موسوعة الإمام الخوئي

الشيخ مرتضى البروجردي

ويجب استقبال عينها لا المسجد أو الحرم ولو للبعيد (١).

______________________________________________________

حرمتهم. إلا أن ذلك لا يستلزم كون الحجر من البيت ، لعدم الملازمة بين الأمرين كما هو ظاهر.

هذا ولكن العلامة في النهاية والتذكرة (١) ، وكذا الشهيد في الذكرى (٢) قد صرّحا بكون الحجر من البيت فيجوز استقباله ، ناسبين ذلك إلى الأصحاب. قال الأول : يجوز استقباله أي الحجر لأنه عندنا من الكعبة. وقال في الذكرى : إن ظاهر الأصحاب أن الحجر من الكعبة بأسره ، ثم استشهد لذلك بالنقل المتضمن أنه كان منها في زمن إبراهيم وإسماعيل إلى أن بنت قريش الكعبة فأعوزتهم الآلات فاختصروها بحذفه ، وكذلك كان في عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ونقل عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله الاهتمام بإدخاله في بناء الكعبة ، وبذلك احتج ابن الزبير حيث أدخله فيها ، ثم أخرجه الحجاج بعده ورده إلى ما كان.

وما أفاداه من نسبة ذلك إلى الأصحاب مع عدم وجود القول به صريحاً من أحد منهم ، بل قد عرفت تصريح الأكثر بالخلاف غريب جدّاً. وأغرب من ذلك الاستشهاد بالنقل مع أنه لم يرد ذلك من طرقنا ولا في رواية ضعيفة كما اعترف به غير واحد من الأعلام ، وإنما هو منقول في كتب العامة ومرويّ بطرقهم. وليت شعري كيف خفي عليهما ذلك مع أنهما من أساطين الفن ومهرته وأركان العلم وحملته.

(١) المعروف والمشهور بين الأصحاب أن القبلة هي الكعبة بعينها للقريب والبعيد ، وصرّح غير واحد بل نسب إلى الأكثر أنها عيناً قبلة للقريب وجهة للبعيد ، وسيأتي الكلام حول اعتبار الجهة والمراد منها.

__________________

(١) نهاية الإحكام ١ : ٣٩٢ ، لاحظ التذكرة ٨ : ٩١ وحكاه عنه في المستند ٤ : ١٦١.

(٢) الذكرى ٣ : ١٦٩.

٤٢١

وعلى أي حال فالمشهور أن الكعبة بنفسها إما عيناً أو جهة هي القبلة لكافة المسلمين في جميع الأقطار من القريبين والبعيدين ، وقد نطقت بذلك جملة وافرة من الأخبار المتضمنة لقصة تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة وغيرها المذكورة في الوسائل في الباب الثاني من أبواب القبلة فراجع (١).

وحكي عن الشيخين (٢) وجماعة من القدماء التفصيل بلحاظ الأمكنة من حيث القرب والبعد ، فالكعبة قبلة لمن كان في المسجد ، والمسجد لمن كان في الحرم ، والحرم لمن خرج عنه ، فليست القبلة منحصرة في الكعبة ، بل تختلف حسب مراتب البعد ، واختاره المحقق في الشرائع (٣) صريحاً ، بل في الذكرى (٤) نسبته إلى أكثر الأصحاب ، وعن الخلاف (٥) دعوى الإجماع عليه ، وقد استشهدوا لذلك بجملة من النصوص.

أقول : إن أراد هؤلاء من التفصيل المزبور أن القبلة متعددة واقعاً وأنها في حدّ ذاتها غير منحصرة في الكعبة ، بحيث إن من كان خارجاً عن المسجد يجوز له الاتجاه نحو ضلع من أضلاعه حتى مع القطع بانحرافه عن البيت ، ومن كان خارجاً عن الحرم يكفيه استقبال جزء منه وإن لم يستقبل المسجد ولا البيت ، فالوظيفة المقررة في هذه الموارد مختلفة حتى واقعاً. فلا ريب أن هذا مقطوع العدم ، بل هو مخالف لضرورة الدين ومنافٍ لإجماع المسلمين ، بداهة أن كون الكعبة هي القبلة وانحصارها فيها للقريب والنائي من الوضوح لدى المسلمين بمثابة النار على المنار ، يعرفه العوام فضلاً عن الخواص ، بل‌

__________________

(١) الوسائل ٤ : ٢٩٧ / أبواب القبلة ب ٢.

(٢) المفيد في المقنعة : ٩٥ ، الطوسي في المبسوط ١ : ٧٧.

(٣) الشرائع ١ : ٧٧.

(٤) الذكرى ٣ : ١٥٩.

(٥) الخلاف ١ : ٢٩٥ مسألة ٤١.

٤٢٢

يعرفه كما في الجواهر (١) الخارج عن الإسلام فضلاً عن أهله ، وفي حاشية المدارك (٢) أن ذلك من ضروريات الدين والمذهب حتى أن الإقرار به يلقّن الأموات فضلاً عن الأحياء كالإقرار بالله تعالى.

وقد عرفت آنفاً أن الروايات الدالة على ذلك كثيرة جدّاً بحيث لو فرض ورود رواية على خلافها وكانت صحيحة السند صريحة الدلالة لم تنهض لمقاومة تلكم الأخبار ولم تصلح لمعارضتها ، بل وجب تأويلها أو طرحها ورد علمها إلى أهله. كيف والروايات المخالفة كلها ضعيفة السند كما ستعرف.

وإن أرادوا بذلك الاتساع في القبلة بالإضافة إلى البعيدين مع كونها منحصرة بحسب الواقع في شي‌ء واحد وهي الكعبة في حق الجميع غير أن الاتجاه نحوها يختلف بحسب القرب والبعد ، فمن في المسجد يتوجه إلى الكعبة بعينها ، وأما من في خارج المسجد فالاتجاه إلى الكعبة بالنسبة إليه يتحقق بالتوجه إلى جزء من المسجد ، كما أن من هو في خارج الحرم يكون اتجاهه إلى الكعبة بالتوجه إلى الحرم وهذا من شؤون البعد ، وإلا فقبلة الجميع هي الكعبة ليس إلا. فهذا يرجع في الحقيقة إلى القول الأول وليس قولاً آخر في قباله ، إذ لا يدعي المفصل المزبور الاجتزاء بالاتجاه إلى جزء من المسجد حتى مع العلم بالانحراف عن البيت ، بل يجعل ذلك طريقاً لاستعلام الاستقبال إلى الكعبة ، وكذا من هو في خارج الحرم ، وعليه فيصبح النزاع لفظياً محضاً كما لا يخفى.

وأما ما استشهد به لهذا القول من الروايات فقد عرفت أنها لا تكاد تقاوم تلك الأخبار الدالة بظاهرها على انحصار القبلة في الكعبة حتى لو كانت صحيحة السند ، والذي يهوّن الخطب أن أسانيدها بأجمعها ضعيفة.

__________________

(١) الجواهر ٧ : ٣٢٢.

(٢) حاشية المدارك : ١٥١.

٤٢٣

فمنها : ما رواه الشيخ بإسناده عن محمد بن أحمد بن يحيى عن الحسن بن الحسين ، عن عبد الله بن محمد الحجال عن بعض رجاله عن أبي عبد الله عليه‌السلام : « إن الله تعالى جعل الكعبة قبلة لأهل المسجد ، وجعل المسجد قبلة لأهل الحرم ، وجعل الحرم قبلة لأهل الدنيا » (١).

فان الحسن بن الحسين اللؤلؤي وإن وثقه النجاشي (٢) لكن ضعّفه شيخ الصدوق محمد بن الحسن بن الوليد (٣) ، حيث إنه استثنى من روايات محمد ابن أحمد بن يحيى ما ينفرد به الحسن بن الحسين. كما أن عبد الله بن محمد الحجال مهمل في كتب الرجال ، نعم هو موجود في كتاب كامل الزيارات. فلو اكتفينا في توثيق الرجل بذلك واعتمدنا على توثيق النجاشي في سابقه وقدّمناه على تضعيف ابن الوليد لم يكن ذلك أيضاً مجدياً في تصحيح السند ، إذ الرواية بعد مرسلة فلا يمكن الاعتماد عليها.

ومنها : ما رواه أيضاً بإسناده عن أبي العباس بن عقدة عن الحسين بن محمد بن حازم ، عن تغلب بن الضحاك ، عن بشر بن جعفر الجعفي ، عن جعفر بن محمد عليه‌السلام قال : « سمعته يقول : البيت قبلة لأهل المسجد ، والمسجد قبلة لأهل الحرم ، والحرم قبلة للناس جميعاً » (٤) ورجال السند بأجمعهم بين مجهول ومهمل كما لا يخفى ، وقد أشار الشيخ إلى بعضهم في رجاله من دون تعرض لحالهم.

ومنها : مرسلة الصدوق قال « قال الصادق عليه‌السلام : إن الله تبارك وتعالى جعل الكعبة قبلة لأهل المسجد ، وجعل المسجد قبلة لأهل الحرم ، وجعل الحرم قبلة لأهل الدنيا » (٥) وبما أن ألفاظ هذه الرواية متحدة مع الاولى‌

__________________

(١) الوسائل ٤ : ٣٠٣ / أبواب القبلة ب ٣ ح ١.

(٢) رجال النجاشي : ٤٠ / ٨٣.

(٣) رجال النجاشي : ٣٤٨ / ٩٣٩.

(٤) الوسائل ٤ : ٣٠٤ / أبواب القبلة ب ٣ ح ٢.

(٥) الوسائل ٤ : ٣٠٤ / أبواب القبلة ب ٣ ح ٣. الفقيه ١ : ١٧٧ / ٨٤١.

٤٢٤

ولا يعتبر اتصال الخط من موقف كل مصل بها بل المحاذاة العرفية كافية (*) ، غاية الأمر ان المحاذاة تتسع مع البعد ، وكلما ازداد بعداً ازدادت سعة المحاذاة كما يعلم ذلك بملاحظة الأجرام البعيدة كالأنجم ونحوها ، فلا يقدح زيادة عرض الصف المستطيل عن الكعبة في صدق محاذاتها (**) كما نشاهد ذلك بالنسبة إلى الأجرام البعيدة ، والقول بأن القبلة للبعيد سمت الكعبة وجهتها راجع في الحقيقة الى ما ذكرنا ، وإن كان مرادهم الجهة العرفية المسامحية فلا وجه له (١).

______________________________________________________

فضلاً عن المعنى فيطمأن عادة لو لم يقطع أنها هي بعينها ، فيجري فيها ما مرّ من وجه الضعف ، وعلى تقدير التعدد فيكفي إرسالها في الضعف.

ومنها : ما في العلل عن محمد بن الحسن عن الصفار عن العباس بن معروف عن علي بن مهزيار عن الحسن بن سعيد عن إبراهيم بن أبي البلاد ، عن أبي غرة قال « قال لي أبو عبد الله عليه‌السلام : البيت قبلة المسجد ، والمسجد قبلة مكة ، ومكة قبلة الحرم ، والحرم قبلة الدنيا » (١) ورجال السند كلهم موثقون ما عدا الراوي الأخير فإنه مجهول ، على أن الرواية مشتملة على زيادة لم تذكر في غيرها ولم يوجد قائل بها ، وهي كون مكة قبلة الحرم ، وهذه تزيدها وهناً.

وكيف كان ، فهذه الروايات كلها ساقطة ، فالتفصيل باطل.

(١) قد أشرنا إلى تصريح غير واحد من الأعلام بأن قبلة البعيد هي جهة‌

__________________

(*) هذا عند عدم التمكن من إحراز محاذاة نفس العين ، وإلا فتجب محاذاة نفسها لحدبة الوجه التي تكون نسبتها إلى دائرة الرأس بالسبع تقريباً ، فاذا وقع البيت بين القوس الواقع على أُفق المصلي المحاذي للقوس الصغير الواقع على الحدبة فالمحاذاة حقيقيّة.

(**) مرّ اعتبار المحاذاة الحقيقيّة.

(١) الوسائل ٤ : ٣٠٤ / أبواب القبلة ب ٣ ح ٤ ، علل الشرائع : ٣١٨ / ٢.

٤٢٥

الكعبة لا عينها ، ولا يخفى أن هذا التعبير لم يرد في شي‌ء من النصوص ، وإنما التزم بها من التزم وعدل عن جعل الكعبة بعينها قبلة على الإطلاق الذي هو مقتضى ظواهر النصوص لوجهين :

الأول : بطلان صلاة المأموم إذا كان البعد بينه وبين الإمام أكثر من طول الكعبة البالغ عشرين ذراعاً تقريباً ، فاذا كان الفصل بينهما ثلاثين ذراعاً مثلاً فالمأموم يعلم حينئذ ببطلان صلاته تفصيلاً ، إما لانحرافه عن الكعبة بنفسه أو لانحراف الإمام ، وهذا بخلاف الاكتفاء بالجهة ، فإن الصف حينئذ مهما طال والجماعة مهما اتسعت فالكل متوجهون إلى الكعبة ومستقبلون سمتها.

الثاني : ما ذكره المحقق الأردبيلي (١) فيما حكي عنه ، قال ما لفظه : عدم اعتبار التدقيق في أمر القبلة وأنه أوسع من ذلك ، وما حاله إلا كأمر السيد عبده باستقبال بلد من البلدان النائية ، الذي لا ريب في امتثاله بمجرد التوجه إلى جهة تلك البلد من غير حاجة إلى رصد وعلامات وغيرها مما يختص بمعرفته أهل الهيئة المستبعد أو الممتنع تكليف عامة الناس من النساء والرجال خصوصاً السواد منهم بما عند أهل الهيئة الذي لا يعرفه إلا الأوحدي منهم ، واختلاف هذه العلامات التي نصبوها وخلوّ النصوص عن التصريح بشي‌ء من ذلك سؤالاً وجواباً عدا ما ستعرفه مما ورد في الجدي من الأمر تارة بجعله بين الكتفين وأُخرى بجعله على اليمين مما هو مع اختلافه وضعف سنده وإرساله خاص بالعراقي ، مع شدة الحاجة لمعرفة القبلة في أُمور كثيرة خصوصاً في مثل الصلاة التي هي عمود الأعمال ، وتركها كفر ، ولعل فسادها ولو بترك الاستقبال كذلك أيضاً ، وتوجّه أهل مسجد قبا في أثناء الصلاة لما بلغهم انحراف النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وغير ذلك مما لا يخفى على العارف بأحكام هذه الملّة السهلة السمحة أكبر شاهد على شدّة التوسعة في أمر القبلة وعدم وجوب شي‌ء مما ذكره هؤلاء المدققون.

__________________

(١) مجمع الفائدة والبرهان ٢ : ٥٨. ( نقل بالمضمون ).

٤٢٦

وكيف كان ، فقد اختلفت كلماتهم في تفسير الجهة وبيان المراد منها ، فذكر بعضهم كالمحقق في المعتبر : أنها السمت الذي فيه الكعبة (١). والإشكال عليه ظاهر ، فإنه إحالة إلى أمر مجهول ، لإبهام السمت ، إذ هو مفهوم تشكيكي قابل للانطباق في الخارج على أُمور كثيرة وجهات عديدة ، فانا إذا لاحظنا دائرة الأُفق وقسمناها نصفين ، فالنصف الذي فيه الكعبة يعدّ بأجمعه سمتاً لها ، ولو لاحظنا ثلث الدائرة المشتمل عليها كان السمت هو الثلث وصار أضيق من الأول ، ولو لاحظنا الربع المتضمن لها اختص السمت به ، وكذا الخمس والسدس وهكذا ، فليس للسمت حدّ منضبط ومصداق معيّن في الخارج ، بل يختلف باختلاف لحاظ أجزاء الدائرة المشتملة على الكعبة سعة وضيقاً حسبما عرفت.

وعن بعضهم أنها القدر الذي يجوز على كل جزء منه كون الكعبة فيه ، ويقطع بعدم خروجها عنه. وعن آخرين أنها السمت الذي يظن كون الكعبة فيه.

والإشكال عليهما أظهر ، لوضوح عدم دخل الظن والاحتمال في مفهوم الجهة أصلاً ، فإن ما هي جهة الكعبة واقعاً هي الجهة سواء ظن أو احتمل كون الكعبة فيها أم لا ، كما أنّ ما لا يكون جهة الكعبة ليس جهتها وإن ظن أو احتمل كون الكعبة فيها. نعم يمكن أن يكون لهما دخل في مقام الإحراز وتشخيص الجهة الظاهرية ، لكن الكلام فعلاً في مرحلة الثبوت وبيان ما هو جهة الكعبة واقعاً لا في مقام الإثبات كما هو ظاهر.

وعن الفاضل المقداد أن جهة الكعبة التي هي القبلة للنائي خط مستقيم يخرج من المشرق إلى المغرب الاعتداليين ويمرّ بسطح الكعبة ، فالمصلي حينئذ يفرض من نظره خطاً يخرج إلى ذلك الخط فان وقع على زاوية قائمة‌

__________________

(١) المعتبر ٢ : ٦٦.

٤٢٧

فذلك هو الاستقبال ، وإن كان على حادة أو منفرجة فهو إلى ما بين المشرق والمغرب (١).

توضيح كلامه : أنا إذا لاحظنا نقطتي المشرق والمغرب الاعتداليين أي في الوقت الذي يعتدل فيه الليل والنهار ويتساويان وفرضنا خطاً مستقيماً متصلاً بينهما على نحو يمرّ بسطح الكعبة فهذا الخط هي جهة الكعبة ، وحينئذ فالمصلي النائي لو اتجه نحو هذا الخط فان كان اتجاهه بحيث لو فرض خروج خط مستقيم من نظره متصل إلى ذاك الخط يتشكل منهما زاويتان قائمتان أي يكون كل منهما بمقدار تسعين درجة فذاك استقبال للجهة ، وإن كان الخط المزبور متمايلاً نحو الشرق أو الغرب بحيث يحصل من تقاطعه مع الخط الأول زاوية حادة وأُخرى منفرجة فذاك من التوجه إلى ما بين المشرق والمغرب ، الذي يحكم فيه أيضاً بصحة الصلاة عند العجز عن استقبال الكعبة وجهتها.

ولا يخفى أن هذا الذي أفاده قدس‌سره في تفسير الجهة أمر معقول في حد نفسه ولا غرابة فيه.

والإيراد عليه بامتناع مرور الخط الخارج ما بين المشرق والمغرب الاعتداليين بسطح الكعبة لانحرافها عنه إلى الشمال في غير محله ، فإنه خلط بين الخط المزبور وبين خط الاستواء ، والممتنع مروره عليه إنما هو الخط الثاني الذي طرفاه نقطتا المشرق والمغرب الحقيقيين القاسم لكرة الأرض إلى قسمين متساويين ، والحاصل من تقاطعه مع خط نصف النهار الذي طرفاه القطب الشمالي والجنوبي أربعة أقسام متساوية لكرة الأرض ، فإن مثل هذا الخط يمتنع مروره بسطح الكعبة لانحراف مكة عن خط الاستواء بمقدار إحدى وعشرين ونصف درجة إلى ناحية الشمال كما أُفيد.

__________________

(١) التنقيح الرائع ١ : ١٧٨.

٤٢٨

وأما الخط الاعتدالي المفروض في كلامه قدس‌سره فهو مغاير لخط الاستواء (١) ويتخلف عنه وينحرف إلى الجنوب أو الشمال حسب اختلاف مدارات الشمس ومثل هذا الخط يمر بسطح الكعبة لا محالة فإن لكل بلد مشرقاً ومغرباً اعتدالياً يغاير البلد الآخر.

ولتوضيح ذلك : خذ كرة وضع يديك على جانبيها من اليمين واليسار ، وافرض هاتين النقطتين ثابتتين وأوصل بينهما بخط هو خط الاستواء ، ثم حرّك الكرة نحو الجنوب يسيراً ، فلا محالة يتنازل القطب الجنوبي ويتصاعد القطب الشمالي ، ثم لاحظ نقطتي المشرق والمغرب الاعتداليين اللذين هما في القطب الشمالي وأوصل بينهما بخيط ونحوه ، ثم حرّك الكرة شيئاً فشيئاً إلى أن تنتهي إلى مكة فأوقفها وضع الخيط عليها ، فهذا هو الخط الاعتدالي المار على سطح الكعبة ، فإذا وقف المصلي نحو هذا الخط بحيث تتشكل زوايا قوائم فهو مستقبل لجهة الكعبة كما مر.

كما أن الإيراد عليه ثانياً بأن لازم ذلك أن يكون جميع البلاد الشمالية بالإضافة إلى مكة قبلتها نقطة الجنوب ، حيث إن الخط الخارج من موقف المصلي إلى الخط المذكور المقاطع له على زوايا قوائم هو خط نصف النهار المفروض ما بين نقطتي الجنوب والشمال في غير محله أيضاً (٢) ، فان موقف المصلي عند توجهه نحو الخط الاعتدالي المزبور لا يلزم أن يكون نقطة الشمال ، بل يمكن أن يقف ما بين الشمال والشرق ، أو بينه وبين الغرب أي‌

__________________

(١) نعم هو مغاير إلا أنه موازٍ له ، ولا يكاد ينحرف عنه حسب الفرض من كونه اعتدالياً ، فإنّه مفروض في السماء مسامتاً لخط الاستواء المفروض في الأرض ، ومثله لا تغير ولا انحراف فيه أبداً. وما أُفيد في المتن إنما ينطبق على المشرق والمغرب غير الاعتداليين لا الاعتدالي المفروض في كلام الفاضل المقداد والذي هو محط البحث معه.

(٢) بل هو في محله ، لأن تشكيل زاوية قائمة بالإضافة إلى من لا يكون في شمال مكة بل كان منحرفاً منها إلى المشرق أو المغرب يوجب الانحراف منها إلى نقطة الجنوب لا محالة.

٤٢٩

في خطوط طولية على غرار خط نصف النهار ، ومع ذلك يحصل من تقاطع الخط الخارج منه مع الخط الاعتدالي زوايا قوائم كما لا يخفى ، غايته أنّ بعض الزوايا يكون ضلعاها حينئذ أكبر من الأُخرى ، فلا ينحصر حصول الزاوية القائمة بما فرضه المعترض كي تكون القبلة نقطة الجنوب دائماً ، وهذا ظاهر.

نعم يتوجه عليه أولاً : أن تفسير الجهة بما ذكره لا دليل عليه ، فالاجتزاء في تحقق الاستقبال بالاتجاه نحو أي نقطة من نقاط الخط الاعتدالي على نحو تتشكل منه زاوية قائمة لم يثبت بدليل شرعي ، وهي دعوى بلا برهان ، وعلى مدعيها الإثبات.

وثانياً : أن الاتجاه نحو الخط الاعتدالي بنحو الزاوية القائمة قد يستوجب الانحراف عن الكعبة بدرجات كثيرة ، بحيث لو كانت الزاوية حادة أو منفرجة كان الاتجاه إلى الكعبة أقرب مما لو كانت قائمة ، ولا سيما في البلدان الواقعة في شرقي مكة أو غربها كجدة ونحوها التي تكون قبلتها نقطة المشرق أو المغرب تحقيقاً ، فلا يطّرد الضابط المزبور على سبيل الإطلاق كما لا يخفى.

فتحصل : أن شيئاً من هذه الوجوه التي ذكروها لتفسير الجهة لا يرجع إلى محصل ولا يمكن المساعدة عليها.

وأما الإشكال المتقدم الذي من أجله التزموا بكون القبلة للنائي هي الجهة دون العين ، أعني بطلان صلاة المأموم لو كان البعد بينه وبين الإمام أكثر من طول الكعبة كما تقدمت الإشارة إليه (١) فهو مبني على تخيّل موازاة الخطوط الخارجة من موقف المصلين إلى الكعبة وأن البعد بينها على حدّ سواء. وعليه يتجه الإشكال ، لكنك ستعرف أن الخطوط لا بد وأن تكون غير متوازية على ما يقتضيه طبع البُعد بعد فرض كرؤيّة الأرض فللخطوط ميلان وانحراف غير‌

__________________

(١) في ص ٤٢٦.

٤٣٠

محسوس لا محالة ، والكل تتصل بنفس الكعبة كما سنوضحه إن شاء الله تعالى ، فيندفع الإشكال من أصله.

وأما مقالة المحقق الأردبيلي المتقدمة (١) من عدم ابتناء أمر القبلة على التدقيق فهي في غاية الجودة والمتانة ، لكنها لا تقتضي الالتزام بالجهة والاستناد إلى المسامحة العرفية ، بل القبلة بالإضافة إلى الجميع هي نفس الكعبة تحقيقاً ، ومع ذلك لا تبتني على التدقيق ولا تتوقف على رصد وعلامات كما ذكره قدس‌سره بل هي بمثابة يعرفها كل أحد ويسهل تناولها للجميع.

والوجه في ذلك ما ذكره شيخنا الأُستاذ قدس‌سره في المقام (٢). وتوضيحه : أنا إذا رسمنا دائرة صغيرة ورسمنا دائرة اخرى حولها أكبر منها بحيث يتحد مركز الدائرتين فلا محالة يكون كل جز من محيط الدائرة الصغرى محاذياً لما يسامتها من محيط الدائرة الكبرى بنسبة واحدة ، فالنصف من الصغرى محاذٍ للنصف من الكبرى المحيط بها ، والثلث للثلث والربع للربع ، وكذا الخمس للخمس وهكذا ، بحيث لو رسمنا خطوطاً كثيرة من ربع محيط الكبرى مثلاً فهي بأجمعها تنتهي إلى ربع محيط الصغرى في الجانب المحاذي لها ، وكلما ازداد بعد الكبرى عن الصغرى كانت جهة المحاذاة أوسع وقوس الاستقبال أكثر.

وعليه فاذا طبقنا هاتين الدائرتين على موقف المصلي ومسجد جبهته فرسمنا حول موقفه دائرة بمقدار قطر دائرة الرأس التي هي كرؤية بالطبع ، ورسمنا دائرة اخرى حوله يمر محيطها بمسجد الجبهة عند السجود فجميع دائرة الرأس محاطة بجميع الدائرة الثانية كل جزء بجزء بنسبة واحدة كما‌

__________________

(١) في ص ٤٢٦.

(٢) كتاب الصلاة ١ : ١٤٠.

٤٣١

عرفت ، وبما أن نسبة قوس الجبهة التي هي المناط في تحقق الاستقبال والاتجاه نحو الشي‌ء عرفاً إلى مجموع دائرة الرأس هي السبع تقريباً ، حيث إن عرض الجبهة المتعارفة أربع أصابع ومجموع دائرة الرأس المتعارف ثمان وعشرون إصبعاً تقريباً ، فتكون النسبة هي السبع ، فسبع دائرة الرأس مواجه لسبع الدائرة الثانية المارة بمسجد الجبهة بحيث لو رسمنا خطاً من أي جزء من أجزاء هذا السبع فهو يصل إلى ناحية من قوس الجبهة لا محالة ، فلو فرضنا اتساع الدائرة الثانية إلى أن انتهت إلى دائرة الأُفق فالنسبة هي النسبة بعينها ، أي أن قوس الاستقبال من دائرة الأُفق نسبته إليها هي السبع الذي كان نسبة قوس الجبهة إلى مجموع دائرة الرأس ، غايته أن البعد اقتضى اتساع دائرة المحاذاة ، وعليه فقوس الجبهة مواجه حقيقة لتمام سبع الدائرة من الأُفق. ومن هنا لو اتجه المصلي نحو هذا السبع من الدائرة المتضمن للكعبة ففي أي جزء من أجزائه وقعت الكعبة كان متوجهاً إليها حقيقة ومستقبلاً لعينها تحقيقاً ، من دون أية عناية ومسامحة ، لما عرفت من مواجهة جميع أجزاء السبع مع الجبهة لدى المقابلة ، غاية الأمر أن الكعبة لو كانت في وسط السبع كانت المواجهة مع وسط قوس الجبهة ، ولو كانت في يمين السبع أو يساره كان الاتجاه مع يمين الجبهة أو يسارها حسب اختلاف الدرجات.

ومنه يظهر أن الانحراف بدرجات يسيرة كالعشرة والعشرين بل ستة وعشرين غير قادح في تحقق الاستقبال ما لم يخرج عن حدّ السبع الذي يزيد حينئذ عن ستة وعشرين درجة كما لا يخفى.

فتحصّل من جميع ما ذكرناه : أنّ الكعبة بعينها قبلة لعامة الناس ، سواء فيه القريب والبعيد كما تقتضيه ظواهر النصوص من الآيات والروايات. وهذا على النحو الذي بيناه أمر يسهل تناوله للجميع من دون ابتنائه على التحقيق والتدقيق ، فلا وجه للعدول عن مقتضى ظواهر النصوص إلى الجهة العرفية أو المسامحية التي لم يتضح المراد منها ولا الدليل عليها ، فلم نتعقل معنى‌

٤٣٢

ويعتبر العلم بالمحاذاة مع الإمكان (١) ، ومع عدمه يرجع إلى العلامات والأمارات المفيدة للظن (٢).

______________________________________________________

محصلاً لشي‌ء من ذلك وراء ما ذكرناه كما عرفت بما لا مزيد عليه.

ومما ذكرنا يظهر أن الصفوف المتمادية مهما طالت فالكل متوجهون لعين الكعبة ، لعدم تجاوزهم حدّ السبع ، وقد عرفت أن الانحراف اليسير لا ضير فيه.

(١) قضاءً للفراغ اليقيني الذي يقتضيه الاشتغال اليقيني.

(٢) لم يرد في شي‌ء من روايات الباب التعرض لأمارة بالخصوص لاستعلام القبلة لدى العجز عن تحصيل العلم ما عدا الجدي ، حيث ورد الأمر بجعله في القفا أو على اليمين أو بين الكتفين على اختلاف ألسنة الأخبار ، لكن من الضروري عدم اطراد هذه العلامة في جميع الآفاق وعلى سبيل الإطلاق ، بل هي مختصة بالعراق وما والاه مما تكون قبلته نقطة الجنوب أو ما يقرب منها ، وإلا فقد يكون الجدي في يمين المصلي أو يساره أو قبال وجهه حسب اختلاف مناطق البلاد من كونها في شرق مكة أو غربها أو جنوبها كما يظهر ذلك بوضوح لمن يصلي في المسجد الحرام ، فإنه لو اتجه نحو الجنوب عند استقبال الكعبة فالجدي على قفاه أو نحو الشمال فهو قبال وجهه ، أو نحو المشرق فعلى يساره ، أو نحو المغرب فعلى يمينه ، وبهذا المنوال يلاحظ البلدان الواقعة في طول هذه الجهات الأربع ، فإن حكمها حكم المصلي في نفس المسجد.

وبالجملة ، فلا كلية لهذه الأمارة ، مضافاً إلى ضعف هذه الروايات بأجمعها كما ستعرف إن شاء الله تعالى.

على أنّ هذه الأمارة في مورد اعتبارها من الأمارات المفيدة للقطع ، إذ الجدي واقع في طرف الشمال ، ففي البلدان التي تكون شمالي مكة التي‌

٤٣٣

وفي كفاية شهادة العدلين مع إمكان تحصيل العلم إشكال (*) (١).

______________________________________________________

تكون قبلتها طبعاً نقطة الجنوب متى جعل الجدي فيها على الكيفية الخاصة أورث القطع بالاستقبال بطبيعة الحال ، من غير حاجة إلى النص ، وعليه فلا تكون هذه العلامة في طول العلم بحيث لا يعوّل عليها إلا لدى تعذره ، بل هي من موجبات حصوله وتحققه.

نعم ، الظن الحاصل بالاجتهاد حجة في ظرف عدم التمكن من تحصيل العلم أو العلمي خاصة ، لاختصاص دليل حجيته وهو صحيح زرارة : « يجزئ التحري أبداً إذا لم يعلم أين وجه القبلة » (١) بذلك ، فان المراد من عدم العلم الذي علّق عليه التحري وهو الأخذ بالاحتمال الأحرى الذي هو الظن هو عدم التمكن منه على ما هو الظاهر من هذا التركيب عند أهل العرف لا عدم العلم الفعلي كما لا يخفى.

كما أن سائر الظنون الحاصلة من محاريب المساجد أو من مقابر المسلمين وما شاكلهما أيضاً كذلك ، لأن الدليل على اعتبارها هو السيرة ، ولأجل أنها دليل لبّي يقتصر على المتيقن منها وهو صورة عدم التمكن من تحصيل العلم.

(١) لا ينبغي الاستشكال في كفايتها ، لإطلاق دليل حجيتها بنطاق عام إلا ما خرج بالدليل كما في الشهادة على الزنا الموقوفة على شهود أربعة ، وكما في الدعوى على الميت المفتقرة إلى ضم اليمين ، بل وكفاية خبر العدل الواحد ، بل مطلق الثقة بناءً على ما هو الصواب من اعتباره في مطلق الموضوعات كالأحكام.

لكن ذلك كله إنما يعتبر في المقام كغيره فيما إذا كان الإخبار مستنداً‌

__________________

(*) أظهره كفاية شهادة العدلين ، بل لا تبعد كفاية شهادة العدل الواحد بل مطلق الثقة أيضاً.

(١) الوسائل ٤ : ٣٠٧ / أبواب القبلة ب ٦ ح ١.

٤٣٤

ومع عدمه لا بأس بالتعويل عليها (١)

______________________________________________________

إلى الحس كما لو قامت البينة أو أخبر العادل أو الثقة بأن الجدي في الموضع الفلاني بحيث يقطع معه بجهة القبلة قطعاً لا يقل عن الحس ، دون ما إذا استند إلى المبادئ الحدسية من الأمارات الظنية ونحوها ، لقصور دليل الحجية عن الشمول لهذه الصورة كما تقرر في محله.

ودعوى أن المقام من الموارد التي لا سبيل فيها لغير الحدس والاجتهاد كما في إخبار المقوّم والطبيب ومن شاكلهما ، حيث قامت السيرة العقلائية الممضاة شرعاً بعدم الردع على حجية قولهم من باب كونهم من أهل الخبرة لا من باب حجية البينة ، مدفوعة بإمكان إحراز القبلة بالحس حسب القواعد المقررة لتشخيصها على سبيل القطع والبت حسبما عرفت.

وعلى الجملة : عند قيام الأمارة المعتبرة وهي المستندة إلى الحس من شهادة العدلين أو العدل الواحد أو مطلق الثقة يعوّل عليها سواء أفادت الظن الشخصي أم لا ، بل وإن كان الظن الشخصي على خلافها ، فإنها بعد شمول دليل الحجية علم تعبدي ، وهو بمثابة العلم الوجداني في مناط الاعتبار ، من غير فرق في ذلك بين المتمكن من تحصيل العلم الوجداني وعدمه كما في سائر المقامات ، لإطلاق دليل الحجية وعدم اشتراطه بالعجز عن تحصيل العلم ، بل هما في عرض واحد.

وأما إذا كانت الأمارة غير معتبرة وهي المستندة إلى الحدس فلا يعوّل عليها حتى مع العجز عن تحصيل العلم ، إلا إذا أفادت الظن فتكون حجة حينئذ من باب التحري ، لحجية الظن في باب القبلة بالخصوص.

(١) بل قد عرفت عدم البأس حتى مع إمكان تحصيل العلم فيما إذا كانت الشهادة مستندة إلى الحس ، نعم في المستندة إلى الحدس لا اعتبار بها إلا من باب التحري المنوط بالعجز عن تحصيل العلم ، لكن صدق التحري موقوف‌

٤٣٥

إن لم يكن اجتهاده على خلافها. وإلا فالأحوط تكرار الصلاة (*) (١) ، ومع عدم إمكان تحصيل الظن يصلي إلى أربع جهات (**) (٢).

______________________________________________________

على أن لا يكون اجتهاده على خلافها ، وإلا كان هو الأقرب بنظره إلى الواقع فكان هو الأحرى لا ما أدّت إليه البينة المزبورة.

(١) وقد ظهر مما مرّ أنه لا حاجة إليه ، بل يكفي العمل بالبينة إن استندت إلى الحس ، وإلا فليعمل على طبق اجتهاده فلاحظ.

(٢) على المشهور شهرة عظيمة ، بل عن المعتبر (١) وغيره نسبته إلى علمائنا ، بل عن الغنية (٢) دعوى الإجماع عليه.

ونسب إلى الشيخين (٣) إنكار العمل بالظن لدى فقد الأمارات السماوية ، وأنه يصلي حينئذ إلى أربع جهات إن أمكن ، وإلا فالى جهة واحدة. ولكنه محجوج بإطلاق صحيحة زرارة المتقدمة (٤) الصريحة في التحري ولزوم الأخذ بالظن إذا لم يعلم وجه القبلة.

وكيف ما كان ، فقد خالف المشهور جماعة من المتأخرين ، منهم المحقق الأردبيلي (٥) وبعض القدماء فذهبوا إلى كفاية الصلاة إلى جهة واحدة.

ويستدل للمشهور : تارة بقاعدة الاشتغال ، نظراً إلى عدم حصول اليقين بالفراغ إلا بالصلاة إلى أربع جهات.

وفيه : أنّا تارة نبني على لزوم استقبال عين الكعبة مطلقاً ، وأُخرى نختار‌

__________________

(*) والأظهر كفاية العمل بالبيّنة.

(**) على الأحوط ، ولا تبعد كفاية الصلاة إلى جهة واحدة.

(١) المعتبر ٢ : ٧٠.

(٢) الغنية : ٦٩.

(٣) المفيد في المقنعة : ٩٦ ، الطوسي في النهاية : ٦٣.

(٤) في ص ٤٣٤.

(٥) مجمع الفائدة والبرهان ٢ : ٦٧.

٤٣٦

كفاية الصلاة إلى ما بين المشرق والمغرب لدى الجهل بها استناداً إلى ما دل على أن ما بينهما قبلة للجاهل.

أما على الأول : فلا مناص من الصلاة إلى جهات سبع ، لما تقدم (١) من أن نسبة الجبهة إلى دائرة الرأس نسبة السبع تقريباً ، فكل سبع من هذه الدائرة الصغيرة مواجهة لسبع الدائرة الكبيرة المفروضة حول الأُفق ، وبذلك تتحقق المواجهة لعين الكعبة إذا كانت واقعة في أي جزء من أجزاء السبع. إذن فلا بدّ من تقسيم الأُفق سبعة أقسام وإيقاع الصلاة في كل سبع منها ، وبذلك يحصل اليقين باتجاه عين الكعبة حقيقة ببيان مشبع مقنع حققه شيخنا الأُستاذ قدس‌سره وقد تقدم (٢).

وأما على الثاني : فتكفي الصلاة إلى ثلاث جهات بتقسيم قوس الأُفق إلى ثلاثة أقسام متساوية وإيقاع الصلاة في وسط كل قوس ، فإنه بذلك تتحقق الصلاة إلى ما بين المشرق والمغرب جزماً كما هو ظاهر.

وأُخرى : بجملة من الأخبار :

منها : مرسلة الصدوق في الفقيه قال : « روي في من لا يهتدي إلى القبلة في مفازة أنه يصلي إلى أربعة جوانب » (٣).

ومنها : مرسلة الكليني قال : « وروى أيضاً أنه يصلي إلى أربع جوانب » (٤).

ومنها : مرسلة خراش ( أو خداش ) عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال « قلت : جعلت فداك إن هؤلاء المخالفين علينا يقولون : إذا أطبقت علينا أو أظلمت فلم نعرف السماء كنا وأنتم سواء في الاجتهاد ، فقال : ليس كما يقولون ، إذا كان ذلك فليصل لأربع وجوه » (٥).

__________________

(١) في ص ٤٣١.

(٢) في ص ٤٣١.

(٣) الوسائل ٤ : ٣١٠ / أبواب القبلة ب ٨ ح ١ ، الفقيه ١ : ١٨٠ / ٨٥٤.

(٤) الوسائل ٤ : ٣١١ / أبواب القبلة ب ٨ ح ٤ ، الكافي ٣ : ٢٨٦ / ١٠.

(٥) الوسائل ٤ : ٣١١ / أبواب القبلة ب ٨ ح ٥.

٤٣٧

ولكنها بأجمعها مراسيل لا يعوّل عليها ، مع احتمال كون الأُوليين رواية واحدة. على أن الأخيرة ضعيفة السند بخراش أيضاً ، فإنه لم يوثق ، بل وقاصرة الدلالة ، إذ مفادها وجوب الصلاة إلى الجوانب الأربعة حتى مع التمكن من الاجتهاد وتحصيل الظن ، وهو خلاف المذهب المشهور ، بل الظاهر أنّه لا قائل به.

وبكلمة واضحة : مفاد الرواية عدم جواز العمل بالظن ، ووجوب الصلاة إلى الجهات الأربع ، وهو خلاف ما يراه المشهور من اختصاص ذلك بمورد العجز عن تحصيل الظن ، بل وخلاف صريح صحيح زرارة الدال على جواز العمل به لدى حصوله.

ودعوى انجبار ضعف هذه الأخبار بعمل الأصحاب ، مدفوعة بمنع الكبرى بل وكذلك الصغرى ، لعدم ثبوت استنادهم إليها ، ولعلهم اعتمدوا على ما عرفت من قاعدة الاشتغال.

والمتحصل : أنّ ما عليه المشهور عارٍ عن دليل يصح التعويل عليه.

فالأقوى إذن الاكتفاء بصلاة واحدة كما دلت عليه صريحاً صحيحة زرارة ومحمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه‌السلام « أنه قال : يجزئ المتحير أبداً أينما توجه إذا لم يعلم أين وجه القبلة » (١).

ولا مجال للنقاش فيها تارة سنداً بجهالة طريق الصدوق إلى زرارة ومحمد ابن مسلم مجتمعين. وأُخرى متناً نظراً إلى أن الوارد في بعض نسخ الفقيه « التحري » بدل « المتحير » فتكون الرواية حينئذ من أدلة حجية الظن بالقبلة لدى العجز عن تحصيل العلم ، ولا دلالة لها على اكتفاء المتحيّر بالصلاة إلى إحدى الجهات.

لاندفاع الأول بأن الاقتصار على صورة الانفراد يكشف عن الاتحاد وأن طريقه إليهما مجتمعين هو بنفسه الطريق إليهما منفردين كما لا يخفى. وحيث‌

__________________

(١) الوسائل ٤ : ٣١١ / أبواب القبلة ب ٨ ح ٢.

٤٣٨

إن طريقه إلى زرارة صحيح (١) وإن كان إلى ابن مسلم ضعيفاً فلا جرم تصبح الرواية معتبرة.

واندفاع الثاني بأن الشائع من نسخ الفقيه هو الأول بحيث يطمأن بالتصحيف في تلك النسخة ، على أنّها لا تنسجم مع قوله : « أينما توجه » وإنّما يتناسب ذلك مع النسخة المشهورة كما لعله ظاهر.

وتدل عليه أيضاً صحيحة معاوية بن عمار : « أنه سأل الصادق عليه‌السلام عن الرجل يقوم في الصلاة ثم ينظر بعد ما فرغ فيرى أنه قد انحرف عن القبلة يميناً أو شمالاً ، فقال له : قد مضت صلاته ، وما بين المشرق والمغرب قبلة ، ونزلت هذه الآية في قبلة المتحير ( وَلِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ ) » (٢) وهي بمعونة الذيل صريحة في المطلوب.

بيد أن جملة من المحققين طعنوا على الاستدلال بها باحتمال كون الذيل من كلام الصدوق نفسه ، ولكنه كما ترى في غاية البعد (٣) فان إدراج الاجتهاد وإلحاقه بالحديث من غير نصب قرينة أو ذكر فاصل بمثل انتهى أو أقول نوع خيانة في النقل ، تجلّ ساحة الصدوق المقدسة عما دونها بكثير ، فلا ينبغي الإشكال في صحة الاستدلال بها كالأُولى.

وتؤيدهما مرسلة ابن أبي عمير عن زرارة قال : « سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن قبلة المتحير ، فقال : يصلّي حيث يشاء » (٤).

__________________

(١) الفقيه ٤ ( المشيخة ) : ٩.

(٢) الوسائل ٤ : ٣١٤ / أبواب القبلة ب ١٠ ح ١ ، الفقيه ١ : ١٧٩ / ٨٤٦.

(٣) بل هو قريب كما يكشف عنه مضافاً إلى خلوّ التهذيبين [ التهذيب ٢ : ٤٨ / ١٥٧ ، الاستبصار ١ : ٢٩٧ / ١٠٩٥ ] عن هذا الذيل عدم انسجامه مع الصدر كما لا يخفى. والتصدي له بما ذكره في المستمسك [ ٥ : ١٨٦ ] غير واضح ، ولعل المتتبع يرى نظائر ذلك في الفقيه بكثير ، فكأن عادته جرت على الإلحاق المزبور ، فلا تعدّ من الخيانة في شي‌ء فلاحظ.

(٤) الوسائل ٤ : ٣١١ / أبواب القبلة ب ٨ ح ٣.

٤٣٩

[١٢٢٩] مسألة ١ : الأمارات المحصّلة للظن التي يجب الرجوع إليها عند عدم إمكان العلم كما هو الغالب بالنسبة إلى البعيد كثيرة منها الجدي (١) الذي هو المنصوص في الجملة (٢) بجعله في أواسط العراق كالكوفة والنجف وبغداد ونحوها خلف المنكب الأيمن ، والأحوط أن يكون ذلك في غاية ارتفاعه أو انخفاضه. والمنكب ما بين الكتف والعنق ، والأولى وضعه خلف الاذن (*) وفي البصرة وغيرها من البلاد الشرقية في الاذن اليمنى ، وفي موصل ونحوها من البلاد الغربية بين الكتفين وفي الشام خلف الكتف الأيسر ، وفي عدن بين العينين ، وفي صنعاء على الاذن اليمنى ، وفي الحبشة والنوبة صفحة الخد الأيسر.

ومنها : سهيل ، وهو عكس الجدي.

ومنها : الشمس لأهل العراق إذا زالت عن الأنف إلى الحاجب الأيمن عند مواجهتهم نقطة الجنوب.

______________________________________________________

(١) وهو كوكب معروف ، وقد ذكروا في ضبط الكلمة وجهين :

أحدهما : مكبّراً بفتح الجيم وسكون الدال المهملة.

ثانيهما : مصغّراً بضم الجيم وفتح الدال ، للتفرقة بينه وبين البرج المسمّى بهذا الاسم.

(٢) فقد ورد ذلك في جملة من الروايات :

منها : مرسلة الصدوق قال « قال رجل للصادق عليه‌السلام : إني أكون في السفر ولا أهتدي إلى القبلة بالليل ، فقال : أتعرف الكوكب الذي يقال له جدي؟ قلت : نعم ، قال : اجعله على يمينك ، وإذا كنت في طريق الحج فاجعله بين كتفيك » (١).

__________________

(*) في أولويته إشكال بل منع.

(١) الوسائل ٤ : ٣٠٦ / أبواب القبلة ب ٥ ح ٢ ، الفقيه ١ : ١٨١ / ٨٦٠.

٤٤٠