موسوعة الإمام الخوئي

الشيخ مرتضى البروجردي

خالية عن كلمة « أول » وحيث أن الكافي أضبط فيقدّم.

وعليه فلا دلالة لها على المدعى بوجه ، ضرورة عدم وجوب إيقاع الصلاة في أوّل الوقت الأوّل ، ولم يلتزم به حتى صاحب الحدائق نفسه قدس‌سره إذن فلا مناص من حمل الرواية على معنى آخر كما ستعرف.

نعم ، بناء على رواية التهذيب فللاستدلال بها مجال ، إلا أنّ للمناقشة فيه أيضاً مجالاً واسعاً ، نظراً إلى ما تضمنته من التقييد بغير الحدود ، فانّ معنى الرواية حينئذ بناءً على إرادة الوقت الأول أن الصلاة في غير الوقت المزبور من دون مراعاة الحدود المقررة والشرائط المعينة تكون باطلة ورجعت سوداء مظلمة ، وهو خارج عن محل الكلام من افتراض الإخلال بالوقت فحسب لا بسائر الحدود والشرائط فلاحظ.

ومنها : ما عبّر عنه في الحدائق (١) بالموثق عن عمّار الساباطي عن أبي عبد الله عليه‌السلام « قال : من صلى الصلوات المفروضات في أول وقتها وأقام حدودها رفعها الملك إلى السماء بيضاء نقية وهي تهتف به تقول : حفظك الله كما حفظتني وأستودعك الله كما استودعتني ملكاً كريماً ، ومن صلاها بعد وقتها من غير علّة ولم يقم حدودها رفعها الملك سوداء مظلمة وهي تهتف به : ضيّعتني ضيّعك الله كما ضيّعتني ، ولا رعاك الله كما لم ترعني » الحديث (٢).

وهي متحدة مضموناً مع الرواية السابقة ، والجواب هو الجواب ، وإنما الكلام في السند حيث وصفها في الحدائق بالموثقة كما سمعت وليست كذلك ، إذ الصدوق (٣) يرويها عن شيخه الحسين بن إبراهيم بن تاتانة ( ناتانة ) ولم يوثق ، ومجرّد الشيخوخة لا يكفي في الوثاقة ، كيف وفيهم البرّ والفاجر ، بل الناصب‌

__________________

(١) الحدائق ٦ : ٩٧.

(٢) الوسائل ٤ : ١٢٣ / أبواب المواقيت ب ٣ ح ١٧.

(٣) أمالي الصدوق : ٣٢٨ / ١١.

١٠١

كالضبي ، ولم يلتزم بما التزم به النجاشي من عدم الرواية إلا عن الثقة (١) فتوصيفها بها ولا سيما من خبير بفن الحديث مثله لا يخلو عن غرابة.

ومنها : ما رواه الحسن بن محمد الطوسي في المجالس ، وكذلك الشريف الرضي في نهج البلاغة فيما كتبه أمير المؤمنين عليه‌السلام لمحمد بن أبي بكر لمّا ولاّه مصر وفيه : « .. ثم ارتقب وقت الصلاة فصلّها لوقتها ، ولا تعجّل بها قبله لفراغ ولا تؤخّرها عنه لشغل ، فانّ رجلاً سأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عن أوقات الصلاة ، فقال : أتاني جبرئيل عليه‌السلام فأراني وقت الظهر ( الصلاة ) حين زالت الشمس فكانت على حاجبه الأيمن ، ثم أراني وقت العصر وكان ظل كلّ شي‌ء مثله ، ثم صلّى المغرب إلى أن قال فصلّ لهذه الأوقات والزم السنّة المعروفة والطريق الواضح ... » إلخ (٢).

وفيه : مضافاً إلى ضعف السند (٣) لاشتماله على عدّة من المجاهيل ، وإلى اشتمالها على ما لم يقل به أحد من لزوم الإتيان بالظهر حين الزوال ، مع أن وقت الفضيلة يمتد إلى بلوغ الظل مثله ، بل ينبغي التأخير إلى ما بعد القدم ، ومن أنّ وقت العصر صيرورة ظل كل شي‌ء مثله مع جواز الإتيان بها قبل ذلك اتفاقاً ، أنها قاصرة الدلالة ، لأنّ ظاهر النهي عن التأخير بقرينة المقابلة مع التقديم هو التأخير عن أصل الوقت لا عن الوقت الأول ، فغايتها الدلالة على الحث والترغيب في الإتيان بها في وقت الفضيلة لا لزومه وتعينه كما هو المدعى.

بقيت في المقام روايتان ربما يتوهم الاستدلال بهما على مقالة صاحب الحدائق.

إحداهما : معتبرة معمّر بن عمر قال : « سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن‌

__________________

(١) راجع معجم الرجال ١ : ٥٠.

(٢) الوسائل ٤ : ١٦١ / أبواب المواقيت ب ١٠ ح ١٢ ، أمالي الطوسي : ٢٩ / ٣١ ، نهج البلاغة : ٣٨٤ / ٢٧.

(٣) والسند مذكور في الوسائل ١ : ٣٩٧ / أبواب الوضوء ب ١٥ ح ١٩.

١٠٢

الحائض تطهر عند العصر تصلي الاولى؟ قال : لا ، إنما تصلي الصلاة التي تطهر عندها » (١).

ثانيتهما : موثقة الفضل بن يونس قال : « سألت أبا الحسن الأول عليه‌السلام قلت : المرأة ترى الطهر قبل غروب الشمس كيف تصنع بالصلاة؟ قال : إذا رأت الطهر بعد ما يمضي من زوال الشمس أربعة أقدام فلا تصلي إلا العصر ، لأن وقت الظهر دخل عليها وهي في الدم ، وخرج عنها الوقت وهي في الدم فلم يجب عليها أن تصلي الظهر ، وما طرح الله عنها من الصلاة وهي في الدم أكثر » (٢).

وفيه : أن الروايتين لا عامل بهما منّا ، ولم يكن بُدّ من حملهما على التقية ، لموافقتهما للعامة (٣) ومعارضتهما مع النصوص الكثيرة الدالة على امتداد وقت الظهرين إلى الغروب ، بل ومعارضتهما مع النصوص الواردة في خصوص المقام التي منها ما رواه الشيخ بإسناده عن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليه‌السلام « قال : إذا طهرت المرأة قبل غروب الشمس فلتصلّ الظهر والعصر ، وإن طهرت من آخر الليل فلتصلّ المغرب والعشاء » (٤).

نعم ، إن هذه الروايات بأجمعها ضعاف ، لأنّ الشيخ يرويها بإسناده عن علي ابن الحسن بن فضال وطريقه إليه ضعيف (٥) والعمدة هي الطائفة المتقدمة.

أضف إلى ذلك أن مورد الروايتين هو الاضطرار ، فان الحيض من أعظم الأعذار ، ولا شبهة أنها تسوّغ التأخير إلى الوقت الثاني حتى عند صاحب الحدائق ، فهو أيضاً لم يعمل بهما في موردهما.

__________________

(١) الوسائل ٢ : ٣٦٢ / أبواب الحيض ب ٤٩ ح ٣.

(٢) الوسائل ٢ : ٣٦١ / أبواب الحيض ب ٤٩ ح ٢.

(٣) المغني ١ : ٤٤١.

(٤) الوسائل ٢ : ٣٦٤ / أبواب الحيض ب ٤٩ ح ١٠ ، التهذيب ١ : ٣٩٠ / ١٢٠٤.

(٥) ولكنه قدس‌سره صحح الطريق أخيراً فلا تغفل.

١٠٣

ويختص الظهر بأوّله مقدار أدائها بحسب حاله ويختص العصر بآخره كذلك (١)

______________________________________________________

والمتحصل من جميع ما تقدّم : أنه لا سبيل للمصير إلى ما اختاره صاحب الحدائق وغيره من أن الوقت الأول للمختار ، والثاني للمضطر ، بل الصحيح ما عليه المشهور من أنهما للفضيلة والإجزاء حسبما عرفت.

(١) المشهور أن الظهر يختص بأول الوقت مقدار أدائها بحسب حاله ، وكذا العصر يختص بآخره كذلك ، ونسب إلى الصدوقين (١) وبعض المتأخرين أنّ الوقت مشترك بينهما من أوله إلى آخره من دون أيّ اختصاص ، غايته أنه لا بدّ من رعاية الترتيب بينهما بإيقاع الظهر قبل العصر.

فإن أراد القائل بالاختصاص أن شرطية الترتيب تقتضي اختصاص الظهر بأوّله مقدار أدائها بالفعل فهو حق ، وإن أراد أنّ الوقت غير صالح لإيقاع العصر فيه وأنه يكون بمثابة إيقاعه قبل الزوال حتى فيما إذا سقطت شرطية الترتيب كما في النسيان ونحوه ، فلا دليل عليه.

وكيف ما كان ، يقع الكلام في هذه المسألة تارة بملاحظة أول الوقت ، وأُخرى باعتبار آخره.

أما بالنظر إلى أوّل الوقت ، فقد استدل القائلون بالاختصاص بوجوه :

الأوّل : ما عن المدارك من أنّه لا معنى لوقت الفريضة إلا ما جاز إيقاعها فيه ولو على بعض الوجوه ، ولا ريب أن إيقاع العصر عند الزوال على سبيل العمد ممتنع ، لاستلزامه عدم رعاية شرطية الترتيب ، وكذا مع النسيان ، لعدم الإتيان بالمأمور به على وجهه وهو كونه متأخراً عن الظهر ، وانتفاء ما يدل على الصحة مع المخالفة ، إذ لا دليل على إجزاء فاقد الشرط ولو مع النسيان عن‌

__________________

(١) [ لم يصرّح الصدوق بذلك إلا أنه نقل الأخبار الدالة على الاشتراك ولم ينقل ما يخالفها ، راجع الفقيه ١ : ١٣٩ ، حكاه عنهما في الرياض ٣ : ٣٥ ، وراجع المقنع : ٩١ ].

١٠٤

الواقع ، وإذا امتنع وقوع العصر عند الزوال مطلقاً انتفى كون ذلك وقتاً ، ولا نعني بالاختصاص إلا هذا (١).

وهذا الاستدلال منه قدس‌سره عجيب.

أما أوّلاً : فلمنع قوله : وانتفاء ما يدل على الصحة مع المخالفة ، فإن الدليل موجود ، فإنه لو لم يكن هنالك دليل آخر من رواية وغيرها على الاختصاص كان مقتضى قاعدة لا تعاد هو الصحة والاجتزاء بهذه الصلاة ، لعدم كون الترتيب المشروط رعايته من جملة المستثنيات المذكورة فيها.

وثانياً : سلّمنا أنه مع النسيان أيضاً لا دليل على الصحة مع المخالفة إلا أنّ إتيان العصر أوّل الزوال غير منحصر في خصوص فرض العمد والنسيان المستلزمين للإخلال بشرطية الترتيب ، بل هناك فرض ثالث غير مستتبع لذلك ، وهو ما إذا اعتقد بعد التحري والاجتهاد دخول الوقت فصلى الظهر وقد تبيّن أنه واقع خارج الوقت غير أنه أدرك بعضه ولو كان لحظة منه ، فان المشهور على أن هذه الصلاة باعتبار وقوع جزء منها في الوقت تكون صحيحة ، وحينئذ فما المانع من إتيان صلاة العصر بعدها بلا فصل ، والحال أن المفروض رعاية شرطية الترتيب ، مع أن القائلين بالاختصاص يلزمهم القول بلزوم الانتظار والصبر إلى أن يمضي مقدار أربع ركعات من الزوال ثم يصلي العصر ، وهذا الدليل لا يدل على ذلك في مثل الفرض ، بل لا مانع من الالتزام بصحة وقوع العصر في أوّل الوقت كما عرفت.

الثاني : ما عن المختلف من أن القول بالاشتراك مستلزم لأحد المحذورين ، إما التكليف بما لا يطاق أو خرق الإجماع ، وذلك لأن التكليف عند الزوال إما أن يتعلق بالصلاتين معاً ، بأن يأتي بهما معاً في وقت واحد وهو محال ، أو بأحدهما لا بعينه وهو خرق للإجماع ، أو بخصوص العصر وهو كذلك. على أنه مناف‌

__________________

(١) المدارك ٣ : ٣٦.

١٠٥

للاشتراك ، أو بخصوص الظهر وهو المطلوب (١).

وهذا الاستدلال كما ترى من مثله قدس‌سره عجيب جدّاً ، إذ غاية ما يترتب عليه تعين إتيان الظهر أول الوقت عند الذكر ، وهذا مما لا خلاف فيه ولا إشكال ، وإنما الكلام في مثل النسيان ونحوه كالفرض المتقدم ، فإنه على القول بالاختصاص وعدم صلاحية ذاك الوقت إلا لخصوص الظهر تكون العصر فيه باطلة ، بخلافه على القول بالاشتراك ، وهذا الدليل أجنبي عن ذلك ، فهذا الوجه أيضاً غير وجيه.

الثالث وهو العمدة : الروايات ، وهي منحصرة في مرسلة داود بن فرقد عن بعض أصحابنا عن أبي عبد الله عليه‌السلام « قال : إذا زالت الشمس فقد دخل وقت الظهر حتى يمضي مقدار ما يصلي المصلي أربع ركعات ، فاذا مضى ذلك فقد دخل وقت الظهر والعصر حتى يبقى من الشمس مقدار ما يصلّي المصلّي أربع ركعات ، فإذا بقي مقدار ذلك فقد خرج وقت الظهر وبقي وقت العصر حتى تغيب الشمس » (٢).

وعنه أيضاً بهذا المضمون في العشاء (٣).

وهذه الرواية وإن كانت ظاهرة في مذهب المشهور إلا أنها مرسلة غير قابلة للاستدلال بها. وما يقال من انجبارها بعمل المشهور فيه منع صغرى وكبرى كما عرفت مراراً.

ومن العجيب ما ذكره شيخنا الأنصاري قدس‌سره في أول صلاته (٤) ما معناه : أن هذه الرواية وإن كانت مرسلة إلا أن إرسالها غير قادح فيها ، وذلك لأن في سندها الحسن بن علي بن فضال ، وقد ورد في بني فضال عنه‌

__________________

(١) المختلف ٢ : ٣٤.

(٢) الوسائل ٤ : ١٢٧ / أبواب المواقيت ب ٤ ح ٧.

(٣) الوسائل ٤ : ١٨٤ / أبواب المواقيت ب ١٧ ح ٤.

(٤) كتاب الصلاة ١ : ٣٦.

١٠٦

( عليه‌السلام ) : « خذوا ما رووا وذروا ما رأوا » فإن مقتضاه الأخذ برواياتهم التي منها هذه الرواية.

وفيه أوّلاً : أن بني فضال لا يزيدون على أمثال زرارة ومحمد بن مسلم وغيرهما من العدول المستقيمين ، وهؤلاء لا يؤخذ برواياتهم إلا إذا كان الرواة في أنفسهم معتبرين فكيف يؤخذ بروايات أُولئك ، بل هم أيضاً لم يكن يؤخذ برواياتهم قبل انحرافهم فكيف صار توقفهم موجباً للعمل برواياتهم ، أفهل ترى أنهم بسبب انحرافهم ازدادت وثاقتهم وارتفعت منزلتهم حتى بلغوا مرتبة لا يسعنا رفض رواياتهم وإن أسندوها إلى ضعيف أو رووها عن مجهول. إذن فمعنى الرواية على تقدير صدورها أنّ هؤلاء بما أنهم موثّقون في كلامهم فانحرافهم في العقيدة لا يمنع من العمل برواياتهم من ناحيتهم ، وأما الرواة السابقون أو اللاحقون لهم فلا بدّ من النظر في حالهم وتشخيص هوياتهم.

وثانياً : أنه لم يثبت ورود مثل هذه الرواية في شأن بني فضّال ، فانّ سند هذه الرواية هو ما رواه الشيخ الطوسي عن الطاطري (١) عن أبى الحسين عن عبد الله الكوفي خادم الحسين بن روح عنه أنه قال : إني أقول في كتب الشلمغاني ما قاله العسكري في كتب بني فضال : « خذوا ما رووا وذروا ما رأوا » (٢) وعبد الله الكوفي وكذا أبو الحسين لم يوثقا ، هذا.

ولو أغمضنا عن السند وفرضنا صحة هذه الرواية أعني رواية داود بن فرقد المتقدمة لم تكن معارضة بينها وبين غيرها من الروايات ، بل يكون جميعها في مقام بيان اعتبار الترتيب بينهما ، وذلك لأن الظاهر من مضي أربع ركعات ليدخل وقت العصر ولو بضميمة تلك الروايات الدالة على أنه إذا زالت الشمس دخل الوقتان إلا أنّ هذه قبل هذه ، هو مضي أربع ركعات بالفعل بأن‌

__________________

(١) [ الظاهر أنّ الطاطري من سهو القلم ].

(٢) الوسائل ٢٧ : ١٠٢ ، أبواب صفات القاضي ب ٨ ح ٧٩ ، الغيبة : ٣٨٩ / ٣٥٥.

١٠٧

صلاها المكلف فعلاً ، ليدخل وقت العصر على نحو الإطلاق ومن دون مزاحم واشتراط وفرض وتقدير في قبال ما قبل مضي أربع ركعات بالفعل ، فانّ دخول الوقت بالنسبة إلى العصر حينئذ إنما هو على تقدير وفرض مضي زمان يسع لأربع ركعات.

ومما يدل على ما ذكرناه : أنه لو كان المراد هو الزمان التقديري فهذا الزمان غير منضبط في نفسه ، فلا بد وأن يكون المراد منه أحد أمرين : إما الزمان المتعارف بالنسبة إلى الناس فإنهم مختلفون بين مقلّ ومكثر ومتوسط والأخير هو المتعارف أو يكون كل شخص بالنسبة إلى حاله.

أما الأوّل : فمقتضاه عدم جواز الشروع في العصر لو فرغ عن الظهر قبل الوقت المتعارف ، فلو فرضنا أنّ المتعارف لصلاة الظهر يستوعب ثمان دقائق من الوقت وقد صلى في أربع دقائق لم يجز له الدخول في العصر قبل مضي الثمان ، بل لا بدّ له من الانتظار والصبر إلى أن يمضي أربع دقائق أُخر ، وهذا كما ترى مخالف لصريح النصوص والفتاوى القاضية بجواز الشروع في العصر بمجرد الفراغ من الظهر حيثما اتفق.

وأما الثاني : فمع كونه خلاف الظاهر كما لا يخفى ، بل بعيد في نفسه ، إذ لازمه اختلاف وقت العصر باختلاف المصلين فيكون داخلاً بالنسبة إلى مكلف غير داخل بالنسبة إلى الآخر وهو كما ترى ، بل ومنافٍ لقاعدة الاشتراك في الأحكام ، أنه لا يخلو الحال إما أن يكون المراد هو المتعارف بالنسبة إلى حاله ، فيرد عليه ما أوردناه على الأول آنفاً ، وإما أن يكون المقصود هو الاقتصار على أقلّ الواجبات فهذا خلاف الظاهر جدّاً ، فلا جرم يكون المراد هو الزمان الفعلي (١) كما استظهرناه لا التقديري.

__________________

(١) لكن هذا ايضاً مخدوش ، إذ مضافاً إلى عدم انسجامه مع قوله في الذيل « حتى يبقى من الشمس مقدار .. » إلخ ضرورة أن المراد هنا إنما هو الزمان التقديري لا الفعلي فيكون كذلك في

١٠٨

هذا ومع الغض عن جميع ذلك فتصبح هذه الرواية معارضة مع تلك الروايات الكثيرة الدالة على أنه إذا زالت الشمس دخل الوقتان جميعاً ، فإنها صريحة في دخول كلا الوقتين بمجرد الزوال.

ثم إنه ربما يستدل لوقت الاختصاص بما في ذيل جملة من الأخبار من قوله عليه‌السلام : « إلا أن هذه قبل هذه » (١) بدعوى أن المنسبق من هذا التعبير أنّ وقت هذه قبل هذه.

ولكنه كما ترى للتصريح في صدرها بدخول الوقتين معاً بمجرد الزوال فكيف ينسجم ذلك مع الدعوى المزبورة ، بل لا ينبغي التأمل في أن النظر في تلك العبارة معطوف إلى حيثية الترتيب لا غير ، ولزوم مراعاته بين الصلاتين. إذن فالقبلية ملحوظة بين نفس الصلاتين لا بين وقتيهما.

والمتحصل من جميع ما تقدم : أن القول بالاختصاص بالمعنى المنسوب إلى المشهور لا أساس له ، وربّ شهرة لا أصل لها. هذا كله من حيث مبدأ الوقت وأوّله.

وأما من حيث آخره : فإن أُريد من اختصاص مقدار أربع ركعات من منتهى الوقت بالعصر أنّ من لم يكن آتياً بالظهرين يتعين عليه حينئذ صرف الوقت في العصر ، فحق لا محيص عنه وسيأتي الكلام عليه إن شاء الله تعالى.

وإن أُريد به عدم صلاحية الوقت لوقوع الظهر فيه حتى لو كانت الذمة فارغة عن صلاة العصر لتقديمها نسياناً أو خطأً ، بل لو صلاها حينئذ كانت قضاء لخروج وقتها ، فهذه الدعوى لا سبيل إلى إثباتها بوجه ، بل إن مقتضى‌

__________________

الصدر بمقتضى اتحاد السياق ، أنه لا يناسبه قوله « فاذا مضى ذلك فقد دخل وقت الظهر والعصر » بل كان اللازم أن يقال بدلا عن ذلك : فقد دخل وقت العصر ، بداهة أنه بعد فرض الإتيان بصلاة الظهر خارجاً لا معنى للقول بدخول وقتها ، وعليه فتصبح الرواية مجملة لعدم خلو دلالتها عن الاشكال على أيّ حال.

(١) الوسائل ٤ : ١٢٦ / أبواب المواقيت ب ٤ ح ٥ ، ٢٠ ، ٢١.

١٠٩

حديث لا تعاد هو الحكم بالصحة وإن وقعت الظهر بعد العصر ، إذ لا خلل حينئذ إلا من ناحية الترتيب المنفي اعتباره بالحديث.

أجل قد نطقت صحيحة زرارة بأن العصر المقدّم نسياناً يحسب ظهراً ويأتي بالعصر بعد ذلك ، لأنها أربع مكان أربع (١) إلا أنّ ذاك بحث آخر سنتكلم حوله في محلّه إن شاء الله تعالى.

والكلام الآن متمحض فيما تقتضيه القاعدة مع الغض عن النصوص الخاصة ، وقد عرفت أنّ مقتضاها بعد ملاحظة الروايات الدالة على اشتراك الوقت بين الصلاتين من البدو إلى الختم بضميمة حديث لا تعاد هو الحكم بصحة الظهر الواقعة في هذا الوقت ، كما وعرفت ضعف مرسلة داود بن فرقد وعدم صحة التعويل عليها ، هذا.

وربما يستدل للقول بالاختصاص بما رواه الشيخ بإسناده عن الحسين بن سعيد عن ابن سنان عن ابن مسكان عن الحلبي في حديث قال : « سألته عن رجل نسي الأُولى والعصر جميعاً ثم ذكر ذلك عند غروب الشمس ، فقال : إن كان في وقت لا يخاف فوت إحداهما فليصلّ الظهر ثم ليصلّ العصر ، وإن هو خاف أن تفوته فليبدأ بالعصر ولا يؤخرها فتفوته فيكون قد فاتتاه جميعا ، ولكن يصلي العصر فيما قد بقي من وقتها ثم ليصلّ الاولى بعد ذلك على أثرها » (٢).

فان المستفاد من قوله : « ولا يؤخرها .. » إلخ أنه لو أتى بالظهر في هذا الوقت وأخّر العصر فقد فاتته الصلاتان معا ، أما العصر فواضح ، وأما الظهر فلأجل إيقاعها في الوقت المختص بالعصر الذي هو بمثابة الوقوع في خارج الوقت.

__________________

(١) الوسائل ٤ : ٢٩٠ / أبواب المواقيت ب ٦٣ ح ١.

(٢) الوسائل ٤ : ١٢٩ / أبواب المواقيت ب ٤ ح ١٨.

١١٠

وفيه : أن الدلالة وإن كانت تامة لكن السند ضعيف وإن عبّر عنها في بعض الكلمات بالصحيحة ، إذ المراد بابن سنان الواقع في السند بقرينة الراوي والمروي عنه هو محمد ، فإنه الذي يروي عنه الحسين بن سعيد وهو يروي عن ابن مسكان غالباً لا عبد الله ، ولا أقل من الشك في ذلك المسقط لها عن درجة الاعتبار.

ثم إنك عرفت صحة القول بوقت الاختصاص بالمعنى الآخر أعني لزوم صرف الوقت في صلاة العصر في من لم يأت بهما إلى أن بقي مقدار أربع ركعات ، وذلك لا لقصورٍ في الوقت نفسه لوقوع الظهر فيه ، كيف وما بين الحدين وقت لكلتا الصلاتين ، وكل جزء منه صالح لوقوع أيّ منهما فيه بمقتضى قوله عليه‌السلام في جملة من الأخبار : « إذا زالت الشمس فقد دخل الوقتان ». ومن ثم لو قدّم العصر نسياناً أو باعتقاد الإتيان بالظهر ساغ له الإتيان بصلاة الظهر حينئذ كما تقدم.

بل لأجل أنّ ذلك هو مقتضى الترتيب المستفاد من قوله عليه‌السلام في ذيل تلك الأخبار : « إلا أنّ هذه قبل هذه » فان مقتضى اعتبار القبلية أنّ الظهر لا تزاحم العصر في هذا الوقت ، بل يسقط أمرها ويتعين صرف الوقت في صلاة العصر فحسب.

وبعبارة اخرى : لا يعقل بقاء الأمر بالصلاتين معاً في هذا الوقت لعدم سعته ، وحينئذ فإما أن يكون مأموراً بصلاة العصر فقط أو بالظهر فقط ، أو بهما معاً على البدل وعلى سبيل التخيير بعد وضوح عدم سقوط الصلاة عنه رأساً.

لكن الأخيرين ساقطان قطعاً ، إذ مضافاً إلى تسالم الأصحاب على عدم وجوب الظهر حينئذ لا تعييناً ولا تخييراً ، لا يمكن الالتزام به في نفسه ، فان كل جزء من الوقت وإن كان صالحاً في حدّ ذاته لكل واحدة من الصلاتين ، ولا تزاحم الشريكة صاحبتها في شي‌ء منه كما سبق إلا أنهما لمّا كانتا منبسطتين على مجموع الوقت على صفة الترتيب فاختصاص الأربع الأخيرة بصلاة‌

١١١

وما بين المغرب ونصف الليل وقت للمغرب (١).

______________________________________________________

العصر هو لازم الانبساط والتقسيط المزبور ومن مقتضياته بطبيعة الحال ، فلا جرم ينتهي بذلك وقت الظهر ويتعين صرف الوقت في العصر. وتعضده النصوص الواردة في الحائض الناطقة بأنّها تصلي العصر إذا طهرت عنده كما تقدم.

(١) لا إشكال كما لا خلاف في أن مبدأ وقت صلاة المغرب هو الغروب على الخلاف في تفسيره باستتار القرص أو ذهاب الحمرة المشرقية كما سيأتي تحقيقه إن شاء الله تعالى (١) وتدل عليه جملة وافرة من الأخبار التي منها صحيحة زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام : « ... وإذا غابت الشمس دخل الوقتان المغرب والعشاء الآخرة » (٢).

والكلام في اختصاص أوّله بمقدار ثلاث ركعات للمغرب ، وآخره بمقدار أربع ركعات للعشاء هو الكلام المتقدم في الظهرين ، وسيأتي البحث عنه مستوفى عند تعرض الماتن له.

وكيف ما كان ، فوقت المغرب من حيث المبدأ لا كلام لنا فيه ، وإنما الكلام في منتهاه ، فالمعروف والمشهور امتداده إلى نصف الليل.

وعن بعض علمائنا كما في محكي المبسوط (٣) إلى طلوع الفجر وإن حرم التأخير عن النصف.

وعن المحقق في المعتبر اختصاص الامتداد المزبور بالمضطر (٤) وهو أول من ذهب إلى هذا القول كما صرح به في الحدائق قال : وتبعه صاحب المدارك‌

__________________

(١) في ص ١٦٥.

(٢) الوسائل ٤ : ١٨٣ / أبواب المواقيت ب ١٧ ح ١.

(٣) المبسوط ١ : ٧٥.

(٤) المعتبر ٢ : ٤٠.

١١٢

وشيّده (١) وقد تبعه في هذا القول جملة ممن تأخر عنه كما هي عادتهم غالباً انتهى (٢).

وعن الشيخ في الخلاف (٣) وابن البراج (٤) : أنه غيبوبة الشفق مطلقاً.

وعن ابي الصلاح (٥) وابن حمزة (٦) ان ذلك للمختار ، أما المضطر فيمتد إلى ربع الليل.

وعن المفيد (٧) وابن بابويه (٨) اختيار هذا التفصيل ، لكن بالإضافة إلى الحاضر والمسافر بدلاً عن المختار والمضطر.

والصحيح ما عليه المشهور. ويدلنا عليه قوله تعالى ( أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ ) (٩) بضميمة صحيح زرارة الوارد في تفسيره من أن أربع صلوات فيما بين دلوك الشمس إلى غسق الليل ، أي منتصفه (١٠) ، وبعد القطع الخارجي بعدم جواز تأخير الظهرين عن الغروب ، ولا تقديم العشاءين عليه يعلم بأنّ منتهى وقتهما هو منتصف الليل ، وبما أن الخطاب متوجه إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كوظيفة مقررة على جميع المسلمين وطبيعي المكلفين من غير اختصاص بطائفة دون اخرى ، فلا سبيل لحملة على خصوص المعذورين والمضطرين.

__________________

(١) المدارك ٣ : ٥٤.

(٢) الحدائق ٦ : ١٧٦.

(٣) الخلاف ١ : ٢٦١.

(٤) شرح جمل العلم والعمل : ٦٦.

(٥) الكافي في الفقه : ١٣٧.

(٦) الوسيلة : ٨٣.

(٧) المقنعة : ٩٣ ، ٩٥.

(٨) الفقيه ١ : ١٤١.

(٩) الإسراء ١٧ : ٧٨.

(١٠) الوسائل ٤ : ١٠ / أبواب أعداد الفرائض ب ٢ ح ١.

١١٣

وعليه ، فلو وردت رواية تامة السند والدلالة وقد دلت على امتداد الوقت إلى ذهاب الشفق أو غيره من التحديدات الواردة في المقام لم يكن بدّ من حملها على الأفضلية كما صنعنا مثل ذلك في النصوص الواردة في تحديد وقت الظهرين بمقدار القدم والقدمين وما شاكل ذلك لا أن يحمل على خروج الوقت بذلك ، أو أن التأخير يحرم وإن لم يخرج الوقت ، أو يحمل على طائفة دون اخرى ، بل يلتزم بالاختلاف في مراتب الفضل ، فالأفضل الإتيان ما بين الغروب إلى غيبوبة الشفق ، ودونه في الفضيلة إلى ربع الليل ، ودونه إلى ثلثه ، وما بعده إلى منتصف الليل هو وقت الاجزاء.

ويعتضد ذلك بما ورد من أنه « لكل صلاة وقتان وأول الوقت أفضلهما » (١) وما ورد من « إنا لنقدم ونؤخر وليس كما يقال : من أخطأ وقت الصلاة فقد هلك ، وإنما الرخصة للناسي والمريض والمدنف والمسافر والنائم في تأخيرها » (٢) وما ورد عنهم عليهم‌السلام من أنهم ربما كانوا يؤخرون الصلاة ويرخّصون في تأخيرها بأدنى عذر (٣).

وأما مقالة الشيخ في الخلاف وابن البراج من امتداد الوقت إلى ذهاب الشفق فيستدل له بصحيحة زرارة والفضيل قالا : « قال أبو جعفر عليه‌السلام : إن لكل صلاة وقتين غير المغرب فان وقتها واحد ، ووقتها وجوبها ، ووقت فوتها سقوط الشفق » (٤).

وتقريب الاستدلال بها من وجهين :

أحدهما : من ناحية الصدر وهو قوله عليه‌السلام : « فان وقتها واحد » بدعوى دلالته على أن صلاة المغرب لم تكن كبقية الصلوات بحيث يكون لها‌

__________________

(١) الوسائل ٤ : ١٢١ / أبواب المواقيت ب ٣ ح ١١.

(٢) الوسائل ٤ : ١٣٩ / أبواب المواقيت ب ٧ ح ٧.

(٣) الوسائل ٤ : ١٩٣ / أبواب المواقيت ب ١٩.

(٤) الوسائل ٤ : ١٨٧ / أبواب المواقيت ب ١٨ ح ٢.

١١٤

وقتان اختياري واضطراري ، بل لها وقت واحد وهو وقت وجوبها ، فيجب الإتيان بها فيه ، ولا يجوز تأخيرها عن ذهاب الشفق.

وفيه : ما لا يخفى ، إذ لا نظر في هذه الجملة إلى منتهى الوقت لتدل على انتهائه بذهاب الشفق ، وإنما النظر معطوف إلى ناحية المبدأ باعتبار امتياز المغرب عن بقية الصلوات في أنّها بأسرها مسبوقة بالسبحة والنافلة ، أما الظهران والفجر فواضح ، وأما العشاء فلكونها مسبوقة بنوافل المغرب ، فمن ثم كان لها وقتان ، وكان الوقت الثاني المتأخر عن النوافل المأتية أفضل بطبيعة الحال ، إلا إذا تركها فيكون الأول أفضل. وأما صلاة المغرب فحيث لا نافلة قبلها فلا جرم لم يكن لها إلا وقت واحد.

ونحوها صلاة الجمعة إذ لا نافلة قبلها أيضاً ، ومن ثم ورد في صحيحة زرارة أن « صلاة الجمعة من الأمر المضيق إنما لها وقت واحد حين تزول » (١).

ويشهد لما ذكرناه : موثقة معاوية بن وهب المشتملة على نزول جبرئيل وإتيانه بوقتين في يومين لكل من الفرائض ما عدا المغرب (٢) ، حيث يظهر منها أن الوجه في التفكيك هو مراعاة النوافل وعدم سبق المغرب بها ، ومن ثم كان لها وقتان وللمغرب وقت واحد ، ولعل ما ذكرناه في تفسير الصحيحة هو أحسن وجوه الحمل التي ذكروها في المقام.

ثانيهما : من ناحية الذيل وهو قوله عليه‌السلام : « ووقت فوتها سقوط الشفق » فإنّه الصريح في انتهاء الوقت بسقوط الشفق ، وتوافقه على ذلك جملة من الأخبار.

منها : صحيحة بكر بن محمد عن أبي عبد الله عليه‌السلام « أنه سأله سائل عن وقت المغرب ، فقال : إن الله يقول في كتابه لإبراهيم : ( فَلَمّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ

__________________

(١) الوسائل ٧ : ٣١٦ / أبواب صلاة الجمعة ب ٨ ح ٣.

(٢) الوسائل ٤ : ١٥٧ / أبواب المواقيت ب ١٠ ح ٥.

١١٥

رَأى كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي ) وهذا أوّل الوقت ، وآخر ذلك غيبوبة الشفق » (١).

ومنها : موثقة إسماعيل بن جابر عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « سألته عن وقت المغرب ، قال : ما بين غروب الشمس إلى سقوط الشفق » (٢). وغير خفي أن للشيخ إلى الحسن بن محمد بن سماعة الواقع في السند طريقين : أحدهما ضعيف بأبي طالب الأنباري ، لكن الطريق الآخر صحيح ، إذ الظاهر أن المراد بالحسين بن سفيان الواقع في الطريق هو الحسين بن علي بن سفيان بن خالد بن سفيان البزوفري ، وقد وثقه النجاشي صريحاً (٣).

ومنها : رواية إسماعيل بن مهران (٤) غير أنها ضعيفة السند بسهل بن زياد.

وعلى أيّ حال فهذه الأخبار تفرغ بلسان واحد عن انتهاء وقت صلاة المغرب بسقوط الشفق.

ولكنه مع ذلك لم يكن بدّ من رفع اليد عن ظاهرها وحملها على الأفضلية ، جمعاً بينها وبين النصوص الكثيرة الناطقة بجواز التأخير إلى ربع الليل أو ثلثه كما سنتعرض إليها ، وقبل ذلك كله الآية المباركة الصريحة في امتداد الوقت إلى الغسق المفسر كما سبق بمنتصف الليل. ونتيجة ذلك هو الالتزام باختلاف مراتب الفضل حسبما تقدم.

وأما القولان الآخران : أعني ما ذهب إليه المفيد من انتهاء الوقت للحاضر بذهاب الشفق وللمسافر بحلول ربع الليل ، وما ذهب إليه أبو الصلاح ، بل الشيخ في أكثر كتبه من نفس التفصيل لكن بتبديل الحاضر بالمختار والمسافر بالمعذور ، فإن أُريد بذلك نفس هذين العنوانين ، فدليل كل من القولين من‌

__________________

(١) الوسائل ٤ : ١٧٤ / أبواب المواقيت ب ١٦ ح ٦.

(٢) الوسائل ٤ : ١٩٠ / أبواب المواقيت ب ١٨ ح ١٤.

(٣) رجال النجاشي : ٦٨ / ١٦٢.

(٤) الوسائل ٤ : ١٨٨ / أبواب المواقيت ب ١٨ ح ٤.

١١٦

الروايات المستدل بها يبطل بإطلاقه القول الآخر كما لا يخفى ، فيتعارضان ولا يمكن التعويل على شي‌ء منهما.

وإن أُريد من السفر مطلق الاضطرار ، ومن الحضر حال الاختيار وإنما ذكر ذلك من باب المثال ليرجع القولان إلى قول واحد ، فتدل عليه حينئذ كلتا الطائفتين من الأخبار ولكنه مع ذلك لا يمكن الالتزام به لوجوه :

أحدها : أنّ صحيحة عمر بن يزيد صريحة في جواز تأخير المسافر إلى ثلث الليل قال : قال أبو عبد الله عليه‌السلام : « وقت المغرب في السفر إلى ثلث الليل » (١) فلا وجه لتحديده بالربع الذي هو أقل منه.

وثانيها : أن الآية الشريفة صريحة في امتداد وقت العشاءين إلى منتصف الليل بعد تفسير الغسق بذلك كما تقدم ، وقد عرفت ظهورها في المختار.

ثالثها : أن طائفة من الأخبار قد نطقت بجواز تأخير المغرب عن الشفق من غير افتراض الاضطرار ولا السفر ، بل في بعضها إلى ربع الليل.

منها : صحيحة أُخرى لعمر بن يزيد قال : « قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : أكون مع هؤلاء وأنصرف من عندهم عند المغرب فأمرّ بالمساجد فأُقيمت الصلاة فإن أنا نزلت أُصلي معهم لم استمكن ( أتمكن ) من الأذان والإقامة وافتتاح الصلاة ، فقال : ائت منزلك وانزع ثيابك وإن أردت أن تتوضأ فتوضأ وصلّ فإنك في وقت إلى ربع الليل » (٢) ، ولا يقدح اشتمال السند على القاسم بن محمد الجوهري بعد وقوعه في أسناد كامل الزيارات (٣).

ومنها : صحيحة ثالثة له قال : « قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : أكون في جانب المصر فتحضر المغرب وأنا أُريد المنزل ، فإن أخّرت الصلاة حتى أُصلي‌

__________________

(١) الوسائل ٤ : ١٩٣ / أبواب المواقيت ب ١٩ ح ١.

(٢) الوسائل ٤ : ١٩٦ / أبواب المواقيت ب ١٩ ح ١١.

(٣) ولكنه لم يكن من مشايخ ابن قولويه بلا واسطة.

١١٧

في المنزل كان أمكن لي وأدركني المساء أفأُصلي في بعض المساجد؟ فقال : صلّ في منزلك » (١).

ومنها : موثقة عمار عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « سألته عن صلاة المغرب إذا حضرت هل يجوز أن تؤخر ساعة؟ قال : لا بأس إن كان صائماً أفطر ثم صلى وإن كانت له حاجة قضاها ثم صلى » (٢).

فان هذه الأخبار تدلنا بوضوح على جواز التأخير عن سقوط الشفق لأدنى مرجح وإن لم يكن بالغاً حدّ الاضطرار ، بل يظهر من ذيل الأخيرة أن العبرة بقضاء الحاجة العرفية وإن زاد على الساعة بل الساعتين لوضوح اختلاف الحوائج ، فلو كان التأخير المزبور محرّماً لم تسوغه الحاجة العرفية المباحة كما هو ظاهر.

ومنها : صحيحة إسماعيل بن همام قال : « رأيت الرضا عليه‌السلام وكنا عنده لم يصل المغرب حتى ظهرت النجوم ، ثم قام فصلى بنا على باب دار ابن أبي محمود » (٣).

ومنها : صحيحة داود الصرمي قال : « كنت عند أبي الحسن الثالث عليه‌السلام يوماً فجلس يحدّث حتى غابت الشمس ، ثم دعا بشمع وهو جالس يتحدّث فلما خرجت من البيت نظرت فقد غاب الشفق قبل أن يصلي المغرب ، ثم دعا بالماء فتوضأ وصلى » (٤). والصرمي من رجال الكامل (٥) وإن لم يرد فيه توثيق صريح.

وهذه الصحيحة كسابقتها ظاهرة في جواز التأخير حتى اختياراً ، فان‌

__________________

(١) الوسائل ٤ : ١٩٧ / أبواب المواقيت ب ١٩ ح ١٤.

(٢) الوسائل ٤ : ١٩٦ / أبواب المواقيت ب ١٩ ح ١٢.

(٣) الوسائل ٤ : ١٩٥ / أبواب المواقيت ب ١٩ ح ٩.

(٤) الوسائل ٤ : ١٩٦ / أبواب المواقيت ب ١٩ ح ١٠.

(٥) ولكنه لم يكن من مشايخ ابن قولويه بلا واسطة.

١١٨

فرض كونه عليه‌السلام وجميع من معه معذورين في التأخير بعيد غايته ، نعم التأخير عن أول الوقت الذي لا ريب في أفضليته لا بد وأن يكون لمرجح ، ولعله عليه‌السلام كان متشاغلاً ببيان الأحكام ، أو أنه عليه‌السلام أراد بذلك بيان جواز التأخير عن سقوط الشفق.

وكيف ما كان ، فمقتضى الجمع بين مختلف هذه النصوص هو الحمل على اختلاف مراتب الفضل كما سبق.

ومما ذكرنا يظهر ضعف ما عن صاحب الحدائق من أن للمغرب أوقاتاً ثلاثة : من غروب الشمس إلى مغيب الشفق ، ثم إلى ربع الليل أو ثلثه ، ثم إلى منتصف الليل ، وأن مقتضى الجمع بين الأخبار هو حمل الأول على حال الاختيار ، والثاني على الاضطرار ، والثالث على الأشدّ ضرورة من نوم أو حيض ونحوهما (١).

وجه الضعف : ما عرفت من لزوم الحمل على اختلاف مراتب الفضل ، لإباء ما دل على جواز التأخير إلى منتصف الليل عن حمله على صورة الاضطرار جدّاً كما تقدم.

وأما القول بامتداد الوقت إلى طلوع الفجر فسيأتي البحث عنه عند تعرض الماتن له.

وملخص الكلام في المقام : أن صلاة المغرب يجوز تأخيرها عن سقوط الشفق بل عن ربع الليل إلى منتصفه في حال الاختيار ومن دون علّة أو اضطرار ، وعمدة الدليل عليه هو قوله تعالى ( أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ ) (٢) ، بعد تفسير الغسق في النص الصحيح بمنتصف الليل (٣) وهو المطابق للّغة ، فإنه لغة هو شدة الظلام (٤) ، ومن البيّن أن منتهى شدّة الظلمة في‌

__________________

(١) الحدائق ٦ : ١٨٠.

(٢) الإسراء ١٧ : ٧٨.

(٣) الوسائل ٤ : ١٠ / أبواب أعداد الفرائض ب ٢ ح ١.

(٤) مجمع البحرين ٥ : ٢٢٢.

١١٩

والعشاء (١).

______________________________________________________

الليل هو نصفه ، لأنه غاية الابتعاد عن الشمس التي بها تستنير الأرض ، فإنه الوقت الذي تبلغ فيه الشمس في مسيرها تحت الأرض إلى النقطة المقابلة لنقطة الزوال لدى مسيرها فوق الأرض نهاراً والتي هي غاية ضيائها ، إذن فغسق الليل هو نصفه ، وهو منتهى الوقت ، فالآية المباركة بمجردها كافية لإثبات المدعى ووافية.

ويعضدها ما عرفت من النصوص المتقدمة التي منها صحيحة عبد الله بن سنان : « لكل صلاة وقتان وأوّل الوقتين أفضلهما .. » إلخ (١) فان التعبير بالأفضلية قرينة واضحة على أن الوقتين للفضيلة والإجزاء لا للاختيار والاضطرار (٢). وقد عرفت عدم التنافي بينها وبين ما في جملة من الأخبار من أن لكل صلاة وقتين غير المغرب ، لأنها ناظرة إلى مبدإ الوقت لا منتهاه الذي هو محل الكلام.

وتؤيده مرسلة داود بن فرقد (٣) ورواية عبيد بن زرارة (٤).

وقد عرفت أيضاً أن مقتضى الجمع بينها وبين ما بإزائها من الروايات هو الحمل على اختلاف مراتب الفضل ، فالأفضل أن يؤتى بها قبل سقوط الشفق ، ودونه في الفضل إلى ربع الليل ، ودونه إلى ثلثه ، ويكون أداءً ووقتاً للإجزاء إلى منتصف الليل.

(١) يقع الكلام فيها تارة من ناحية المبدأ ، وأُخرى من حيث المنتهي فهنا جهتان :

أما الجهة الأُولى : فالمعروف والمشهور أن مبدأ الوقت هو الغروب شريطة‌

__________________

(١) الوسائل ٤ : ١١٩ / أبواب المواقيت ب ٣ ح ٤.

(٢) لعلّ ذيل الصحيحة ينافي هذا الحمل فليلاحظ.

(٣) الوسائل ٤ : ١٨٤ / أبواب المواقيت ب ١٧ ح ٤.

(٤) الوسائل ٤ : ١٥٧ / أبواب المواقيت ب ١٠ ح ٤.

١٢٠