موسوعة الإمام الخوئي

الشيخ مرتضى البروجردي

فأمره فصلى الصبح ، ثم قال : ما بينهما وقت » (١) الدالة على أن الحد ما بين طلوع الفجر وتنوير الصبح.

الثالث : الإسفار كما في صحيح ذريح : « صلّ الفجر حين ينشق الفجر إلى أن قال : ثم أتاه من الغد فقال : اسفر بالفجر فأسفر إلى أن قال : ما بين هذين الوقتين وقت » (٢).

الرابع : تجلل الصبح السماء كما في صحيحة الحلبي : « وقت الفجر حين ينشق الفجر إلى أن يتجلل الصبح السماء » (٣).

وصحيحة عبد الله بن سنان : « ووقت صلاة الفجر حين ينشق الفجر إلى أن يتجلل الصبح » (٤).

والظاهر أن المراد بجميع هذه العناوين هو معنى واحد وكل منها عبارة أُخرى عن الآخر وهو ظهور الضياء في جميع أطراف الأُفق إلى عنان السماء وتنوير العالم بحيث لا توجد ظلمه في شي‌ء من النواحي ، ويتمكن الإنسان من رؤية الشبح على بُعده وتمييزه عن غيره ، فان كان هذا المعنى ملازماً لطلوع الحمرة المشرقية فلا كلام ، وإن كان أعم منها لحصوله قبلها بمقدار يسير كما هو الصحيح على ما جرّبناه فالعبرة به وهو الغاية للحدّ والموضوع للحكم ، فلا وجه للتحديد بالحمرة والتعبير بها كما في كلمات المشهور ، لعدم ورودها في شي‌ء من النصوص ، عدا الفقه الرضوي (٥) ودعائم الإسلام (٦) ، وشي‌ء منهما غير قابل للاعتماد ، إذ الثاني بأجمعه مراسيل ، ولم يثبت كون الأول رواية فضلاً عن‌

__________________

(١) الوسائل ٤ : ١٥٧ / أبواب المواقيت ب ١٠ ح ٥.

(٢) الوسائل ٤ : ١٥٨ / أبواب المواقيت ب ١٠ ح ٨.

(٣) الوسائل ٤ : ٢٠٧ / أبواب المواقيت ب ٢٦ ح ١.

(٤) الوسائل ٤ : ٢٠٨ / أبواب المواقيت ب ٢٦ ح ٥.

(٥) فقه الرضا : ٧٤.

(٦) دعائم الإسلام ١ : ١٣٩.

١٦١

كونها معتبرة. مع أنّ المذكور فيهما بدوّ الحمرة في أُفق المغرب المقارن لآخر وقت الإجزاء دون المشرق الذي هو محل الكلام.

نعم ، ورد التعبير بذلك في صحيحة علي بن يقطين قال : « سألت أبا الحسن عليه‌السلام عن الرجل لا يصلي الغداة حتى يسفر وتظهر الحمرة ، ولم يركع ركعتي الفجر أيركعهما أو يؤخّرهما؟ قال : يؤخّرهما » (١) ، لكنها لا تدل على تحديد وقت الفريضة فضيلة أو أجزاءً ولا النافلة بذلك ، لعدم وقوع التعبير المزبور إلا في كلام السائل دون الامام عليه‌السلام.

نعم ، فيها إشعار بكون الحمرة غاية لوقت النافلة ، حيث يظهر منها اعتقاد السائل تقديم النافلة لو كان ذلك قبل طلوع الحمرة وانقضاء الوقت بعده ، ومن هنا سأل عن جواز التقديم بعده أيضاً وعدمه ، وقد أقرّه الإمام عليه‌السلام على هذا الاعتقاد.

لكنها مع ذلك لا تدل على انتهاء وقت فضيلة الفريضة بطلوع الحمرة ، إذ مقتضى إطلاق السؤال بضميمة التقرير المزبور أنه لو لم يبق إلى الحمرة إلا مقدار ركعتين جاز حينئذ تقديم النافلة على الفريضة ، مع أن الحمرة لو كانت غاية لوقت الفضيلة تعيّن الإتيان بالفريضة حينئذ كما هو المستفاد من بقية الأخبار من عدم مزاحمة النافلة مع فضيلة الوقت ، وأنه إنما جعل القدم والقدمان أو الذراع والذراعان لمكان النافلة كما في بعض الأخبار ، أو لمكان الفريضة كما في بعضها الآخر ، أو لئلا يكون تطوع في وقت الفريضة كما في ثالث. فيعلم من جميع ذلك مراعاة فضيلة الوقت عند المزاحمة مع النافلة ، وأن الأفضل تقديم الفريضة على النافلة ، فلا بد وأن لا تكون الحمرة منتهى وقت الفضيلة كي لا يلزم المحذور ، وإنما الغاية هي الأسفار الذي هو مغاير مع الحمرة.

ويشهد أيضاً للمغايرة : قوله « حتى يسفر وتظهر الحمرة » فإن كونه من‌

__________________

(١) الوسائل ٤ : ٢٦٦ / أبواب المواقيت ب ٥١ ح ١.

١٦٢

[١١٨٠] مسألة ١ : يعرف الزوال بحدوث ظل الشاخص المنصوب معتدلاً في أرض مسطّحة بعد انعدامه كما في البلدان التي تمرّ الشمس على سمت الرأس كمكة في بعض الأوقات ، أو زيادته بعد انتهاء نقصانه كما في غالب البلدان ومكة في غالب الأوقات (١).

______________________________________________________

عطف التفسير بعيد ، بل الظاهر أنه من عطف الخاص على العام ، فتدل على ما ذكرناه من حصول الإسفار قبل طلوع الحمرة.

(١) لا إشكال في أنّ مبدأ الظهرين هو الزوال كما نطق به الكتاب العزيز ( أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ .. ) (١) إلخ ، المفسر بالزوال ، وقد وردت به الروايات الكثيرة بل المتواترة كقوله عليه‌السلام : « إذا زالت الشمس فقد وجب الصلاة والطهور » وغير ذلك كما تقدّمت في محلها (٢).

والمراد به ميل الشمس وانحرافها عن دائرة نصف النهار من الشرق إلى الغرب ، فإنها حين تطلع عن أُفق المشرق تأخذ في التصاعد شيئاً فشيئاً حتى تبلغ منتهى الارتفاع حسب اختلاف مدارها ، وبعد الانتهاء عن قوس الصعود ينحرف مسيرها فتزول عن مقرّها وتشرع في قوس الهبوط من ناحية الغرب تدريجاً إلى أن تغيب في الأُفق ، والزوال هو أول الميل والانحناء إلى جهة المغرب بعد منتهى الصعود.

وهذا كله لا إشكال فيه ، إنما الكلام في معرفة ذلك وطريق إحرازه ، حيث إن الانحراف والميل عن دائرة نصف النهار ليس أمراً مبيّناً محسوساً كطلوع الشمس وغروبها ، لعدم السبيل إلى إحساسه بالبصر ومشاهدته بالنظر ، ومن ثم ذكروا لذلك علائم وأمارات وبيّنوا لمعرفته طرقاً ثلاثة أشار إليها في المتن.

أحدها : حدوث الظل بعد الانعدام أو الانتهاء ، فان الشمس حينما تشرق‌

__________________

(١) الإسراء ١٧ : ٧٨.

(٢) في ص ٨١.

١٦٣

عن الأُفق تحدث على كل جسم مرتفع عن سطح الأرض ظلا طويلاً غايته ، وكلما كان الجسم أطول كان الظل أكثر ، ويمتد إلى ناحية الغرب ، ثم تأخذ الشمس في التصاعد والارتفاع ، وبتبعه يشرع الظل في النقصان ، وكلما ازدادت علوّاً ازداد الظل نقصاناً إلى أن تبلغ الشمس أقصى مراحل الارتفاع في كبد السماء ، وحينئذ إذا كان الشاخص مسامتاً لها انعدم الظل بالكلية ، كما لو كان على خط الاستواء أو ما حولها إلى نهاية الميل الأعظم في بعض الأحيان ، وإن لم يسامتها بأن كان أقصى من ذلك لم ينعدم بالمرّة بل يبقى لا محالة ظلّ ما ، وبعد ميل الشمس إلى ناحية الغرب يحدث ظل في الأول ويأخذ الظل الباقي في الازدياد في الثاني إلى ناحية الشرق ، وهذا الحدوث أو الأخذ في الازدياد كاشف قطعي عن الزوال.

وتوضيحه : أنا إذا لاحظنا نقطتي المشرق والمغرب ، فالخط الوهمي المتصل بينهما القاسم للكرة الأرضية إلى ناحيتين متساويتين شمالية وجنوبية هو خط الاستواء ، كما أن الخط الموهوم الواصل بين نقطتي الشمال والجنوب المار بخط الاستواء الذي يحصل من تقاطعهما أربعة أقسام متساوية هو خط نصف النهار.

ثم إن الشمس عند طلوعها من أيّة نقطة من المشرق تغرب في النقطة المقابلة لها من المغرب ، فاذا طلعت في أول فصل الربيع تمرّ على خط الاستواء وتغيب في نقطة المغرب ، ولأجله يعتدل الليل والنهار في هذا اليوم ، ثم في اليوم الثاني والثالث تميل في شروقها وغروبها عن خط الاستواء إلى ناحية الشمال شيئاً فشيئاً إلى نهاية فصل الربيع ، وهو تسعون يوماً ، فتبتعد يومئذ عن خط الاستواء بمقدار ثلاثة وعشرين درجة ، وهو نهاية الميل الأعظم الشمالي ، فيستوعب كل درجة من عرض البلاد أربعة أيام تقريباً ، ثم تعود في أول الصيف إلى أن تبلغ خط الاستواء في نهاية هذا الفصل كما كانت كذلك في أول الربيع ، ثم تميل إلى ناحية الجنوب لمدة ثلاثة أشهر وهي أشهر الخريف إلى أن تبلغ الميل الأعظم من هذه الناحية ، ثم تعود ثلاثة أشهر أُخرى وهي الشتاء إلى أن ترجع إلى خط الاستواء.

١٦٤

ويعرف أيضاً بميل الشمس إلى الحاجب الأيمن (١)

______________________________________________________

فهذه هي مدارات الشمس في طول السنة ، وقد عرفت أن نهاية بعدها عن خط الاستواء في كل من ناحيتي الجنوب والشمال ثلاثة وعشرون درجة ونصف.

وعليه ، فالبلدان الواقعة في مدارات الشمس وأكثرها واقعة في ناحية الشمال ينعدم عنها الظل عند بلوغها دائرة نصف النهار في كل سنة مرتين ، مرّة في مسير الشمس إلى نهاية الميل الأعظم ، ومرّة في رجوعها عنه ، كما أن الواقعة على رأس الميل الأعظم من كل من الجانبين لا ينعدم عنها الظل في السنة إلا مرّة واحدة ، وهو اليوم الذي تصل فيه الشمس إلى نهاية البعد ، وهو أول السرطان في الميل الأعظم الشمالي وأول الجدي في الميل الأعظم الجنوبي ، لعدم حصول التكرار في هذا المدار. وأما البلدان الخارجة عن هذه المدارات أي المنحرفة عن البعد الأعظم في طرفي الجنوب أو الشمال فلا يكاد ينعدم عنها الظل أصلاً ، بل يبقى شي‌ء منه ولو يسيراً إلى ناحية الشمال في البلاد الشمالية ، أو الجنوب في الجنوبية فيأخذ الظل عند الزوال في الازدياد نحو المشرق فلا حدوث بعد الانعدام وإنما هو ازدياد بعد النقصان.

وعليه ، فحدوث الظل إلى طرف المشرق بعد انعدامه أو أخذه في الازدياد بعد استكمال نقصه كاشف قطعي عن تجاوز الشمس عن دائرة نصف النهار كشف العلة من معلولها.

(١) ثانيها : ميل الشمس إلى الحاجب الأيمن عند مواجهة نقطة الجنوب وذلك لأن هذه المواجهة تستلزم أن يكون الخط الموهوم المارّ من نقطة الشمال إلى الجنوب الذي هو خط نصف النهار واقعاً على قمة الرأس ، فإذا كانت الشمس بين العينين والحاجبين فهي على دائرة نصف النهار تماماً ، وعليه فاذا مالت إلى الحاجب الأيمن فقد زالت عن الدائرة بطبيعة الحال.

١٦٥

لمن واجه نقطة الجنوب (١) وهذا التحديد تقريبي كما لا يخفى (٢). ويعرف أيضاً بالدائرة الهندية وهي أضبط وأمتن (٣).

______________________________________________________

(١) وهذا هو الصحيح ، لا ما صنعه المحقق من جعل العبرة بمواجهة القبلة (١) لوضوح عدم استقامته على إطلاقه ، وإنما يتجه فيما إذا اتحدت القبلة مع نقطة الجنوب ، وأما إذا انحرفت عنه يمنة أو يسرة كما في العراق وما والاها ، أو لبنان وما ضاحاها ، فالزوال يتحقق قبل الميل المزبور أو بعده ، ولعله بكثير ، ولو كانت واقعة على نقطتي المشرق أو المغرب كجدّة ونحوها فلا ميل أصلاً.

(٢) لعدم ابتناء المواجهة المزبورة على التدقيق عادة بحيث لو خرج خط مستقيم من الجبهة لوصل إلى تلك النقطة من غير أيّ انحراف ، فان هذا الفرض لعله لا تحقق له.

أضف إلى ذلك : أن إحراز الميل إلى الحاجب في أول زمان تحققه صعب جدّاً والغالب إحساسه بعد مضي زمان ولو قليلاً ، ومن ثم كان التحديد مبنياً على التقريب دون التحقيق.

(٣) ثالثها : ما هو المعروف بالدائرة الهندية التي يستكشف بها الزوال على سبيل البت والجزم ، ومن هنا كانت أضبط وأمتن كما في المتن.

وطريقة معرفتها : أن تسوى الأرض أوّلاً تسوية دقيقة خالية عن أيّ انخفاض أو ارتفاع ، ثم ترسم عليها دائرة كلما كانت أوسع كانت المعرفة أسهل ، ثم ينصب في مركزها شاخص محدّد الرأس بحيث تكون نسبته إلى محيط الدائرة متساوية من كل جانب ، ولا يلزم أن يكون مخروطي الشكل وإن ذكره بعضهم ، وإنما المهم أن يكون محدّد الرأس كما سمعت ، كما لا يلزم أن يكون ارتفاعه بمقدار ربع قطر الدائرة ، وإن ذكره بعضهم أيضاً ، بل العبرة بكونه مقداراً يدخل ظله في الدائرة قبل الزوال.

__________________

(١) الشرائع ١ : ٧٢.

١٦٦

ويعرف المغرب بذهاب الحمرة (١) المشرقية عن سمت الرأس والأحوط زوالها من تمام ربع الفلك من طرف المشرق (١).

______________________________________________________

وكيف ما كان ، فعند طلوع الشمس يحدث ظل طويل للشاخص إلى جانب المغرب ، وكلّما تأخذ الشمس في الارتفاع يأخذ الظل في النقصان بطبيعة الحال إلى أن يصيب الدائرة ويريد الدخول فيها ، فيعلّم حينئذ نقطة الإصابة بعلامة معيّنة ، ثم يترصد موقع الخروج عن نقطة أُخرى من المحيط فيعلّم أيضاً بعلامة أُخرى ، ثم يوصل خط مستقيم بين النقطتين وبعدئذ ينصّف ذلك الخط ويوصل ما بين مركز الدائرة ومنتصف الخط بخط آخر وهذا هو خط نصف النهار ، فمتى وقع ظل الشاخص على هذا الخط في الأيام الآتية كشف عن بلوغ الشمس كبد السماء ووسط النهار تحقيقاً ، ومتى تجاوز عن هذا الخط ومال رأس الظل إلى طرف المشرق كشف كشفاً قطعياً عن تحقق الزوال والتجاوز عن دائرة نصف النهار ، وهو كما ترى من العلائم القطعية غير المختصة بوقت دون وقت.

والظاهر أنّ شيخنا البهائي قدس‌سره بنى الضلع الشرقي من حائط الصحن الشريف العلوي على هذا الخط ، ومن ثم ترى أن الظل متى بلغ هذا الحائط وانعدم وحدث من الحائط الغربي ، تحقق الزوال في تمام الفصول الأربعة على ما جرّبناه مراراً ، فكأنه قدس‌سره راعى الدائرة الهندية عند تأسيس الصحن الشريف ، اهتماماً منه بشأن الوقت وإن استوجب نوعاً من الإخلال بالاستقبال لولا البناء على الاكتفاء بالمواجهة في سبع الدائرة على ما سيجي‌ء في محله إن شاء الله تعالى (١).

(١) غير خفي أنّ المستفاد من إطلاق قوله تعالى : ( أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ

__________________

(*) بل بسقوط القرص بالنسبة إلى الظهرين ، وإن كان الأحوط لزوماً مراعاة زوال الحمرة بالنسبة إلى صلاة المغرب.

(١) في ص ٤٣١.

١٦٧

الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ ) (١) أن كل جزء من الآنات الواقعة بين الحدين صالح لإيقاع الصلاة فيه ، غير أنّ الروايات المفسرة قيّدت هذا الإطلاق وبيّنت أنّ وقت الظهرين من الزوال إلى الغروب ، والعشاءين منه إلى منتصف الليل ، فمقتضى الآية المباركة بعد ملاحظة هذا التفسير جواز إيقاع المغرب لدى الغروب ، فلو كنّا نحن وهذا المقدار من الدليل لم يكن في البين إبهام ولا ترديد ، لوضوح مفهوم الغروب عرفاً وعدم إجمال فيه ، فإنه عبارة عن استتار القرص في الأُفق الحسي وغيبوبته عن النظر من دون حاجب وحائل في قبال طلوع الشمس ، أي خروج العين عن الأُفق الشرقي.

فلا إبهام في شي‌ء من المفهومين في حدّ أنفسهما ، غير أن الروايات الخاصة الواردة في المقام أورثت الاختلاف في تحديد مفهوم الغروب بين الأعلام.

والأقوال في المسألة ثلاثة :

الأول : أن الغروب يتحقق باستتار القرص وغيبوبته عن النظر كما مرّ ذهب إلى هذا القول جمع من الأعلام ، وقد أفتى به في المدارك صريحاً (٢) ، بل لا يبعد أن يكون هذا هو المشهور بين الأصحاب ، وإن كان القول الآتي أشهر والقائل به أكثر كما تفصح عنه عبارة المحقق في الشرائع حيث إنه بعد اختيار هذا القول قال : وقيل بذهاب الحمرة من المشرق وهو الأشهر (٣) فإن التعبير بالأشهر ظاهر في كون القول الآخر مشهوراً معروفاً بين الفقهاء. والحاصل أن هذا القول ليس شاذاً نادراً كما قد يتوهم.

الثاني : أن العبرة بذهاب الحمرة المشرقية عن قمة الرأس ، فلا يكتفى بمجرد الاستتار عن الأُفق الحسّي ، بل اللازم بلوغ الشمس تحت الأُفق إلى درجة‌

__________________

(١) الإسراء ١٧ : ٧٨.

(٢) مدارك الأحكام ٣ : ٥٣.

(٣) الشرائع ١ : ٧٢.

١٦٨

معينة يكشف عنها ذهاب الحمرة المشرقية عن سمت الرأس. وهذا هو أشهر الأقوال كما عرفت.

الثالث : تحديد الوقت بذهاب الحمرة المشرقية عن تمام ربع الفلك أعني عن نقطة الشرق إلى دائرة نصف النهار بتمام نواحيها وجوانبها من الجنوب إلى الشمال الذي يتأخر ذلك عن الذهاب عن خصوص القمة ببضع دقائق ، والقائل بذلك قليل جدّاً ، بل لم نعثر على قائل به صريحاً ، فالمعروف إنما هما القولان الأوّلان.

وكيف ما كان ، فقد عرفت أن منشأ الاختلاف اختلاف الروايات الواردة في المقام فلا بد من ذكرها والنظر فيها حتى يتضح الحال. وستعرف إن شاء الله تعالى أن الأقوى هو القول الأول.

فيقع الكلام في الروايات التي استدل بها للقول الأشهر ، وهي وإن كثرت لكن شيئاً منها لا تدل على مطلوبهم ، لضعفها سنداً أو دلالة على سبيل منع الخلو.

فمنها : رواية بريد بن معاوية عن أبي جعفر عليه‌السلام « قال : إذا غابت الحمرة من هذا الجانب يعني من المشرق فقد غابت الشمس من شرق الأرض وغربها » (١) رواها الكليني بطريقين (٢) ، وفي كليهما القاسم بن عروة ولم يوثق ، فالرواية ضعيفة سنداً ، وكذا دلالة ، فإن غاية ما يقال في تقريبها : أن غيبوبة الشمس التي هي معنى الغروب إنما تتحقق بزوال الحمرة من ناحية المشرق وهو ملازم لزوالها عن قمة الرأس.

وفيه : أن المراد من المشرق الوارد (٣) فيها على ما يقتضيه ظاهر اللفظ هو‌

__________________

(١) الوسائل ٤ : ١٧٢ / أبواب المواقيت ب ١٦ ح ١.

(٢) الكافي ٣ : ٢٧٨ / ٢ ، الكافي ٤ : ١٠٠ / ٢.

(٣) لو كان التفسير من الراوي أمكن تطبيق الجانب على ما لا ينافي مذهب الأشهر ، نظراً إلى أن جانب المشرق غير خاص بمطلع الشمس ونقطة الشروق ، بل يشمل الأعالي أيضاً كما لا يخفى.

١٦٩

خصوص موضع طلوع الشمس وشروقها ، في مقابل المغرب الذي يراد به النقطة التي تغرب فيها وتدخل تحت الأُفق ، كما يفصح عنه التعبير عنه بمطلع الشمس في رواية عمار الساباطي (١) لا جميع جهة المشرق وناحيته من قطب الجنوب إلى الشمال كما هو مبنى الاستدلال ، وحيث إن المشرق مطلّ على المغرب بمقتضى كرؤية الأرض وقد صرح به في رواية ابن أشيم الآتية ، فارتفاع الحمرة عن نقطة المشرق يدل على استتار القرص ودخوله تحت الأُفق بطبيعة الحال. فهذا هو مفاد الرواية ولا دلالة لها بوجه على كاشفية ذهاب الحمرة عن تمام ناحية الشرق أو عن قمة الرأس عن الغروب كما توهمه المستدل.

وبالجملة : فرض كرؤية الأرض والتقابل بين نقطتي المشرق والمغرب يستدعي وجود الحمرة في المشرق قبيل الاستتار وما دام القرص باقياً ، وبعد استتاره ودخوله تحت الأُفق ترتفع الحمرة شيئاً فشيئاً إلى أن تزول ، فيكون هذا الارتفاع الممكن مشاهدته لكل أحد كاشفاً عن ذلك الاستتار الذي هو المدار في تعلق الأحكام من وجوب الصلاة وانتهاء الصيام ، ولا تتيسر معرفته غالباً لمكان الجبال والأطلال ونحوهما من الموانع والحواجب التي لا تخلو عنها أقطار الأرض ، فجعل الارتفاع المزبور دليلاً عليه وأمارة كاشفة عنه. إذن فلا ارتباط للرواية بذهاب الحمرة من ناحية المشرق وتجاوزها عن قمة الرأس بوجه ، بل هي على خلاف المطلوب أدلّ وتعدّ من أدلة القول المشهور دون الأشهر ، فتكون الرواية قاصرة الدلالة لهذه العلة.

وأما تضعيف دلالتها بعدم كون الجزاء معلولاً لشرطها ، بداهة عدم كون استتار القرص معلولاً لذهاب الحمرة ، بل هما متلازمان ومعلولان لعلة ثالثة.

فيندفع بعدم اعتبار المعلولية في صحة القضية الشرطية ، وإنما العبرة بقصد الملازمة سواء أتسببت عن العلية والمعلولية ، أم عن جهة أُخرى كما لا يخفى.

__________________

(١) الوسائل ٤ : ١٧٥ / أبواب المواقيت ب ١٦ ح ١٠.

١٧٠

كما أنّ تضعيفها أيضاً بأن ترتب الجزاء على الشرط في الرواية لم يكن بلحاظ الوجود الخارجي بل الوجود العلمي ، ومن البيّن أن ترتب الجزاء على الشرط علماً لا يقتضي تقارنهما حدوثاً ، بل من الجائز سبق حدوث الجزاء ، كما في مثل قولك إذا استطعمك زيد فهو جائع.

مدفوع بظهور القضية في الاقتران ما لم تقم قرينة على الخلاف كما في المثال ، فالعمدة في المناقشة ما عرفت.

هذا كله على تقدير أن يكون متن الرواية ما سمعت المطابق للكافي وأحد طريقي الشيخ (١) ، وأما على طريقه الآخر حيث رواها هكذا : « إذا غابت الحمرة من هذا الجانب يعني ناحية المشرق فقد غربت الشمس في شرق الأرض » (٢). فهي حينئذ تدل على ما نسب إلى بعض الأصحاب من اعتبار زوال الحمرة من تمام ربع الفلك ، فان الظاهر من « ناحية المشرق » هو ذلك (٣) ولا ارتباط لها أيضاً بالقول الأشهر ، فالاستدلال بها لهذا القول لا يتم على التقديرين.

ومنها : ما رواه علي بن أحمد بن أشيم عن بعض أصحابنا عن أبي عبد الله عليه‌السلام « قال : سمعته يقول : وقت المغرب إذا ذهبت الحمرة من المشرق وتدري كيف ذلك؟ قلت : لا ، فقال : لأن المشرق مطل على المغرب هكذا ، ورفع يمينه فوق يساره فاذا غابت هاهنا ذهبت الحمرة من هاهنا » (٤).

وهي مضافاً إلى ضعف سندها لا بعلي بن أحمد نفسه فإنه من رجال كامل الزيارات ، بل بالإرسال فلا تصلح للاستدلال قاصرة الدلالة كما يظهر مما قدمناه حول الرواية السابقة ، حيث عرفت أنّ المراد من المشرق خصوص مطلع الشمس لا ناحيته وجهته ، وأنّ زوال الحمرة عن تلك النقطة من علائم‌

__________________

(١) التهذيب ٢ : ٢٥٧ / ١٠٢١.

(٢) التهذيب ٢ : ٢٩ / ٨٥.

(٣) بل الظاهر أن الناحية والجانب مترادفان ، وقد عرفت الحال في الثاني فالأول مثله.

(٤) الوسائل ٤ : ١٧٣ / أبواب المواقيت ب ١٦ ح ٣.

١٧١

الغيبوبة ولوازم استتار القرص ، بل إن هذه أصرح من سابقتها ، لما فيها من الإيعاز إلى كرؤية الأرض بقوله : « إن المشرق مطلّ » إلخ مع التصدي بيده للترسيم مبالغة في التفهيم ، فان مقتضى ذلك أن غيبوبة الشمس تتعقبها ظلمة تدريجية تبتدئ من النقطة المقابلة لسقوط القرص ثم ترتفع شيئاً فشيئاً إلى أن تستوعب ناحية المشرق ، أعني ربع الفلك. إذن فالملازمة بين استتار القرص وبين ارتفاع الحمرة من تلك النقطة لمكان الكروية واضحة جلية ، ومعه لا دلالة لها على القول الأشهر بوجه.

ومنها : ما رواه الكليني عن علي بن محمد عن سهل بن زياد عن محمد بن عيسى عن ابن أبي عمير ، عمّن ذكره عن أبي عبد الله عليه‌السلام « قال : وقت سقوط القرص ووجوب الإفطار من الصيام أن تقوم بحذاء القبلة وتتفقّد الحمرة التي ترتفع من المشرق ، فاذا جازت قمّة الرأس إلى ناحية المغرب فقد وجب الإفطار وسقط القرص » (١) وهي أصرح رواية يستدل بها على القول الأشهر ، بيد أنها ضعيفة السند بسهل بن زياد أوّلاً وبالإرسال ثانياً ، ولا يصغي إلى دعوى إلحاق مراسيل ابن أبي عمير بمسانيده ، أو أن الأمر في سهلٍ سهلٌ كما تكررت الإشارة إليه في مطاوي هذا الشرح.

على أنه يمكن القول بعدم كونها مرسلة لابن أبي عمير نفسه (٢) ، بل للراوي الذي ينقلها عن ابن أبي عمير فهو ذكره ، لكن الراوي عنه لم يذكره لغاية هو أدرى بها.

أضف إلى ذلك : إمكان تطرق الخدش في الدلالة أيضاً :

أوّلاً : بعدم تطابق مضمونها مع ما هو المشاهد بالعيان ، فان الناظر إلى جانب المشرق من الأُفق لدى الغروب يرى أن الحمرة ترتفع شيئاً فشيئاً إلى‌

__________________

(١) الوسائل ٤ : ١٧٣ / أبواب المواقيت ب ١٦ ح ٤ ، الكافي ٣ : ٢٧٩ / ٤.

(٢) فيه : ما لا يخفى ، فان مبنى حجّية مراسيل ابن ابي عمير دعوى أنه لا يروي ولا يرسل إلا عن الثقة ، إذن فالمروي عنه أياً من كان فهو ثقة بشهادة ابن ابي عمير ، سواء أكان مذكوراً أم لا. فحذف شخص آخر اسمه لا يكاد يضر بحجية روايته بوجه.

١٧٢

أن تزول ثم تحدث حمرة أُخرى من ناحية المغرب ، لا أن تلك الحمرة تبقى وتتعدى عن قمة الرأس إلى ناحيته كما هو صريح الرواية ، فليس شأنها شأن الشمس لدى الزوال ، حيث عرفت أنها ترتفع وتعلو حتى تتجاوز دائرة نصف النهار وبه يتحقق الزوال ، والتجربة خير دليل وأكبر برهان.

وثانياً : أنه إن أُريد من السقوط في قوله : « ... وسقط القرص » سقوطه عن النظر ، ودخوله تحت الأُفق الحسي ، فمن الواضح جدّاً تحقق ذلك قبل ذهاب الحمرة عن قمة الرأس بأكثر من عشر دقائق ، وإن أُريد به معنى آخر كدخوله تحت الأُفق الحقيقي فهو أمر مبهم غير بيّن ولا مبيّن وإحالة إلى أمر مجهول (١) كما لا يخفى.

ومنها : ما رواه الكليني بإسناده عن أبان بن تغلب قال : « قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : أيّ ساعة كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يوتر؟ فقال : على مثل مغيب الشمس إلى صلاة المغرب » (٢).

بتقريب دلالتها على أن ما بين غيبوبة الشمس إلى وقت صلاة المغرب فاصل زماني كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يوتر في مقدار هذا الفصل مما قبل طلوع الفجر ، ومن البيّن أنه لا نظر في ذاك الفاصل إلا إلى تجاوز الحمرة عن قمة الرأس.

وفيه : مضافاً إلى ضعف السند بإسماعيل بن أبي سارة فإنه لم يوثق ، أنّ الدلالة إنما تستقيم لو كان التعبير هكذا : إلى وقت صلاة المغرب ، بدلاً عما هو المذكور فيها من « صلاة المغرب » ومن الواضح أنّ نفس الصلاة تتأخر عادة عن أول الوقت لأجل بعض المقدمات ، ولا أقل من الأذان والإقامة ، ولا سيما في انعقاد الجماعات لانتظار المأمومين (٣) فلا دلالة فيها على أن الوقت بنفسه‌

__________________

(١) لا جهالة فيه بعد أن جعل زوال الحمرة في الرواية طريقاً وكاشفاً عنه.

(٢) الوسائل ٤ : ١٧٤ / أبواب المواقيت ب ١٦ ح ٥ ، الكافي ٣ : ٤٤٨ / ٢٤.

(٣) هذا المقدار من التأخير يشمل عامة الصلوات ولا يختص بالمغرب ، فما هو وجه

١٧٣

متأخر عن الاستتار.

ومنها : صحيحة بكر بن محمد عن أبي عبد الله عليه‌السلام « أنه سأله سائل عن وقت المغرب ، فقال : إن الله يقول في كتابه لإبراهيم ( فَلَمّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي ) وهذا أول الوقت .. » إلخ (١).

بتقريب (٢) أن الكوكب لا يرى عادة إلا عند حلول الليل الملازم لذهاب الحمرة ولا يمكن رؤيته بمجرد الاستتار والغيبوبة.

فيندفع : بمنع الملازمة ، لقضاء الوجدان بمشاهدة بعض الكواكب النيرة ذات الأجرام الكبيرة قبل ذهاب الحمرة ، بل عند الغروب والسقوط ، بل قد يرى قبل السقوط أيضاً ولا أقل من كوكب واحد وهو الوارد في الآية المباركة. إذن فالرواية على خلاف المطلوب أدل وفي قول المشهور أظهر.

ومنها : رواية بريد بن معاوية العجلي في أحد طريقي الشيخ قال : « سمعت أبا جعفر عليه‌السلام يقول : إذا غابت الحمرة من هذا الجانب ، يعني ناحية المشرق ، فقد غابت الشمس من شرق الأرض ومن غربها » (٣).

وقد تقدم البحث حول هذه الرواية (٤) وعرفت دلالتها (٥) على اعتبار زوال‌

__________________

التخصيص بالذكر لولا ما ذكره المستدل من تأخير نفس الوقت عن استتار القرص. على أن التأخير المذكور أمر غير منضبط ، لاختلاف مقداره حسب اختلاف الموارد ، فالإحالة إليه إحالة إلى أمر مجهول.

(١) الوسائل ٤ : ١٧٤ / أبواب المواقيت ب ١٦ ح ٦.

(٢) بل بتقريب آخر يسلم عما أُورد عليه في المتن وهو : أن الصحيحة ناظرة إلى وقت جن الليل عليه وفي اللغة إن جن الليل على الشي‌ء هو ستره له ، ولا ستر إلا مع الظلمة المتأخرة عن الاستتار بكثير أقله زوال الحمرة المشرقية عن قمة الرأس ، فالعبرة برؤية الكوكب في هذه الحالة لا غير.

(٣) الوسائل ٤ : ١٧٥ / أبواب المواقيت ب ١٦ / ح ٧ ، التهذيب ٢ : ٢٩ / ٨٤.

(٤) في ص ١٦٩ ، ١٧١ مع اختلاف يسير في الألفاظ.

(٥) وقد عرفت المناقشة فيها [ راجع ص ١٦٩ ].

١٧٤

الحمرة عن تمام ربع الفلك من القطب الجنوبي إلى القطب الشمالي من ناحية المشرق ، ومن البيّن أنّ أرباب القول الأشهر لا يعتبرون ذلك بل يكتفون بذهابها عن قمة الرأس. فهذه الرواية على تقدير تماميتها والغض عمّا في سندها من الضعف بالقاسم بن عروة تدل على ثالث الأقوال في المسألة ولا ربط لها بالقول الأشهر.

ومنها : ما رواه محمد بن علي قال : « صحبت الرضا عليه‌السلام في السفر فرأيته يصلي المغرب إذا أقبلت الفحمة من المشرق يعني السواد » (١) فإن الفحمة إنما تقبل بتجاوز الحمرة عن قمة الرأس.

وفيه : مضافاً إلى ضعف السند إذ لا توثيق لمحمد بن علي ، وإلى أن فعله عليه‌السلام لا يدل على التحديد لاحتمال التأخير لغاية أُخرى ولو من باب استحباب التمسية بالمغرب قليلاً كما ستعرف ، أن الدلالة قاصرة إذ الفحمة إنما تقبل (٢) عند سقوط القرص واستتاره كاقبال البياضة عند الطلوع ، فلدى غروب الشمس ترتفع الحمرة من نقطة المشرق تدريجاً ويتبعها السواد مباشرة كما يقضي به الحسّ والتجربة. إذن فالملازمة إنما هي بين إقبال الفحمة وبين الاستتار لا بينه وبين الزوال عن قمة الرأس كي تدل على القول الأشهر ، بل هي في الدلالة على القول المشهور أظهر حسبما عرفت.

ومنها : رواية شهاب بن عبد ربّه قال : « قال أبو عبد الله عليه‌السلام : يا شهاب إني أُحب إذا صليت المغرب أن أرى في السماء كوكباً » (٣).

وفيه : مضافاً إلى ضعف سندها بمحمد بن حكيم (٤) وإلى أنّ المحبوبية تجتمع‌

__________________

(١) الوسائل ٤ : ١٧٥ / أبواب المواقيت ب ١٦ ح ٨.

(٢) يمكن ان يقال : إن الإقبال هو مجي‌ء الشي‌ء نحو الإنسان واقترابه منه ، واقتراب الفحمة إنما هو بصيرورتها فوق الرأس كما لا يخفى ، وعليه فالدلالة تامة.

(٣) الوسائل ٤ : ١٧٥ / أبواب المواقيت ب ١٦ ح ٩.

(٤) ولكنه قدس‌سره ذكر في المعجم ١٧ : ٣٦ / ١٠٦٤٧ أنّه ممدوح.

١٧٥

مع الأفضلية فلا تدل على اللزوم ، أن الكوكب يرى (١) لدى سقوط القرص أيضاً كما تقدم. فهي إذن ظاهرة في مذهب المشهور لا الأشهر.

ومنها : ما رواه عمار الساباطي عن أبي عبد الله عليه‌السلام « قال : إنما أمرت أبا الخطاب أن يصلّي المغرب حين زالت الحمرة من مطلع الشمس ، فجعل هو الحمرة التي من قبل المغرب وكان يصلي حين يغيب الشفق » (٢) ، دلت على أنّ العبرة بزوال الحمرة المشرقية فلا يكفي مجرد الاستتار.

وفيه : مضافاً إلى ضعف السند بعلي بن يعقوب الهاشمي ، أن الدلالة قاصرة ، إذ المراد من مطلع الشمس كما سبق هو مكان طلوعها ونقطة خروجها ، لا الشرق كله ، وقد عرفت أنّ زوال الحمرة من تلك النقطة إنما يتحقق عند الاستتار وأول الغروب ، فهي إذن على خلاف المطلوب أدل.

ومنها : رواية محمد بن شريح عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « سألته عن وقت المغرب ، فقال : إذا تغيّرت الحمرة في الأُفق وذهبت الصفرة ، وقبل أن تشتبك النجوم » (٣) بتقريب أن تغيّر الحمرة كذهاب الصفرة لا يكونان إلا عند الزوال عن قمة الرأس.

وفيه أوّلاً : أن السند ضعيف بعلي بن الحارث وبكار بن بكر ، فإن الأول مجهول ، والثاني لم يوثق.

وثانياً : أن الدلالة قاصرة بشهادة التجربة ، فانّ تغيير الحمرة إنما يكون في أول الغروب ومنذ استتار الشمس في الأُفق وهو زمان ذهاب الصفرة أيضاً ، وكل ذلك قبل اشتباك النجوم (٤) فهذه أيضاً على خلاف المطلوب أدل.

ومنها : صحيحة يعقوب بن شعيب عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « قال‌

__________________

(١) لكن الرؤية لم تكن دائمية وفي جميع الفصول.

(٢) الوسائل ٤ : ١٧٥ / أبواب المواقيت ب ١٦ ح ١٠.

(٣) الوسائل ٤ : ١٧٦ / أبواب المواقيت ب ١٦ ح ١٢.

(٤) لكن اشتباك النجوم إنما يكون بعد زوال الحمرة عن قمة الرأس بزمان معتد به فقبله ينطبق عليه.

١٧٦

لي مسّوا بالمغرب قليلاً ، فان الشمس تغيب من عندكم قبل أن تغيب من عندنا » (١).

ويندفع : بأن مقتضى كرؤية الأرض اختلاف الطلوع والغروب حسب اختلاف البلاد والأصقاع ، فتغرب الشمس في بلد في ساعة ثم في آخر في ساعة أُخرى وهكذا ، بل هي لا تزال في طلوع وغروب ، ومن الضروري أن العبرة في كل بلد بطلوعه وغروبه ، سواء أتحقّق في بلد آخر أم لا. ومن ثم ورد : « وإنما عليك مشرقك ومغربك .. » (٢).

وعليه ، فلم يتضح وجه صحيح للأمر بالتأخير في هذه الصحيحة إلا الحمل بعد فرض اتحاد أُفق البلدين على غيبوبة الشمس في بلد الراوي واستتارها عن الأنظار قبل دخولها تحت الأُفق لمكان الجبال والأطلال ، فأمره عليه‌السلام بالتأخير رعاية للاحتياط الناشئ من احتمال عدم تحقق الغروب واقعاً ، لا أنه قد تحقق ومع ذلك يأمر بالتأخير لمكان تجاوز الحمرة عن قمة الرأس كما هو المدعى ، هذا أوّلاً.

وثانياً : سلّمنا أن الأمر بالتأخير كان بعد تحقق الغروب ، لكن المأمور به لما كان هو التمسية قليلاً المحقق طبعاً قبل التجاوز عن قمة الرأس ، فهو محمول على الاستحباب بقرينة ما دل على دخول الوقت باستتار القرص وبرؤية الكوكب كما تقدم المتحققين قبل ذلك. على أن التمسية القليلة أمر متعارف لجريان العادة على الصلاة بعد المغرب بشي‌ء ، إذ لا تؤدى الفريضة عند سقوط القرص غالباً (٣).

ومنها : رواية عبد الله بن وضاح قال : « كتبت إلى العبد الصالح عليه‌السلام يتوارى القرص ويقبل الليل ثم يزيد الليل ارتفاعاً وتستتر عنا الشمس وترتفع فوق الجبل حمرة ويؤذّن عندنا المؤذّنون أفأُصلي حينئذ وأفطر إن كنت صائماً‌

__________________

(١) الوسائل ٤ : ١٧٦ / أبواب المواقيت ب ١٦ ح ١٣.

(٢) الوسائل ٤ : ١٩٨ / أبواب المواقيت ب ٢٠ ح ٢.

(٣) لكن هذا لا يختص ببلدهم دون بلده عليه‌السلام وقد فرّق بينهما في الرواية.

١٧٧

أو انتظر حتى تذهب الحمرة التي فوق الجبل؟ فكتب إلى : أرى لك أن تنتظر حتى تذهب الحمرة وتأخذ بالحائطة لدينك » (١) دلت على عدم كفاية الاستتار المفروض في السؤال ولزوم الانتظار حتى تزول الحمرة ، غير أنه عليه‌السلام علله بالاحتياط لمراعاة التقية.

وفيه : أنه لم يفرض في السؤال تيقّن الراوي (٢) باستتار القرص ومواراته تحت الأُفق ، وإنما المفروض مواراته عن النظر ، ولعله يكون خلف الجبل ، بل إن قوله « وترتفع فوق الجبل حمرة » يكشف عن كونه شاكاً في ذلك كما لا يخفى.

وعليه ، فلا وجه لحمل التعليل على الاحتياط في الشبهة الحكمية ليلزم حمله على التقية من أجل امتناع إرادته من الامام العالم بالأحكام الواقعية ، بل هو ناظر إلى الاحتياط في الشبهة الموضوعية من أجل شك السائل في تحقق الغروب وعدمه كسائر الأوامر الاحتياطية الواردة في الشبهات الموضوعية. إذن فالرواية أظهر دلالة على المسلك المشهور من دلالتها على المسلك الأشهر.

وأما الطعن في السند باشتماله على سليمان بن داود المنقري الذي تعارض فيه توثيق النجاشي (٣) مع تضعيف ابن الغضائري (٤) ، فيردّه : عدم قدح التضعيف المزبور لعدم ثبوت الكتاب المنسوب إليه ، ومعه كان التوثيق سليماً عن المعارض ، فلا نقاش في السند ، والعمدة ضعف الدلالة كما عرفت.

ومنها : رواية جارود قال : « قال لي أبو عبد الله عليه‌السلام : يا جارود ينصحون فلا يقبلون ، وإذا سمعوا بشي‌ء نادوا به ، أو حدّثوا بشي‌ء أذاعوه ، قلت‌

__________________

(١) الوسائل ٤ : ١٧٦ / أبواب المواقيت ب ١٦ ح ١٤.

(٢) كيف لم يكن متيقناً وأمامه حجة شرعية وهي أذان المؤذنين العارفين بالوقت على مذهبهم. مضافاً إلى الحمرة المشرقية المرفوعة فوق الجبل الملازمة للاستتار ، ولا سيما مع التعبير بإقبال الليل مؤكداً ذلك بازدياده ارتفاعاً ، وبضميمة كون التعليل بالاحتياط للتقية تتم دلالة الرواية.

(٣) رجال النجاشي : ١٨٤ / ٤٨٨.

(٤) خلاصة الأقوال : ٣٥٢ / ١٣٨٨.

١٧٨

لهم : مسّوا بالمغرب قليلاً فتركوها حتى اشتبكت النجوم فأنا الآن أُصليها إذا سقط القرص » (١) ، فان قوله عليه‌السلام : « مسّوا » أي صلوا مساءً وأخّروها يدل على وجوب التأخير عن سقوط القرص الملازم لذهاب الحمرة عن قمة الرأس ، وإنما لم يفعل هو عليه‌السلام لمراعاة التقية بعد ما فعلوه من إذاعة السر.

ويندفع : بأن التمسية القليلة المأمور بها غير ملازمة لذهاب الحمرة ، لعدم افتراضه في الرواية ، فهو طبعاً محمول على الفضل ، وحيث إنه بعد الإذاعة أصبح خلاف التقية تركه واختار الفرد المفضول ، لا أنه عليه‌السلام صلى قبل الوقت تقية ليدل على القول الأشهر ، بل هي في الدلالة على القول المشهور أظهر حسبما عرفت.

أضف إلى ذلك : أن السند غير نقي ، لاحتمال اشتماله على إسماعيل بن أبي سماك ولم تثبت وثاقته ، فان توثيق النجاشي راجع إلى أخيه إبراهيم لا إليه نفسه فلاحظ (٢).

والمتحصل من جميع ما تقدم : أن النصوص المستدل بها للقول الأشهر غير صالحة للاستدلال بها ، لضعفها سنداً أو دلالة على سبيل منع الخلو (٣).

ثم إنه ربما يستدل لهذا القول بأن تحديد الوقت بذهاب الحمرة عن قمة الرأس أمر شائع ذائع عند الإمامية ، وهو من مختصاتهم ومتفرداتهم بحيث أصبح شعاراً لهم ورمزاً وبه يمتازون عن غيرهم ، حتى أن المصلي عند سقوط القرص يتهم بالخلاف ، وقد كان هذا معهوداً منذ زمن المعصومين عليهم‌السلام كما يفصح عنه ما رواه في المجالس بإسناده عن الربيع بن سليمان وأبان ابن أرقم وغيرهم قالوا : « أقبلنا من مكة حتى إذا كنا بوادي الأخضر إذا نحن برجل يصلي ونحن ننظر إلى شعاع الشمس فوجدنا في أنفسنا ، فجعل يصلي‌

__________________

(١) الوسائل ٤ : ١٧٧ / أبواب المواقيت ب ١٦ ح ١٥.

(٢) رجال النجاشي : ٢١ / ٣٠.

(٣) بل قد تقدم قوة بعضها سنداً ودلالة ومعه لم يكن بدّ من حمل معارضها على التقية.

١٧٩

ونحن ندعو عليه حتى صلى ركعة ونحن ندعو عليه ، ونقول هذا شباب من شباب أهل المدينة ، فلما أتيناه إذا هو أبو عبد الله جعفر بن محمد عليه‌السلام فنزلنا فصلينا معه وقد فاتتنا ركعة ، فلما قضينا الصلاة قمنا إليه فقلنا : جعلنا فداك هذه الساعة تصلي ، فقال : إذا غابت الشمس فقد دخل الوقت » (١).

فإنها خير شاهد على أن إناطة الوقت بذهاب الحمرة عن قمة الرأس كان من الواضحات عند الإمامية وأمراً مفروغاً عنه بينهم مركوزاً في أذهانهم ، وإلا فكيف غضبوا من فعل المصلي قبل أن يعرفوا أنه الصادق عليه‌السلام حيث قالوا فوجدنا في أنفسنا أي غضبنا.

والجواب : أن كون ذلك شعاراً لهم ورمزاً وإن لم يكن مساغ لإنكاره ، إلا أنه مع ذلك لا دلالة له بوجه على لزوم التأخير ، إذ من الجائز أن يكون ذلك من سنخ الشعائر القائمة على نبذ مما التزموا به عملاً مع اعترافهم باستحبابه من غير نكير كالقنوت ، فإنك لا تكاد ترى إماميّاً يتركه في صلاته من غير عذر مع أنه لا يرى وجوبه. فلا ملازمة بين البناء العملي على شي‌ء وبين وجوبه فليكن المقام من هذا القبيل ، ولا سيما بعد ملاحظة أن الروايات الواردة في جواز ترك القنوت قد ورد مثلها في المقام أيضاً. ومنه تعرف الحال في الرواية ، فإن غاية ما يستفاد منها أن تأخير الصلاة عن استتار القرص أمر مرغوب فيه عند الإمامية ، وأما وجوبه فكلاّ. مضافاً إلى ضعف سندها بعدّة من المجاهيل.

وقد استبان لك من جميع ما قدمناه لحدّ الآن أن القول المنسوب إلى الأشهر أو الأكثر لا يسعنا الالتزام به ، إذ لا سبيل إلى إتمامه بدليل تركن إليه النفس ، بل الدليل قائم على خلافه ، ومقتضى الصناعة هو المصير إلى القول المشهور من دخول الوقت بسقوط القرص واستتار الشمس تحت الأُفق الذي اختاره جماعة من المحققين. منهم المحقق (٢) وصاحب المدارك (٣) وغيرهما ، فقد دلت‌

__________________

(١) الوسائل ٤ : ١٨٠ / أبواب المواقيت ب ١٦ ح ٢٣ ، أمالي الصدوق : ١٤٠ / ١٤٣.

(٢) الشرائع ١ : ٧٢.

(٣) المدارك ٣ : ٥٣.

١٨٠