موسوعة الإمام الخوئي

الشيخ مرتضى البروجردي

نعم ، يرد على دلالتها أوّلاً : أن غايتها نفي مشروعية الزائد على الركعتين ولا دلالة لها على نفي الركعة الواحدة.

وثانيها : أنها لا تصلح لتقييد المطلقات التي استند إليها المقدّس الأردبيلي في جواز الإتيان بالنوافل ركعة أو أكثر من ركعتين ، لاختصاص صناعة الإطلاق والتقييد بباب الواجبات ، وأما المستحبات فالقيد فيها محمول على أفضل الأفراد لبناء الأصحاب على الالتزام فيها بتعدد المطلوب كما تسالموا عليه في الأُصول ، وعليه فلا دلالة للرواية على عدم مشروعية الزائد على الركعتين أو الناقص عنهما ، لابتنائه على التقييد المزبور الممنوع في أمثال المقام ، بل غايته كون الركعتين أفضل من غيرهما.

الثالثة : رواية الصدوق بإسناده عن الفضل بن شاذان عن الرضا عليه‌السلام « قال : الصلاة ركعتان ركعتان ، فلذلك جعل الأذان مثنى مثنى » (١).

وفيه : مضافاً إلى ضعف السند من جهة عبد الواحد بن عبدوس وعلي بن محمد القتيبي الواقعين في طريق الصدوق إلى الفضل كما مرّ الكلام فيهما مستقصى (٢) ، أنها قاصرة الدلالة أيضاً ، لانصرافها عن النوافل التي هي محل الكلام ، بقرينة ذكر الأذان المختص بالفرائض اليومية ، فلا يناسب التعليل إلا لتلك الصلوات التي كانت في أصل التشريع ركعتين ركعتين وقد زيدت الأخيرتان بعد ذلك ، فكان كل واحد من فصول الأذان التي هي مثنى بإزاء ركعة من الفرائض.

وعليه فالرواية أجنبية عن النوافل غير المشروع لها الأذان رأساً.

فتحصل : أن شيئاً من الروايات لا دلالة لها على مسلك المشهور ، لقصورها سنداً أو دلالة على سبيل منع الخلو.

__________________

(١) الوسائل ٤ : ٦٤ / أبواب أعداد الفرائض ب ١٥ ح ٥ ، عيون أخبار الرضا (ع) ٢ : ١٠٥.

(٢) في ص ٥١.

٦١

وأما المطلقات التي استند إليها الأردبيلي فيما مال إليه من جواز الإتيان بأقل من الركعتين أو الأكثر ، وهي إطلاق ما دل على استحباب صلاة إحدى وخمسين ، أو استحباب التنفل للظهر ثمان ركعات وهكذا.

فيرد عليه : أن تلك الروايات ليست في مقام البيان إلا من ناحية العدد والكمية المعتبرة في النوافل ، ولا نظر فيها إلى كيفياتها حتى ينعقد الإطلاق ، ومن هنا لا يصح التمسك بها لنفي سائر الجهات كما لعلّه واضح جدّاً.

فاتضح أنّ شيئاً من القولين لا يمكن الاستدلال له بالأدلة الاجتهادية.

فيقع الكلام حينئذ فيما يقتضيه الأصل العملي في المقام فنقول :

ذكر صاحب الحدائق أن مقتضى الأصل حينئذ هو الاشتغال ، لأنّ العبادة توقيفية ، فتحتاج كيفية المشروعية كأصلها إلى الإذن ، والمتيقن منه هما الركعتان ، ولم يثبت إذن بالأقل أو الأكثر إلا في مورد معيّن ، فلا يسوغ التعدي بعد عدم شمول الإذن لغيره ، بل مقتضى القاعدة الاحتياط ، للشك في مشروعية غير الكيفية المعهودة ما لم يتحقق الإذن (١).

واعترض عليه المحقق الهمداني قدس‌سره بأن المقام مجرى للبراءة دون الاشتغال ، إذ الشك في اعتبار التسليم في الركعة الثانية أو قدحه في الركعة الأُولى راجع إلى الشك في الشرطية أو المانعية في الأقل والأكثر الارتباطي ، ومثله مورد للبراءة كما حقّق في الأُصول.

نعم ، هذا فيما إذا شك في الكيفية بعد الفراغ عن أصل المشروعية كما في الرواتب اليومية.

وأما إذا شك في مشروعية نافلة من رأسها كصلاة أربع ركعات بتسليمة واحدة في يوم الغدير الواردة في خبر ضعيف ونحو ذلك ، بحيث كان الشك في أصل الاستحباب النفسي لا في الجزئية أو الشرطية أو المانعية للمركب‌

__________________

(١) الحدائق ٦ : ٧٦.

٦٢

الارتباطي ، كان المرجع حينئذ هو الاشتغال ، لتوقيفية العبادة وعدم ثبوت الترخيص كما ذكر (١).

وأُورد عليه بعدم جريان البراءة في باب المستحبات ، أما العقلية فواضح لعدم احتمال العقاب ، وأما الشرعية فلاختصاص حديث الرفع بمورد الامتنان ولا منّة في رفع المستحب ، إذ لا كلفة في وضعه كي ترفع. مضافاً إلى أنها لا تثبت مشروعية الركعة أو الزائد على الركعتين إلا بالملازمة العقلية.

ومنه يظهر عدم جريان الاستصحاب أيضاً ، أعني أصالة عدم شرطية التسليم في الثانية ، أو عدم مانعيته في الركعة الأُولى ، لكونه من الأصل المثبت كما عرفت.

أقول : أما الاستصحاب فلا مجرى له في المقام ، لا من جهة الإثبات ، بل للابتلاء بالمعارض ، إذ أصالة عدم اعتبار تقيد الركعة الأُولى بكونها موصولة بالثانية المنتج لجواز إتيانها ركعة ركعة ، معارض بأصالة عدم تشريع الركعة على سبيل الإطلاق من حيث الوصل والفصل ، فإن الإطلاق والتقييد متقابلان بتقابل التضاد في عالم الثبوت ، ولا ثالث لهما لاستحالة الإهمال في الواقعيات ، فلا بد للشارع الحكيم من ملاحظة أحد العنوانين في مقام الجعل والتشريع ، فاستصحاب عدم رعاية أحدهما معارض باستصحاب عدم الآخر.

وبعبارة اخرى : الإطلاق والتقييد وصفان وجوديان وكلاهما حادثان مسبوقان بالعدم ، فقبل صدور التشريع لا وجود لشي‌ء منهما ، وبعده يشك في حدوث كل منهما بعد العلم بثبوت أحدهما إجمالاً كما عرفت. وعليه فاستصحاب عدم التقييد معارض باستصحاب عدم الإطلاق لا محالة.

وهذه المعارضة غير المعارضة الثابتة في كافة الاستصحابات الحكمية التي من أجلها نمنع عن حجية الاستصحاب فيها ، إذ تلك معارضة بين مقامي الجعل والمجعول ، وهذه معارضة في مقام الجعل نفسه كما لا يخفى.

__________________

(١) مصباح الفقيه ( الصلاة ) : ١٣ السطر ٣٠.

٦٣

وأما البراءة ، فقد ذكرنا في بحث الأُصول (١) أنّ في جريانها في باب المستحبات تفصيلاً ، وملخّصه : الفرق بين المستحبات النفسية وبين خصوصياتها من الجزئية أو الشرطية أو المانعية ، فتجري البراءة في الثاني دون الأول ، فإن الشك إن كان في استحباب عمل في حدّ نفسه كصلاة يوم الغدير مثلاً لا معنى لرفعه بحديث الرفع ، إذ المرفوع بهذا الحديث ليس هو الحكم الواقعي ، ضرورة اشتراكه بين العالمين والجاهلين ، بل الرفع ظاهري ليس إلاّ ، ومرجعه في الحقيقة إلى رفع إيجاب الاحتياط ، بمعنى أن الشارع إرفاقاً على الأُمة ومنّة عليهم لم يوجب التحفظ على الواقع في مرحلة الظاهر ، فَجَعَلهم في سعةٍ مما لا يعلمون ، هذا في الواجبات ، وعلى ضوء ذلك يكون المرفوع في المستحبات بمقتضى مناسبة الحكم والموضوع هو استحباب الاحتياط دون وجوبه ، إذ المفروض أن أصل الحكم استحبابي ، فكيف يكون الاحتياط فيه وجوبياً ، ولا شك في ثبوت الاستحباب وعدم ارتفاعه ، وأن الاحتياط حسن عقلاً وشرعاً على كل حال ، فلا يمكن شمول حديث الرفع للمستحبات المستلزم لرفع حسن الاحتياط ونفى استحبابه.

وأما إذا كان الشك في جزئية شي‌ء للمستحب أو شرطيته أو مانعيته بعد الفراغ عن أصل الاستحباب ، فلا مانع حينئذ من الرجوع إلى أصالة البراءة لنفي المشكوك فيه ، إذ لا ريب أن القيود المعتبرة في المركب من الجزئية أو الشرطية أو المانعية واجبة بالوجوب الشرطي ، ولا بد من مراعاتها وإن كان أصل العمل مستحباً ، ولا منافاة بين الأمرين كما لا يخفى ، فصلاة الليل مثلاً وإن كانت مستحبة في نفسها ويجوز تركها من رأسها لكنه على تقدير الإتيان بها يجب إيقاعها مع الطهارة وإلى القبلة ومع الركوع والسجود وغير ذلك من سائر ما يعتبر في الصلاة ، ولا يجوز إتيانها على خلاف ذلك فإنه تشريع محرّم ، ولازم ذلك وجوب الاحتياط في كل ما يحتمل دخله في المركب وعدم جواز الإتيان‌

__________________

(١) مصباح الأُصول ٢ : ٢٧٠.

٦٤

بالفاقد للشرط بداعي الأمر ، وعليه فيرتفع هذا الوجوب بحديث الرفع كما يرتفع في الواجبات ، ولا فرق بينها وبين المستحبات من هذه الجهة أصلاً.

ومما ذكرنا يظهر أن إجراء البراءة لنفي ما يحتمل دخله في المستحب موافق للامتنان ، لتضمنه التوسعة والتسهيل لو أراد الإتيان به ، فإن الإنسان ربما لا يقدم على إتيان المستحب لو كان مشروطاً بشرط ، كالغسل بالنسبة للزيارة مثلاً لتكلفه عليه ولزوم المشقة ، ويقدم لو لم يكن مشروطاً به ، وعليه فرفع التقييد في ظرف الشك منّة على العباد ، لتضمّنه التسهيل بالإضافة إلى من يرغب في الامتثال ، وإن كان الحكم في نفسه مبنياً على السعة لجواز ترك المستحب من أصله ، ولا منافاة بين الأمرين كما لعله ظاهر جدّاً.

فتحصل : أن الرجوع إلى أصالة البراءة في المستحبات لنفي التقييد لا مانع منه ، ولا يعارض به البراءة عن الإطلاق لعدم جريانها فيه ، إذ جعل الحكم على سبيل الإطلاق بنفسه توسعة وإرفاق وتسهيل وامتنان ، فرفعه بحديث الرفع على خلاف الامتنان ، فإشكال التعارض الذي أوردناه آنفاً على الرجوع إلى الاستصحاب غير جارٍ في المقام ، لوضوح الفرق بين البراءة والاستصحاب في ابتناء الأول على الامتنان دون الثاني.

نعم ، يبقى الاشكال المتقدم من أن البراءة عن تقيد الركعة بكونها موصولة بالأُخرى مثلاً لا يثبت الإطلاق وتعلق الأمر بالركعة المفصولة كي ينتج مشروعية الإتيان بها وحدها إلا من باب الأصل المثبت.

والجواب : أنّ أصل مشروعية الركعة الواحدة في حدّ ذاتها مقطوعة بالوجدان ، للعلم الإجمالي بتعلق الأمر بها إما مطلقاً أو بشرط الاتصال ، فاذا نفينا الشرط بالبراءة عن التقييد ، ينتج أن الركعة الواحدة مشروعة من غير تقييد بشي‌ء بعد ضم الوجدان إلى الأصل وهو معنى الإطلاق ، إذ لا نعني به في المقام أكثر من ذلك ، فالمستند في إثبات مشروعية الركعة الواحدة مطلقة ليس هو البراءة عن التقييد كي تكون مثبتاً بالنسبة إليه ، بل هو القطع الوجداني بضميمة الأصل المنقّحين لجزأي الموضوع كما عرفت.

٦٥

إلا الوتر فإنها ركعة (١).

______________________________________________________

ولولا ما ذكرناه لانسدّ باب الرجوع إلى البراءة في الأقل والأكثر الارتباطيين بمصراعيه حتى في باب الواجبات ، لعدم الفرق بينها وبين المستحبات من هذه الجهة ، فلو شك في وجوب السورة مثلاً وأُجري البراءة عنها كيف تثبت بعد ذلك مشروعية الباقي وتعلق الأمر به ، فما هو الجواب هناك هو الجواب في المقام ، وليس هو إلا ما عرفت الذي يجاب به في المقامين بملاك واحد. فهذا الإشكال أيضاً لا يرجع إلى محصل.

نعم ، هناك إشكال آخر هو العمدة في المنع عن جريان البراءة في المقام ، وهو أنّ تغيير الكيفية المعهودة والإتيان بالنافلة أقل من ركعتين أو أكثر مخالف لما هو المرتكز في أذهان عامة المتشرعة خلفاً عن سلف حتى النساء والصبيان المميزين ، بمثابة يعدّ لديهم من الغرائب ويرون أن تقوّمها بالركعتين من الواضحات الجلية التي لا تعتريها مرية ، ولأجله يكون الأصل في المقام هو عدم المشروعية إلا فيما خرج بالدليل كما في مفردة الوتر وصلاة الأعرابي دون البراءة. ولعلّ السرّ في هذا الارتكاز ابتناء تشريع الصلوات بأسرها حتى الفرائض على الركعتين ، ومن ثم كان الواجب في كل يوم وليلة عشر ركعات كما جاء في النص ثم زيد عليها في جملة من الفرائض من قبل النبي الأعظم (١) صلى‌الله‌عليه‌وآله لا أنها كانت كذلك في أصل التشريع.

وعليه ففي كل مورد ثبتت الزيادة أو النقيصة عن الركعتين بدليل خاص فهو المتبع ، وإلا كان اللازم الاقتصار عليهما أخذاً بالارتكاز المزبور المانع عن الرجوع إلى أصالة البراءة.

(١) على المشهور من لزوم الإتيان بها مفصولة عن الشفع ، وذهب بعضهم إلى التخيير بينها وبين الإتيان بها موصولة ، ومنشأ الخلاف اختلاف الأخبار فإنها على طوائف ثلاث :

__________________

(١) الوسائل ٤ : ٤٥ / أبواب أعداد الفرائض ب ١٣ ح ٢ ، ١٢ ، ١٤ ، ١٩.

٦٦

الاولى : ما دل على أنها ركعة واحدة مفصولة عن ركعتي الشفع بالتسليم كصحيحة سليمان بن خالد عن أبي عبد الله عليه‌السلام « قال : الوتر ثلاث ركعات تفصل بينهن وتقرأ فيهنّ جميعاً بقل هو الله أحد » (١). وما رواه الشيخ بإسناده عن أبي بصير عنه عليه‌السلام « قال : الوتر ثلاث ركعات ثنتين مفصولة وواحدة » (٢) بل في بعضها التصريح بجواز الفصل بالشرب والتكلم والحدث بل النكاح ، وهي عدة روايات فيها الصحيحة وغيرها كما يظهر بمراجعة نصوص الباب (٣).

الثانية : ما دل على أنها ثلاث ركعات موصولات بتسليمة واحدة كصلاة المغرب ، وهي رواية كردويه الهمداني قال : « سألت العبد الصالح عليه‌السلام عن الوتر ، قال : صِلة » (٤) ولكنها ضعيفة السند لعدم توثيقٍ لكردويه ، فيدور الأمر بين الطائفة الأُولى وبين :

الطائفة الثالثة : وهي ما دل على جواز كل من الوصل والفصل وهي صحيحتان :

الأُولى : صحيحة يعقوب بن شعيب قال : « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن التسليم في ركعتي الوتر ، فقال : إن شئت سلّمت وإن شئت لم تسلّم » (٥).

الثانية : صحيحة معاوية بن عمّار قال : « قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام في ركعتي الوتر ، فقال : إن شئت سلّمت وإن شئت لم تسلّم » (٦).

ومقتضى الجمع بينهما هو التخيير ، وإن كان الفصل أفضل للأمر به في الطائفة الأُولى ، ولا مانع من الالتزام بذلك كما قوّاه في المدارك (٧) وإن كان على خلاف المشهور.

__________________

(١) الوسائل ٤ : ٦٤ / أبواب أعداد الفرائض ب ١٥ ح ٩ ، التهذيب ٢ : ١٢٧ / ٤٨٤.

(٢) الوسائل ٤ : ٦٤ / أبواب أعداد الفرائض ب ١٥ ح ١٠ ، التهذيب ٢ : ١٢٧ / ٤٨٥.

(٣) الوسائل ٤ : ٦٢ / أبواب أعداد الفرائض ب ١٥.

(٤) ، (٥) ، (٦) الوسائل ٤ : ٦٦ / أبواب أعداد الفرائض ب ١٥ ح ١٨ ، ١٦ ، ١٧.

(٧) المدارك ٣ : ١٨.

٦٧

ويستحب في جميعها القنوت (١) حتى الشفع على الأقوى في الركعة الثانية ، وكذا يستحب في مفردة الوتر.

______________________________________________________

(١) وهو المعروف المشهور بين الأصحاب ، وخالفهم شيخنا البهائي (١) وصاحب المدارك (٢) والذخيرة (٣) فمنعوا عن استحبابه في الشفع استناداً إلى صحيحة عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليه‌السلام « قال : القنوت في المغرب في الركعة الثانية ، وفي العشاء والغداة مثل ذلك ، وفي الوتر في الركعة الثالثة » (٤).

حيث إنها ظاهرة في حصر التشريع في مواضع لم يكن الشفع منها ، وبها تقيّد المطلقات الدالة على استحباب القنوت في الركعة الثانية من كل صلاة.

والصحيح ما عليه المشهور ، فان النصوص الواردة في القنوت مختلفة ، ففي بعضها أنه في العشاءين والفجر والوتر كالصحيحة المزبورة ، وفي بعضها زيادة الجمعة (٥) ، وفي بعضها أنه في الصلوات الجهرية (٦) ، وفي بعضها غير ذلك ، إلا أن موثقة أبي بصير صريحة في ثبوت الاستحباب في تمام الفرائض الخمس ، قال : « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن القنوت ، فقال : فيما يجهر فيه بالقراءة ، قال فقلت له : إني سألت أباك عن ذلك ، فقال : في الخمس كلها ، فقال رحم الله أبي إن أصحاب أبي أتوه فسألوه فأخبرهم بالحق ، ثم أتوني شكاكاً فأفتيتهم بالتقية » (٧) وهي خير شاهد على أن التخصيص ببعض الصلوات في سائر‌

__________________

(١) حكاه عنه في الحدائق ٦ : ٣٩ ، وراجع مفتاح الفلاح : ٦٨١.

(٢) المدارك ٣ : ١٨ ، ١٩.

(٣) الذخيرة : ١٨٤ السطر ٣٦.

(٤) الوسائل ٦ : ٢٦٧ / أبواب القنوت ب ٣ ح ٢.

(٥) ، (٦) الوسائل ٦ : ٢٦٥ / أبواب القنوت ب ٢ ح ٢ ، ١.

(٧) الوسائل ٦ : ٢٦٣ / أبواب القنوت ب ١ ح ١٠.

٦٨

الروايات التي منها صحيحة ابن سنان المزبورة محمول على التقية ، حيث إن العامة لا يرون مشروعيته إلا في بعضها.

أضف إلى ذلك : ورود روايات نطقت بثبوت القنوت في كافة الصلوات :

ففي صحيحة زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام أنه « قال : القنوت في كل الصلوات » (١).

وفي صحيح ابن الحجاج عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « سألته عن القنوت ، فقال : في كل صلاة فريضة ونافلة » (٢).

وفيما رواه الصدوق بإسناده عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه‌السلام أنه « قال : القنوت في كل ركعتين في التطوع والفريضة » (٣).

وما رواه في الخصال بإسناده عن الأعمش عن جعفر بن محمد عليه‌السلام في حديث شرائع الدين ، « قال : والقنوت في جميع الصلوات سنّة واجبة في الركعة الثانية قبل الركوع وبعد القراءة » (٤) ونحوها غيرها.

ومقتضى الجمع بينها وبين ما تقدم إما الحمل على اختلاف مراتب الفضل أو على التقية حسبما عرفت.

ثم إن استفادة الحصر المزبور من صحيحة ابن سنان موقوفة على أن يكون قوله عليه‌السلام « في المغرب » وكذا ما بعده قيداً للقنوت الذي هو المبتدأ ليكون الخبر قوله عليه‌السلام « في الركعة الثانية » حتى يقال إن مقتضى حصر المبتدأ في الخبر المستفاد من تعريفه باللام هو اختصاص القنوت في الوتر بالركعة الثالثة.

ولكنه غير واضح ، كيف ولو أُريد ذلك ، بأن كان عليه‌السلام بصدد بيان‌

__________________

(١) ، (٢) الوسائل ٦ : ٢٦١ / أبواب القنوت ب ١ ح ١ ، ٨.

(٣) الوسائل ٦ : ٢٦١ / أبواب القنوت ب ١ ح ٢ ، الفقيه ١ : ٢٠٧ / ٩٣٤.

(٤) الوسائل ٦ : ٢٦٢ / أبواب القنوت ب ١ ح ٦ ، الخصال : ٦٠٤ / ٩.

٦٩

حصر موضع القنوت من الركعات لأمكن بيانه بتعبير أنسب وألخص ، كأن يقول : القنوت في الصلوات في الركعة الثانية ، وفي الوتر في الثالثة ، بل الظاهر أنه عليه‌السلام بصدد بيان موضع استحبابه من الصلوات وأنه منحصر في الجهرية الذي عرفت أنه مبني على التقية مع بيان موضع القنوت (١) فيها ، فقوله عليه‌السلام « في المغرب » خبر للمبتدإ ، لا أنه قيد فيه ليدل على نفيه عن ثانية الشفع فلاحظ. إذن فالعمومات أو الإطلاقات الدالة على استحبابه في كل ركعتين سليمة عما يصلح للتقييد.

ثم إن صاحب الحدائق استدل على عدم مشروعية القنوت في الشفع بما ورد في غير واحد من الأخبار من الأدعية المأثورة في قنوت الوتر ، بتقريب أنّ منصرف هذا اللفظ في لسان الروايات إنما هو الركعات الثلاث ، إذ لم يطلق فيها على الركعة الواحدة المفصولة إلا في رواية ضعيفة وهي رواية رجاء بن أبي الضحاك غير الناهضة للمعارضة مع تلك الأخبار المتكاثرة ، فلو كان فيهما قنوتان أحدهما للشفع وثانيهما للركعة الثالثة للزم تقييد تلك الأدعية بالقنوت الثاني ، ولم يحسن معه هذا الإطلاق ، وهذا خير شاهد على أن الركعات الثلاث لا تتضمن إلا قنوتاً واحداً (٢).

ولكنك خبير بأن هذه الدعوى من متضلع مثله في الحديث والأخبار من غرائب الكلام ، ضرورة أن إطلاق الوتر على خصوص الركعة المفصولة في لسان الروايات كثير ولا ينحصر في تلك الرواية الضعيفة ، وإليك بعضها :

فمنها : ما رواه الفضل بن شاذان عن الرضا عليه‌السلام وفيها : « ...

__________________

(١) غير خفي أن الموضع المبين قيد للمحصور فيه ، فيدخل طبعاً في حيز الحصر وينتج انحصار القنوت في ثالثة الوتر ، على أنه عليه‌السلام لو كان بصدد بيان الانحصار في الجهرية لاكتفى بقوله : « القنوت في الصلوات الجهرية والوتر » ، الذي هو أنسب وألخص.

(٢) الحدائق ٦ : ٤٢.

٧٠

والشفع والوتر ثلاث ركعات تسلّم بعد الركعتين ... » إلخ (١).

ومنها : ما رواه الصدوق في الخصال بإسناده عن الأعمش عن جعفر بن محمد عليه‌السلام وفيها : « ... والشفع ركعتان والوتر ركعة ... » إلخ (٢).

ومنها : رواية الفقه الرضوي وفيها : « ... وتقرأ في ركعتي الشفع ... وفي الوتر قل هو الله أحد » (٣).

ومنها : ما رواه في تفسير القمي عند قوله تعالى ( وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ .. ) إلخ ، الشفع ركعتان والوتر ركعة (٤).

أضف إلى ذلك : الروايات الواردة في الوتيرة الناطقة بأنها بدل الوتر التي منها صحيحة الفضيل بن يسار وفيها « ... والفريضة والنافلة إحدى وخمسون ركعة ، منها ركعتان بعد العتمة جالساً تعدّ بركعة مكان الوتر » (٥) ، فإنّ البدلية المزبورة إنما تتجه لو أُريد من الوتر الركعة الواحدة ، إذ لو أُريد الثلاث لكانت الركعتان عن جلوس بدلاً عن ثلاث ركعات عن قيام وهو كما ترى.

وأما في كلمات الفقهاء فهو منصرف إلى خصوص الركعة المفصولة ولا ريب أنه مقتبس من لسان الأخبار ، لوضوح أنه ليس لهم في ذلك اصطلاح جديد ، بل لا يبعد القول بأن إطلاقه في لسان الروايات على مجموع الركعات الثلاث إنما هو لأجل المماشاة مع العامة ، حيث إنهم لا يعتبرون الانفصال أو يرون الاتصال ، فيسمون الثلاث الموصولة باسم الوتر ، وإلا فالمراد به حيثما أُطلق هو الركعة الثالثة المفصولة ، وعليها نزّل إطلاق الأدعية المأثورة في قنوت الوتر ، فلا إطلاق فيها ليحتاج إلى التقييد كما أُفيد ، بل هو منصرف إليها.

__________________

(١) الوسائل ٤ : ٥٤ / أبواب أعداد الفرائض ب ١٣ ح ٢٣.

(٢) الوسائل ٤ : ٥٧ / أبواب أعداد الفرائض ب ١٣ ح ٢٥ ، الخصال : ٦٠٣ / ٩.

(٣) فقه الرضا : ١٣٨.

(٤) تفسير القمي ٢ : ٤١٩.

(٥) الوسائل ٤ : ٤٥ / أبواب أعداد الفرائض ب ١٣ ح ٢.

٧١

ثم إنه حكي عن المحقق في المعتبر (١) وجملة من الأصحاب الذهاب إلى استحباب قنوت ثان في مفردة الوتر بعد الركوع ، استناداً إلى ما رواه الكليني عن علي بن محمد عن سهل عن أحمد بن عبد العزيز قال : « حدثني بعض أصحابنا قال : كان أبو الحسن الأول عليه‌السلام إذا رفع رأسه من آخر ركعة الوتر قال : هذا مقام مَن حسناته نعمة منك وشكره ضعيف وذنبه عظيم ... » إلخ (٢).

وفيه أوّلاً : أنها ضعيفة السند بالإرسال وبسهل وبابن عبد العزيز فإنه مجهول.

وأما علي بن محمد الذي هو من مشايخ الكليني ، فهو وإن كان مردداً بين ابن عبد الله القمي الذي لم يوثق وبين ابن بندار الموثق ، لاتحاده مع علي بن محمد بن أبي القاسم الثقة ، إلا أنه متى أُطلق يراد به الثاني كما صرح قدس‌سره بذلك كله في المعجم (٣). فلا نقاش من هذه الجهة.

وثانياً : أنها قاصرة الدلالة ، بداهة أن الدعاء أعم من القنوت المصطلح بين المتشرعة الذي يختص به الشيعة (٤).

وثالثاً : أنها معارضة (٥) بصحيحة معاوية بن عمار عن أبي عبد الله عليه‌السلام « قال : ما أعرف قنوتاً إلا قبل الركوع » (٦).

__________________

(١) المعتبر ٢ : ٢٤١.

(٢) الكافي ٣ : ٣٢٥ / ١٦.

(٣) معجم رجال الحديث ١٣ : ١٣٥ / ٨٣٩٨.

(٤) على أن الظاهر من آخر الركعة هو ما بعد رفع الرأس من السجدة الثانية دون الركوع فإنه أثناؤها لا آخرها ، وتفسيرها به لا ينسجم مع كلمة « آخر » كما لا يخفى فتكون أجنبية عما نحن فيه بالمرّة.

(٥) ولكن النسبة بينهما عموم مطلق كما لا يخفى.

(٦) الوسائل ٦ : ٢٦٨ / أبواب القنوت ب ٣ ح ٦.

٧٢

[١١٧٧] مسألة ٢ : الأقوى استحباب (*) الغفيلة وهي ركعتان بين المغرب والعشاء ، ولكنها ليست من الرواتب ، يقرأ فيها في الركعة الأُولى بعد الحمد ( وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلاّ أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظّالِمِينَ فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ ) [ الأنبياء ٢١ : ٨٧ ] وفي الثانية بعد الحمد ( وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلاّ هُوَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاّ يَعْلَمُها وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلاّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ ) [ الأنعام ٦ : ٥٩ ] (١).

______________________________________________________

(١) روى الصدوق في الفقيه مرسلاً وفي جملة من كتبه مسنداً عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أنه « قال : تنفّلوا في ساعة الغفلة ولو بركعتين خفيفتين فإنهما تورثان دار الكرامة » قال : وفي خبر آخر « دار السلام وهي الجنة وساعة الغفلة ما بين المغرب والعشاء الآخرة » (١).

ولعلّ التسمية بساعة الغفلة لأجل انشغال الناس بعد انصرافهم عن صلاة المغرب وقبل قدومهم إلى المسجد لفريضة العشاء ، بالأكل والشرب ونحوهما من ملاذ العيش وموجبات الغفلة.

وكيف ما كان ، فالسند بين مرسل وضعيف فلا يصلح للتعويل. على أن الدلالة قاصرة ، إذ لم يظهر منها أنها صلاة أُخرى مغايرة للنافلة ولعلها هي ، ويكون التعبير بالخفة إشارة إلى الاكتفاء بالمرتبة النازلة وهي العارية عن غير الفاتحة كما أُشير إليه في بعض الروايات من تفسير الخفيفتين بقوله : « يقرأ فيهما الحمد وحدها » (٢).

__________________

(*) فيه إشكال ، والأولى الإتيان بها بعنوان نافلة المغرب ، وكذا الحال في صلاة الوصيّة.

(١) الوسائل ٨ : ١٢٠ / أبواب بقيّة الصلوات المندوبة ب ٢٠ ح ١ ، الفقيه ١ : ٣٥٧ / ١٥٦٤.

(٢) فلاح السائل : ٤٣٤ / ٣٠١ ، مستدرك الوسائل ٦ : ٣٠٢ / أبواب بقية الصلوات المندوبة ب ١٥ ح ٢.

٧٣

ويؤيده : ما حكي عنهم عليهم‌السلام من أنهم لم يصلوا بعد المغرب أزيد من أربع ركعات نافلتها (١).

وبالجملة : فالركعتان قابلتان للانطباق على نافلة المغرب ، ومعه لا وثوق بإرادة غيرها. فلا يسعنا رفع اليد عن العمومات الناهية عن التطوع في وقت الفريضة بمثل ذلك.

نعم روى الشيخ في المصباح ما يظهر منه المغايرة وأنها صلاة مستقلة ذات كيفية خاصة ، عن هشام بن سالم عن أبي عبد الله عليه‌السلام « قال : من صلى بين العشاءين ركعتين يقرأ في الأُولى الحمد ( وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً ) إلى قوله ( وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ ) ، وفي الثانية الحمد وقوله ( وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلاّ هُوَ ) إلى آخر الآية فاذا فرغ من القراءة رفع يديه وقال : اللهم إني أسألك بمفاتح الغيب التي لا يعلمها إلا أنت أن تصلي على محمد وآل محمد وأن تفعل بي كذا وكذا ، اللهم أنت وليّ نعمتي والقادر على طلبتي تعلم حاجتي فأسألك بحق محمد وآله لمّا قضيتها لي ، وسأل الله حاجته أعطاه الله ما سأل » (٢).

ولكنها ضعيفة أيضاً بالإرسال فلا تصلح للاستدلال.

والتصدي للتصحيح بأن طريق الشيخ إلى كتاب هشام صحيح في الفهرست (٣) ، مدفوع باختصاصه بما يرويه عن كتابه كما يرويه عنه في التهذيبين ، حيث ذكر في المشيخة أنه يروي فيهما عن أصل أو كتاب المبدو به في السند (٤) ، وأما روايات المصباح فلم يحرز أنها كذلك ، ومن الجائز أنه رواها عن غير كتاب هشام ، والمفروض حينئذ جهالة الطريق.

__________________

(١) الوسائل ٤ : ٤٧ / أبواب أعداد الفرائض ب ١٣ ح ٦ ، ٧ ، ١٥.

(٢) الوسائل ٨ : ١٢١ / أبواب بقية الصلوات المندوبة ب ٢٠ ح ٢ ، مصباح المتهجد : ١٠٦.

(٣) الفهرست : ١٧٤ / ٧٦٠.

(٤) التهذيب ١٠ ( المشيخة ) : ٤.

٧٤

ثم إن ابن طاوس روى هذه الرواية في كتاب فلاح السائل بطريقه عن هشام بن سالم (١) إلا أن السند أيضاً ضعيف ، لأجل محمد بن الحسين الأشتر فإنه مجهول ، وأما عباد بن يعقوب فلا نناقش من جهته ، لوقوعه في أسناد كامل الزيارات (٢).

أضف إلى ذلك : أن ابن طاوس رواها عن علي بن محمد بن يوسف ، عن أحمد بن محمد بن سليمان الزراري وما في فلاح السائل من ذكر الرازي غلط ، إذ لا وجود له في الرواة ، وصحيحه ما عرفت المطابق للبحار (٣) والفصل بينه أي بين ابن طاوس وبين علي بن محمد أكثر من ثلاثمائة سنة فبينهما واسطة لا محالة. وحيث أنها مجهولة فتصبح الرواية مرسلة. هذا بناء على نسخة فلاح السائل.

وأما بناء على نسخة البحار من أن ابن طاوس رواها عن علي بن يوسف لا عن علي بن محمد بن يوسف فإن أُريد به من هو من مشايخ ابن طاوس فهو مجهول. على أن الفصل بينه وبين الزراري المزبور طويل أيضاً ، ولم يكونا في طبقة واحدة ليروي عنه بلا واسطة. وإن أُريد به من يروي عن الزراري فالفصل بينه وبين ابن طاوس كثير. فعلى جميع التقادير تصبح الرواية مرسلة.

ثم إنا لو سلّمنا وبنينا على صحة الرواية فهل يمكن الاستدلال بها على استحباب صلاة الغفيلة بعنوانها زيادة على الأربع ركعات نافلة المغرب لتكون خارجة عنها؟

الصحيح هو التفصيل بين ما لو أتى بها قبل الأربع ، وما إذا أتى بها بعدها.

ففي الصورة الأُولى ، بما أن أدلّة النافلة مطلقة وغير مقيدة بكيفية خاصة‌

__________________

(١) فلاح السائل : ٤٣٠ / ٢٩٥.

(٢) وقد عدل قدس‌سره عنه.

(٣) لاحظ بحار الأنوار ٨٤ : ٩٦.

٧٥

ويستحب أيضاً بين المغرب والعشاء صلاة الوصية ، وهي أيضاً ركعتان يقرأ في أُولاهما بعد الحمد ثلاث عشرة مرّة سورة إذا زلزلت الأرض ، وفي الثّانية بعد الحمد سورة التوحيد خمس عشرة مرّة (١).

______________________________________________________

فهي طبعاً قابلة للانطباق على ما اشتمل على خصوصية معيّنة ، لوضوح تحقق المطلق في ضمن المقيد ، فلا جرم تقع مصداقاً لها ومسقطاً لأمرها ، فيكون المأتي به مصداقاً لكلا الأمرين ومحققاً للامتثالين معاً.

وأما في الصورة الثانية ، فلا مناص من عدّها صلاة مستقلة ، لسقوط أمر النافلة بالأربع المأتية ، ومعه لا موضوع للانطباق ، فيبقى الأمر بالغفيلة على حاله ، بداهة عدم سقوط الأمر المتعلق بالمقيد بالإتيان بفرد من المطلق فاقداً لذلك القيد ، ومقتضى إطلاق دليل استحباب الغفيلة ثبوته حتى بعد الإتيان بنافلة المغرب. وعليه فيكون عدد الركعات المستحبة بعد صلاة المغرب في هذه الصورة ستة ، هذا.

ولكن سبيل الاحتياط درجها في نافلة المغرب وعدم تأخيرها عنها ، حذراً عن احتمال كونها من التطوع في وقت الفريضة الممنوع تحريماً أو تنزيهاً بعد أن لم يثبت الاستحباب بدليل قاطع صالح للخروج به عن عموم المنع المزبور ، وإن كان الأظهر أنه على سبيل التنزيه دون التحريم حسبما بيّناه في محله.

(١) الكلام فيها هو الكلام فيما تقدم في صلاة الغفيلة ، حيث لم يثبت استحباب هذه الصلاة بدليل معتبر ، لانحصار المستند فيما رواه الشيخ في المصباح مرسلاً عن الصادق عليه‌السلام عن أبيه عن آبائه عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أنه « قال : أُوصيكم بركعتين بين العشاءين يقرأ في الأُولى الحمد وإذا زلزلت الأرض ثلاث عشرة مرّة ، وفي الثانية الحمد مرّة وقل هو الله أحد خمس عشرة مرة ، فإن فعل ذلك في كل شهر كان من المؤمنين ، فإن فعل ذلك في كل سنة كان من المحسنين ، فان فعل ذلك في كل جمعة مرّة كان من‌

٧٦

[١١٧٨] مسألة ٣ : الظاهر أنّ الصلاة الوسطى التي تتأكد المحافظة عليها هي الظهر (١) فلو نذر أن يأتي بالصلاة الوسطى في المسجد أو في أوّل وقتها مثلاً أتى بالظهر.

______________________________________________________

المخلصين ، فان فعل ذلك كل ليلة زاحمني في الجنة ولم يحص ثوابه إلا الله تعالى » (١) ولا بأس بالإتيان بها بعنوان الرجاء.

ولكن الأحوط الأولى هنا أيضاً درجها في نافلة المغرب واحتسابها منها فلا تؤخر عنها ، حذراً عمّا عرفت من احتمال التطوع في وقت الفريضة ، فتقع امتثالاً للأمرين على تقدير استحبابها واقعاً ، وإلا فلخصوص النافلة بعد انطباقها عليها.

(١) على المشهور بل كالمتسالم عليه بين الأصحاب في غير يوم الجمعة ، أما فيه فصلاة الجمعة. وغير خفي أن البحث علمي بَحت ولا يترتب عليه أثر مهم إلا في النذر.

ويستدل للمشهور بروايات : منها صحيحة زرارة التي رواها المشايخ الثلاثة عن أبي جعفر عليه‌السلام في حديث « قال : وقال تعالى ( حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى ) (٢) ، وهي صلاة الظهر » (٣).

ومنها : صحيحة أبي بصير يعني المرادي قال : « سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : صلاة الوسطى صلاة الظهر ، وهي أوّل صلاة أنزل الله على نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله » (٤) ونحوهما غيرهما.

__________________

(١) الوسائل ٨ : ١١٨ / أبواب بقية الصلوات المندوبة ب ١٧ ح ١ ، مصباح المتهجد : ١٠٧.

(٢) البقرة ٢ : ٢٣٨.

(٣) الوسائل ٤ : ٢٢ / أبواب أعداد الفرائض ب ٥ ح ١ ، الكافي ٣ : ٢٧١ / ١ ، التهذيب ٢ : ٢٤١ / ٩٥٤ ، الفقيه ١ : ١٢٤ / ٦٠٠.

(٤) الوسائل ٤ : ٢٢ / أبواب أعداد الفرائض ب ٥ ح ٢.

٧٧

وخالفهم السيد المرتضى قدس‌سره حيث فسّرها بصلاة العصر مدعياً عليه الإجماع (١) ، ولا يخلو من غرابة في مسألة لم يظهر قائل بها سواه. أجل يعضده الفقه الرضوي فقد ورد فيه : قال العالم : « الصلاة الوسطى العصر » (٢).

وقد ورد في ذيل صحيحة زرارة المتقدمة ما لفظه : « وفي بعض القراءة ( حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ ، وَالصَّلاةِ الْوُسْطى ) ، صلاة العصر ، ( وَقُومُوا لِلّهِ قانِتِينَ ) (٣).

وروى الصدوق في الفقيه بإسناده عن الحسن بن علي بن أبي طالب عليه‌السلام أنه « قال : جاء نفر من اليهود إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى أن قال : وأما صلاة العصر فهي الساعة التي أكل آدم فيها من الشجرة .. إلى أن قال : فهي مِن أحب الصلوات إلى الله عز وجل ، وأوصاني أن أحفظها من بين الصلوات » (٤). والظاهر انه صلى‌الله‌عليه‌وآله يشير بذلك إلى قوله تعالى ( حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى ) (٥).

والكل كما ترى ، أما الرضوي فحاله معلوم ، وأما ذيل الصحيحة فلا سبيل للاعتماد عليه بعد مخالفته لصدرها الصريح في أنها صلاة الظهر ، ولعل المراد ببعض القراءة قراءة العامة ، فيكون ما أُفيد في الصدر هو الصحيح.

على أن التهذيب رواها مع العاطف فنقلها هكذا « ... وصلاة العصر » (٦) فتخرج حينئذ عن كونها تفسيراً للصلاة الوسطى ، لوضوح واو العطف في المغايرة ، وإن كانت العصر أيضاً مورداً للاهتمام والمحافظة.

وأما رواية الصدوق فلأجل اشتمال سندها على عدّة من المجاهيل غير صالحة للتعويل.

__________________

(١) رسائل الشريف المرتضى ١ : ٢٧٥.

(٢) لم نجده في فقه الرضا راجع بحار الأنوار ٧٦ : ٢٨٨.

(٣) الوسائل ٤ : ١٠ / أبواب أعداد الفرائض ب ٢ ح ١.

(٤) الوسائل ٤ : ١٤ / أبواب أعداد الفرائض ب ٢ ح ٧ ، الفقيه ١ : ١٣٧ / ٦٤٣.

(٥) البقرة ٢ : ٢٣٨.

(٦) التهذيب ٢ : ٢٤١ / ٩٥٤ والموجود في التهذيب بلا واو.

٧٨

[١١٧٩] مسألة ٤ : النوافل المرتّبة وغيرها يجوز إتيانها جالساً ولو في حال الاختيار (١).

______________________________________________________

والمتحصل : أنه ليس بإزاء الصحاح المتقدّمة المفسّرة لها بصلاة الظهر ما يكون ناهضاً للمقاومة ، فما ذكره السيد لا يمكن المساعدة عليه بوجه.

وهناك أقوال أُخر للعامة حول تفسير الوسطى ، لعل المعروف بينهم أنها صلاة العصر كما عن المغني لابن قدامة (١) ولعله إليه أُشير في ذيل الصحيحة المتقدمة بقوله عليه‌السلام : « وفي بعض القراءة » وعن آخر : أنها المغرب ، وعن ثالث : أنها العشاء ، ورابع : أنها الصبح ، وخامس : أنها الجمعة ، وسادس : أنها مجموع الصلوات الخمس ، وقيل إنها الصلاة على محمد وآله ، وكل هذه الأقوال كما ترى لا دليل عليها أصلاً ، والصحيح ما عليه المشهور. والله العالم بحقائق الأمور.

(١) على المشهور بل عن غير واحد دعوى الإجماع عليه. وتدل عليه جملة من النصوص التي منها صحيحة سهل بن اليسع أنه سأل أبا الحسن الأوّل عليه‌السلام « عن الرجل يصلي النافلة قاعداً وليست به علة في سفر أو حضر ، فقال : لا بأس » (٢).

وموثقة [ حَنان بن ] سدير عن أبيه قال : « قلت لأبي جعفر عليه‌السلام : أتصلي النوافل وأنت قاعد؟ فقال : ما أُصليها إلا وأنا قاعد منذ حملت هذا اللحم وما بلغت هذا السن » (٣) ونحوهما غيرهما.

ومقتضى الإطلاق ، بل وصراحة بعضها شمول الحكم حتى لحال الاختيار ، خلافاً لابن إدريس حيث خص الجواز بالوتيرة وعلى الراحلة (٤) ، وهو‌

__________________

(١) المغني ١ : ٤٢١.

(٢) ، (٣) الوسائل ٥ : ٤٩١ / أبواب القيام ب ٤ ح ٢ ، ١.

(٤) السرائر ١ : ٣٠٩.

٧٩

والأولى حينئذ عدّ كل ركعتين بركعة (١) فيأتي بنافلة الظهر مثلاً ست عشرة ركعة ، وهكذا في نافلة العصر ، وعلى هذا يأتي بالوتر مرّتين كل مرّة ركعة.

______________________________________________________

محجوج بالنصوص المتقدمة.

(١) لجملة من النصوص التي منها صحيحة علي بن جعفر « عن المريض إذا كان لا يستطيع القيام كيف يصلي؟ قال : يصلي النافلة وهو جالس ويحسب كل ركعتين بركعة » إلخ (١).

ورواية محمد بن مسلم قال : « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل يكسل أو يضعف فيصلي التطوع جالساً ، قال : يضعف ركعتين بركعة » (٢) وغيرهما.

__________________

(١) ، (٢) الوسائل ٥ : ٤٩٣ / أبواب القيام ب ٥ ح ٥ ، ٣.

٨٠