغالب وصول المفيض إلى المزدلفة بعد ذهاب الحمرة المغربية ، إذ المسافة بينها وبين عرفات ما يقارب الفرسخين فتستوعب من الوقت هذا المقدار بطبيعة الحال ، فلا جرم تقع النافلة في وقت فريضة العشاء لو قدّمها عليها.

ويكشف عما ذكرناه بوضوح : صحيحة أبان بن تغلب قال : « صليت خلف أبي عبد الله عليه‌السلام المغرب بالمزدلفة فقام فصلى المغرب ثم صلى العشاء الآخرة ولم يركع فيما بينهما ، ثم صليت خلفه بعد ذلك سنة فلما صلى المغرب قام‌

__________________

(١) الوسائل ١٤ : ١٤ / أبواب الوقوف بالمشعر ب ٦.

٢٥٠

[١١٩٥] مسألة ٥ : وقت نافلة العشاء وهي الوتيرة يمتد بامتداد وقتها (١).

______________________________________________________

فتنفّل بأربع ركعات » (١).

فإنها كما ترى صريحة في عدم فوات النافلة بذهاب الحمرة ، ومن ثم أتى بها قبل العشاء في السنة القادمة.

نعم ، ينبغي حمل ذلك على ما إذا كان ثمة مانع عن المبادرة إلى الفريضة كانتظار الجماعة ونحوه كي لا يكون من التطوع في وقت الفريضة.

والمتحصل : أنّ ما ذهب إليه المشهور من التحديد بما بعد ذهاب الحمرة لم ينهض عليه دليل يعوّل عليه بحيث يمنع عن التمسك بالإطلاقات المقتضية للامتداد إلى آخر وقت الفريضة ، فالعمل بها متعين.

(١) لا شبهة في أن مبدأ وقت الوتيرة هو ما بعد الفراغ من فريضة العشاء ، للنصوص الناطقة بذلك وأنها ركعتان بعد العتمة أو بعد العشاء الآخرة حسب اختلاف ألسنتها (٢).

وإنما الكلام في منتهى الوقت ، فالمعروف امتداده بامتداد وقت الفريضة من التحديد بمنتصف الليل أو طلوع الفجر على الخلاف في ذلك ، بل ظاهر المعتبر (٣) وصريح غيره دعوى الإجماع عليه ، استناداً إلى إطلاق البعدية الواردة في نصوص الباب.

ولكنه يظهر من صاحب الجواهر اعتبار البعدية العرفية قال ما لفظه : لكن قد يقال باعتبار البعدية العرفية ، لأنه المنساق بل والمعهود فلا يجوز صلاة العشاء مثلاً في أول الوقت وتأخير الوتيرة من غير اشتغال بالنافلة إلى النصف مثلاً أو إلى طلوع الفجر بناءً على امتداد الوقت إليه ... (٤).

__________________

(١) الوسائل ١٤ : ١٥ / أبواب الوقوف بالمشعر ب ٦ ح ٥.

(٢) راجع الوسائل ٤ : ٤٥ / أبواب أعداد الفرائض ب ١٣.

(٣) المعتبر ٢ : ٥٤.

(٤) الجواهر ٧ : ١٩١.

٢٥١

وفيه : أنّ دعوى الانسباق والانصراف وإن لم تكن بعيدة بالنسبة إلى النصوص المشتملة على التحديد بالبعدية إلاّ أنّ هناك نصوصاً أُخر مطلقة من هذه الجهة ، جعل العبرة فيها بالبيتوتة كصحيحة زرارة قال : « قال أبو جعفر عليه‌السلام : من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يبيتنّ إلا بوتر » (١) بعد تفسير الوتر بالوتيرة في النصوص الأُخر ، فإنه لا سبيل لدعوى الانصراف في هذه الأخبار كما هو واضح ، ومقتضى إطلاقها هو القول بالامتداد كما عليه المشهور.

نعم ، لا يبعد القول بانتهاء الوقت بانتصاف الليل وإن بنينا على امتداد وقت الفريضة إلى الطلوع و[ يدل على ] ذلك :

أوّلاً : التعبير بالبيتوتة في هذه الأخبار ، حيث إن المتعارف بين عامة الناس المنام (٢) قبل انتصاف الليل ، ومن البيّن أنّ استحباب البيتوتة بالوتر منزّل على ما هو الغالب المتعارف من الإتيان قبل هذا الوقت ، فلو ترك ونام قبل الانتصاف ثم استيقظ بعده فقد صدق أنه بات بغير وتر.

وثانياً : النصوص الواردة في المبيت بمنى في ليالي التشريق المتضمنة لتحديده بمنتصف الليل ، حيث يستفاد منها أن هذا هو حد البيتوتة (٣) من غير اختصاص بمورد دون مورد. إذن فلا بد من الإتيان بالوتيرة قبل الانتصاف كي لا يصدق أنه بات من غير وتر.

__________________

(١) الوسائل ٤ : ٩٤ / أبواب أعداد الفرائض ب ٢٩ ح ١.

(٢) لا دخل للمنام في صدق البيتوتة ، فان معناها الكون في الليل وإن لم ينم أصلاً. قال في أقرب الموارد [ ١ : ٦٩ ] بات في المكان نزل وقضى الليل فيه ، وفي موضع آخر : أدركه الليل نام أم لم ينم قال ومن قال بات فلان إذا نام فقد أخطأ.

(٣) لكن صحيحة معاوية بن عمار صريحة في التعبير عما بعد النصف بالبيتوتة قال عليه‌السلام : « ... وإن خرجت بعد نصف الليل فلا يضرّك أن تبيت في غير منى » الوسائل ١٤ : ٢٥١ / أبواب العود إلى منى ب ١ ح ١. ومنه يظهر سعة الإطلاق وعدم التحديد بالنصف في صدق المفهوم وإن كان بعض الأحكام مختصاً به.

٢٥٢

والأولى كونها عقيبها من غير فصل معتد به (١) وإذا أراد فعل بعض الصلوات الموظّفة في بعض الليالي بعد العشاء جعل الوتيرة خاتمتها (٢).

______________________________________________________

وثالثاً : النصوص الناطقة بأنّ الوتيرة بدل الوتر ، وأن هذه الصلاة إنما شرعت مخافة غلبة النوم وفوات صلاة الليل ، فجعل هذه بدلاً عن احتمال فواتها ، وكأنّ الآتي بها آتٍ بصلاة الوتر في وقتها ومن ثم سميت بالوتيرة ، وحيث إن من الواضح أنّ مبدأ صلاة الليل هو ما بعد الانتصاف لغير المعذور فلا جرم يكون غاية لوقت الوتيرة أيضاً حذراً عن الجمع بين البدل والمبدل منه ، فإنه مع التمكن من صلاة الوتر نفسها لا تصل النوبة إلى بدلها ، فقضية البدلية تستوجب التحديد بالانتصاف بطبيعة الحال فلاحظ.

(١) رعاية للبعدية العرفية التي مرّ الكلام عليها.

(٢) هذا التأخير وإن ذكره جماعة من الأصحاب لكنه عارٍ عن الدليل ، إذ يستدل له تارة بما في ذيل صحيحة زرارة : « ... وليكن آخر صلاتك وتر ليلتك » (١).

ويردّه : أنها مسوقة لبيان تأخر صلاة الوتر عن نوافل الليل والشفع كما يكشف عنه إضافة الوتر إلى الليل ، فانّ وتر الليل هي وتر صلاته ولا ربط لها بالوتيرة التي هي محل الكلام.

واخرى : بأنّ المنساق مما ورد في النصوص الكثيرة من قوله عليه‌السلام « ... فلا يبيتنّ إلا بوتر » (٢) أنّ ظرف الوتيرة إنما هو قبيل المنام والإيواء إلى الفراش ، فلا جرم تكون خاتمة الصلوات.

وفيه : أنّ التعبير المزبور نظير قوله : « لا صلاة إلا بطهور » لا يدل على أكثر من اعتبار المسبوقية ، ولا إشعار فيها فضلاً عن الدلالة على اعتبار الموصولية ،

__________________

(١) الوسائل ٨ : ١٦٦ / أبواب بقية الصلوات المندوبة ب ٤٢ ح ٥.

(٢) الوسائل ٤ : ٩٤ / أبواب أعداد الفرائض ب ٢٩ ح ١.

٢٥٣

[١١٩٦] مسألة ٦ : وقت نافلة الصبح بين الفجر الأول وطلوع الحمرة المشرقية (١).

______________________________________________________

فلو أتى بالفريضة أول وقتها وعقّبها بالوتيرة ثم نام (١) حوالي منتصف الليل صدق أنه بات مع الوتيرة بالضرورة وإن تحقق بينهما الفصل الطويل.

وبالجملة : فالمقالة المزبورة عارية عن الدليل ، وإن كان الأولى رعايتها ولو لأجل فتوى هؤلاء الإعلام بها.

(١) ينبغي التكلم في وقت نافلة الفجر تارة من حيث المبدأ وأُخرى من ناحية المنتهي ، فهنا مقامان :

أما المقام الأول : فلا ينبغي الإشكال في جواز الإتيان بها قبل طلوع الفجر على سبيل الدسّ في صلاة الليل ، للتصريح بذلك في جملة من النصوص التي منها صحيح البزنطي قال : « قلت لأبي الحسن عليه‌السلام : ركعتي الفجر أُصلّيهما قبل الفجر أو بعد الفجر؟ فقال : قال أبو جعفر عليه‌السلام : احشُ بهما صلاة الليل وصلّهما قبل الفجر » (٢).

وصحيح زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : « سألته عن ركعتي الفجر قبل الفجر أو بعد الفجر ، فقال : قبل الفجر إنهما من صلاة الليل ، ثلاث عشرة ركعة صلاة الليل » (٣) ونحوهما غيرهما.

كما لا ينبغي الإشكال في جواز الإتيان بها بعد طلوع الفجر إلى ما قبل طلوع الحمرة المشرقية ، لجملة أُخرى من النصوص التي منها صحيحة علي بن يقطين قال : « سألت أبا الحسن عليه‌السلام عن الرجل لا يصلي الغداة حتى يسفر وتظهر الحمرة ولم يركع ركعتي الفجر ، أيركعهما أو يؤخرهما؟ قال :

__________________

(١) قد عرفت عدم أخذ النوم في مفهوم البيتوتة.

(٢) الوسائل ٤ : ٢٦٥ / أبواب المواقيت ب ٥٠ / ح ٦.

(٣) الوسائل ٤ : ٢٦٤ / أبواب المواقيت ب ٥٠ ح ٣.

٢٥٤

يؤخرهما » (١) لدلالتها على مركوزية جواز الإتيان بها قبل ظهور الحمرة في ذهن السائل وكونه أمراً مفروغاً عنه ، ومن ثم خص السؤال بما بعد الظهور ، وقد أقرّ الإمام عليه‌السلام ما كان مرتكزاً ومغروساً عنده ، وسوف يأتي مزيد بحث حول هاتين الصورتين عند تعرض الماتن لهما.

وإنما الكلام في صورة ثالثة وهي الإتيان بها قبل طلوع الفجر من غير الاتصاف بعنوان الدسّ ، بأن يقتصر عليها خالية عن الاقتران بصلاة الليل ، سواء لم يأت بها أصلاً ، أو أتى بها مع فصل طويل مانع عن الصدق المزبور.

ظاهر التحديد بطلوع الفجر في كلمات من حدد الوقت به ، عدم الجواز لكونه من الصلاة قبل الوقت ، خرجنا عنه في صورة الدس بالنص ولا سبيل للتعدي عنه.

غير أنّ بعضهم ومنهم صاحب الوسائل صرّح بالجواز حيث أخذه في عنوان بابه فقال في الباب الخمسين من أبواب المواقيت ما لفظه : باب استحباب تقديم ركعتي الفجر على طلوعه بعد صلاة الليل بل مطلقاً (٢).

والذي ينبغي أن يقال : إن الإتيان بها قبل طلوع الفجر بفاصل كثير مانع عن إضافتها إليه لم ينهض أيّ دليل على مشروعيته ، إذ المأتي به بعد منتصف الليل أو في الثلث الأخير منه كيف تتصف بنافلة الفجر وتعنون بهذا الاسم ، بل تسميتها حينئذ بنافلة الليل أحرى وأولى كما لا يخفى ، فنفس هذه التسمية كافية في الدلالة على عدم المشروعية ، ولزوم الإتيان بها في زمان صالح للإضافة وقابل لتلك التسمية ، بأن يؤتى بها مقارناً للطلوع أو بعده أو قبيله بشي‌ء قليل. وتؤيده رواية محمد بن مسلم قال : « سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن أول وقت ركعتي الفجر ، فقال : سدس الليل الباقي » (٣) فان السدس الباقي‌

__________________

(١) الوسائل ٤ : ٢٦٦ / أبواب المواقيت ب ٥١ ح ١.

(٢) الوسائل ٤ : ٢٦٣ / أبواب المواقيت ب ٥٠.

(٣) الوسائل ٤ : ٢٦٥ / أبواب المواقيت ب ٥٠ ح ٥.

٢٥٥

ينطبق على ما بين الطلوعين مع شي‌ء قليل قبله ، بناءً على ما هو الصواب من أنّ الليل اسم لما بين غروب الشمس وطلوعها. نعم إن الرواية ضعيفة السند بمحمد بن حمزة بن بيض فلا تصلح إلا للتأييد.

وأما الإتيان بها قبل الطلوع بشي‌ء يسير وفي زمان قريب فالظاهر جوازه ، لدلالة جملة من النصوص عليه التي منها صحيحة زرارة قال : « قلت لأبي جعفر عليه‌السلام : الركعتان اللتان قبل الغداة أين موضعهما؟ فقال : قبل طلوع الفجر ، فاذا طلع الفجر فقد دخل وقت الغداة » (١) ، بل لعل ظاهر هذه أفضلية التقديم حذراً عن التطوع في وقت الفريضة.

ولكن بإزائها صحيحتان تضمنتا الأمر بالإتيان بعد طلوع الفجر.

إحداهما : صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج قال : « قال أبو عبد الله عليه‌السلام صلّهما بعد ما يطلع الفجر » (٢).

وثانيتهما : صحيحة يعقوب بن سالم البزاز قال : « قال أبو عبد الله عليه‌السلام صلّهما بعد الفجر ، واقرأ فيهما في الأُولى قل يا أيها الكافرون ، وفي الثانية قل هو الله أحد » (٣).

فربما يتوهم أنهما تعارضان ما سبق ، وليس كذلك.

أما أوّلاً : فلعدم وضوح ورودهما في نافلة الفجر ، إذ لم يذكر مرجع الضمير ، والرجوع إليها غير بيّن ولا مبين ، ولم يقم عليه أيّ دليل ما عدا فهم الشيخ (٤) وغيره من أرباب الحديث والتأليف حيث فهموا ذلك ، ومن ثم أدرجوها في باب النافلة ، ومن الجائز أن تكون ناظرة إلى الفريضة نفسها. ومعه لا تعارض بينهما بوجه.

وثانياً : سلّمنا ورودهما في النافلة ، لكن صحيحة زرارة صريحة الدلالة في‌

__________________

(١) الوسائل ٤ : ٢٦٥ / أبواب المواقيت ب ٥٠ ح ٧.

(٢) ، (٣) الوسائل ٤ : ٢٦٧ / أبواب المواقيت ب ٥١ ح ٥ ، ٦.

(٤) التهذيب ٢ : ١٣٤ / ٥٢٣ ، ٥٢١.

٢٥٦

جواز التقديم ، بل أفضليته كما سمعت ، والصحيحتان ظاهرتان في التحديد ، ومقتضى الصناعة رفع اليد عن هذا الظهور بتلك الصراحة والحمل على بيان مجرد الترخيص كما هو الشأن في مقام الجمع (١) بين الظاهر والنص.

وثالثاً : مع الغض وتسليم استقرار المعارضة فلا مناص من ترجيح الصحيحة ، لأجل مخالفتها للعامة حيث إنهم يرون تحديد الوقت بما بعد الفجر ولا يجوّزون التقديم عليه ، فتحمل الصحيحتان على التقية.

وتؤيده رواية أبي بصير قال : « قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : متى أُصلي ركعتي الفجر؟ قال فقال لي : بعد طلوع الفجر ، قلت له : إن أبا جعفر عليه‌السلام أمرني أن أُصلّيهما قبل طلوع الفجر ، فقال : يا أبا محمد إن الشيعة أتوا أبي مسترشدين فأفتاهم بمرّ الحقّ ، وأتوني شكاكاً فأفتيتهم بالتقية » (٢).

فإنها صريحة في أنّ الصحيحتين الصادرتين عن الصادق عليه‌السلام محمولتان على التقية ، وأن صحيحة زرارة الصادرة عن الباقر عليه‌السلام هي المسوقة لبيان الحكم الواقعي. لكنها ضعيفة السند لمكان علي بن أبي حمزة البطائني فإنه ضعيف على الأظهر ، وإن كان المتراءى من عبارة الشيخ في العُدّة وثاقته (٣) ، فإنه لا أصل له (٤) كما بيّناه في محله ، ومن ثم لا تصلح إلا للتأييد ، هذا.

ومما يدل على جواز التقديم جملة من الصحاح دلت على جواز الإتيان بها‌

__________________

(١) مناط الجمع العرفي على ما تكرر منه قدس‌سره في غير موضع إمكان الجمع بين الدليلين في كلام واحد من غير تهافت ، وهذا الضابط غير منطبق على المقام ، بداهة التنافي بين الصدر والذيل في نظر العرف لو عرضت عليهم مثل هذه العبارة « موضعهما قبل الفجر » و « صلهما بعد الفجر » وإنما يتجه الحمل على مجرد الترخيص الذي أُفيد في المتن فيما إذا كان الثاني بلسان لا بأس ، أو وارداً موقع توهم الحظر ، فهذا الجواب غير واضح.

(٢) الوسائل ٤ : ٢٦٤ / أبواب المواقيت ب ٥٠ ح ٢.

(٣) العدة ١ : ٥٦ السطر ١٨.

(٤) بل له أصل كما اعترف به في المعجم ١٢ : ٢٤٦ / ٧٨٤٦ ولكنّه معارض بتضعيف ابن فضال.

٢٥٧

قبل الفجر وبعده وعنده ، وقد عقد لها في الوسائل باباً مستقلا ، كصحيحة محمد ابن مسلم قال : « سمعت أبا جعفر عليه‌السلام يقول : صلّ ركعتي الفجر قبل الفجر وبعده وعنده ». ونحوها صحيحته الأُخرى ، وصحيحة ابن ابي يعفور (١) وغيرها.

نعم ، لا إطلاق للقبلية بحيث يعم الفصل الطويل ، لمنافاته مع المحافظة على الإضافة اللازم رعايتها ، فهي ناظرة إلى ما قبل الفجر بمقدار يسير بحيث يصدق معه عنوان التسمية بنافلة الفجر كما سبق.

وأما المقام الثاني : فالمشهور انتهاء الوقت بظهور الحمرة المشرقية فلا يؤتى بها بعد ذلك ، بل تؤخّر عن الفريضة كما نطقت به صريحاً صحيحة علي بن يقطين قال : « سألت أبا الحسن عليه‌السلام عن الرجل لا يصلي الغداة حتى يسفر وتظهر الحمرة ولم يركع ركعتي الفجر ، أيركعهما أو يؤخرهما؟ قال : يؤخرهما » (٢).

وما ذكروه هو الصحيح ، لما أسلفناك من أن نفس إضافة الركعتين إلى الفجر يستدعي الإتيان بهما في وقت تتحفظ فيه الإضافة وتتحقق التسمية ، بأن يؤتى بهما عند الفجر أو قبيله أو بعيدة ، من غير فصل طويل في أيّ من الطرفين ، غايته أنا استفدنا من الصحيحة المزبورة بمقتضى تقرير الارتكاز جواز الإتيان إلى ما قبل ظهور الحمرة ، حيث كان ذاك مركوزاً في ذهن السائل كما سبق ، وأما الزائد على ذلك فلا دليل على مشروعيته ، بل إن نفس الصحيحة تدل على عدمها بمقتضى النهي المستفاد من قوله عليه‌السلام : « يؤخرهما » الكاشف عن انقطاع الأمر عند بلوغ هذا الحد بحيث لو كانت ثمة رواية دلت بإطلاقها على بقاء الأمر إلى حين طلوع الشمس يجب تقييدها بهذه الصحيحة.

__________________

(١) الوسائل ٤ : ٢٦٨ / أبواب المواقيت ب ٥٢ ح ١ ، ٣ ، ٢.

(٢) الوسائل ٤ : ٢٦٦ / أبواب المواقيت ب ٥١ ح ١.

٢٥٨

والحاصل : أن الدليل على عدم المشروعية بعد ظهور الحمرة قصور المقتضي أوّلاً ، لما عرفت من انقطاع الإضافة. وصحيحة ابن يقطين ثانياً ، فما عليه المشهور هو المتعين.

أجل ، قد يتوهم معارضتها بصحيحة الحسين بن أبي العلاء قال : « قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : الرجل يقوم وقد نوّر بالغداة ، قال : فليصلّ السجدتين اللتين قبل الغداة ، ثم ليصل الغداة » (١) ، نظراً إلى أنّ تنوّر الغداة ملازم لظهور الحمرة ، وقد دلت هذه على تقديم الركعتين وتلك على التأخير فيتعارضان.

ويندفع : بعدم الملازمة ، بل التنوير أعم ، لكونه أسبق من الظهور المزبور فيتحقق النور ولا حمرة ، إذن فمقتضى الصناعة تقييد الثانية بالأُولى والالتزام بأنه لدى تنوّر الغداة تتقدم النافلة ما لم تظهر الحمرة وإلا تتأخر ، فلا معارضة بينهما بوجه.

وأما المناقشة في سند الأخيرة باشتماله على القاسم بن محمد الجوهري ولا توثيق له ، فمدفوعة بوجوده في أسناد كامل الزيارات (٢).

كما أنّ توهم معارضتها في موردها بما رواه إسحاق بن عمار عمّن أخبره عنه عليه‌السلام قال : « صلّ الركعتين ما بينك وبين أن يكون الضوء حذاء رأسك ، فإن كان بعد ذلك فابدأ بالفجر » (٣) حيث إن كون الضوء حذاء الرأس مساوق لتنوير الغداة لو لم يكن أسبق منه ، وقد دلت هذه على البدأة حينئذ بالفريضة وتلك بالنافلة.

مدفوع : بضعفها سنداً للإرسال ، ولاشتمال السند على محمد بن سنان فلا تنهض للمعارضة.

__________________

(١) ، (٣) الوسائل ٤ : ٢٦٧ / أبواب المواقيت ب ٥١ ح ٤ ، ٧.

(٢) حسب الرأي السابق المعدول عنه.

٢٥٩

ثم إنه حكي عن الشهيد في الذكرى (١) الاستدلال على امتداد الوقت إلى طلوع الشمس بصحيحة سليمان بن خالد قال : « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الركعتين قبل الفجر ، قال : تركعهما حين تنزل ( تترك ) الغداة أنهما قبل الغداة » (٢).

وفيه : أن الصحيحة مضطربة ، فان متنها قد نقل بوجوه عديدة.

١ « تركعهما حين تنزل الغداة ». ٢ « تركعهما حين تترك الغداة ». ٣ « تتركهما حين تترك الغداة ». ٤ « تركعهما حين تنوّر الغداة ». ٥ « تركعهما حين تركع الغداة » إلى غير ذلك من النسخ المحكية. والاستدلال المزبور إنما يستقيم بناءً على النسخة الأخيرة أو الثالثة ، لدلالتها حينئذ على اتحاد الوقتين فيستمر وقت النافلة باستمرار وقت الفريضة الممتد إلى طلوع الشمس ، كما أن وقت تركها هو وقت ترك الفريضة ، وأما على بقية النسخ فلا دلالة لها على ذلك بوجه كما هو واضح ، وحيث إنّ شيئاً من تينك النسختين لم يثبت فلا مجال للاستدلال بها.

ثم لا يخفى أنّ المستفاد من تخصيص مورد السؤال في صحيحة علي بن يقطين بمن لم يصل حتى أسفر واحمرّ ، مغروسية جواز التقديم لو صلى قبل ذلك ، فتدل بمقتضى التقرير على الجواز حتى في صورة مزاحمة النافلة لوقت فضيلة الفريضة وتقديمها عليها لدى الدوران ، كما لو لم يبق إلى ظهور الحمرة التي هي منتهى وقت الفضيلة لصلاة الغداة إلا مقدار ركعتين ، بحيث لو صرفهما في النافلة يفوت عنه وقت الفضيلة ، فإنّ مقتضى إطلاق الصحيحة جواز ذلك ولا بدع في ذلك ، كما لا وقع لاستيحاش بعضهم من ذلك بعد مساعدة الدليل ، غاية الأمر ارتكاب التقييد في إطلاق ما دل على أن النافلة لا تزاحم فضيلة الفريضة الذي ليس هو بعزيز في الفقه ، فانا نتابع [ في ] استنباط الأحكام مدى دلالة‌

__________________

(١) الذكرى ٢ : ٣٧٩.

(٢) الوسائل ٤ : ٢٦٦ / أبواب المواقيت ب ٥١ ح ٢.

٢٦٠