موسوعة الإمام الخوئي

الشيخ مرتضى البروجردي

[١٢١٨] مسألة ١٠ : يجوز العدول في قضاء الفوائت أيضاً من اللاحقة إلى السابقة (١) بشرط أن يكون فوت المعدول عنه معلوماً ،

______________________________________________________

المستوجب للزيادة القادحة.

ودعوى عدم قدح مثل هذه الزيادة نظراً إلى أن الركوع الصادر منه كان مأموراً به في ظرفه ، ومن ثم لو استمرت الغفلة إلى ما بعد الفراغ صحت الصلاة بلا إشكال ، فلم يكن متصفاً بالزيادة حين الإتيان به وقبل تحقق العدول فكذلك بعده ، إذ الدليل على قادحية الزيادة هو الإجماع ، والقدر المتيقن منه ما كان متصفاً بها ابتداءً ومن لدن وقوعه كما لو زاد الركوع بقصد الصلاة الخارج هو عنها لا مطلقاً ، فلا يشمل المقام.

مدفوعة بعدم انحصار الدليل في الإجماع ليؤخذ بالمتيقن منه ، بل الأدلة اللفظية المطلقة كافية ووافية التي منها عقد الاستثناء في حديث لا تعاد ، بناءً على ما هو الصواب من شموله لمطلق الإخلال ، سواء أكان من ناحية النقص أو الزيادة. إذن فزيادة الركوع المزبورة مشمولة للحديث وإن كان الاتصاف بها بعد العدول ولم يكن زائداً من حين وقوعه بمقتضى الإطلاق.

وعلى الجملة : فلا ينبغي التأمل في قادحية الزيادة المزبورة ، كيف ولو لم تقدح هذه الزيادة وساغ العدول في مفروض المسألة لساغ في من عدل عن قصد الإقامة بعد ما دخل في ركوع الركعة الثالثة من الصلاة الرباعية وصح منه العدول إلى صلاة القصر بهدم ما بيده من الركعة والإتمام على الثنتين ، بدعوى أن الركوع الزائد الصادر منه كان مأموراً به في ظرفه وواقعاً في محله فلا يكون قادحاً ، وهو كما ترى لم يقل به أحد ، ولا ينبغي القول به من أحد ، فلا مناص من الحكم بالبطلان حسبما عرفت.

(١) قال في الجواهر (١) : بلا خلاف أجده فيه ، بل عن المحقق الثاني (٢)

__________________

(١) الجواهر ١٣ : ١٠٦.

(٢) حكاه عنه في مفتاح الكرامة ٢ : ٤٧.

٤٠١

وأما إذا كان احتياطاً فلا يكفي العدول في البراءة من السابقة وإن كانت احتياطية أيضاً ، لاحتمال اشتغال الذمة واقعاً بالسابقة (*) دون اللاحقة فلم يتحقق العدول من صلاة إلى أُخرى (١) وكذا الكلام في العدول من حاضرة إلى سابقتها فان اللازم ان لا يكون الإتيان باللاحقة من باب الاحتياط وإلا لم يحصل اليقين بالبراءة من السابقة بالعدول لما مرّ.

[١٢١٩] مسألة ١١ : لا يجوز العدول من السابقة إلى اللاحقة (٢)

______________________________________________________

دعوى الإجماع عليه. إنما الكلام في مستنده بعد خلو النصوص عن التعرض إلا للعدول من الحاضرة إلى مثلها أو منها إلى الفائتة ، لا من الفائتة إلى مثلها.

والاستدلال له بالأولوية أو بعدم القول بالفصل أو بتبعية القضاء للأداء في الأحكام أو بإلغاء خصوصية المورد لا يرجع شي‌ء منها إلى محصل كما لا يخفى.

بل الأولى الاستدلال له بعد الإجماع بما عرفت من القاعدة الثانوية ، حيث إن الإتمام بعنوان اللاحقة من العصر أو العشاء إخلال عمدي للترتيب بالإضافة إلى الأجزاء اللاحقة ، والبطلان منفي بحديث لا تعاد ، فلا مناص من الحكم بالعدول ، فإنه نتيجة الجمع بين الدليلين المزبورين.

(١) بل من عمل لغوٍ إلى صلاة واجبة ، ولا عدول إلا من صلاة إلى مثلها. نعم يختص ذلك بما إذا تعدد منشأ الاحتياط في الصلاتين ، وأما لو اتحد كما في موارد الاحتياط بالجمع بين القصر والتمام فتذكر حين الإتيان باللاحقة قصراً مثلاً أنه لم يأت بالسابقة قصراً ساغ له العدول إليها ، إذ الواجب الواقعي إن كان هو القصر فقد عدل من صلاة إلى مثلها ، وإلا فقد عدل من لغو إلى مثله ولا ضير فيه.

(٢) فان ما دل على عدم جواز الإتيان باللاحقة قبل السابقة حدوثاً يدل‌

__________________

(*) هذا فيما إذا لم يكن منشأ الاحتياط فيهما واحداً ، وأما فيه فيجوز العدول من اللاحقة إلى السابقة.

٤٠٢

في الحواضر ولا في الفوائت ، ولا يجوز من الفائتة إلى الحاضرة ، وكذا من النافلة إلى الفريضة ولا من الفريضة إلى النافلة إلا في مسألة إدراك الجماعة (*) (١)

______________________________________________________

على عدم جوازه بقاءً ، فكما لا يجوز الشروع لا يجوز العدول بمناط واحد وهو لزوم مراعاة الترتيب المعتبر بينهما ، هذا فيما إذا كانت الذمة مشغولة بالسابقة ، أما إذا كانت فارغة كما لو تبيّن له أثناء الظهر أنه قد صلاها فلأجل أن قلب ما وقع من نية إلى أُخرى ومن عنوان إلى آخر والاجتزاء به في مقام الامتثال مخالف للقاعدة ، إلا إذا قام عليه دليل مخرج عنها ، وقد ثبت في موارد خاصة لم يكن المقام منها.

ومنه تعرف الوجه في عدم جواز العدول من الفائتة إلى الحاضرة ، فإنه ملحق بالصورة الاولى إن قلنا باعتبار الترتيب بينهما وإلا كما هو الأقوى فبالصورة الثانية ، كالعدول من النافلة إلى الفريضة وعكسه.

وملخص الكلام : أن العدول من صلاة إلى أُخرى فائتة كانت أم حاضرة ، نافلة كانت أم فريضة ، كان بينهما ترتيب أم لا كصلاة الآيات واليومية غير سائغ بمقتضى القاعدة الأولية ، لعدم جواز قلب ما وقع من عنوان إلى آخر إلا إذا قام عليه دليل بالخصوص أو كان ذلك مقتضى قاعدة ثانوية مستنبطة من الجمع بين دليلي الترتيب وحديث لا تعاد حسبما تقدم.

(١) لجملة من النصوص التي منها صحيحة سليمان بن خالد قال : « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل دخل المسجد فافتتح الصلاة فبينما هو قائم يصلي إذ أذن المؤذن وأقام الصلاة ، قال : فليصل ركعتين ، ثم ليستأنف الصلاة مع الإمام ، وليكن الركعتان تطوعاً » (١).

__________________

(*) وإلا في من أراد قراءة سورة الجمعة في صلاة الظهر من يوم الجمعة فقرأ سورة أُخرى حتى تجاوز نصفها ، فإنه يجوز له أن يعدل إلى النافلة ثم يعيد صلاة الظهر مع سورة الجمعة.

(١) الوسائل ٨ : ٤٠٤ / أبواب صلاة الجماعة ب ٥٦ ح ١.

٤٠٣

وكذا من فريضة إلى أُخرى إذا لم يكن بينهما ترتيب (١). ويجوز من الحاضرة إلى الفائتة (٢) بل يستحب في سعة وقت الحاضرة.

[١٢٢٠] مسألة ١٢ : إذا اعتقد في أثناء العصر أنه ترك الظهر فعدل إليها ثم تبين أنه كان آتياً بها فالظاهر جواز العدول منها إلى العصر ثانياً ، لكن لا يخلو عن إشكال ، فالأحوط (*) بعد الإتمام الإعادة أيضاً (٣).

______________________________________________________

ويضاف إلى ذلك مورد آخر وهو من أراد قراءة سورة الجمعة في صلاة الظهر من يوم الجمعة فقرأ سورة أُخرى حتى تجاوز نصفها ، فإنه يجوز له العدول إلى النافلة ثم إعادة الظهر مع سورة الجمعة ، وذلك لمعتبرة صباح بن صبيح قال : « قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : رجل أراد أن يصلي الجمعة فقرأ بقل هو الله أحد ، قال : يتم ركعتين ثم يستأنف » (١).

(١) كالعدول من صلاة الآيات إلى الفريضة اليومية أو بالعكس ، فإنه لا يجوز بمقتضى القاعدة الأولية حسبما عرفت ، بعد وضوح عدم كونه مورداً لتطبيق القاعدة الثانوية.

(٢) سواء أقلنا باعتبار الترتيب بينهما أم لا ، لورود النص الخاص وهو قوله عليه‌السلام في صحيح زرارة : « ... وإن كنت قد صليت من المغرب ركعتين ثم ذكرت العصر فانوها العصر ثم قم فأتمها ركعتين ثم تسلم ، ثم تصلي المغرب » (٢) ، مضافاً إلى أنه على الأول مطابق للقاعدة الثانوية المتحصلة من الجمع بين دليل الترتيب وحديث لا تعاد كما مر غير مرة.

(٣) صور المسألة ثلاث : إذ تارة لم يصدر ما بين العدولين أي جزء‌

__________________

(*) هذا الاحتياط لا يترك فيما إذا أتى بركن بعد العدول ، وأما إذا أتى بجزء غير ركني فاللازم الإتيان به ثانياً فلا حاجة إلى الإعادة ، وأما مع عدم الإتيان بشي‌ء فلا إشكال فيه.

(١) الوسائل ٦ : ١٥٩ / أبواب القراءة في الصلاة ب ٧٢ ح ٢.

(٢) الوسائل ٤ : ٢٩٠ / أبواب المواقيت ب ٦٣ ح ١.

٤٠٤

صلاتي لقصر الفترة المتخللة بينهما ، وأُخرى يصدر جزء غير ركني ، وثالثة جزء ركني.

لا ينبغي الشك في الصحة في الصورة الاولى ، لا لجواز العدول من السابقة إلى اللاحقة في المقام ، إذ قد عرفت منعه بنطاق عام ، وعلى تقدير تسليمه فمورده العدول من صلاة إلى أُخرى ، لا من عمل عبث تخيل أنه منها كما في محل الكلام ، بل الوجه فيها أنه لدى التحليل لم يكن من العدول في شي‌ء ، إذ قد أتى بجميع أجزاء العصر بنيتها ، غايته أنه تخيل في الأثناء ترك الظهر فعدل وعاد من غير أن يترتب عليه أي أثر خارجاً ، ولا دليل على قدح مجرد هذه النية الزائلة وإخلالها بالاستدامة الحكمية المعتبرة بعد صدور تمام أجزاء العصر عن نيتها ، وهذا واضح.

وأما في الصورة الثانية فالظاهر الصحة أيضاً شريطة تدارك ما أتى به بنية الظهر وإعادته بقصد العصر ، إذ لا خلل ثمة ما عدا زيادة جزء غير ركني سهواً ولا ضير فيه بمقتضى حديث لا تعاد.

نعم ، لا سبيل للعدول في الصورة الثالثة ، للزوم زيادة الركن إن تدارك ونقيصته من صلاة العصر إن لم يتدارك ، ومعه لا مناص من الحكم بالبطلان ، إذ لا وجه للصحة عدا ما يتخيل من استفادتها من جملة من النصوص.

منها : صحيحة عبد الله بن المغيرة قال : في كتاب حريز أنه قال : « إني نسيت أني في صلاة فريضة حتى ركعت ، وأنا أنويها تطوعاً ، قال فقال عليه‌السلام : هي التي قمت فيها ، إذا كنت قمت وأنت تنوي فريضة ثم دخلك الشك فأنت في الفريضة ، وإن كنت دخلت في نافلة فنويتها فريضة فأنت في النافلة ، وإن كنت دخلت في فريضة ثم ذكرت نافلة كانت عليك مضيت في الفريضة » (١).

ومنها : ما رواه الشيخ بإسناده عن العياشي وهو بإسناده عن معاوية قال :

__________________

(١) الوسائل ٦ : ٦ / أبواب النية ب ٢ ح ١.

٤٠٥

[١٢٢١] مسألة ١٣ : المراد بالعدول أن ينوي كون ما بيده هي الصلاة السابقة بالنسبة إلى ما مضى منها وما سيأتي (١).

______________________________________________________

« سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل قام في الصلاة المكتوبة فسها فظن أنها نافلة ، أو قام في النافلة فظن أنها مكتوبة ، قال : هي على ما افتتح الصلاة عليه » (١).

ومنها : ما رواه عنه أيضاً بإسناده عن ابن أبي يعفور عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « سألته عن رجل قام في صلاة فريضة فصلى ركعة وهو ينوي أنها نافلة ، فقال : هي التي قمت فيها ولها إلى أن قال : وإنما يحسب للعبد من صلاته التي ابتدأ في أول صلاته » (٢). حيث دلت على أن الصلاة على ما افتتحت وعلى ما قام إليها ، ولا تضره نية الخلاف.

لكن الأخيرتين ضعيفتان سنداً فلا تصلحان للاستدلال ، لضعف طريق الشيخ (٣) إلى العياشي بـ ( أبي المفضل ) و ( جعفر بن محمد ) فإن الأول ضعيف والثاني لم يوثق.

وأما الاولى فالدلالة قاصرة وإن صح السند ، لأن موردها النسيان لا الالتفات والعدول عن نية إلى أُخرى كما في المقام ، ولعل الحكم بالصحة في مورد الصحيحة مطابق للقاعدة ، نظراً إلى أن الناسي المزبور ناوٍ بقاءً لما نواه أوّلاً غير أنه اشتبه في التطبيق فتخيل أن هذا هو ذاك ، وبعد رفع الشبهة يستمر على النية السابقة ، وأين هذا من العدول عن النية السابقة ثم الرجوع إليها كما في المقام فلاحظ.

(١) فإنه الظاهر من قوله في صحيحة الحلبي : « فليجعلها الأُولى » (٤) ومن‌

__________________

(١) الوسائل ٦ : ٦ / أبواب النية ب ٢ ح ٢ ، التهذيب ٢ : ١٩٧ / ٧٧٦.

(٢) الوسائل ٦ : ٧ / أبواب النية ب ٢ ح ٣ ، التهذيب ٢ : ٣٤٣ / ١٤٢٠.

(٣) الفهرست : ١٣٩ / ٥٩٣.

(٤) الوسائل ٤ : ٢٩٢ / أبواب المواقيت ب ٦٣ ح ٣.

٤٠٦

[١٢٢٢] مسألة ١٤ : إذا مضى من أول الوقت مقدار أداء الصلاة بحسب حاله في ذلك الوقت من السفر والحضر والتيمم والوضوء والمرض والصحة ونحو ذلك ، ثم حصل أحد الأعذار المانعة من التكليف بالصلاة كالجنون والحيض والإغماء وجب عليه القضاء ، وإلا لم يجب ، وإن علم بحدوث العذر قبله وكان له هذا المقدار وجبت المبادرة إلى الصلاة ، وعلى ما ذكرنا فان كان تمام المقدمات حاصلة في أول الوقت يكفى مضي مقدار أربع ركعات للظهر وثمانية للظهرين. وفي السفر يكفي مضيّ مقدار ركعتين للظهر وأربعة للظهرين ، وهكذا بالنسبة إلى المغرب والعشاء ، وإن لم تكن المقدمات أو بعضها حاصلة لا بد من مضي مقدار الصلاة وتحصيل تلك المقدمات. وذهب بعضهم إلى كفاية مضيّ مقدار الطهارة والصلاة في الوجوب وإن لم يكن سائر المقدمات حاصلة ، والأقوى الأول (*) وإن كان هذا القول أحوط (١).

______________________________________________________

قوله في صحيحة زرارة (١) : « فانوها الاولى » وقوله : « فانوها العصر » ونحو ذلك من التعابير.

(١) هل الاعتبار في وجوب القضاء على من عرض عليه أثناء الوقت أحد الأعذار المانعة من تعلق التكليف من الجنون والحيض والإغماء ونحوها بمضي مقدار من أول الوقت يتمكن فيه من أداء الصلاة مع الطهارة بما لها من المقدمات حسب حالته الفعلية ، فلو تحقق هذا المقدار ولم يصلّ وجب القضاء وإلا فلا ، أو أن الاعتبار بمضي مقدار الطهارة والصلاة ولا عبرة بسائر‌

__________________

(*) بل الأقوى كفاية التمكن من نفس الصلاة في الوقت في وجوب القضاء وإن لم يتمكن فيه من شي‌ء من مقدماتها ، لصدق الفوت حينئذ مع التمكن من تحصيل الشرائط قبل الوقت ، نعم يعتبر في وجوب القضاء على الحائض تمكّنها من الصلاة والطهارة أيضاً كما مرّ.

(١) الوسائل ٤ : ٢٩٠ / أبواب المواقيت ب ٦٣ ح ١.

٤٠٧

[١٢٢٣] مسألة ١٥ : إذا ارتفع العذر المانع من التكليف في آخر الوقت (١) ، فان وسع للصلاتين وجبتا ، وإن وسع لصلاة واحدة أتى بها ، وإن لم يبق إلا مقدار ركعة وجبت الثانية فقط ، وإن زاد على الثانية بمقدار ركعة وجبتا معاً ، كما إذا بقي إلى الغروب في الحضر مقدار خمس ركعات وفي السفر مقدار ثلاث ركعات أو إلى نصف الليل مقدار خمس ركعات في الحضر وأربع ركعات في السفر ، ومنتهى الركعة تمام الذكر الواجب من السجدة الثانية (٢) ، وإذا كان ذات الوقت واحدة كما في الفجر يكفي بقاء مقدار ركعة.

______________________________________________________

المقدمات ، أو أنه يكفي التمكن من نفس الصلاة في الوقت وإن لم يتمكن من تحصيل الطهارة فيه فضلاً عن سائر المقدمات؟ فيه وجوه ، بل أقوال.

والأصح هو القول الأخير ، إذ الموضوع للقضاء في لسان الأدلة هو عنوان فوت الفريضة ، وهو صادق مع التمكن من تحصيل الشرائط قبل الوقت ، فلا يلزم سعة الوقت لشي‌ء منها.

نعم يعتبر في وجوب القضاء على خصوص الحائض تمكنها من الطهارة أيضاً كما تقدم التعرّض لذلك ، بل ولتفصيل المسألة بنطاق واسع في المسألة الحادية والثلاثين من فصل أحكام الحائض فلاحظ (١).

(١) تقدم البحث حول هذه المسألة في فصل الأوقات في مطاوي المسألة الثالثة والرابعة والحادية عشرة فلاحظ (٢) ، ولا نعيد.

(٢) كما تقدم البحث عنه في المسألة الثانية والثلاثين من فصل أحكام الحائض (٣).

__________________

(١) شرح العروة ٧ : ٤٣٣.

(٢) ص ٢٠٤ ، ٢١٤ ، ٢٣٢.

(٣) راجع شرح العروة ٧ : ٢٤٢.

٤٠٨

[١٢٢٤] مسألة ١٦ : إذا ارتفع العذر في أثناء الوقت المشترك بمقدار صلاة واحدة ثم حدث ثانياً كما في الإغماء والجنون الأدواري فهل يجب الإتيان بالأولى أو الثانية أو يتخير وجوه (*) (١).

______________________________________________________

(١) تقدم التعرض لهذه المسألة في مطاوي المسألة الثالثة من فصل الأوقات (١) ، وقد اختار قدس‌سره ثمة ترجيح الأخير ، وذكرنا في توجيهه أن الوقت حيث لم يسع إلا لأربع ركعات القابلة لتطبيقها على كل من الصلاتين من غير ترجيح في البين ، إذ الترتيب إنما يعتبر لدى التمكن من الإتيان بهما معاً المتعذر حسب الفرض ، فلا جرم تقع المزاحمة بينهما ونتيجته التخيير.

ويندفع بما تقدم من توقف المزاحمة على كون الواجبين متكافئين وعلى صعيد واحد ، وليسا في المقام كذلك ، فان وجوب الاولى مطلق ، أما الثانية فهي مشروطة بالتأخر عنها بمقتضى قوله عليه‌السلام : « إلا أن هذه قبل هذه » (٢) وحيث لا يتيسر الإتيان بالثانية مع شرطها فلا جرم تتعين الأُولى العارية عن الشرط ، فلا مزاحمة في البين ، ومن ثم ذكرنا هناك أن الأقوى هو الاحتمال الأول.

وأما وجه تعين الثاني فهو دعوى إلحاق المقام بوقت الاختصاص للعصر بعد تفسيره بآخر وقت يمكن إيقاعها فيه ويمتنع تأخيرها عنه ، وهو منطبق على المقام.

ويندفع مضافاً إلى إمكان معارضته بإلحاقه بوقت الاختصاص للظهر بعد تفسيره بأول وقت يمكن إيقاعها فيه ولا يمكن تقدمها عليه ، بأن الوقت في‌

__________________

(*) مرّ أنّ الأقوى هو الوجه الأوّل.

(١) في ص ٢١٢.

(٢) الوسائل ٤ : ١٣٠ / أبواب المواقيت ب ٤ ح ٢١.

٤٠٩

[١٢٢٥] مسألة ١٧ : إذا بلغ الصبي في أثناء الوقت وجب عليه الصلاة إذا أدرك مقدار ركعة أو أزيد (١). ولو صلى قبل البلوغ ثم بلغ في أثناء الوقت فالأقوى كفايتها (٢) وعدم وجوب إعادتها وإن كان أحوط ، وكذا الحال لو بلغ في أثناء الصلاة.

______________________________________________________

حد ذاته صالح للعملين ومشترك بين الصلاتين وفاقد لأيّ من الاختصاصين ، ولا دليل على الإلحاق المزبور بوجه بعد أن كان المراد به حسبما يستفاد من الأدلة آخر الوقت الحقيقي كأوله أعني مقدار أربع ركعات ما قبل غروب الشمس أو ما بعد زوالها.

والمتحصل : أن الواجب عليه صرف الوقت المزبور في صلاة الظهر خاصة ، وإن فاتته وجب عليه قضاؤها لا قضاء العصر تعييناً ولا تخييراً.

(١) فإنه نتيجة الجمع بين عموم وجوب الصلاة على البالغين وعموم حديث من أدرك (١).

(٢) فان الحق أن عبادات الصبي شرعية ، لا لإطلاقات الأدلة الأولية بعد رفع الإلزام بحديثه ، فان فيه ما لا يخفى ، بل لأجل أمر الأولياء بأمر صبيانهم بالصلاة والصيام بعد وضوح أن الأمر بالأمر بالشي‌ء أمر بذلك الشي‌ء ، فالطبيعة بنفسها متعلق للأمر الشرعي الاستحبابي ، ولا شبهة أن متعلق هذا الأمر هو نفس الطبيعة التي أُمر بها البالغون فكانت حاوية لتمام الملاك المشتمل عليه ما يصدر عنهم ، ولا ميز إلا من ناحية الإلزام وعدمه ، كما لا شبهة في أن متعلق الأمر هو صرف الوجود فلا يؤمر الآتي بالإتيان به ثانياً.

إذن فالتكليف بالصلاة المتوجه نحو البالغين منصرف عمن أتى بها حال صباه ، لسقوط الأمر وحصول الغرض ، ومعه لا مجال للامتثال ثانياً. ومنه‌

__________________

(١) الوسائل ٤ : ٢١٨ / أبواب المواقيت ب ٣٠ ح ٤.

٤١٠

[١٢٢٦] مسألة ١٨ : يجب في ضيق الوقت الاقتصار على أقل الواجب إذا استلزم الإتيان بالمستحبات وقوع بعض الصلاة خارج الوقت فلو أتى بالمستحبات مع العلم بذلك يشكل صحة صلاته بل تبطل على الأقوى (١).

______________________________________________________

يظهر الحال فيما لو بلغ أثناء الصلاة ، لوحدة المناط.

ومما ذكرنا تعرف الجواب عما قيل في المقام من عدم الدليل على إجزاء المأمور به بالأمر الاستحبابي عن الأمر الوجوبي ، فان المتعلق كما عرفت ملحوظ على سبيل صرف الوجود ، والطبيعة واحدة ، فتعلق الأمر الجديد بعد حدوث البلوغ يكاد يكون من تحصيل الحاصل كما لا يخفى. فلا مناص من الاجتزاء.

(١) لا لأجل أن الزائد على أقل الواجب منهي عنه ، والنهي في العبادة موجب للفساد ، إذ فيه :

أوّلاً : أن الأمر بالشي‌ء لا يقتضي النهي عن ضده ، بل غايته عدم الأمر به ، فيمكن التصحيح حينئذ على سبيل الترتب.

وثانياً : أن النهي المزبور غيري ، ومثله لا يستوجب الفساد.

وثالثاً : لو سلم فغايته فساد ذاك الزائد لا أصل الصلاة.

ولا لأجل حصول الزيادة في أجزاء العبادة في هذه الحالة ، لما تكرر من إنكار الجزء الاستحبابي.

ولا لأجل التشريع باعتبار عدم استحباب ما يفوت به الوقت ، فالإتيان بقصد العبادة تشريع محرم. إذ فيه أنه لا يستوجب الإبطال كما لا يخفى.

ولا لأجل أنه مصداق للكلام المبطل عامداً. إذ فيه مع اختصاصه بالمستحب الكلامي ، والمدعى أوسع منه لشموله حتى للفعل المستحب كجلسة الاستراحة ، أن المبطل منه منحصر في كلام الآدمي ، فلا يشمل الأذكار والأدعية حتى لو كانت محرّمة.

٤١١

[١٢٢٧] مسألة ١٩ : إذا أدرك من الوقت ركعة أو أزيد يجب ترك المستحبات محافظة على الوقت بقدر الإمكان (١) ، نعم في المقدار الذي لا بد من وقوعه خارج الوقت لا بأس بإتيان المستحبات.

[١٢٢٨] مسألة ٢٠ : إذا شك في أثناء العصر في أنه أتى بالظهر أم لا بنى على عدم الإتيان وعدل إليها إن كان في الوقت المشترك ولا تجري قاعدة التجاوز (٢) نعم لو كان في الوقت المختص بالعصر يمكن البناء على الإتيان باعتبار كونه من الشك بعد الوقت.

______________________________________________________

بل الصواب في وجه البطلان أنه لم يكن من أجل الإتيان بتلك المستحبات في حدّ ذواتها ليتوهم استناده إلى أحد الوجوه المزبورة ، بل من أجل استلزامها لتفويت الوقت على الأجزاء الواجبة عامداً وتضييعه اختياراً ، فهو كمن أتى ببعض صلاته خارج الوقت عن تعمد وقصد ، حيث لا يمكن تصحيحه بحديث من أدرك ، لعدم شموله لموارد التعجيز الاختياري والتأخير العمدي ، فلا تكون أداءً كما لا تكون قضاءً ، ولا عبادة ملفقة بينهما فلا جرم يحكم عليها بالفساد.

(١) لما عرفت آنفاً من عدم جواز تفويت الوقت وتضييعه اختياراً ، فلأجل المحافظة عليه لم يكن بدّ بحكم العقل من الاقتصار على أقل الواجب وترك ما يكون مفوتاً له ، نعم له الخيار فيما يقع خارج الوقت من بقية الصلاة كما هو واضح.

(٢) قد يقال بجريانها في كلا الفرضين أعني الوقت المشترك والمختص ، نظراً إلى أن الظهر لما كان لها موضع معين ومحل مخصوص فلا جرم يصدق التجاوز عنها بمجرد التعدي عن موضعها والشروع في العصر ، فان العبرة في جريان القاعدة لدى الشك في الوجود أو في الصحة بالدخول في غيره مما هو بعده ومترتب عليه ، وهذا الضابط منطبق على المقام بكلا فرضيه.

٤١٢

ويندفع : بأن المناط في صدق التجاوز أو المضي المأخوذين في لسان الروايات هو أحد أمرين : إما التجاوز عن نفس الشي‌ء حقيقة فيما إذا كان الشك في صحة الموجود كما في مورد قاعدة الفراغ ، أو بالتجاوز عن محله لمكان الشك في أصل وجوده كما في مورد قاعدة التجاوز ، وشي‌ء منهما لا ينطبق على المقام.

أما الأول فواضح ، إذ الشك هنا في الوجود لا في صحة الموجود. وكذلك الثاني ، لعدم حصول التجاوز عن محل الظهر ، فان ظرف الشك هو بعينه ظرف للإتيان بها ومحل لها ، كما يكشف عنه بوضوح أن المصلي لو استبان له في هذه الحالة أنه لم يأت بالظهر فهذه التي بيده تحسب منها ويعتبر هو في محلها وغير متجاوز عنها فيتمها ظهراً بالعدول إليها ، فلو كان التجاوز متحققاً كيف ساغ له ذلك؟ فلا يقاس ذلك بما لو طرأ الشك في الوقت المختص بالعصر ، إذ ليس له العدول حينئذ إلى الظهر حتى لو علم بعدم الإتيان فضلاً عن الشك ، فالتجاوز حاصل في الثاني ، ومن ثم تجري القاعدة فيه دون الأول.

وبالجملة : لا سبيل لإحراز التجاوز في الفرض الأول ، لكونه في نفس المحل لو لم يكن آتياً بالظهر واقعاً ، فلا مناص من العدول بمقتضى قاعدة الاشتغال بعد أن لم يمكن إحراز الصحة بالقاعدة المزبورة. وتمام الكلام في مباحث الخلل إن شاء الله تعالى.

٤١٣

فصل في القبلة

وهي المكان الذي وقع فيه البيت شرّفه الله تعالى من تخوم الأرض إلى عنان السماء (*) للناس كافة القريب والبعيد ، لا خصوص البنية (١).

______________________________________________________

(١) لا ريب في كون القبلة هي الكعبة المكرمة في الجملة لكافة المسلمين من القريبين والنائين ، بضرورة الدين وتصريح الكتاب المبين والروايات المستفيضة التي سنشير إليها ، كما لا ريب في عدم كون المراد بها البنيان والحيطان المشتملة على تلك الأحجار الكريمة بل الفضاء والمكان المشغول بتلك البنية وإلا لزالت القبلة بزوال تلك الأبنية عند خرابها وانهدامها لا سامح الله وهو مقطوع العدم ، بل اللازم حينئذ استقبال نفس المكان بلا كلام.

إنما الإشكال في أنّ القبلة هل هي خصوص ذلك الفضاء المشغول بذاك البناء وما يعلوه بمقدار يلحق به عرفاً ، أو أنها من تخوم الأرض إلى عنان السماء؟ المشهور هو الثاني بل ادعي عليه الإجماع في بعض الكلمات ، بل قد صرح بعضهم بسراية الحكم إلى مطلق المساجد ، بل مطلق الأملاك فرتب آثار المسجدية والملكية من تخوم الأرض إلى عنان السماء.

والذي دعاهم إلى الالتزام بذلك في المقام تصحيح صلاة من يصلي في مكان أرفع من البيت كقلل الأجبال أو أخفض كالسراديب والآبار ، زعماً منهم توقف الصحة على هذا المبنى وكونها ثمرة مترتبة عليه ، وإلا فاستقبال‌

__________________

(*) لا أصل لذلك.

٤١٤

نفس البناء أو الفضاء المشغول به لا يكاد يتحقق في هذين الموردين ، وقد استشهدوا لذلك بطائفة من الروايات.

لكن الظاهر أنّ هذا الكلام وإن اشتهر وشاع ، بل حكي عليه الإجماع إلا أنه لا أصل له.

أما أوّلاً : فلبعده في حد نفسه ، لاستلزامه تبدل (١) القبلة آناً فآناً وعدم كونها ذات ثبات وقرار ، وهذا بناءً على حركة الأرض حول الشمس وضعية أو انتقالية كما هو المعروف والصحيح ظاهر ، لوضوح أن الفضاء الممتد إلى السماء مما فوق الكعبة يتحول من مقرّه تدريجاً ويتحرّك بحركة الأرض فلا يكون شيئاً معيناً ونقطة ثابتة.

وكذا بناءً على مسلك القدماء من ثبات الأرض وحركة الشمس حولها ، فان النقطة المسامتة للكعبة الممتدة إلى الفضاء لم تستقر (٢) في مكان واحد ، بل تنتقل من جزء إلى جزء بتبع حركة الشمس.

وبالجملة : لازم هذا القول عدم استقرار القبلة على كل من المسلكين وأنها تتبدل في كل آن ، وهذا لو لم يكن مقطوع العدم فلا ريب في كونه خلاف‌

__________________

(١) هذا التبدل سارٍ في القبلة المركزية أيضاً ، فإن مكان البنية المشرفة وفضائها يتبدل على ضوء ما ذكر بحركة الأرض. فالإشكال لو تم لعمّ ولم يكن مختصاً بعنان السماء ، ولكنه لا يتم ولا تبدل على كل حال ، فان نسبة القبلة أياً كانت إلى فضاء أجزاء الأرض محفوظة دائماً ، ولا ضير في تغيير نسبتها إلى سائر الأجرام الكونية.

وبعبارة اخرى : عمود القبلة المفروض امتداده إلى السماء ثابت كنفس البنيان ، إذ ليس المراد به الفضاء المحيط بكرة الأرض ، بل عمود فرضي كميلة ثابتة في الكعبة ممتدة إلى السماء ومنها إلى تخوم الأرض قطرها مساوٍ لقطر الكعبة ، وهذه الميلة ثابتة لا تغير فيها أبداً ، نعم تتحرك كنفس الكعبة تبعاً لحركة الأرض وهي غير قادحة بالضرورة.

(٢) الذي لم يستقر إنما هو النقطة المسامتة كالنجمة الواقعة فوق الكعبة ، لا العمود المفروض فوقها الممتد إلى عنان السماء ، فإنه ثابت بتبع ثبات مركزه وهي الكعبة المشرفة حسب الفرض.

٤١٥

المتراءى من ظواهر الأدلة ، حيث إن المستفاد منها أن القبلة مهما كانت فهي شي‌ء معين مشخص ثابت مستقر كما لا يخفى.

على أنّ الالتزام بهذا المبنى لا يكاد يجدي في ترتب تلك الثمرة ، أعني تحقق الاستقبال لو كان المصلي في مكان أرفع من البيت أو أخفض ، فإنهم ذكروا أنّ الاتجاه إلى القبلة يتحقق حينئذ من جميع النقاط ، بحيث لو فرض خط موهوم متصل من جبهة المصلي فهو لدى الاستقبال ينتهي لا محالة إلى الكعبة إما بنفسها أو ما فوقها أو ما تحتها من تخوم الأرض إلى عنان السماء ، بخلاف ما لو كانت القبلة مختصة بالفضاء المشغول بالبيت ، فان الاتصال حينئذ لا يكاد يتحقق إلا بالنسبة إلى الأمكنة المساوية سطحها مع سطح البيت دون العالية أو المنخفضة.

وفيه : أن هذا لا يتم على إطلاقه ، بل يختص بالأمكنة التي يكون بعدها عن الكعبة أقل من تسعين درجة ، وأما الواقعة على رأس التسعين فضلاً عما زاد فلا يكاد يتحقق فيها الاتصال.

وبيانه : أنّه بعد البناء على كرؤية الأرض كما هو المحقق في محله فاذا فرضنا وقوع الكعبة في قطب الجنوب من الكرة الأرضية وفرضنا اتساع القبلة بخط عمودي مركزه الكعبة ممتد من تخوم الأرض إلى عنان السماء ، فالبلدان النائية الواقعة فيما بينها وبين نقطتي المشرق والمغرب أعني خط الاستواء التي يقل بعدها عن تسعين درجة لا محالة بما أنها منحنية نحو القطب على ما تقتضيه كرؤية الأرض ، فالخط الممتد من مقاديم من يصلي فيها بعد توجهه نحو البيت ينتهي ويتصل بالأخرة إلى الخط العمودي الموهوم المفروض نصبه من الكعبة إلى عنان السماء ولو بَعُد مئات الفراسخ ، لكون الخط المزبور منحنياً ومائلاً نحو القطب بحسب الطبع كما عرفت ، فيتحقق الاتصال بينه وبين ذاك الخط العمودي لا محالة ولو بفصل مسافة بعيدة ومدة مديدة ، ويحصل بذلك الاستقبال كما ذكر.

وأما البلدان الواقعة في نفس نقطتي المشرق والمغرب أي على رأس‌

٤١٦

تسعين درجة فحيث إنها لا ميلان ولا انحناء لها نحو الجنوب بل يتشكل من الخط الممتد منهما إلى مركز الأرض زاوية قائمة ، فمن يصلي في هذا المكان لو اتجه نحو الكعبة ورسم خطاً من مقاديمه فلا يكاد يصل هذا الخط إلى الخط العمودي المفروض نصبه فوق الكعبة إلى عنان السماء ، لأن الخطين حينئذ متوازيان ويستحيل في مثلهما الاتصال وإن بلغا إلى الغاية وامتدا إلى ما ليس له نهاية.

وأوضح حالاً من ذلك : البلدان الواقعة فيما بين خط الاستواء والقطب الشمالي التي يزيد بُعدها عن القطب الجنوبي بأكثر من تسعين درجة ، فإن الخطين حينئذ يزداد بعدهما مهما طالا ، بل قد يكونان في جهتين متقابلتين فكيف يتحقق الاتصال الذي هو مناط الاستقبال على الفرض؟

وكأن الذي دعاهم إلى الالتزام بذلك تخيل أن الاستقبال نحو الشي‌ء يتوقف على أن يكون المستقبل والمستقبل إليه في سطح واحد وعلى صعيد فأرد فوقعوا فيما وقعوا فيه ، وهذا وهم ظاهر ، بل المناط في الاستقبال أن يكون الاتجاه نحو المستقبل إليه بحيث لو أُزيل المانع وارتفع الحاجب كان يشاهده ويراه ، ولا يعتبر في مفهومه العرفي أكثر من ذلك. أترى أن الواقف على سطح الدار لو أراد استقبال من هو في ساحة الدار أو الواقف في الصحن الشريف لو أراد استقبال الواقف على المنارة يتوقف على النزول إلى الساحة أو الصعود على المنارة؟ كلا ، بل مجرد الاتجاه في الموضعين على نحو يصدق عرفاً أنه أمامه وقدامه كافٍ في تحقق الاستقبال جزماً ، فلا يعتبر اتحاد الصعيد وتساوي السطحين في الصدق المزبور بالضرورة.

وعلى هذا يندفع الإشكال في المقام بحذافيره ، فان من يقف على رأس جبل أو في سرداب أو بئر متجهاً نحو الكعبة فهو مستقبل إليها ، أي يكون على نحو لو لم يكن هناك حاجب وزال الارتفاع والانخفاض فهو يشاهد الكعبة ويراها ، وكذا من يكون في نقطتي المشرق أو المغرب متجهاً نحو البيت فإنه مستقبل إليه ، أي يكون بحيث لو قطع ربع الأرض وارتفعت الحواجب‌

٤١٧

من الأطلال والأجبال ونحوها كان يرى الكعبة ويشاهدها ، ونحوه من يكون البعد بينه وبين البيت أزيد من تسعين درجة ، أي كان فيما بين المشرق أو المغرب والشمال فان الحال فيه هو الحال.

نعم ، يتجه الإشكال في من يقف في النقطة المسامتة لنقطة الجنوب تحقيقاً أي يكون بعده عن الكعبة على رأس مائة وثمانين درجة وهي نقطة الشمال ، فان الاتجاه إلى القبلة حينئذ متحد من جميع الأطراف لتساوي النسبة واتحاد البعد من جميع الجوانب والنواحي إلى الكعبة بنسبة واحدة على الفرض من دون امتياز لجانب على آخر ، والظاهر حينئذ جواز الصلاة إلى أيّ جانب شاء ، وحيث ما توجه فهو متوجه إلى القبلة لتساوي النسب (١) كما عرفت ، فيكون حاله حال من يصلي في جوف البيت الذي تكون قبلته جميع الأطراف على حدّ سواء.

وأما ثانياً : فلأن الروايات التي استدل بها لهذا القول غير صالحة للاستدلال لضعفها سنداً أو دلالة ، وهي روايات ثلاث :

إحداها : صحيحة خالد بن أبي إسماعيل قال « قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : الرجل يصلي على أبي قبيس مستقبل القبلة ، فقال : لا بأس » (٢) وهذه الرواية كما ترى لا دلالة فيها على أكثر من جواز الصلاة على جبل أبي قبيس ، ولا إشعار فيها فضلاً عن الدلالة على امتداد القبلة إلى عنان السماء ، فيمكن الانطباق على ما ذكرناه من اختصاص القبلة بالفضاء المشغول بالبيت وما يعلوه بالمقدار الذي يتبعه عرفاً ، ويكون الاستقبال بالاتجاه نحوه على‌

__________________

(١) تساوي النسب لو أوجب صدق الاستقبال لأوجب صدق الاستدبار أيضاً بمناط واحد ، وهو كما ترى ، لامتناع اجتماع المتضادين في محل واحد ، ومنه تعرف سقوط اعتبار الاستقبال حالئذ لمكان التعذر. ولا يقاس بالمصلي في جوف الكعبة ، ضرورة أنه مستقبل لبعض أجزائها ولا استقبال في المقام لشي‌ء منها فلاحظ.

(٢) الوسائل ٤ : ٣٣٩ / أبواب القبلة ب ١٨ ح ٢.

٤١٨

النحو الذي عرفت ، فهي قاصرة الدلالة على المطلوب بالكلية وإن كانت صحيحة من حيث السند.

الثانية : ما رواه الشيخ بإسناده عن الطاطري عن محمد بن أبي حمزة عن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « سأله رجل قال : صليت فوق أبى قبيس العصر فهل يجزئ ذلك والكعبة تحتي؟ قال : نعم ، إنها قبلة من موضعها إلى السماء » (١) وهذه وإن كانت ظاهرة الدلالة على المطلوب لكنها ضعيفة السند ، لأن في طريق الشيخ إلى الطاطري ، علي بن محمد بن الزبير القرشي (٢) ولم يوثق ، وتعبير صاحب الحدائق (٣) عنها بالموثق في غير محله ، وكأنه اقتصر في ملاحظة السند على الرجال المذكورين فيه الذين كلهم ثقات ، ولم يمعن النظر في طريق الشيخ إلى الطاطري المشتمل على الضعيف كما عرفت.

الثالثة : مرسلة الصدوق قال « قال الصادق عليه‌السلام : أساس البيت من الأرض السابعة السفلى إلى الأرض السابعة العليا » (٤) وهي في الدلالة كسابقتها. والتعبير عن السماء السابعة بالأرض كأنه من جهة عدّ كل سماء أرضاً بالإضافة إلى ما فوقها. وكيف كان ، فهي أيضاً ضعيفة السند بالإرسال فلا يعتمد عليها.

وبالجملة : فما عليه المشهور من اتساع القبلة من تخوم الأرض إلى عنان السماء لا يمكن المساعدة عليه بوجه ، بل الظاهر اختصاصها بفضاء البيت وما يتبعه عرفاً حسبما عرفت ، بل هذا هو الحال في جميع الأوقاف والأملاك من المساجد وغيرها ، فلا يتعدى الوقف والملك من ناحية السفل والعلو إلا‌

__________________

(١) الوسائل ٤ : ٣٣٩ / أبواب القبلة ب ١٨ ح ١.

(٢) التهذيب ١٠ ( المشيخة ) : ٧٦.

(٣) الحدائق ٦ : ٣٧٧.

(٤) الوسائل ٤ : ٣٣٩ / أبواب القبلة ب ١٨ ح ٣ ، الفقيه ٢ : ١٦٠ / ٦٩٠.

٤١٩

ولا يدخل فيه شي‌ء من حجر إسماعيل وإن وجب إدخاله في الطواف (١).

______________________________________________________

بالمقدار الذي يعد من توابعه ولواحقه عرفاً دون الزائد على ذلك.

وتظهر الثمرة بين القولين في الاجتياز عن السطح العالي للبيت أو المسجد أو الملك علوّاً فاحشاً بطائرة ونحوها ، فعلى المشهور لا يجوز ذلك للجنب في الأولين وبدون إذن المالك في الأخير. وعلى المختار يجوز ، لخروج ذاك الفضاء عن البيت والمسجد والملك.

(١) قد نص أكثر الأصحاب بخروج الحجر عن البيت وعدم دخول شي‌ء منه فيه ، فلا يجزئ استقباله عن استقبال البيت ، بل هذا هو المشهور بينهم شهرة عظيمة ، وقد نطقت بذلك جملة من النصوص.

منها : صحيحة معاوية بن عمار قال : « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الحجر أمن البيت هو أو فيه شي‌ء من البيت؟ فقال : لا ، ولا قلامة ظفر ، ولكن إسماعيل دفن فيه أمه فكره أن يوطأ فجعل عليه حجراً وفيه قبور أنبياء » (١).

وموثقة يونس بن يعقوب قال « قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : إني كنت أُصلي في الحجر فقال لي رجل : لا تصل المكتوبة في هذا الموضع فان في الحجر من البيت ، فقال : كذب ، صلّ فيه حيث شئت » (٢).

وموثقة زرارة عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « سألته عن الحجر هل فيه شي‌ء من البيت؟ فقال : لا ، ولا قلامة ظفر » (٣).

نعم ، لا ريب في وجوب إدخاله في الطواف ، لما تضمنته جملة من النصوص (٤) من كونه مدفن إسماعيل أو امه أو عذارى بناته أو جمع من الأنبياء على اختلاف ألسنتها ، فأُدخل في المطاف كي لا توطأ قبورهم فتهتك‌

__________________

(١) الوسائل ١٣ : ٣٥٣ / أبواب الطواف ب ٣٠ ح ١.

(٢) ، (٣) الوسائل ٥ : ٢٧٦ / أبواب أحكام المساجد ب ٥٤ ح ١ ، ٢.

(٤) الوسائل ١٣ : ٣٥٣ / أبواب الطواف ب ٣٠.

٤٢٠