موسوعة الإمام الخوئي

الشيخ مرتضى البروجردي

وأما مع عدم التزلزل بحيث تحقق منه قصد الصلاة وقصد امتثال أمر الله فالأقوى الصحة (١).

نعم إذا اتفق شك أو سهو لا يعلم حكمه بطلت صلاته ، لكن له أن يبني على أحد الوجهين ، أو الوجوه بقصد السؤال بعد الفراغ والإعادة إذا خالف الواقع (٢) وأيضاً يجب تأخير الصلاة إذا زاحمها واجب آخر مضيّق كإزالة النجاسة عن المسجد ، أو أداء الدين المطالب به مع القدرة على أدائه ، أو حفظ النفس المحترمة أو نحو ذلك (٣) وإذا خالف واشتغل بالصلاة عصى في ترك ذلك الواجب (٤) لكن صلاته صحيحة على الأقوى (٥) وإن كان الأحوط الإعادة.

______________________________________________________

من صحة عمل الجاهل إذا تمشى منه قصد القربة وانكشفت مطابقته للواقع ، فإنه يظهر منه بوضوح أن المراد من البطلان هناك وفي المقام هو البطلان في مرحلة الظاهر وعدم جواز الاجتزاء به ما لم تنكشف الصحة فلاحظ.

(١) بل قد عرفت الصحة حتى في فرض التزلزل أيضاً فلاحظ.

(٢) لوضوح أنه لا خلل حينئذ في العبادة إلا من جهة عدم الجزم بالنية والمفروض عدم اعتبارها وكفاية العبادة الرجائية.

(٣) فان وجوب الإزالة وكذا أداء الدين فوري فلا يزاحم الصلاة المفروض سعة وقتها.

وأما حفظ النفس المحترمة كإنقاذ الغريق ونحوه فهو مقدّم على الصلاة حتى في الضيق ، لأهميته منها كما هو واضح.

(٤) لمخالفته للواجب الفعلي الأهم.

(٥) لا بداعي الملاك لانحصار كاشفة في الأمر ، ولا أمر فعلي بالضدين حسب الفرض ، ولا من ناحية الترتب لاختصاصه بالواجبين المضيقين والمفروض في المقام سعة أحدهما ، بل لأجل عدم المزاحمة بين نفس الواجبين ،

٣٢١

[١٢٠٦] مسألة ١٦ : يجوز الإتيان بالنافلة ولو المبتدأة في وقت الفريضة ما لم يتضيق (١).

______________________________________________________

أعني طبيعي الصلاة والواجب الآخر المضيق ، وإنما التزاحم بين الفرد منه وبين ذلك الواجب ، والفرد بخصوصه لم يكن مورداً للأمر وإن كان الطبيعي منطبقاً عليه (١) قهراً ، فما هو الواجب لم يكن مزاحماً ، وما كان مزاحماً لم يكن واجباً ، فالصلاة في مفروض المسألة محكومة بالصحة من غير حاجة إلى الترتب ، إلا إذا قلنا بأن الأمر بالشي‌ء يقتضي النهي عن ضده الخاص ، ولكنه خلاف التحقيق وتمام الكلام في الأُصول (٢).

(١) اختلفت كلمات الأصحاب ( قدس الله أسرارهم ) في جواز التطوع بالصلاة في وقت الفريضة أو ممن عليه الفريضة ، بعد الاتفاق منهم ظاهراً على عدم الجواز في الصوم ، فلا يتطوع به من كان عليه صوم واجب أداءً أو قضاءً.

فعن الشيخين (٣) والعلامة (٤) في جملة من كتبه وغير واحد من القدماء والمتأخرين عدم الجواز ، بل صرّح المحقق في المعتبر أنه مذهب علمائنا (٥) كما صرح الشهيد الثاني في الروض بأنه المشهور بين المتأخرين (٦).

وذهب جماعة آخرون ومنهم الشهيدان (٧) إلى الجواز ، بل عن الدروس أنه‌

__________________

(١) معنى انطباقه عليه كونه أحد أفراده الواجبة بالتخيير العقلي ، ولا يعقل كونه أحد أفراده كذلك مع مزاحمته للواجب المضيق ، ضرورة أنّ ما لا اقتضاء فيه لا يزاحم ما فيه الاقتضاء ، فلا جرم يخرج عقلاً عن كونه طرف التخيير. إذن فلا مصحح له إلا الخطاب الترتبي ، وتمام الكلام في محله.

(٢) محاضرات في أُصول الفقه ٣ : ٨.

(٣) المفيد في المقنعة : ٢١٢ ، الطوسي في المبسوط ١ : ١٢٨.

(٤) نهاية الاحكام ١ : ٣٢٥.

(٥) المعتبر ٢ : ٦٠.

(٦) روض الجنان : ١٨٣ السطر ١٧.

(٧) الشهيد الأول في الدروس ١ : ١٤٢ ، الشهيد الثاني في روض الجنان : ١٨٤.

٣٢٢

الأشهر (١) ولعل مراده أنه أشهر بين المتأخرين ، لعدم انسجامه مع دعوى الإجماع على عدم الجواز الصادرة من المحقق حسبما سمعت ، لو أراد به ما يشمل المتقدمين. وكيف ما كان فلا ينبغي التأمل في أنّ القائل من كل من الطرفين جماعة كثيرون ممن يعتدّ بهم شخصاً وعدداً.

ومنشأ الخلاف اختلاف الروايات الواردة في المقام وكيفية الاستفادة منها.

وينبغي التكلم تارة : في حكم التطوع بعد دخول الوقت ، واشتغال الذمة بالوظيفة الأدائية ، وأُخرى : في حكمه ممن ذمته مشغولة بالفريضة القضائية ، فهنا مقامان :

أما المقام الأوّل : فالكلام فيه يقع تارة من ناحية المقتضي لعدم الجواز وأُخرى من ناحية المانع عنه بعد تمامية المقتضي.

أما الجهة الأُولى : فيستدل لعدم الجواز بجملة من الروايات :

منها : صحيحة زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : « سألته عن ركعتي الفجر قبل الفجر أو بعد الفجر؟ فقال : قبل الفجر إنهما من صلاة الليل ، ثلاث عشرة ركعة صلاة الليل ، أتريد أن تقايس ، لو كان عليك من شهر رمضان أكنت تطوّع ، إذا دخل عليك وقت الفريضة فابدأ بالفريضة » (٢).

فإن الأمر بالبدأة بالفريضة بعد دخول وقتها كالصريح في النهي عن التطوع في وقت الفريضة.

وفيه : أنها وإن كانت ظاهرة في المنع إلا أن موردها خصوص نافلة الفجر لا مطلق التطوع ، وحيث قد دلت نصوص أُخر على جواز الإتيان بها بعد طلوع الفجر حسبما تقدم في محله فلا جرم يحمل النهي فيها على الكراهة ومجرد المرجوحية ، جمعاً بين النصوص. إذن فلا يمكن الاستدلال بها على المنع حتى في موردها فضلاً عن التعدي إلى سائر الموارد ، هذا.

__________________

(١) الدروس ١ : ١٤٢.

(٢) الوسائل ٤ : ٢٦٤ / أبواب المواقيت ب ٥٠ ح ٣.

٣٢٣

ولا يبعد أن يكون قوله عليه‌السلام : « أتريد أن تقايس .. » إلخ مسوقاً لتعليم زرارة كيفية الجدل والمناظرة مع خصومه من أبناء العامة الذين يرون جواز الإتيان بالنافلة بعد طلوع الفجر ، مع التزامهم بحجية القياس وبما هو الصواب من عدم جواز التطوع بالصوم ممن عليه فريضته ، بالنقض عليهم بالصوم جرياً على مسلكهم ، لا أنه بصدد الاستدلال بالقياس المعلوم عدم كونه من مذهبنا ، فإنه لا سبيل للاستدلال بما هو واضح البطلان في الشريعة المقدسة.

ومنها : صحيحة أُخرى لزرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام « أنه سئل عن رجل صلّى بغير طهور أو نسي صلوات لم يصلها أو نام عنها ، قال : يقضيها إذا ذكرها في أيّ ساعة ذكرها إلى أن قال : ولا يتطوع بركعة حتى يقضي الفريضة كلها » (١).

فان موردها وإن كان هو القضاء إلا أنها تدل على النهي عن التطوع ممن عليه فريضة أدائية بطريق أولى.

ويندفع أوّلاً : بأن النهي في قوله عليه‌السلام : « ولا يتطوع ... » إلخ لم يكن حكماً جديداً ابتدائياً ، وإنما هو متفرع على الأمر بالقضاء المذكور في صدر الحديث ، فان متن الرواية هكذا : « فقال : يقضيها إذا ذكرها في أيّ ساعة ذكرها من ليل أو نهار ، فاذا دخل وقت الصلاة ولم يتم ما قد فاته فليقض ما لم يتخوّف أن يذهب وقت هذه الصلاة التي قد حضرت ، وهذه أحق بوقتها فليصلها ، فاذا قضاها فليصل ما فاته مما قد مضى ولا يتطوع بركعة حتى يقضي الفريضة كلها » (٢).

فإنه عليه‌السلام لما أمر أوّلاً بالقضاء بقوله : « يقضيها إذا ذكرها .. » إلخ فرّع عليه قوله : « فاذا دخل وقت الصلاة ... » إلخ ثم عطف على هذا التفريع قوله : « ولا يتطوع ... » إلخ ، إذن فالنهي المزبور تفريع على الأمر بالقضاء ،

__________________

(١) الوسائل ٤ : ٢٨٤ / أبواب المواقيت ب ٦١ ح ٣.

(٢) الوسائل ٨ : ٢٥٦ / أبواب قضاء الصلوات ب ٢ ح ٣.

٣٢٤

ومقتضى التفريع أن النهي عن التطوع تابع لكيفية الأمر بالقضاء في كونه على سبيل الإلزام وعدمه ، فان بنينا على كونه حكماً إلزامياً ، للبناء على المضايقة في قضاء الفوائت ، كان النهي إلزامياً أيضاً ، وإن بنينا على عدمه لأجل الالتزام بالمواسعة في قضائها كان النهي طبعاً تنزيهياً ، وحيث إن الصواب هو الثاني كما هو موضح في محله ، فلا جرم لا يستفاد الإلزام من النهي المزبور بوجه.

وثانياً : أن مورد الصحيحة هو الفريضة القضائية ، ومحل كلامنا فعلاً هو التطوع ممن عليه الفريضة الأدائية ، ولا ملازمة بينهما لعدم الدليل عليها ، والأولوية المدعاة ممنوعة ولا سيما على القول بالمضايقة ، حيث إن القضاء حينئذ فوري ، فلا مجال معه للتطوع ، وهذا بخلاف الحاضرة فالتعدي إليها في غير محله.

ومنها : ما رواه الشهيد في الذكرى بسنده الصحيح حسبما عبّر به في الوسائل عن زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام « قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : إذا دخل وقت صلاة مكتوبة فلا صلاة نافلة حتى يبدأ بالمكتوبة ... » الحديث (١).

وهي كما ترى واضحة بل صريحة الدلالة ، غير أن السند ضعيف ، حيث لم توجد في كتب الحديث ولم يصل إلينا سندها لننظر فيه ، وإن وصفه الشهيد بالصحة ، إذ لا ملازمة بين الصحة عنده وبينها عندنا ، لاحتمال استنادها إلى اجتهاده وحدسه بحيث لو وصلنا لناقشنا فيه ، فهي بالإضافة إلينا في حكم المرسل.

ومنها : ما رواه الشهيد الثاني في الروض عن زرارة في الصحيح قال : « قلت لأبي جعفر عليه‌السلام : أُصلي نافلة وعليّ فريضة أو في وقت فريضة ، قال : لا ، إنه لا تصلى نافلة في وقت فريضة ، أرأيت لو كان عليك (٢) من شهر‌

__________________

(١) الوسائل ٤ : ٢٨٥ / أبواب المواقيت ب ٦١ ح ٦ ، الذكرى ٢ : ٤٢٢ ..

(٢) [ أُضيف في هامش الروض : صوم ].

٣٢٥

رمضان أكان لك أن تتطوع حتى تقضيه؟ قال : قلت لا ، قال : فكذلك الصلاة ، قال : فقايسني وما كان يقايسني » (١).

قال صاحب الحدائق عند نقل الرواية ما لفظه : نقلها شيخنا الشهيد الثاني في الروض والسيد السند في المدارك ، وشيخنا البهائي في كتاب حبل المتين ، ولم أقف عليها بعد التتبع في كتاب الوافي الذي جمع فيه الكتب الأربعة ، ولا كتاب الوسائل الذي زاد فيه على ما في الكتب الأربعة ، ولكن كفى بالناقلين المذكورين حجة ، والظاهر أنّ من تأخر عن الشهيد الثاني إنما أخذها عنه. انتهى (٢).

أقول : الرواية موجودة في الوافي (٣) في باب كراهة التطوع في وقت الفريضة نقلاً عن حبل المتين كما أوعز إليه معلّق الحدائق ، كما أنها مذكورة بعين ألفاظها في الذكرى (٤) ما عدا اختلاف يسير لعله من النسّاخ ، فالأصل في الرواية هو الشهيد الأول وهي مأخوذة منه دون الشهيد الثاني.

وكيف ما كان فلا حجية لها ، لعدم ثبوت سندها عندنا بعد عدم وصول طريقها إلينا ، فهي بالإضافة إلينا في حكم المرسل كما عرفته في الرواية السابقة ، فلا يمكن التعويل عليها بالرغم من صراحة مفادها.

ومنها : ما رواه ابن إدريس في مستطرفات السرائر نقلاً من كتاب حريز بن عبد الله عن زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام « قال : لا تصلّ من النافلة شيئاً في وقت الفريضة ، فإنه لا تقضى نافلة في وقت فريضة ، فإذا دخل وقت الفريضة فابدأ بالفريضة » (٥).

__________________

(١) روض الجنان : ١٨٤ السطر ١١.

(٢) الحدائق ٦ : ٢٥٦.

(٣) الوافي ٧ : ٣٦٥.

(٤) في المسألة الثانية من الفصل الرابع من أحكام المواقيت ، الذكرى ٢ : ٤٢٤.

(٥) الوسائل ٤ : ٢٢٨ / أبواب المواقيت ب ٣٥ ح ٨ ، السرائر ( المستطرفات ) ٣ : ٥٨٦.

٣٢٦

ويندفع أوّلاً : بضعف السند ، لجهالة طريق ابن إدريس إلى كتاب حريز بعد وضوح أنه من أصحاب الصادق عليه‌السلام وبينه وبين ابن إدريس مئات السنين فكيف يمكن نقله عنه بلا واسطة ، وحيث أنها مجهولة فلا جرم تسقط الرواية بالنسبة إلينا عن درجة الاعتبار ، وإن أمكن اتصافها عنده بالصحة لقرائن حدسية عوّل عليها وهو أدرى بها.

ودعوى : أنه لمّا لم يكن عاملاً بأخبار الآحاد فاعتماده عليها كاشف عن وصولها إليه بطريق متواتر أو بما هو كالمتواتر في كونه مورثاً للقطع بالصدور ، ومعه كان إخباره بمثابة الإخبار عن الحس ، فتكون رواياته عن حريز وأضرابه في حكم المسانيد لا المراسيل.

مدفوعة : بأنّ أقصى ما يترتب على هذه الدعوى هو أن ابن إدريس كان معتقداً اعتقاداً باتاً بأنّ ما وصل إليه باسم كتاب حريز كان هو كتابه حقاً ، لكن من الواضح أنّ اعتقاده حجّة له بخصوصه ولا ينفع غيره ممن لا يحمل تلك العقيدة فهو المأمور بالعمل به لا غير ، ومن الضروري أنّ مجرد قطعه بذلك الناشئ عن القرائن الحدسية الاجتهادية لا يستوجب عدّ خبره من الإخبار عن الحس لتشمله أدلة حجية الخبر. إذن فلا مجال للاعتماد على شي‌ء مما يرويه ابن إدريس عن الرواة الذين لا نعلم الوسائط بينه وبينهم.

أجل ، خصوص ما يرويه عن كتاب محمد بن علي بن محبوب لم يكن بدّ من الالتزام باعتباره ، نظراً إلى تصريحه بوصول الكتاب إليه بخط الشيخ الطوسي قدس‌سره (١) ، وحيث إنّ العهد بينه وبين الشيخ قريب وهو من أكابر العلماء وأعاظم المشاهير ، بل هو شيخ الطائفة حقاً ، فلا جرم كان خطه الشريف معروفاً ومشهوراً بين الناس ، بحيث لا مساغ لإنكاره أو التشكيك فيه.

وبذلك يوثق بل يطمأن بأنّ الكتاب قد وصل إليه بخط الشيخ ( قدس‌سره )

__________________

(١) السرائر ( المستطرفات ) ٣ : ٦٠١.

٣٢٧

وحيث إنّ طريقه أي طريق الشيخ إلى محمد بن علي بن محبوب صحيح أيضاً في الفهرست (١) ، فلأجله يحكم بصحة رواياته عنه بطبيعة الحال.

وعلى أيّ حال فروايتنا هذه ضعيفة السند كما عرفت.

وثانياً : أنها قاصرة الدلالة ، لابتنائها على أن يكون المراد من الوقت المذكور فيها هو مطلق الوقت ، وليس كذلك ، بل المراد خصوص وقت الفضيلة ، فهي أخص من المدعى ، وذلك لأجل أن المنصرف من النافلة الواردة فيها هي النوافل المرتّبة ، بل هي القدر المتيقن منها ، ولا شبهة في جواز الإتيان بها في مطلق وقت الفريضة الشامل لوقت الإجزاء ، ومن ثم ترى أن نوافل الظهرين يؤتى بها قبلهما ، كما أنّ نوافل المغرب يؤتى بها قبل العشاء مع دخول وقت الظهرين والعشاءين بمجرد الزوال والغروب ، وهذا يكشف عن أنّ المراد خصوص وقت الفضيلة.

ويعضده ما في غير واحد من الروايات الواردة في مقام بيان وقت الفريضة والنافلة الناطقة بأنّ الذراع والذراعين إنما جعلت لمكان النافلة كما في صحيحة زرارة ، أو لمكان الفريضة كما في موثقته ، أو لئلا يؤخذ من وقت هذه ويدخل في وقت هذه كما في موثقة إسماعيل الجعفي (٢) ونحوها غيرها مما يظهر منه أنّ وقت الفضيلة إنما قرّر وشرّع كي لا تقع النافلة في هذا الوقت ، بل في رواية العلل حتى لا يكون تطوع في وقت مكتوبة (٣) فإنها خير شاهد على أنّ المراد من الوقت في هذه الرواية هو وقت الفضيلة فهي لو تم سندها أخص من المدعى حسبما عرفت.

ومنها : موثقة زياد بن أبي غياث عن أبي عبد الله عليه‌السلام « قال :

__________________

(١) الفهرست : ١٤٥ / ٦١٣.

(٢) الوسائل ٤ : ١٤١ / أبواب المواقيت ب ٨ ح ٣ ، ٢٠ ، ٢١.

(٣) الوسائل ٤ : ٢٢٩ / أبواب المواقيت ب ٣٥ ح ١١ ، علل الشرائع : ٣٤٩.

٣٢٨

سمعته يقول : إذا حضرت المكتوبة فابدأ بها فلا تضرّك أن تترك ما قبلها من النافلة » (١).

وفيه : أنه لا إشعار فيها فضلاً عن الدلالة على المنع عن التطوع في وقت الفريضة لو لم تكن ظاهرة في المشروعية ، فإن مفادها أنّ ترك النافلة قبل الفريضة غير قادح في الصحة ، وأنّه لا يستوجب خللاً ولا ضرراً. وهذا اللسان كما ترى لسان المشروعية والجواز لا المنع ، فالاستدلال بها على الجواز أحرى من أن يستدل بها على المنع كما لا يخفى.

وأما سند الرواية فالمذكور في الوسائل والحدائق (٢) وعن بعض نسخ التهذيب زياد أبي عتاب ، وهو مهمل في كتب الرجال ، ومن ثم وصفها في الحدائق بالرواية وهو في محله.

ولكنّ الصواب أنه زياد بن أبي غياث كما ذكرناه (٣) وهو ثقة كما نص عليه النجاشي (٤). وذلك لأجل أنّ الراوي عن زياد بن أبي غياث هو ثابت بن شريح ، كما أنّ الراوي عن ثابت هو عبيس بن هشام كما صرح به الشيخ والنجاشي (٥) ، وحيث إن رواة هذا السند كذلك ، فيطمأن أنه هو الصحيح وهو المطابق للإستبصار وكذلك التهذيب (٦) ، وإن ذكر معه غيره بعنوان النسخة. إذن فما في الوسائل والحدائق وعن بعض نسخ التهذيب والفهرست من ذكر زياد أبي عتاب الظاهر أن كلّه محرّف فلا نقاش من ناحية السند ، غير أن الدلالة قاصرة حسبما عرفت.

__________________

(١) الوسائل ٤ : ٢٢٧ / أبواب المواقيت ب ٣٥ ح ٤.

(٢) الحدائق ٦ : ٢٥٧. [ ولكن فيه : زياد بن أبي عتاب ].

(٣) معجم رجال الحديث ٨ : ٣١٤ / ٤٧٧٧.

(٤) رجال النجاشي : ١٧١ / ٤٥٢.

(٥) رجال الطوسي : ٤١٨ / ٦٠٣٥ ، رجال النجاشي : ١١٦ / ٢٩٧.

(٦) الاستبصار ١ : ٢٥٣ / ٩٠٧ ، التهذيب ٢ : ٢٤٧ / ٩٨٤.

٣٢٩

ومنها : رواية بخية قال : « قلت لأبي جعفر عليه‌السلام : تدركني الصلاة ويدخل وقتها فأبدأ بالنافلة؟ قال : فقال أبو جعفر عليه‌السلام : لا ، ولكن ابدأ بالمكتوبة واقض النافلة » (١).

وفيه أوّلاً : أنها ضعيفة السند ، فان صاحب الوسائل وإن رواها عن الشيخ عن الحسن بن محمد بن سماعة ، عن محمد بن سكين عن معاوية بن عمار عن نجية ، وهذا السند معتبر إذ لا غمز فيه إلا من ناحية الأخير ، وقد اختلف في ضبطه ففي الوسائل بخية ، وفي التهذيب نجية وفي الكشي (٢) وهامش رجال التفريشي (٣) نجبة ، والظاهر أنه رجل واحد ولا توثيق له ، غير أنّ الكشي حكى عن حمدويه عن محمد بن عيسى أنه شيخٌ صادق كوفي صديق علي بن يقطين ، وفيه مدح يكفي في حسنه والاعتماد عليه.

إلا أن الظاهر أن ما في الوسائل سهو من قلمه الشريف ، فان الشيخ لم يروها في التهذيب عن الحسن بن محمد بن سماعة ، وإنما رواها عن الطاطري (٤) وطريقه إليه ضعيف ، فالرواية غير صالحة للاعتماد عليها.

وثانياً : أنها قاصرة الدلالة ، بل هي على خلاف المطلوب أدلّ ، لمكان الأمر بقضاء النافلة ، لوضوح كشفه عن الأمر بها أداءً قبل الفريضة ومشروعيتها في وقتها ، ومن المعلوم أنّ المراد بها النوافل المرتّبة ، إذ لا قضاء لغيرها ، فهي محمولة على ما إذا انقضى الوقت المحدود للنافلة من الذراع أو الذراعين ونحوها ومن ثمّ أمر بقضائها ، فتكون كالصريح في مشروعية الإتيان بها في وقت الفريضة.

__________________

(١) الوسائل ٤ : ٢٢٧ / أبواب المواقيت ب ٣٥ ح ٥.

(٢) رجال الكشي : ٤٥٢ / ٨٥٢.

(٣) نقد الرجال ٥ : ٧.

(٤) التهذيب ٢ : ١٦٧ / ٦٦٢.

٣٣٠

ومنها : ما رواه الشيخ بإسناده عن أبي بكر الحضرمي عن جعفر بن محمد عليه‌السلام « قال : إذا دخل وقت صلاة فريضة فلا تطوع » (١).

وفيه : أن السند وإن كان معتبراً عندنا إذ لا غمز فيه إلا من ناحية الحضرمي وهو من رجال كامل الزيارات (٢).

إلا أن الدلالة قاصرة ، لما تقدّم (٣) من أن المراد من التطوع المنهي عنه في وقت الفريضة هو التنفل في وقت فضيلتها لا الأعم منها ومن وقت الإجزاء ، إذ المتيقن أو المنصرف من التطوع في مثل هذه الأخبار هو النوافل المرتّبة ، وهي مما يقطع بجواز الإتيان بها بعد دخول وقت الفريضة وقبل الإتيان بها ، فهي إذن أخص من المدعى ، ولا يتم الاستدلال بها.

ومنها : موثقة محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه‌السلام « قال : قال لي رجل من أهل المدينة يا أبا جعفر مالي لا أراك تتطوع بين الأذان والإقامة كما يصنع الناس؟ فقلت : إنا إذا أردنا أن نتطوّع كان تطوّعنا في غير وقت فريضة ، فإذا دخلت الفريضة فلا تطوع » (٤).

فان الشيخ (٥) رواها بطريقين : أحدهما بإسناده عن الحسن بن محمد بن سماعة ، وهو معتبر وإن كان الطريق الآخر وهو إسناده عن الطاطري ضعيفاً.

وفيه : أنها قاصرة الدلالة ، لكونها ناظرة إلى خصوص التطوع ما بين الأذان والإقامة ، فهي أخص من المدعى ، بل على خلاف المطلوب أدلّ ، لظهورها في أنّ التطوع قبل الأذان أو حاله كان معهوداً منه عليه‌السلام ومعلوماً لدى السائل ، ولأجله خصّ السؤال بما بين الأذان والإقامة فسأل عن‌

__________________

(١) الوسائل ٤ : ٢٢٨ / أبواب المواقيت ب ٣٥ ح ٧ ، التهذيب ٢ : ١٦٧ / ٦٦٠.

(٢) ولكنه لا ينفع حسب الرأي الأخير.

(٣) في ص ٣٣٠.

(٤) الوسائل ٤ : ٢٢٧ / أبواب المواقيت ب ٣٥ ح ٣.

(٥) التهذيب ٢ : ٢٤٧ / ٩٨٢ و ١٦٧ / ٦٦١.

٣٣١

سرّه وسببه ، ولعله لكراهته في هذه الحالة أو حرمته ، ولسنا الآن بصدده. وفي بعض النصوص (١) أنّ حدّ الوقت الممنوع فيه التطوع هو ما إذا أخذ المقيم في الإقامة. وعلى أي حال فلا يستفاد منها عدم مشروعية التطوع في وقت الإجزاء للفريضة بنطاق عام الذي هو محل الكلام.

والمتحصل من جميع ما تقدم : أن المقتضي للمنع عن التطوع في وقت الفريضة قاصر في حدّ نفسه ، لضعف مستنده سنداً أو دلالة على سبيل منع الخلو.

وملخص الكلام في المقام : أنّ النصوص المتقدمة على طائفتين :

إحداهما : ما وردت في من عليه الفريضة القضائية ، وهي أجنبية عن محل الكلام.

وثانيتهما : ما وردت في من عليه الفريضة الأدائية ، وهي بين ما كانت ناظرة إلى المنع عن التطوع في وقت فضيلة الفريضة ، وما كانت خاصة بما بين الأذان والإقامة ، وعلى التقديرين فهي أخص من المدعى ، لما سبق من أنّ المنسبق أو المتيقن من النافلة الممنوعة في هذه النصوص هي الرواتب ، وفي وقت فضيلة الفرائض دون غيرها ، أو في وقت الإجزاء ، فلا تدل على المنع عن الإتيان بغير الراتبة في أوّل الزوال مثلاً قبل دخول وقت الفريضة. فلا مجال إذن لدعوى أن مقتضى الإطلاق فيها عدم جواز التطوع في وقت [ فضيلة ] الفريضة مطلقاً إلا ما خرج بالدليل كالنوافل المرتبة.

نعم ، قد يتوهم وجود الدليل المطلق وهو ما أثبته الفقهاء في كتبهم من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « لا صلاة لمن عليه صلاة » (٢) خرج ما خرج من الرواتب اليومية ويبقى الباقي ، فتصلح هذه الرواية سنداً للقول المشهور من المنع عن التطوع في وقت الفريضة.

__________________

(١) الوسائل ٤ : ٢٢٨ / أبواب المواقيت ب ٣٥ ح ٩.

(٢) المستدرك ٣ : ١٦٠ / أبواب المواقيت ب ٤٦ ح ٢.

٣٣٢

ولكن يندفع بأنها رواية نبوية أرسلها المفيد (١) ولم ترد في كتب الحديث ، فلا يمكن التعويل عليها كما لا يحتمل استناد المشهور إليها.

وأما الجهة الثانية : وهي أنّه على تقدير تمامية المقتضي وتسليم دلالة النصوص المتقدمة على المنع عن التطوع فلا مناص من رفع اليد عنها وحملها على الكراهة بالمعنى المناسب للعبادة ، أعني أقلّية الثواب ، أو على الإرشاد إلى ما هو الأفضل من درك فضيلة الوقت ، وأهمية مصلحته من مصلحة التنفل من غير نقص في ثوابه ، فيكون النهي إرشادياً عرضيا لا ذاتياً ، وذلك جمعاً بينها وبين نصوص أُخر دلت على الجواز :

منها : موثقة سماعة قال : « سألته ( سألت أبا عبد الله عليه‌السلام ) عن الرجل يأتي المسجد وقد صلى أهله ، أيبتدئ بالمكتوبة أو يتطوع؟ فقال : إن كان في وقت حسن فلا بأس بالتطوع قبل الفريضة ، وإن كان خاف الفوت من أجل ما مضى من الوقت فليبدأ بالفريضة وهو حق الله ثم ليتطوع ما شاء ألا هو ( الأمر ) موسّع أن يصلي الإنسان في أول دخول وقت الفريضة النوافل إلا أن يخاف فوت الفريضة ، والفضل إذا صلى الإنسان وحده أن يبدأ بالفريضة إذا دخل وقتها ليكون فضل أول الوقت للفريضة ، وليس بمحظور عليه أن يصلي النوافل من أول الوقت إلى قريب من آخر الوقت » (٢).

فإن إتيان المسجد إنما هو لإدراك الجماعة ، والمتعارف انعقادها في أول الوقت ، وعليه فقوله : « وإن كان خاف الفوت ... » إلخ ناظر إلى خوف فوات وقت الفضيلة ، وإلا فوقت الإجزاء لا يخاف فوته عند فراغ أهل المسجد عن الجماعة. إذن فهي صريحة في جواز التطوع في وقت فضيلة الفريضة ما لم يخف فواته.

__________________

(١) المستدرك ٣ : ١٦٠ / أبواب المواقيت ب ٤٦ ح ٢ ، رسالة في عدم سهو النبي : ٢٨.

(٢) الوسائل ٤ : ٢٢٦ / أبواب المواقيت ب ٣٥ ح ١.

٣٣٣

ودعوى أن الصدوق (١) رواها إلى قوله : « ثم ليتطوع ما شاء » وهذا قد يورث الظن بأن الباقي زيادة من الكليني نفسه ولم يكن جزءاً من الرواية ، فلا تصلح للاستدلال.

مدفوعة بأن التصرف في الحديث بضم ما ليس منه من غير نصب قرينة تدل عليه خيانة في النقل تجلّ عنها ساحة شيخنا الكليني المقدسة ، بل من دونه في الورع والأمانة ، ولا شهادة في اقتصار الصدوق على ما ذكر ، لجواز كون الواصل إليه أقل ، بعد مغايرة طريقه مع طريق الكليني وكثرة التقطيع في الأخبار ، فهذا الاحتمال ساقط جزماً.

أضف إلى ذلك : أن الشيخ (٢) رواها مع هذا الذيل باختلاف يسير عن شيخ الكليني محمد بن يحيى ، ومعه كيف يحتمل أن يكون ذلك من كلام الكليني نفسه ، فلا ينبغي التأمل في كونه جزءاً من الحديث.

وعلى الجملة : دلّت الموثقة على جواز التنفل في أوقات الفرائض ، أي في نفس الوقت الذي يصح الإتيان فيه بالفريضة ، فإنّ المراد من الوقت في قوله : « الأمر موسّع أن يصلي الإنسان في أول دخول وقت الفريضة النوافل .. » إلخ هو المراد منه في قوله : « أن يبدأ بالفريضة إذا دخل وقتها » فهي صريحة في أنه لا تحديد في وقت النافلة وأن المكلف موسّع في الإتيان بها من أول الوقت إلى قريب من آخره من غير فرق بين وقت الفضيلة وغيره ، غير أن الأفضل أن يؤتى بالفريضة أوّل وقتها كي يكون فضل أول الوقت لها ، إلا ما خرج بالنص كتقديم نوافل الظهرين.

ومع ذلك فقد ناقش فيها صاحب الحدائق واستظهر منها خلاف ذلك ، ففسّر الوقت في العبارة الأُولى وكذلك في قوله في آخر الموثقة : « من أول الوقت إلى قريب من آخره » بالوقت المحدود للنافلة قبل دخول وقت الفريضة ،

__________________

(١) الفقيه ١ : ٢٥٧ / ١١٦٥ ، الكافي ٣ : ٢٨٨ / ٣.

(٢) التهذيب ٢ : ٢٦٤ / ١٠٥١.

٣٣٤

ففرّق بين الوقتين وشوّش بذلك معنى الرواية ، ليستنتج ما زعمه من منع دلالتها على جواز التطوع في وقت الفريضة ، وبذلك خرج عن أُسلوب الكلام وأخلّ بنظم العبارة مع ظهورها فيما قرّبناه حسبما عرفت ، فراجع تمام كلامه (١) لتقف على مدى ضعفه وصدق ما ادعيناه.

وعليه فلو ضممنا هذه الموثقة مع النصوص المتقدمة المانعة عن التطوع في وقت الفريضة ، كان مقتضى الجمع العرفي الحمل على الكراهة ، أو الإرشاد إلى ما هو الأفضل من غير حزازة في التنفل نفسه ، برفع اليد عن ظهور إحداهما بصراحة الأُخرى كما سبق.

وما عن صاحب الحدائق من إنكار هذا الجمع وعدم كونه عرفياً ، نظراً إلى أن الأمر حقيقة في الوجوب مجاز في غيره ، كما أن النهي حقيقة في التحريم مجاز في غيره فلا سبيل لحملهما على غيرهما.

كما ترى ، فان باب المجاز على تقدير تسليمه واسع مع نصب القرينة ، والعبرة بظهور الكلام ، ومقتضاه بعد ضم أحد الدليلين إلى الآخر ما عرفت ، وهو من أجلى مصاديق الجمع العرفي المقبول كما لا يخفى.

ومنها : صحيحة محمد بن مسلم قال : « قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : إذا دخل وقت الفريضة أتنفّل أو أبدأ بالفريضة؟ قال : إن الفضل أن تبدأ بالفريضة وإنما أخّرت الظهر ذراعاً من عند الزوال من أجل صلاة الأوّابين » (٢).

فإنها صريحة في جواز التطوع في وقت الفريضة ، بيد أنّ البدأة بالفريضة أفضل ، إلا في الظهرين فان المتعيّن فيهما تقديم النافلة بذراع أو ذراعين حسبما تقدم في محلّه (٣).

وما عن صاحب الحدائق من تفسير الفضل بالمشروعية ، وأنّ تخصيصه‌

__________________

(١) الحدائق ٦ : ٢٦٣.

(٢) الوسائل ٤ : ٢٣٠ / أبواب المواقيت ب ٣٦ ح ٢ ، ٣.

(٣) في ص ٢٣٨.

٣٣٥

بالفريضة يكشف عن عدم مشروعية النافلة ، قال : ومتى كانت لا فضل فيها ، فلا يشرع الإتيان بها لأنها عبادة ، فإذا انتفى الفضل فيها دلّ على عدم صحتها (١).

غير قابل للإصغاء ، لعدم مساعدة العرف ولا اللغة على هذا التفسير ، بل الفضل بمعنى الزيادة ، ومن ثم لا يطلق الفاضل على الذات المقدسة ، لأنّ صفاته عين ذاته ، ويستحيل أن يكون معرضاً لصفة زائدة. إذن فمعنى قوله عليه‌السلام : « إن الفضل أن تبدأ بالفريضة » أنّ البدأة بالفريضة تستوجب زيادة المثوبة ، فعكسها ينفي الزيادة ، لا أنه ينفي المشروعية كما لعله واضح جدّاً.

فهذه الصحيحة أيضاً خير شاهد على حمل النصوص المتقدمة الناهية عن التطوع في وقت الفريضة على الكراهة والمرجوحية ، أو على ما سبقت الإشارة إليه من الإرشاد إلى اختيار الفرد الأفضل من غير حزازة ولا منقصة في التنفل نفسه ، وأن الوقت في حد ذاته صالح لكل من التطوع والفريضة ، غير أنهما لمّا كانا متزاحمين وكانت مصلحة فضيلة أول الوقت أهم وأقوى من مصلحة التنفل ، فمن ثمّ تعلّق النهي به إرشاداً إلى اختيار أفضل المتزاحمين ، فالنهي عرضي إرشادي نشأ عن المزاحمة المزبورة ولم يكن ذاتياً.

ومما يؤكد ذلك ويؤيده : ما ورد من الترخيص في التنفل بعد دخول وقت الفريضة لمن ينتظر الجماعة كموثقة إسحاق بن عمار قال « قلت : أُصلي في وقت فريضة نافلة ، قال : نعم في أول الوقت إذا كنت مع إمام تقتدي به ، فاذا كنت وحدك فابدأ بالمكتوبة » (٢) حيث يستفاد من التفصيل بين المنفرد والمقتدي صلوح الوقت للتطوع كالفريضة مع أفضلية البدأة بها ، لكن انتظار الجماعة لما اشتمل على مصلحة راجحة على مصلحة الوقت ارتفعت المزاحمة عن الاشتغال بالنافلة في هذه الحالة ، وإنما جعلناها مؤيدة لاحتمال اختصاص الحكم بمريد‌

__________________

(١) الحدائق ٦ : ٢٦٢.

(٢) الوسائل ٤ : ٢٢٦ / أبواب المواقيت ب ٣٥ ح ٢.

٣٣٦

ولمن عليه فائتة على الأقوى (١).

______________________________________________________

الجماعة ، فهو الذي يجوز له التنفل في وقت الفريضة دون غيره ، فانّ هذا الاحتمال مما يتطرق بالوجدان ، وإن كان الأظهر خلافه حسبما عرفت ، هذا.

وورد في صحيحة عمر بن يزيد « أنه سأل أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرواية التي يروون أنه لا يتطوّع في وقت فريضة ، ما حدّ هذا الوقت؟ قال : إذا أخذ المقيم في الإقامة ، فقال له : إن الناس يختلفون في الإقامة ، فقال : المقيم الذي يصلي معه » (١).

وغير خفي أنّ هذه الصحيحة حاكمة على جميع نصوص الباب ، حيث تضمنت تفسير الوقت الممنوع فيه التطوع وأنه الوقت الذي يأخذ المقيم في الإقامة مع مزيد توضيحه بإرادة المقيم الذي يصلي معه ، فقبله لا منع بتاتاً ، ولكنه أيضاً خاص بمريد الجماعة ، وأما المنفرد فالأفضل في حقه تقديم الفريضة حسبما تقدم.

(١) وأما في المقام الثاني : أعني التطوع ممن عليه فريضة قضائية ، فالكلام فيه أيضاً يقع تارة في المقتضي للمنع ، وأُخرى في المانع عنه.

أما الموضع الأول : فالمشهور على ما في الحدائق (٢) هو المنع كما هو الحال في الصيام بلا كلام ، ويستدل له بوجوه :

أحدها : النبوي المتقدم الذي أرسله المفيد : « لا صلاة لمن عليه صلاة » (٣).

وفيه : أن الدلالة وإن كانت تامة لظهور « لا » النافية للجنس في نفي المشروعية المساوق لعدم الصحة. والحمل على نفي الكمال خلاف الظاهر لا يصار إليه من غير قرينة تدل عليه كما في : « لا صلاة لجار المسجد إلا في‌

__________________

(١) الوسائل ٤ : ٢٢٨ / أبواب المواقيت ب ٣٥ ح ٩.

(٢) الحدائق ٦ : ٢٦٨.

(٣) المستدرك ٣ : ١٦٠ / أبواب المواقيت ب ٤٦ ح ٢ ، رسالة في عدم سهو النبي : ٢٨.

٣٣٧

المسجد » (١) غير أن السند ضعيف كما عرفت ، فلا يمكن التعويل عليه.

ثانيها : ما استدل به في الحدائق (٢) من النصوص الدالة على ترتب الحاضرة على الفائتة ، ووجوب تأخير الحاضرة ما لم يتضيق وقتها ، الكاشف عن أنّ فراغ الذمة عن القضاء معتبر في صحة الأداء ، فإذا تمّ الترتيب في صاحبة الوقت تمّ في نافلتها التي هي من توابعها وملحقاتها بطريق أولى ، وأولى من ذلك النوافل المبتدأة ، لوضوح أن تلك أهم منها ، فالترتب فيها يستلزم الترتب في هذه بالأولوية القطعية.

ولكنك خبير بما في هذا الاستدلال ، بل هو من مثله ممن لا يعتمد على غير الكتاب والسنة ، ولا يعتني بما يشبه الأقيسة والاستحسانات الظنية من الغرابة بمكان ، إذ ليت شعري أيّ ملازمة بين تقديم الفائتة على الحاضرة وبين تقديمها على نافلتها ، فان التقديم على القول به يستند إلى ما يراه القائل من قيام الدليل على اعتبار الترتيب بين الفريضتين ، كقيامه على اعتباره بين الظهرين أو ما بين العشاءين ، فكيف يتعدى منها إلى النافلة التي هي صلاة أُخرى مستقلة ، وما هو الدليل على إسراء ما يعتبر في إحداهما إلى الأُخرى وهل هذا إلا قياس محض ، بل مع الفارق الظاهر ، لوضوح ابتناء النوافل على التخفيف والتسهيل ومن ثم لا يعتبر فيها كثير مما يعتبر في الفرائض من القيام والاستقبال والاستقرار وما شاكل ذلك. فليكن المقام من هذا القبيل.

أجل ، لو كان المستند في اعتبار الترتيب أهمية الفائتة من الحاضرة ، صحت حينئذ دعوى الأولوية ، بداهة أن صاحبة الوقت أهم من نافلتها فضلاً عن غيرها ، فتقديم الفائتة بذاك المناط يستلزم تقديمها على النوافل المرتّبة فضلاً عن المبتدأة بالأولوية القطعية ، لكن المبنى بمراحل عن الواقع كما هو ظاهر.

__________________

(١) الوسائل ٥ : ١٩٤ / أبواب أحكام المساجد ب ٢ ح ١.

(٢) الحدائق ٦ : ٢٦٨.

٣٣٨

ثالثها : النصوص الدالة على المضايقة ولزوم المبادرة إلى القضاء فوراً ، فان مقتضاها عدم جواز التطوع لمنافاته مع التضييق المزبور ، فلا بد إذن من تقديمه على النافلة.

وفيه أوّلاً : ضعف المبنى ، والصواب هو القول بالمواسعة كما سيوافيك تحقيقه في محله (١) إن شاء الله تعالى.

وثانياً : مع التسليم فالمراد إنما هو المضايقة العرفية بحيث لا يعدّ متوانياً ومتسامحاً في القضاء ، لا الدقية بحيث يلزمه الاقتصار على الأُمور الضرورية ، فإن هذا مما لا دليل عليه بوجه ، ومن البديهي أنه لا ينافيها الإتيان ببعض المباحات فضلاً عن النوافل.

وثالثاً : مع التسليم أيضاً فغايته أن يكون عاصياً في التأخير لا الحكم ببطلان النافلة ، ضرورة إمكان تصحيحها بالترتب بعد اندراج المقام في كبرى المزاحمة بين الأهم والمهم ، وكون هذا التصحيح مطابقاً لمقتضى القاعدة حسبما فصلنا القول فيه في الأُصول (٢).

ورابعاً : مع التسليم أيضاً فالدليل أخص من المدعى ، إذ قد لا يستطيع المكلف من التصدي للقضاء فعلاً ، لانتفاء بعض الشرائط ككونه فاقداً للماء ، أو عاجزاً عن القيام أو الاستقرار ، مع العلم بزوال هذه الأعذار بعد حين ، فإنه يجب عليه تأخير القضاء إلى أن يتمكن من الإتيان به على وجهه ، وحينئذ فأيّ مانع من الاشتغال في هذه الفترة بالنافلة بعد وضوح صحتها منه في هذه الحالات بأن يتنفل متيمماً أو جالساً أو ماشياً وإن علم بزوال العذر فيما بعد.

وعلى الجملة : فالقول بالمضايقة لا يستوجب بطلان النافلة حتى مع الغض عن جميع ما ذكر إلا بنحو الموجبة الجزئية لا بقول مطلق كما هو المدعى.

رابعها : صحيحة يعقوب بن شعيب عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال :

__________________

(١) العروة الوثقى ١ : ٥٥٤ / ١٨٠٣.

(٢) محاضرات في أُصول الفقه ٣ : ٩٤.

٣٣٩

« سألته عن الرجل ينام عن الغداة حتى تبزغ الشمس أيصلي حين يستيقظ أو ينتظر حتى تنبسط الشمس؟ فقال : يصلي حين يستيقظ ، قلت : يوتر أو يصلي الركعتين؟ قال : بل يبدأ بالفريضة » (١).

فإن الأمر بالبدأة بالفريضة ظاهر في عدم مشروعية النافلة ممن عليه الفريضة القضائية.

ويندفع أوّلاً : بمعارضتها في موردها بموثقة أبي بصير عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « سألته عن رجل نام عن الغداة حتى طلعت الشمس ، فقال : يصلي ركعتين ثم يصلي الغداة » (٢).

ومقتضى الجمع العرفي بينهما حمل الصحيحة على المرجوحية ، لكون الموثقة نصاً في جواز البدأة بالنافلة فيرفع اليد عن الظاهر بالنص.

وإن أبيت عن هذا الجمع فغايته التساقط بعد التعارض ، فلا يصح الاستدلال بها لا على المشروعية ولا على عدمها.

وثانياً : أنّ موردها مع الغض عن المعارضة إنما هو صلاة الغداة ، والتعدي عنها إلى غيرها بعد احتمال الاختصاص بها يحتاج إلى الدليل وإذ لا دليل فلا سبيل للاستدلال بها على عدم المشروعية بقول مطلق كما هو المدعى ، هذا.

وعن الشيخ حمل الموثقة على صورة انتظار الجماعة فجمع بينها وبين الصحيحة بحمل الثانية على صورة الانفراد وعالج المعارضة بذلك (٣) ، ولكنه كما ترى جمع تبرعي عارٍ عن كل شاهد ولا يمكن المصير إلى مثله بوجه.

نعم ، لا بأس بهذا الحمل في الروايات الناطقة بأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله رقد فغلبته عيناه ولم يستيقظ إلا بعد ما طلعت الشمس ، وركع ركعتين ثم‌

__________________

(١) ، (٢) الوسائل ٤ : ٢٨٤ / أبواب المواقيت ب ٦١ ح ٤ ، ٢.

(٣) التهذيب ٢ : ٢٦٥.

٣٤٠