موسوعة الإمام الخوئي

الشيخ مرتضى البروجردي

فصل

في أوقات اليومية ونوافلها‌

وقت الظهرين ما بين الزوال والمغرب (*) (١) ،

______________________________________________________

(١) على المشهور المعروف بين الأصحاب ، ويقع الكلام تارة من حيث المبدأ واخرى من ناحية المنتهي ، فهنا مقامان :

أما المقام الأول : فلا خلاف بين العلماء في أنّ مبدأه الزوال فلا يجوز التقديم عليه ، بل عليه إجماع المسلمين قاطبة فضلاً عن الخاصة. نعم ربما ينسب إلى بعض العامة جواز التقديم عليه قليلاً بالنسبة إلى المسافر (١) ، لكنه شاذ جدّاً لا يعبأ به.

وكيف كان فيدل على الحكم الكتاب والسنة.

أما الكتاب : فقوله تعالى ( أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ ) (٢) فان الدلوك عبارة عن الزوال ، أي ميل الشمس عن المشرق إلى المغرب ، كما فسّر بذلك في جملة من الأخبار التي منها صحيحة زرارة المتقدمة‌

__________________

(*) الأحوط إن لم يكن أقوى عدم جواز تأخير الظهرين عن سقوط القُرص.

(١) المغني ١ : ٤٤١.

(٢) الإسراء ١٧ : ٧٨.

٨١

آنفاً في الصلاة الوسطى ، قال : « سألت أبا جعفر عليه‌السلام عمّا فرض الله عز وجل من الصلاة؟ فقال : خمس صلوات في الليل والنهار ، فقلت : هل سمّاهن الله وبيّنهنّ في كتابه؟ قال : نعم ، قال الله تعالى لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله ( أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ ) ودلوكها زوالها .. » إلخ (١).

وعن جماعة من اللغويين التصريح بذلك (٢). نعم فسّر الدلوك في اللغة أيضاً باصفرار الشمس وميلها إلى الغروب (٣) ، لكنه بهذا المعنى غير مراد من الآية قطعاً ، لعدم كونه مبدءاً لشي‌ء من الصلوات بالضرورة ، فيتعين الأول.

وأما السنة : فالأخبار الواردة في ذلك كثيرة جدّاً لا يبعد بلوغها حدّ التواتر ، وجملة منها صحاح وموثقات كصحيحة زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام « قال : إذا زالت الشمس دخل الوقتان الظهر والعصر .. » إلخ (٤).

ورواية عبيد بن زرارة قال : « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن وقت الظهر والعصر فقال : إذا زالت الشمس فقد دخل وقت الظهر والعصر جميعاً إلا أنّ هذه قبل هذه ، ثم أنت في وقتٍ منهما جميعاً حتى تغيب الشمس » (٥).

ورواية سفيان بن السمط عن أبي عبد الله عليه‌السلام « قال : إذا زالت الشمس فقد دخل وقت الصلاتين » (٦) إلى غير ذلك مما أفاد هذا المضمون بالسنة مختلفة.

وبإزاء هذه كلها روايات اخرى قد يتراءى منها التنافي لما سبق ، بل بعضها ظاهرة في خلاف ذلك كصحيحة إسماعيل بن عبد الخالق قال : « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن وقت الظهر ، فقال : بعد الزوال بقدم أو نحو ذلك إلا‌

__________________

(١) الوسائل ٤ : ١٠ / أبواب أعداد الفرائض ب ٢ ح ١.

(٢) مجمل اللغة ١ : ٣٣٤ ، الصحاح ٤ : ١٥٨٤.

(٣) لسان العرب ١٠ : ٤٢٧.

(٤) ، (٥) ، (٦) الوسائل ٤ : ١٢٥ / أبواب المواقيت ب ٤ ح ١ ، ٥ ، ٩.

٨٢

في يوم الجمعة أو في السفر فانّ وقتها حين تزول » (١) ونحوها رواية سعيد الأعرج (٢).

وبالجملة : مقتضى عدّة من الأخبار تأخّر وقت الظهرين عن الزوال ، إما بمقدار بلوغ الفي‌ء حدّ القدم للظهر والقدمين للعصر كهذه الصحيحة وغيرها ، أو القدمين وأربعة أقدام كصحيحة الفضلاء عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما‌السلام أنّهما « قالا : وقت الظهر بعد الزوال قدمان ، ووقت العصر بعد ذلك قدمان » (٣) ونحوها غيرها.

أو الذراع والذراعين الراجع إلى ما قبله ، فان القدم يعادل الشبر الذي هو نصف الذراع ، فالذراع يساوي القدمين ، والذراعان أربعة أقدام ، كصحيحة زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : « سألته عن وقت الظهر ، فقال : ذراع من زوال الشمس ، ووقت العصر ذراعان من وقت الظهر فذاك أربعة أقدام من زوال الشمس .. » إلخ (٤) ونحوها غيرها ، وهي كثيرة كما لا يخفى.

أو القامة أو القامتين وصيرورة ظل الإنسان مثله أو مثلية ، وهي أيضاً كثيرة (٥) وغيرها.

فلا بد أوّلاً من ملاحظة الجمع بين هذه الروايات وبين الطائفة الأُولى التي جعل المدار فيها على مجرد الزوال ، ثم ملاحظة الجمع بين هذه الروايات بعضها مع بعض ، حيث إنها في حدّ أنفسها متعارضة كما عرفت.

فنقول : أما الجمع بين هذه الأخبار بأسرها وبين الطائفة الأُولى فبحمل تلك الطائفة على وقت الفريضة في حدّ ذاتها وبحسب الجعل الأوّلي ، وحمل هذه الروايات على الوقت المجعول لها ثانيا وبالعرض رعاية للنوافل التي تترتب الفريضة عليها ، فكأن الشارع بحسب الجعل الثانوي اقتطع قطعة من وقت‌

__________________

(١) ، (٢) ، (٣) الوسائل ٤ : ١٤٤ / أبواب المواقيت ب ٨ ح ١١ ، ١٧ ، ١.

(٤) الوسائل ٤ : ١٤١ / أبواب المواقيت ب ٨ ح ٣.

(٥) الوسائل ٤ : ١٤٣ / أبواب المواقيت ب ٨ ح ٩ ، ١٣ ، ٢٩.

٨٣

الفريضة وخصّها بالنافلة كي لا يكون هناك تطوّع في وقت الفريضة مراعاة لمن رغب في الإتيان بها مع صلاحية الوقت في حدّ ذاته لإيقاع الفريضة بحيث لو لم يرد التنفل أو لم يكن مشروعاً في حقّه كالمسافر وكما في يوم الجمعة فصلى أوّل الزوال فقد أتى بها في وقتها ، فالتحديد بالقدم أو القدمين أو الذراع والذراعين أو القامة ونحوها كل ذلك لا موضوعية لها بالإضافة إلى وقت الفريضة في حدّ نفسها بحيث لو لم يرد التنفل أو فرغ منه قبل بلوغ الفي‌ء إلى القدم مثلاً لزمه الانتظار لأن يبلغه. كيف وقد ورد الحثّ على المسارعة إلى الصلوات والتعجيل إلى الخير والاستباق إليه في الكتاب والسنة ، وإنما هي تحديدات تقريبية رعاية للنوافل اليومية التي هي في شدّة الاهتمام والمحافظة عليها بمثابة لا تقل عن الفرائض ، ولذلك لوحظ أوقاتها في بيان أوقات الفرائض في هذه الأخبار.

والذي يكشف عمّا ذكرناه : روايات كثيرة قد نطقت بأنّ التحديد المزبور إنما هو لمكان النافلة ، وأن العبرة بالفراغ منها قصرت أم طالت ولا خصوصية للقدم ولا لغيره ، التي منها رواية عمر بن حنظلة قال : « كنت أقيس الشمس عند أبي عبد الله عليه‌السلام فقال : يا عمر ألا أُنبئك بأبين من هذا؟ قال قلت : بلى جعلت فداك ، قال : إذا زالت الشمس فقد وقع وقت الظهر إلا أنّ بين يديها سبحة ، وذلك إليك ، فإن أنت خففت فحين تفرغ من سبحتك ، وإن طوّلت فحين تفرغ من سبحتك » (١).

وأصرح رواية منها تدل على ذلك هي : موثقة محمد بن أحمد بن يحيى الأشعري قال : « كتب بعض أصحابنا إلى أبي الحسن عليه‌السلام روي عن آبائك القدم والقدمين والأربع والقامة والقامتين ، وظلّ مثلك والذراع والذراعين ، فكتب عليه‌السلام : لا القدم ولا القدمين ، إذا زالت الشمس فقد دخل وقت الصلاتين ، وبين يديها سبحة وهي ثماني ركعات ، فإن شئت طوّلت‌

__________________

(١) الوسائل ٤ : ١٣٣ / أبواب المواقيت ب ٥ ح ٩.

٨٤

وإن شئت قصّرت ثم صل الظهر فاذا فرغت كان بين الظهر والعصر سبحة وهي ثماني ركعات إن شئت طوّلت وإن شئت قصّرت ثم صل العصر » (١).

وتؤيده : موثقة ذريح المحاربي عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « سأل أبا عبد الله عليه‌السلام أُناس وأنا حاضر إلى أن قال فقال بعض القوم : إنا نصلي الأُولى إذا كانت على قدمين والعصر على أربعة أقدام ، فقال أبو عبد الله عليه‌السلام النصف من ذلك أحبّ إليّ » (٢) دلت على أولوية التقصير في النافلة والتخفيف فيها كي يفرغ منها على النصف وهو القدم حتى لا تتأخر الفريضة عن وقتها بأكثر مما يجزي من التنفل.

ويؤيده أيضاً : التصريح في روايتي إسماعيل بن عبد الخالق وسعيد الأعرج المتقدّمتين بأن الوقت هو الزوال في يوم الجمعة وعند السفر ، حيث يظهر منهما أن المانع من المبادرة لدى الزوال إنما هي النافلة الساقطة في هذين الموردين ، ولذا يكون الوقت فيهما هو الزوال الذي هو وقت الفريضة بحسب طبعها لارتفاع المانع حينئذ.

وتؤيده أيضاً : موثقة زرارة عن أبي عبد الله عليه‌السلام « قال : صلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بالناس الظهر والعصر حين زالت الشمس في جماعة من غير علة ، وصلى بهم المغرب والعشاء الآخرة قبل سقوط الشفق من غير علة في جماعة. وإنما فعل ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ليتّسع الوقت على أُمته » (٣) حيث يظهر من فعله صلى‌الله‌عليه‌وآله أن الزوال وقت يصلح فيه الظهران في حدّ ذاته اتساعاً على الأُمة وامتناناً عليهم ، وأن التأخير في هاتيك الأخبار إنما هو لجهة عارضية وهي رعاية النوافل كما عرفت.

وأما ملاحظة الجمع بين نفس هذه الأخبار فقد عرفت أن الذراع‌

__________________

(١) الوسائل ٤ : ١٣٤ / أبواب المواقيت ب ٥ ح ١٣.

(٢) الوسائل ٤ : ١٤٦ / أبواب المواقيت ب ٨ ح ٢٢.

(٣) الوسائل ٤ : ١٣٨ / أبواب المواقيت ب ٧ ح ٦.

٨٥

والذراعين يرجع إلى التحديد بالقدمين والأربع ، ووجه الجمع بين هذه الأخبار وبين التحديد بالقدم هو الحمل على اختلاف مراتب الفضل ، فالأفضل المسارعة إلى التنفل عند الزوال كي يفرغ منه والفي‌ء على القدم حتى يشرع في الفريضة في هذه الساعة ، وبعد الفراغ منها يشرع في نافلة العصر ثم يأتي بفريضة العصر والفي‌ء على القدمين.

ودون ذلك في الفضل تأخير نافلة الظهر إلى أن يفرغ منها والفي‌ء على القدمين ثم يشرع في الظهر ، وقدمان بعد ذلك لنافلة العصر كي يشرع في فريضته والفي‌ء على أربعة أقدام من مبدأ الزوال. فكأنه عليه‌السلام أراد التوسعة في بيان وقت الفضيلة مع اختلاف مراتب الفضل على النحو الذي عرفت.

ويشهد لذلك قوله عليه‌السلام في صحيح زرارة : « فإذا بلغ فيؤك ذراعاً من الزوال بدأت بالفريضة وتركت النافلة ، وإذا بلغ فيؤك ذراعين بدأت بالفريضة وتركت النافلة » (١) حيث يظهر منها أن بلوغ الذراع أي القدمين هو آخر وقت فضيلة الظهر ، إذ لا يشرع التنفل بعد ذلك ، بل لا بد من البدأة بالفريضة وقضاء النافلة ، وكذا الذراعان بالإضافة إلى العصر كما هو ظاهر.

وأما التحديد بالقامة والقامتين وصيرورة ظل الإنسان مثله أو مثلية ، فالأخبار الواردة فيه بعضها أجنبية عن محل البحث ، لكون النظر فيها إلى التحديد من ناحية المنتهي التي سيجي‌ء الكلام فيها إن شاء الله تعالى ، فانّ البحث فعلاً متمحض من ناحية المبدأ ، كرواية أحمد بن عمر عن أبي الحسن عليه‌السلام قال : « سألته عن وقت الظهر والعصر ، فقال : وقت الظهر إذا زاغت الشمس إلى أن يذهب الظل قامة ، ووقت العصر قامة ونصف إلى قامتين » (٢) ونحوها غيرها.

والبعض الآخر ناظر إلى المبدأ وهي موثقة زرارة قال : « سألت أبا عبد الله‌

__________________

(١) ، (٢) السائل ٤ : ١٤١ / أبواب المواقيت ب ٨ ح ٣ ، ٩.

٨٦

( عليه‌السلام ) عن وقت صلاة الظهر في القيظ فلم يجبني ، فلما أن كان بعد ذلك قال لعمر بن سعيد بن هلال : إن زرارة سألني عن وقت صلاة الظهر في القيظ فلم أُخبره فخرجت فحرجت كما هو الصحيح على ما نبّه عليه المعلّق من ذلك فاقرأه منّي السلام وقل له : إذا كان ظلك مثلك فصل الظهر ، وإذا كان ظلك مثيلك فصل العصر » (١).

ووجه الجمع بينها وبين روايات القدم والقدمين الالتزام بالتخصيص ، حيث إن السؤال عن وقت الظهر في القيظ ، ومن الجائز أن يكون الأفضل في شدّة الحرّ التأخير إلى حدّ القامة كي تنكسر سودة الحرّ ويعتدل الهواء ، حتى يصلي فارغ البال ومع حضور القلب واطمئنان النفس ، ولا يستعجل في صلاته فراراً عن شدّة الحرّ ، كما يؤيده ما روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنه « قال : إذا اشتدّ الحرّ فأبردوا بالصلاة ، فإن الحرّ من فيح جهنم » (٢) فيكون التأخير في خصوص القيظ هو الأرجح لمصلحة التبريد ، وأما في غيره فالأفضل القدم أو القدمان.

نعم ، ينافي ذلك رواية محمد بن حكيم المصرّحة بعدم الفرق في هذا الحدّ بين الشتاء والصيف ، قال : « سمعت العبد الصالح عليه‌السلام وهو يقول : إنّ أوّل وقت الظهر زوال الشمس وآخر وقتها قامة من الزوال ، وأول وقت العصر قامة ، وآخر وقتها قامتان ، قلت : في الشتاء والصيف سواء؟ قال : نعم » (٣) حيث جعل فيها مبدأ العصر قامة مصرّحاً بتساوي الفصلين في ذلك.

وعليه فلا بد إما من طرحها وردّ علمها إلى أهله ، لضعف سندها بمحمد بن حكيم فإنه لم يوثق ، مضافاً إلى عدم مقاومتها حتى لو صحّ السند مع تلكم الروايات الكثيرة المتقدّمة المستفيضة ، بل المتواترة التي دلّت بأجمعها على‌

__________________

(١) الوسائل ٤ : ١٤٤ / أبواب المواقيت ب ٨ ح ١٣.

(٢) الوسائل ٤ : ١٤٢ / أبواب المواقيت ب ٨ ح ٦.

(٣) الوسائل ٤ : ١٤٨ / أبواب المواقيت ب ٨ ح ٢٩.

٨٧

دخول الوقت قبل القامة ، إما بمجرد الزوال أو عند القدم أو القدمين ، فهذه تنافي تلك الأخبار بأسرها فتطرح.

أو حمل القامة فيها على الذراع كما صنعه صاحب الحدائق مستشهداً برواية علي بن حنظلة قال : « قال لي أبو عبد الله عليه‌السلام : القامة والقامتان الذراع والذراعان في كتاب علي عليه‌السلام » (١) وإن كان هذا الحمل بعيداً جدّاً ولا شهادة فيما ذكره ، فانّ كون القامة في كتاب علي عليه‌السلام بمعنى الذراع لا يقتضي كونها بمعناه في هذه الرواية التي هي عن الامام موسى بن جعفر عليه‌السلام.

وكيف كان ، فالأمر هيّن بعد ما عرفت من ضعف سند الخبر.

ثم إن المراد بالقدم والذراع الموضوعين للحكم في تلكم الأخبار ملاحظتهما بالقياس إلى الشاخص الذي يكون ارتفاعه بمقدار القامة دون الأكثر من ذلك أو الأقل ، وإلا لم ينضبط الحدّ لاختلاف ارتفاع الأجسام من حيث القصر والطول وكلما ازداد الجسم طولاً ازداد الظل بعداً لا محالة. وقد صرّح بذلك في موثقة إسماعيل الجعفي عن أبي جعفر عليه‌السلام « قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إذا كان في‌ء الجدار ذراعاً صلى الظهر ، وإذا كان ذراعين صلى العصر قال قلت : إن الجدار يختلف ، بعضها قصير وبعضها طويل ، فقال : كان جدار مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يومئذ قامة » (٢).

وعليه فاذا كان الجدار أطول من القامة أو أقصر لا بد في ملاحظة فيئه من رعاية النسبة بين القدم والقامة التي هي السبع ، كما أن نسبة الذراع إليها السبعان.

وعلى هذا فالمدار في كل شاخص على بلوغ فيئه بمقدار السبع أو السبعين‌

__________________

(١) الوسائل ٤ : ١٤٤ / أبواب المواقيت ب ٨ ح ١٤.

(٢) الوسائل ٤ : ١٤٣ / أبواب المواقيت ب ٨ ح ١٠.

٨٨

من ذلك الشاخص المنطبق على القدم والذراع من القامة فينضبط الحد دائماً كما هو ظاهر.

ثم ليعلم أن مبدأ احتساب القدم أو الذراع أو القامة ونحوها هو زمان أخذ الفي‌ء في الازدياد بعد بلوغ الظل منتهى قصره ، سواء انعدم لدى الزوال أم لا ، إذ لا يعتبر انعدامه بالكلية لعدم اطراده في جميع البلدان والأزمان ، ضرورة اختلافها من حيث القرب إلى خط الاستواء وبعدها كاختلافها من حيث الفصول ، فما يكون قريبا من خط الاستواء كمكة وصنعاء ونحوهما ينعدم الظل من أصله في بعض أيام السنة التي تكون الشمس فيها مسامتة للشاخص عند بلوغها دائرة نصف النهار ، دون سائر الأيام من تلك البلدان ، ودون سائر البلدان البعيدة عن خط الاستواء بأكثر من ٥ ر ٢٣ درجة ، فإن الظل موجود فيها دائماً ولا يكاد ينعدم ، وربما يكون لدى الزوال بمقدار الشاخص أو أكثر ، فالعبرة حينئذ بزمان أخذ الظل في الرجوع بعد منتهى قصره المعبّر عنه بالفي‌ء ، من فاء إذا رجع.

فان الشمس بعد شروقها تحدث ظلا للشاخص في ناحية المغرب ، وكلما ارتفعت يقل الظلّ إلى أن ينعدم في منتصف النهار في البلاد المقارنة لخط الاستواء في يومين من أيام سنتها ، وبعد ميلها عن المشرق إلى المغرب تحدث ظلا آخر في ناحية الشرق ، وأما البلدان البعيدة عنه فلا ينعدم الظل ، بل بعد بلوغه منتهى القصر يأخذ الفي‌ء في الازدياد في ناحية الجنوب بالنسبة إلى البلدان الواقعة شمال خط الاستواء ، وفي ناحية الشمال بالنسبة إلى الواقعة جنوبه ، فهذا الأخذ في الازدياد هو مبدأ احتساب القدم والذراع ونحوهما حسبما عرفت.

المقام الثاني : في التحديد من ناحية المنتهي : لا إشكال كما لا خلاف في استمرار وقت الظهرين واستدامته إلى الغروب بحيث لو أتى بالصلاة في أيّ جزء متخلل بين الحدين فهي أداء.

٨٩

وتدل عليه صريحاً صحيحة الحلبي في حديث قال : « سألته عن رجل نسي الاولى والعصر جميعاً ثم ذكر ذلك عند غروب الشمس ، فقال : إن كان في وقت لا يخاف فوت إحداهما فليصلّ الظهر ثم يصلّ العصر ، وإن هو خاف أن تفوته فليبدأ بالعصر ولا يؤخرها فتفوته فيكون قد فاتتاه جميعاً ، ولكن يصلّي العصر فيما قد بقي من وقتها ثم ليصلي الأُولى بعد ذلك على أثرها » (١) ودلالتها على المطلوب في غاية الظهور.

كما لا إشكال ولا خلاف أيضاً في أن لكل من الصلاتين وقتين يبتدئ الوقت الثاني مما بعد الذراعين أو القامة أو غيرهما على الخلاف المتقدم ، وقد نطقت بذلك أخبار كثيرة تقدم بعضها ، فهذا كله مما لا شبهة فيه من أحد ، بل كاد أن يكون إجماعاً.

وإنما النزاع في أن الوقتين هل الأول منهما وقت فضيلة ، والثاني وقت إجزاء ، فيجوز لكل أحد تأخير الصلاة إلى الوقت الثاني اختياراً وإرجائها إلى ما قبل الغروب عمداً ومن غير علة وإن كان الأفضل إتيانها في الوقت الأول ، أو أن الوقت الأول للمختار ، والثاني للمضطرين وذوي الأعذار ، فلا يجوز التأخير إلى الوقت الثاني عن عمد واختيار ، ولو فعل أثم وعصى وإن كانت الصلاة أداءً على كل حال كما عرفت؟.

فالمشهور هو الأول وهو الأقوى. وذهب جمع من المتأخرين ومنهم صاحب الحدائق قدس‌سره إلى الثاني (٢).

ويدلُّ على المشهور أوّلاً : الكتاب العزيز قال الله تعالى ( أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ ... ) إلخ (٣) بضميمة ما ورد في تفسيرها من أن ما بين الحدّين أعني الزوال ومنتصف الليل أربع صلوات : الظهران‌

__________________

(١) الوسائل ٤ : ١٢٩ / أبواب المواقيت ب ٤ ح ١٨ [ وسيأتي في ص ١١١ ضعف سندها ].

(٢) الحدائق ٦ : ٩٠.

(٣) الإسراء ١٧ : ٧٨.

٩٠

والعشاءان ، فمقتضى إطلاق الآية أن كلّ جزء من هذه الأزمنة المتخللة صالح لإيقاع الصلاة فيه حتى اختياراً ، غير أنه ثبت من الخارج عدم جواز تأخير الظهرين إلى ما بعد الغروب كعدم جواز تقديم العشاءين عليه فيبقى الباقي تحت الإطلاق ، ولعل في إفراد صلاة الفجر بالذكر بقوله تعالى ( وَقُرْآنَ الْفَجْرِ .. ) إلخ (١) إيماءً إلى ذلك ، وأنّ هذه الصلاة تمتاز عن غيرها في انقطاع وقتها عما عداها من حيث المبدأ والمنتهى بخلاف غيرها من باقي الصلوات فإنّ أوقاتها متصلة والأزمنة مشتركة كما عرفت.

وثانياً : ما ورد عن الصادق عليه‌السلام من قوله « إذا زالت الشمس فقد دخل وقت الظهر والعصر جميعاً إلا أنّ هذه قبل هذه ، ثم أنت في وقت منهما جميعاً حتى تغيب الشمس » ، وهذا المضمون قد ورد في عدة من الروايات بطرق مختلفة ، غير أنّ أسانيدها لا تخلو عن خدش باعتبار وقوع القاسم بن عروة في طريق أكثرها ، إلا أن طريق الصدوق إلى عبيد بن زرارة خال عن هذا الرجل (٢). نعم في طريقه إليه حكم بن مسكين ، وهو وإن لم يوثق في كتب الرجال لكنه وقع في طريق كتاب كامل الزيارات وقد التزم مؤلفه جعفر بن محمد بن قولويه أنه لا يروي في كتابه إلا عن الثقات ، فروايته عنه توثيق له (٣) وهو لا يقلّ عن توثيق النجاشي ونحوه ، فيحكم بوثاقة الرجل من هذه الجهة ، وهناك روايات أُخر تدل على القول المشهور سنتعرض لها في مطاوي الأبحاث الآتية.

هذا وقد استدل صاحب الحدائق قدس‌سره لمذهبه بطائفة من الروايات لا دلالة في شي‌ء منها على ذلك ، لقصورها سنداً أو دلالة على سبيل منع الخلو ،

__________________

(١) نفس المصدر.

(٢) الوسائل ٤ : ١٢٦ / أبواب المواقيت ب ٤ ح ٥. الفقيه ١ : ١٣٩ / ٦٤٧.

(٣) لكن في خصوص من يروي عنه بلا واسطة حسب نظره الأخير قدس‌سره فلا ينفع في توثيق الرجل لعدم كونه منهم.

٩١

ولا بد من نقل تلك الروايات واحدة بعد اخرى ، وبيان ما فيها من النقض والإبرام توضيحاً للمرام.

فمنها : صحيحة عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « سمعته يقول : لكل صلاةٍ وقتان ، وأوّل الوقت أفضله ، وليس لأحد أن يجعل آخر الوقتين وقتاً إلا في عذر من غير علة » (١). قال في الوافي قوله : « من غير علة » بدل من قوله « إلا في عذر » (٢).

تقريب الاستدلال : أنّ المستفاد من الصحيحة أن لكل صلاة وقتين ، وأنّ الأوّل من كل منهما أي المبدأ من كل وقت أفضل من منتهاه. وقد دلت صريحاً على المنع عن اتخاذ الوقت الثاني إلا في حال الاضطرار. فالمتحصل منها أنّ الوقت الأوّل للمختار والثاني للمضطر وإن كان الأول من كل من الوقتين أفضل من آخره.

والجواب : أنّ حمل قوله عليه‌السلام : « وأوّل الوقت أفضله » على ما ذكر غير صحيح ، كيف والوقت الأول ليس مبدؤه وهو الزوال أفضل مما بعده ، بل الأفضل التأخير بمقدار القدم أو الذراع رعاية للنوافل ، للأخبار المتقدمة الدالة على أن بين يديها سبحة كما مرّ ، بل المراد أنّ الوقت الأوّل أفضل من الوقت الثاني.

وعلى هذا فالصحيحة على خلاف المطلوب أدلّ ، لدلالتها على اشتراك الوقتين في الفضيلة غير أنّ أوّلهما أفضل.

ويؤيده قوله عليه‌السلام في الصحيحة الأُخرى لعبد الله بن سنان التي لا يبعد اتحادها مع هذه الصحيحة « وأوّل الوقتين أفضلهما » (٣) بدل وأوّل الوقت.

وعليه فيكون ذلك قرينة على أن المراد بقوله عليه‌السلام : « ليس لأحد‌

__________________

(١) الوسائل ٤ : ١٢٢ / أبواب المواقيت ب ٣ ح ١٣.

(٢) الوافي ٧ : ٢٠٥.

(٣) الوسائل ٤ : ١١٩ / أبواب المواقيت ب ٣ ح ٤.

٩٢

أن يجعل ... » إلخ المبالغة في شدّة الاهتمام بشأن الصلاة ومزيد العناية بالمحافظة عليها في أوقاتها وعدم تأجيلها إلى الوقت الثاني من غير عذر ، إذ هي عمود الدين والمائز بين المسلمين والكافرين ، فلا ينبغي التساهل والتسامح بالتأخير عن الوقت الأول ، لا أنه عصيان وإثم كي يختص الوقت بالمختار ، وإنما هو أفضل من الوقت الثاني كما عرفت.

ومنها : ما رواه الصدوق في الفقيه مرسلاً قال : « قال الصادق عليه‌السلام أوّله رضوان الله وآخره عفو الله ، والعفو لا يكون إلا عن ذنب » (١).

وفيه : مضافاً إلى ضعف السند بالإرسال ، أنّ من المظنون قويّاً أن يكون الذيل أعني قوله : والعفو لا يكون ... إلخ من كلام الصدوق (٢) لا من تتمة الخبر كما يتفق ذلك كثيراً في كلماته.

وعليه فالمستفاد من الخبر مع قطع النظر عن الذيل ، أن الصلاة أوّل الوقت نتيجتها الرضوان من الله الذي أُشير إليه في قوله تعالى ( وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ ) (٣) فالربح المترتب عليها أكثر ، بخلاف الصلاة في آخره ، فإن غاية ما يترتب عليها هو العفو عن السيئات وغفران الذنوب ، فمتعلق العفو هو سائر السيئات لا تأخير الصلاة كي يكون ذنباً.

ومنها : ما رواه الشيخ في التهذيب عن ربعي عن أبي عبد الله عليه‌السلام « قال : إنّا لنقدّم ونؤخّر ، وليس كما يقال : من أخطأ وقت الصلاة فقد هلك ، وإنما الرخصة للناسي والمريض والمدنف والمسافر والنائم في تأخيرها » (٤).

وفيه أوّلاً : أنها ضعيفة السند بإسماعيل بن سهل فإنه لم يوثق.

__________________

(١) الوسائل ٤ : ١٢٣ / أبواب المواقيت ب ٣ ح ١٦ ، الفقيه ١ : ١٤٠ / ٦٥١.

(٢) ولكن يبعّده ورود مضمونه في مرسلة الدعائم عن الصادق (ع) « والعفو لا يكون إلا عن تقصير » [ دعائم الإسلام ١ : ١٣٧ ].

(٣) التوبة ٩ : ٧٢.

(٤) الوسائل ٤ : ١٣٩ / أبواب المواقيت ب ٧ ح ٧. التهذيب ٢ : ٤١ / ١٣٢.

٩٣

وثانياً : أنّ الاستدلال موقوف على أن يكون مقول القول في قوله عليه‌السلام « وليس كما يقال » أمراً معهوداً بين الراوي والإمام ولم يذكر في الرواية ، وأنّ قوله : « من أخطأ وقت الصلاة ... » إلخ جملة مستقلة منقطعة عما قبلها.

إلا أنّ هذا المعنى خلاف الظاهر من الرواية جدّاً ، بل المتبادر منها أن مقول القول هو قوله : « من أخطأ وقت الصلاة » إلى آخر الرواية ، ويشهد له قوله في صدر الحديث : « إنّا لنقدّم ونؤخّر ».

فحاصل المعنى حينئذ : أنّ ما يقال من أنّ من أخطأ وقت الصلاة فقد هلك وأنه إنما الرخصة للناسي والمريض ... إلخ ليس بصحيح ، فانا نقدّم ونؤخّر فنصلّي أوّل الوقت وآخره من دون شي‌ء من هذه الأعذار.

وعليه فالرواية لولا ضعف سندها على مسلك المشهور أدلّ كما لا يخفى.

ومنها : صحيحة عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليه‌السلام « قال : لكل صلاة وقتان ، وأوّل الوقتين أفضلهما ، ووقت صلاة الفجر حين ينشق الفجر إلى أن يتجلل الصبح السماء ، ولا ينبغي تأخير ذلك عمداً ، ولكنه وقت من شغل أو نسي أو سها أو نام ، ووقت المغرب حين تجب الشمس إلى أن تشتبك النجوم ، وليس لأحد أن يجعل آخر الوقتين وقتاً إلا من عذر أو من علة » (١).

وفيه : أنّ قوله عليه‌السلام : « وأول الوقتين أفضلهما » صريح في اشتراك الوقتين في الفضيلة ، غايته أنّ أوّلهما أفضل ، فيكون ذلك قرينة على إرادة المرجوحية ، والحزازة من كلمة « لا ينبغي » وإن كانت في حدّ نفسها ظاهرة في التحريم والمنع على الأصح كما قدمناه سابقاً ، وكذا قوله : « وليس لأحد ... » إلخ ، فالصحيحة في حدّ نفسها مع قطع النظر عن الصدر وإن كانت ظاهرة في الحرمة إلا أنه يرفع اليد عنها وتحمل على الكراهة بتلك القرينة. وعليه فهي دليل للمشهور لا عليهم.

__________________

(١) الوسائل ٤ : ٢٠٨ / أبواب المواقيت ب ٢٦ ح ٥.

٩٤

وقد يقال بعدم دلالتها على التحريم في محل الكلام حتى مع قطع النظر عن الصدر ، لظهور الذيل في أنّ مورد المنع هو اتخاذ آخر الوقتين وقتاً دائمياً ويستمر على ذلك ، ولا ريب في الحرمة في هذا الفرض ، لما فيه من الإعراض عن السنّة وعدم الاعتناء بها ، المتضمن لنوعٍ من الاستهانة والتخفيف بالشريعة المقدسة ، دون مَن يؤخّرها أحياناً أو لاعتقاد التوسعة من دون رغبة عن السنة وإعراض عنها الذي هو محل الكلام.

وهذا الاستظهار وإن كان قابلاً للمناقشة لكنه لا بأس به من باب التأييد.

ومنها : رواية إبراهيم الكرخي قال : « سألت أبا الحسن موسى عليه‌السلام متى يدخل وقت الظهر إلى أن قال فمتى يخرج وقت العصر؟ فقال : وقت العصر إلى أن تغرب الشمس وذلك من علة وهو تضييع ، فقلت له : لو أنّ رجلاً صلى الظهر بعد ما يمضي من زوال الشمس أربعة أقدام ، أكان عندك غير مؤد لها؟ فقال : إن كان تعمّد ذلك ليخالف السنّة والوقت لم يقبل منه ، كما لو أنّ رجلاً أخّر العصر إلى قرب أن تغرب الشمس متعمداً من غير علة لم يقبل منه ، إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قد وقّت للصلوات المفروضات أوقاتاً وحدّ لها حدوداً في سنته للناس ، فمن رغب عن سنّة من سننه الموجبات كان مثل من رغب عن فرائض الله » (١).

وفيه : مضافاً إلى ضعف السند بإبراهيم الكرخي فإنه لم يوثق ، أنّها ظاهرة في أنّ مورد المنع إنما هو الاعراض عن السنة باتخاذ الوقت الثاني وقتاً دائمياً وسيرة يستمر عليها رغبة عما سنّه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ولا ريب في حرمة التأخير بهذا العنوان الذي هو أجنبي عن محل الكلام كما عرفت آنفاً.

ومنها : صحيحة داود بن فرقد المروية في الكافي قال : « قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام قوله تعالى ( إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً )

__________________

(١) الوسائل ٤ : ١٤٩ / أبواب المواقيت ب ٨ ح ٣٢.

٩٥

قال : كتاباً ثابتاً ، وليس إن عجّلت قليلاً أو أخّرت قليلاً بالذي يضرّك ما لم تضيّع تلك الإضاعة ، فإن الله عز وجل يقول لقوم ( أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا ) » (١).

وهذه الرواية صحيحة السند كما لا يخفى ، فعدم توصيف صاحب الحدائق إيّاها بالصحة مع أنّ دابة التعرض لذلك غير ظاهر الوجه.

لكنها قاصرة الدلالة فإن قوله عليه‌السلام : « ما لم تضيّع تلك الإضاعة .. » إلخ حمله صاحب الحدائق على الوقت الثاني ، وهذا اجتهاد وتأويل منه ، بل الظاهر أنّ المراد من تلك الإضاعة كان معنى معهوداً بين الراوي والإمام عليه‌السلام وهو لا يخلو عن أحد أمرين : إما الصلاة خارج الوقت أي بعد مغيب الشمس ، أو تأخيرها إلى أوان اصفرارها بحيث يكون ذلك عادة له ووقتاً دائمياً يستمر عليه إعراضاً عن السنة ورغبة عنها ، والحرمة في كلا الفرضين ظاهرة ، وهما أجنبيان عن محل البحث كما عرفت.

ومنها : موثقة أبي بصير المروية في التهذيب قال : « قال أبو عبد الله عليه‌السلام إنّ الموتور أهله وماله من ضيّع صلاة العصر ، قلت : وما الموتور؟ قال : لا يكون له أهل ولا مال في الجنة ، قلت : وما تضييعها؟ قال : يدعها حتى تصفرّ أو تغيب » (٢) هكذا نقلها في الحدائق عن التهذيب عاطفاً « تغيب » على « تصفر » بأو (٣) لكن الموجود في الوسائل نقلاً عنه هو العطف بالواو.

والصحيح هو العطف بالواو ، لمسبوقية الغيبوبة بالاصفرار دائماً ، فلا معنى لجعل الغاية كلا منهما برأسه كما يقتضيه العطف بأو ، بل العبرة بأحدهما لا محالة ويكون ذكر الآخر مستدركاً ، أما إذا كان بالواو فالغاية إنما هي الاصفرار الذي‌

__________________

(١) الوسائل ٤ : ٢٩ / أبواب أعداد الفرائض ب ٧ ح ٤. الكافي ٣ : ٢٧٠ / ١٣.

(٢) الوسائل ٤ : ١٥٢ / أبواب المواقيت ب ٩ ح ١. التهذيب ٢ : ٢٥٦ / ١٠١٨.

(٣) الحدائق ٦ : ٩٢.

٩٦

يصح إطلاق الغيبوبة عليه أيضاً بنحو من التجوّز والعناية من باب المجاز بالمشارفة ، لقرب اصفرار الشمس من غيبتها. هذا مع أن المفروض في الموثق على ما يستفاد من قوله عليه‌السلام : « يدعها حتى .. » إلخ وكذا ما قبله ، عدم ترك الصلاة في الوقت رأساً ، بل يصليها فيه غير أنّه يضيّعها من جهة المسامحة والتأخير ، وهذا لا يناسب العطف بأو المستلزم لتركها فيه وإيقاعها خارج الوقت كما لا يخفى.

وكيف ما كان ، فهذه الموثقة على خلاف المطلوب أدلّ ، لدلالتها على استحقاق المصلي آخر الوقت الجنة غير أنّ مقامه فيها وضيع ، حيث إنه موتور لا مال ولا أهل له ، بل هو كَلٌّ وضيف على غيره الذي لا ريب في اشتماله على نوع من الخفة والمهانة ، فليس عمله هذا إلا أنه مرجوح وترك للأفضل قبال من يصليها أول الوقت المترتب عليه ذلك الثواب العظيم لا أنه عمل محرّم ، كيف ولازمه العقاب وترتب العذاب دون الجنة ، وإن كانت في أدنى مراتبها كما هو ظاهر جدّاً.

ومنها : رواية الفقه الرضوي (١) وحيث إن هذا الكتاب لم يثبت كونه رواية فضلاً عن أن تكون معتبرة تركنا نقلها والتكلم في سندها أو دلالتها خوف الإطالة.

ومنها : صحيحة أبان بن تغلب عن أبي عبد الله عليه‌السلام « قال : يا أبان الصلوات الخمس المفروضات من أقام حدودهنّ وحافظ على مواقيتهنّ لقي الله يوم القيامة وله عنده عهد يدخله به الجنة ، ومن لم يقم حدودهنّ ولم يحافظ على مواقيتهنّ لقي الله ولا عهد له إن شاء عذّبه وإن شاء غفر له » (٢).

وهذه الرواية قد رواها الكليني بطريقين : أحدهما صحيح والآخر في سنده‌

__________________

(١) المستدرك ٣ : ١٠٩ / أبواب المواقيت ب ٦ ح ٨. فقه الرضا : ٧١.

(٢) الوسائل ٤ : ١٠٧ / أبواب المواقيت ب ١ ح ١.

٩٧

محمد بن عيسى العبيدي (١) الذي هو موثق على الأقوى ورواها الصدوق أيضاً بطريق آخر صحيح (٢) ، فالرواية مروية بثلاث طرق كلها معتبرة.

غير أن دلالتها على مطلب صاحب الحدائق قاصرة ، فان غايتها أنّ من حافظ على مواقيت الصلوات له عند الله عهد أن يدخله الجنة المساوق لغفران معاصيه ، وأما من لم يحافظ فليس هو مورداً لذلك العهد ، ولم يكن دخوله الجنة حتمياً ، بل إن شاء غفر له وأدخله الجنة ، وإن شاء عذّبه على سائر معاصيه ولم يغفرها له ، لا أنه يعذّبه على عدم المحافظة كي تكون معصية وحراماً. فهذه الصحيحة يقرب مضمونها من مرسلة الصدوق المتقدمة (٣) المتضمنة أن الصلاة أوّل الوقت رضوان الله ، وآخره عفو الله ، بالبيان الّذي قدمناه هناك فلاحظ.

ونحو هذه الصحيحة مرسلة الصدوق (٤) المتحدة مع هذه في المضمون ، فإنه مضافاً إلى ضعف سندها بالإرسال يرد على دلالتها ما عرفت.

ومنها : موثقة معاوية بن وهب عن أبي عبد الله عليه‌السلام الواردة في قضية نزول جبرئيل لبيان تعيين الأوقات من أنه أتاه حين زالت الشمس فأمره فصلى الظهر ، ثم أتاه حين زاد الظل قامة فأمره فصلى العصر إلى أن قال : ثم أتاه من الغد حين زاد في الظل قامة فأمره فصلى الظهر ، ثم أتاه حين زاد في الظل قامتان فأمره فصلى العصر إلى أن قال : ما بينهما وقت » (٥) ، ونحوها غيرها إلا أنه حدّد في بعضها بالقدمين والأربع ، وفي البعض الآخر بالذراع والذراعين ومآلهما إلى شي‌ء واحد كما لا يخفى.

وأما القامة التي في هذه الرواية فاما أن يراد بها الذراع أيضاً ، لما روي ذلك‌

__________________

(١) الكافي ٣ : ٢٦٧ / ١ ، ٢.

(٢) ثواب الأعمال : ٤٨ / ١.

(٣) في ص ٩٣.

(٤) الوسائل ٤ : ١١٠ / أبواب المواقيت ب ١ ح ١٠ ، الفقيه ١ : ١٣٤ / ٦٢٥. [ ولكن رواها في ثواب الأعمال مسندة ].

(٥) الوسائل ٤ : ١٥٧ / أبواب المواقيت ب ١٠ ح ٥.

٩٨

عن كتاب علي عليه‌السلام ، أو يتحفظ على ظاهرها ، ويحمل الاختلاف على اختلاف مراتب الفضيلة ، فإنه كلّما كان أقرب إلى الزوال كان أفضل كما مرّ.

وكيف كان فهذه الرواية أيضاً لا دلالة لها على مدعاه ، فإنه لا بد من حملها على وقت الفضيلة ، وذلك لدلالة نفس هذه الرواية على أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله صلى في اليوم الثاني الظهر بعد القامة ، مع أنه لو كان بين الزوال والقامة حدّا للظهر للمختار لما جاز التأخير عنه.

مضافاً إلى أن الرواية حددت وقت العصر بما زاد على القامة إلى ما زاد على القامتين ، مع أنه لا إشكال كما لا خلاف حتى من صاحب الحدائق نفسه في جواز تقديم العصر على ذلك ، فإنه يجوز له أن يصليها بعد أن يصلي الظهر بعد الزوال إلا أنّ بين يديه سبحة ونوافل على ما ورد ذلك في الروايات الكثيرة.

والحاصل : أنه لو كان المراد كما ذكره صاحب الحدائق لكان معارضاً لتلك الروايات الكثيرة ، فلا بد من حملها على وقت الفضيلة دون وقت المختار.

ومنها : صحيحة الحلبي عن أبي عبد الله عليه‌السلام « قال : إذا صليت في السفر شيئاً من الصلوات في غير وقتها فلا يضرك » (١).

وجه الاستدلال بتوضيح منا : أنه لا إشكال في أنه ليس المراد منها جواز تأخير الصلوات إلى خارج أوقاتها كما لو صلى الظهرين بعد المغرب فانّ هذا غير جائز لا في السفر ولا في الحضر بالضرورة ، بل المراد جواز تأخير الصلوات عن وقتها الأوّل في السفر ، فيكون مفهومها عدم جواز تأخير الصلاة إلى غير وقتها الأول في غير السفر وهو المدعى.

لكن هذه الرواية أيضاً قاصرة الدلالة على المطلوب ، وذلك لأنه فرق واضح بين قولنا : لا يضر تأخير الصلاة في السفر إلى غير وقتها ، وبين قولنا : لا يضر إيقاع الصلاة في السفر في غير وقتها ، فإن الثاني الذي هو مفاد الصحيحة يشمل التقديم والتأخير معاً ، بخلاف الأول ، وحيث إن هذا من‌

__________________

(١) الوسائل ٤ : ١٦٨ / أبواب المواقيت ب ١٣ ح ٩.

٩٩

خواص النوافل حيث إن نبذاً منها يجوز تقديمها على الوقت للمسافر كصلاة الليل ، فلتكن الصحيحة محمولة عليها ولا سيما وأنها بمقتضى تنكير شيئاً في سياق الإثبات لا تدل على الحكم إلا على سبيل الموجبة الجزئية ولا تفيد العموم لجميع الصلوات لتشمل الفرائض.

على أنا لو سلّمنا عمومها بل صراحتها في أنّ تأخير الفرائض عن الوقت الأول لا يضر في السفر فلا تكاد تدل على أنه يضر في الحضر ، إذ القضية الشرطية لا مفهوم لها في مثل المقام مما يكون من قبيل السالبة بانتفاء الموضوع ، بداهة أن مفهومها أنه إذا لم تصلّ في السفر شيئاً من الصلوات في غير وقتها فهو يضرك ولا محصّل له ، فإنه لا موضوع رأساً كي يضر أو لا يضر.

نعم ، بناء على ثبوت المفهوم للوصف بالمعنى الذي نرتأيه أعني عدم تعلق الحكم بالطبيعي المطلق ودخالة الوصف حذراً عن اللغوية فلا جرم تدل الصحيحة على أنّ للسفر مدخلية في الحكم بعدم الضرر ، ولكنه يكفي فيه الالتزام بوجود نوع من الحزازة والمنقصة في الإتيان في غير الوقت الأوّل في الحضر وانتفائه في السفر. وهذا كما ترى لا يقتضي إلا أفضلية الوقت الأوّل لا تعيّنه كما هو المدعى.

ومنها : موثقة أبي بصير عن أبي جعفر عليه‌السلام في حديث : « إن الصلاة إذا ارتفعت في أول وقتها رجعت إلى صاحبها وهي بيضاء مشرقة تقول حفظتني حفظك الله ، وإذا ارتفعت في غير وقتها بغير حدودها رجعت إلى صاحبها وهي سوداء مظلمة تقول ضيّعتني ضيّعك الله » (١).

هكذا رواها في الوسائل والكافي (٢) ، وأما في التهذيب (٣) والحدائق (٤) فهي‌

__________________

(١) الوسائل ٤ : ١٠٨ / أبواب المواقيت ب ١ ح ٢.

(٢) الكافي ٣ : ٢٦٨ / ٤.

(٣) التهذيب ٢ : ٢٣٩ / ٩٤٦.

(٤) الحدائق ٦ : ٩٣.

١٠٠