موسوعة الإمام الخوئي

الشيخ مرتضى البروجردي

قام فصلى بهم الصبح (١) لأنّ موردها الجماعة ، وقد استدل بها بعضهم على جواز التنفل ممّن عليه القضاء.

ولكن هذه الأخبار بالرغم من صحة أسانيد جملة منها غير قابلة للتصديق ، لمخالفتها مع أُصول المذهب كما لا يخفى.

وتوجيهها كما عن بعضهم بعدم منافاتها للعصمة ومقام النبوة ، لجواز استناد غلبة النوم إليه سبحانه مراعاة للمصلحة النوعية وهي التسهيل على الأُمة كي لا يقع من ينام عن الفريضة مورداً للعتاب والتشنيع والسقوط عن الأنظار ، ولا سيما إذا كان من الأعاظم والأكابر وذوي المناصب العالية ، فإنّ له تأسياً بالمعصوم صلى‌الله‌عليه‌وآله.

يدفعه : أنه نِعم التوجيه لولا منافاته مع ما في بعض تلكم النصوص من استناده إلى الشيطان ، ففي صحيح ابن سنان : « نمتم بوادي الشيطان » وفي صحيح زرارة (٢) : « قوموا فتحوّلوا عن مكانكم الذي أصابكم فيه الغفلة » (٣).

وفي رواية دعائم الإسلام : « فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : تنحوا من هذا الوادي الذي أصابتكم فيه هذه الغفلة فإنكم بتّم بوادي الشيطان » (٤).

أضف إلى ذلك : أنه لو كان مستنداً إليه سبحانه فلما ذا كره المقام في ذلك المكان حسبما تضمنته صحيحة ابن سنان الآنفة الذكر.

فالإنصاف أنها غير صالحة للاستدلال ، ولا يكاد ينقضي العجب مما ذكره بعضهم من تصديقها في الدلالة على جواز التنفل ممن عليه الفريضة وإن كانت مرفوضة من حيث الدلالة على نومه صلى‌الله‌عليه‌وآله عن الصلاة ، إذ ليت‌

__________________

(١) الوسائل ٤ : ٢٨٣ / أبواب المواقيت ب ٦١. المستدرك ٣ : ١٦٠ / أبواب المواقيت ب ٤٦ ح ١.

(٢) [ سبق أن ضعّفه في ص ٣٢٦ ].

(٣) الوسائل ٤ : ٢٨٣ / أبواب المواقيت ب ٦١ ح ١ ، ٦.

(٤) المستدرك ٣ : ١٦٠ / أبواب المواقيت ب ٤٦ ح ١.

٣٤١

شعري بعد الرفض المزبور وإنكار تعلق القضاء به صلى‌الله‌عليه‌وآله فهل يبقى بعدئذ موضوع لعنوان التطوع ممن عليه الفريضة حتى يصح الاستدلال بها ، وهل ذلك إلا سالبة بانتفاء الموضوع وقد ذكرنا في الأُصول (١) أنّ الدلالة الالتزامية تابعة للمطابقية في الوجود والحجية ، فإذا سقطت المطابقية لمنافاتها للعصمة كما هو المفروض تبعتها الالتزامية في السقوط بطبيعة الحال ، فكيف يمكن الاستدلال بها.

خامسها : ما تقدم (٢) نقله عن الشهيد الأول في الذكرى مرسلاً وعن الشهيد الثاني في الروض واصفاً لها بالصحة عن زرارة قال : « قلت لأبي جعفر عليه‌السلام : أُصلي نافلة وعليّ فريضة أو في وقت فريضة قال : لا ، إنه لا يصلى نافلة في وقت فريضة ، أرأيت لو كان عليك من شهر رمضان أكان لك أن تتطوع حتى تقضيه؟ قال : قلت لا ، قال : فكذلك الصلاة ».

ولكنك عرفت فيما سبق ضعف سند الرواية ، لعدم وصول طريق الشهيد إلينا لننظر في سنده. وتوصيفه له بالصحة لا يجدي بالإضافة إلينا ، لجواز أن يكون ذلك اجتهاداً منه ، وربما لا نوافقه لو لاحظنا السند ، فانّ نظره لا يكون حجة في حقنا ، ومن ثم لا نرى حجية جميع الأخبار الواردة في الكافي ما لم نلاحظ سند كل واحد بخصوصه ، وإن وصف الكليني جميعها بالاعتبار والحجية ، هذا.

ومع الغض والتسليم فهي معارضة بما رواه الشهيد عن زرارة من التفصيل بين الفريضة القضائية والأدائية بجواز التطوع ممّن عليه الاولى دون الثانية ، قال في الوسائل : روى الشهيد في الذكرى بسنده الصحيح عن زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام « قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : إذا دخل وقت صلاة مكتوبة فلا صلاة نافلة حتى يبدأ بالمكتوبة. قال : فقدمت الكوفة ، فأخبرت الحكم بن عتيبة وأصحابه فقبلوا ذلك مني إلى أن قال : ـ

__________________

(١) مصباح الأصول ٣ : ٣٦٨.

(٢) في ص ٣٢٥.

٣٤٢

فصلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ركعتي الفجر وأمر أصحابه فصلّوا ركعتي الفجر ، ثم قال : فصلى بهم الصبح إلى أن قال : فحملت الحديث إلى الحكم وأصحابه فقالوا : نقضت حديثك الأول ، فقدمت إلى أبي جعفر عليه‌السلام فأخبرته بما قال القوم ، فقال : يا زرارة إلا أخبرتهم أنه قد فات الوقتان جميعاً وأن ذلك كان قضاءً من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله » (١).

ومقتضى الجمع العرفي بعد صراحة هذه في الجواز حمل النهي في الأُولى على الكراهة أو الإرشاد حسبما تقدم.

سادسها : وهو أحسن ما استدل به في المقام ، صحيحة زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام « أنه سئل عن رجل صلى بغير طهور ، أو نسي صلاة لم يصلها ، أو نام عنها فقال : يقضيها إذا ذكرها في أيّ ساعة ذكرها من ليل أو نهار ، فاذا دخل وقت الصلاة ولم يتم ما قد فاته فليقض ما لم يتخوف أن يذهب وقت هذه الصلاة التي قد حضرت وهذه أحق بوقتها فليصلها ، فاذا قضاها فليصلّ ما فاته مما قد مضى ، ولا يتطوع بركعة حتى يقضي الفريضة كلها » (٢) فإنها صريحة في النهي عن التطوع ممن عليه القضاء كما أنها صحيحة السند.

ولكنك عرفت فيما سبق المناقشة في دلالتها ، نظراً إلى أن النهي عن التطوع لم يكن حكماً مستقلا جديداً وإنما هو متفرع على الأمر بالقضاء وثبوت التضييق فيه ، فان من شؤونه وتوابعه المنع عن التطوع ، فاذا كان الأمر المزبور محمولاً على الاستحباب كما هو مقتضى القول بالمواسعة وهو الصواب فلا جرم كان النهي المذكور محمولاً على التنزيه فتصح النافلة وإن كانت مكروهة.

بل الأمر كذلك حتى على القول بالمضايقة ، إذ لا يكاد يستفاد من الصحيحة شرطية الفراغ عن القضاء في صحة النافلة بوجه ، بل غايته المزاحمة بينهما ولزوم تقديم القضاء ، فلو خالف وقدّم النافلة أمكن تصحيحها بالترتب وإن‌

__________________

(١) الوسائل ٤ : ٢٨٥ / أبواب المواقيت ب ٦١ ح ٦ ، الذكرى ٢ : ٤٢٢.

(٢) الوسائل ٨ : ٢٥٦ / أبواب قضاء الصلوات ب ٢ ح ٣.

٣٤٣

كان عاصياً في التأخير ، فهي إذن مشروعة ومحكومة بالصحة على كل تقدير.

والمتحصل من جميع ما تقدم : أنّ المقتضي للمنع عن التطوع ممن عليه القضاء قاصر في حدّ نفسه ، لعدم نهوض شي‌ء مما استدل به المانعون لإثباته.

وأما الموضع الثاني : أعني المانع على تقدير ثبوت المقتضي الذي هو بمثابة المعارض له ، فقد اتضح مما سبق أنه موجود وهو موثق سماعة وصحيح محمد ابن مسلم المتقدمان (١) في المسألة السابقة ، حيث عرفت دلالتهما صريحاً على جواز التطوع ممن عليه الأداء ، فإنهما تدلان عليه في القضاء أيضاً بطريق أولى ، إذ لم يقل أحد بجواز النافلة ممن عليه الحاضرة وعدمه ممن عليه الفائتة بخلاف العكس ، حيث ذهب إليه بعضهم استناداً إلى ما رواه الشهيد عن زرارة الحاكية لتعريس النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والمتضمنة للتفصيل بين الأداء والقضاء بالمنع في الأول دون الثاني وقد تقدمت.

إذن فالقول بالجواز ممن عليه الحاضرة كما تضمنته الموثقة والصحيحة يستلزم الجواز ممن عليه الفائتة بالأولوية القطعية ، ويتأيد ذلك بروايتين :

إحداهما : موثقة أبي بصير المتقدمة (٢) سابقاً عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « سألته عن رجل نام عن الغداة حتى طلعت الشمس ، فقال : يصلي ركعتين ثم يصلي الغداة » (٣).

وهي كما ترى صريحة الدلالة ، وإنما جعلناها مؤيّدة لأن موردها قضاء صلاة الغداة ، ومن الجائز على بُعد اختصاص الحكم بها ، وعدم الدليل على التعدي عنها فتكون أخص من المدعى.

ثانيتهما : ما رواه علي بن موسى بن طاوس في كتاب غياث سلطان الورى عن حريز عن زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : « قلت له : رجل عليه دين من صلاة قام يقضيه فخاف أن يدركه الصبح ولم يصل صلاة ليلته تلك ،

__________________

(١) في ص ٣٣٣ ، ٣٣٥.

(٢) في ص ٣٤٠.

(٣) الوسائل ٤ : ٢٨٤ / أبواب المواقيت ب ٦١ ح ٢.

٣٤٤

والأحوط الترك بمعنى تقديم الفريضة وقضائها (١).

[١٢٠٧] مسألة ١٧ : إذا نذر النافلة لا مانع من إتيانها في وقت الفريضة ولو على القول بالمنع (٢).

______________________________________________________

قال : يؤخر القضاء ويصلي صلاة ليلته تلك » (١).

وهي أيضاً صريحة في المطلوب ، غير أن السند ضعيف ، لجهالة طريق ابن طاوس إلى حريز فلا تصلح إلا للتأييد.

والمتحصل من جميع ما قدّمناه لحد الآن : جواز التطوع ممن ذمته مشغولة بالفريضة سواء كانت أدائية أم قضائية ، وأنّ ما ورد من النهي عنه محمول على الكراهة أو على الإرشاد إلى ما هو الأهم والأفضل ، لا أن تكون صحّة النافلة مشروطة بفراغ الذمة عن الفريضة بوجه حسبما عرفت بما لا مزيد عليه.

(١) هذا الاحتياط إنما يتجه لو كانت الحرمة المحتملة ذاتية ، فتؤخر النافلة حذراً عن الوقوع في الحرام الواقعي ، وليس كذلك قطعاً ، بل هي على تقدير ثبوتها تشريعية محضة ، إذ لا يستفاد من الأدلة الناهية أكثر من عدم الأمر بها ما دامت الذمة مشغولة بالفريضة كما لا يخفى.

وعليه فسبيل الاحتياط ترك النافلة عن نية جزمية والإتيان بها بعنوان الرجاء واحتمال الأمر ، فإن أصاب وإلا فلا ضير فيه (٢).

(٢) لا شبهة في صحة نذر النافلة كصحة الإتيان بالمنذور في وقت الفريضة ، بناءً على ما هو المختار من مشروعية التطوع في وقت الفريضة ، بل تصح حتى إذا كان المنذور هو التطوع في هذا الوقت خاصة ، فضلاً عما إذا كان مطلقاً أو مقيداً بوقت أوسع منه كما هو واضح.

__________________

(١) الوسائل ٤ : ٢٨٦ / أبواب المواقيت ب ٦١ ح ٩.

(٢) هذا الاحتياط وإن كان حسناً من حيث الاجتناب عن ارتكاب الحرام ، لكنه لا يفي بأداء وظيفة النافلة ، والاحتياط الحاوي لكلتا الجهتين هو ما ذكره في المتن.

٣٤٥

وأما بناءً على المشهور من عدم المشروعية ، فتارة يكون متعلق النذر مطلقاً وأُخرى مقيداً بوقت الفريضة.

أما في الصورة الاولى : فلا ينبغي الإشكال في صحة النذر أيضاً ، لأن متعلقها وهو طبيعي النافلة راجح ومقدور للناذر عقلاً وشرعاً ولا مانع بعد هذا من الإتيان بها في وقت الفريضة ، إذ هي بالنذر تتصف بالوجوب وتخرج عما كانت عليه من عنوان التطوع الذي هو بمعنى الإتيان عن طوع ورغبة ، فإنه ملزم بها بمقتضى نذره ، فلا تشملها الروايات الناهية عن التطوع في وقت الفريضة.

ودعوى أن الإتيان بها في وقت الفريضة مرجوح فلا يكون مشمولاً للنذر كما ترى ، ضرورة أن المتعلق هو الطبيعي المطلق والجامع الشامل له ولغيره على الفرض ، وقد ذكرنا في الأُصول (١) أنّ معنى الإطلاق رفض القيود لا أخذها ولحاظها بأسرها. إذن فما هو المتعلق للنذر غير مرجوح ، وما هو المرجوح لم يكن متعلقاً للنذر.

وما قد يقال من أن الجامع بين المرجوح وغيره مرجوح ، كلام صوري لا أساس له من الصحة ، بداهة أن المرجوحية من عوارض الفرد نشأت من اقترانه ببعض الملابسات ولم تكن ملحوظة في صقع الذات ونفس الجامع بوجه ، فان متعلق النذر هو طبيعي الصلاة التي هي خير موضوع ، فكيف يكون مرجوحاً.

إلا أن يقال : إن المقصود من التطوع الممنوع في لسان الأدلة هو ما كان تطوعاً ومستحباً في حدّ ذاته مع الغض عن العوارض الطارئة.

ولكنه بمراحل عن الواقع ، لظهور الأدلة في العناوين الفعلية وما هو تطوع بالحمل الشائع وبوصفه العنواني بحيث يكون صدوره خارجاً بداعي التطوع‌

__________________

(١) محاضرات في أُصول الفقه ٥ : ٣٤٦.

٣٤٦

هذا إذا أطلق نذره ، وأما إذا قيّده بوقت الفريضة فإشكال على القول بالمنع وإن أمكن القول بالصحة ، لأن المانع إنما هو وصف النفل وبالنذر يخرج عن هذا الوصف ويرتفع المانع ، ولا يرد أنّ متعلق النذر لا بد أن يكون راجحاً ، وعلى القول بالمنع لا رجحان فيه فلا ينعقد نذره ، وذلك لأن الصلاة من حيث هي راجحة ، ومرجوحيتها مقيّدة بقيد يرتفع بنفس النذر ، ولا يعتبر (*) في متعلق النذر الرجحان قبله ومع قطع النظر عنه حتى يقال بعدم تحققه في المقام (١).

______________________________________________________

ومتصفاً بالاستحباب في ظرف العمل ، ولا شبهة في زوال هذا العنوان بعد تعلق النذر حسبما عرفت.

(١) وأما في الصورة الثانية : فغير خفي أن التقييد يتصور على نحوين :

أحدهما : أن يكون الوقت الذي قيّد به المنذور أوسع من وقت الفريضة ، بحيث يتمكن من الإتيان به في زمان تكون الذمة فارغة عنها ، كما لو نذر الإتيان بصلاة جعفر عليه‌السلام يوم الجمعة وعليه فريضة قضائية أو أدائية يمكنه تفريغ الذمة عنها ، ثم التصدي للنافلة.

وقد علم حكم هذه الصورة مما مرّ ، فان مثل هذه النافلة مشروعة ومقدورة ، فلا مانع من أن تكون منذورة وبعد انعقاد النذر والحكم بصحته ساغ الإتيان بها حتى قبل تفريغ الذمة عن الفريضة ، فإنها بعد زوال عنوان التطوع بعروض النذر وصيرورتها واجبة كان الإتيان بها من الفريضة قبل الفريضة لا من التطوع قبلها كما لا يخفى ، وهذا واضح.

ثانيهما : أن يكون المنذور مقيّداً بالوقت المجعول للفريضة بحيث لا يسعه [ إلاّ ] الإتيان به قبل تفريغ الذمة عنها ، كما لو نذر الإتيان بصلاة جعفر بعد الغروب أو عند الزوال مباشرة ، فهل ينعقد مثل هذا النذر؟ فيه خلاف شديد‌

__________________

(*) في البيان قصور ظاهر ، وإن كان ما اختاره هو الصحيح.

٣٤٧

بين الأعيان ، وفي المسألة قولان معروفان ، ذهب إلى كل منهما جماعة كثيرون ، فاختار فريق ومنهم المحقق الهمداني (١) قدس‌سره الفساد وعدم الانعقاد نظراً إلى اعتبار الرجحان في متعلق النذر ، والتطوع في وقت الفريضة أمر مرجوح بل غير مشروع حسب الفرض ، ومن المعلوم أن غير المشروع لا ينقلب بالنذر إلى المشروع فكيف يحكم بصحته وانعقاده.

وذهب آخرون ومنهم السيد الماتن قدس‌سره إلى الصحة وذكر قدس‌سره في وجهها ما ملخصه : أنه يكفي في الرجحان المعتبر في متعلق النذر حصوله ولو من قِبل نفس النذر ولا يلزم أن يكون راجحاً قَبله ، وبما أن الصلاة المنذورة في مفروض المسألة بما لها من الخصوصية تصبح راجحة بعد تعلق النذر بها ، فلا مانع من انعقاده ووجوب الوفاء به.

ولكنك خبير بأن هذا الكلام بظاهره لا يمكن المساعدة عليه ، بل غير قابل للتصديق ، إذ ليت شِعري ما هو الكاشف عن حدوث الرجحان بالنذر ، ومن أيّ طريق يحرز تأثيره فيه ما لم يقم عليه دليل بالخصوص ، كما في نذر الإحرام قبل الميقات والصيام في السفر ، حيث علمنا من دليل صحة النذر في هذين الموردين وهما محرّمان حدوث الرجحان به ، ولم يرد مثله في المقام ، ومن الواضح عدم إمكان الإذعان بحدوث الرجحان من قبل النذر بقول مطلق ، لما فيه ما فيه مما لا يخفى على ذي مسكة.

وبالجملة : بعد الاعتراف بالمرجوحية قبل تعلق النذر ما هو الدليل على انقلابها الى الرجحان بسببه ، ولا سيما بعد أن كان مقتضى إطلاق دليلها شمولها لما بعد النذر أيضاً كما لا يخفى ، هذا.

ولكن الظاهر أنّ السيد الماتن قدس‌سره يريد من كلامه هذا شيئاً آخر هو الصواب قد أُشير إليه في مطاوي عبارته وإن كانت قاصرة نوعاً ما عن إفادته ، وهو أن الصلاة لا شبهة في رجحانها في حدّ ذاتها ، فإنها عبادة بل خير‌

__________________

(١) مصباح الفقيه ( الصلاة ) : ٦٤ السطر ٣٠.

٣٤٨

موضوع من شاء استقل ومن شاء استكثر ، والمرجوحية المفروضة إنما نشأت من أجل تعنونها بعنوان التطوع في وقت الفريضة ، وبما أن هذا العنوان متقوم بالإتيان بما لا إلزام فيه ، وإنما يأتي به المكلف عن طوعه ورغبته ، والمفروض انقلابه بسبب النذر إلى الإلزام المزيل لذاك العنوان ، فلا مانع بعد ارتفاع المانع من الالتزام بصحة النذر وكونه مشمولاً لإطلاقات أدلة الوفاء به.

وبالجملة : المقصود من نذر التطوع نذر ما هو تطوع في حدّ ذاته لا حتى بعد النذر ، لامتناع امتثاله بوصفه العنواني بعد انعقاده كما هو واضح ، فاذا كان المتعلق هو الذات وهي مشروعة مقدورة راجحة وعمّها دليل الصحة ، خرجت بقاءً عن تحت عنوان التطوع خروجاً وجدانياً تكوينياً غير مستند إلى التشريع ليحتاج إلى الدليل ، إذ ليس هو من باب التخصيص ، بل من باب ارتفاع الحكم بارتفاع موضوعه ، بداهة انقلاب عنوان التطوع إلى الفرض بسبب النذر واندراجه تحت عنوان الفريضة قبل الفريضة بدلاً عن التطوع قبلها ، وليس مراده قدس‌سره أن النذر محقق ومولّد للرجحان ليطالب بالدليل والبرهان وإن كان ربما يوهمه ظاهر عبارته قدس‌سره.

ومما ذكرنا تعرف أنّ النقض على المصنف بنذر المحرمات بدعوى أنه لو كان موجباً للرجحان فهلاّ يكون كذلك فيها أيضاً ، ساقط جدّاً ، لما عرفت من أن الصلاة راجحة في حد ذاتها وقبل تعلق النذر بها ، غير أنها مكتنفة بخصوصية موجبة للحزازة مرفوعة بنفس النذر تكويناً لا أنه يحدث الرجحان فيها ، فلا تقاس بفاقد المزية فضلاً عن المحرمات الشرعية.

كما أن الإيراد عليه بأن الصلاة المقترنة بتلك الخصوصية غير مقدورة ، لأنها تطوع في وقت الفريضة الممنوع في الشريعة ، ولا يتعلق النذر إلا بالأمر المقدور.

مدفوع بكفاية القدرة حين العمل وبعد انعقاد النذر ، ولا تعتبر القدرة قبله.

٣٤٩

وقد ذكرنا في الأُصول (١) أنه لا عبرة بالقدرة حال الخطاب وزمان الإيجاب ، بل المدار في الاعتبار هو ظرف الامتثال ووقت الإتيان بالعمل خارجاً ، والمفروض حصول القدرة في هذه الحالة ، بل يمكن القول بحصولها حتى قبلها ، إذ المقدور مع الواسطة مقدور ، فهو قادر قبل النذر على الإتيان بصلاة جعفر يوم الجمعة عند الزوال وقبل الإتيان بفريضة الظهر ، بالقدرة على النذر المستوجب لانقلاب الموضوع حسبما عرفت.

والنتيجة : أنّ ما أفاده الماتن قدس‌سره من صحة النذر في مفروض المسألة هو الصحيح ، وإن كانت العبارة قاصرة ، حيث يوهم ظاهرها نشوء الرجحان من النذر ، وليس كذلك ، وإنما الناشئ منه هو القدرة شرعاً على العمل بالنذر حيث يزول به المانع الشرعي تكويناً ، فلو أُبدل الرجحان الواقع في كلامه بالقدرة وقال هكذا : ولا تعتبر في متعلق النذر القدرة عليه قبله ، لسلم عن الاشكال.

وقد استبان بما حققناه الفرق الواضح بين المقام وبين مثل نذر الصوم في السفر ، حيث إن موضوع هذا النذر وهو كون الصوم في السفر لا يرتفع بالنذر ، بل هو شي‌ء واحد قبله وبعده ، فمن ثم احتاج نفوذ النذر إلى الدليل بعد أن كان متعلقه محرّماً في نفسه ، بخلاف المقام حيث إن العنوان المحرّم وهو التطوع قبل الفريضة يزول بنفس النذر تكويناً ويتبدل بالفريضة قبل مثلها ، ومن ثم كانت الصحة مطابقة للقاعدة من غير حاجة إلى التماس دليل خاص ، هذا.

ولمزيد توضيح المقام بما يزيل غشاوة الإبهام نقول : إن المأخوذ في لسان الروايات الناهية هو عنوان التطوع أو النافلة. والمحتمل بدواً في هذا الأخذ أن يكون على أحد أنحاء ثلاثة :

الأول : أن يكون على سبيل الطريقية ومحض المعرّفية من غير دخالة له في‌

__________________

(١) محاضرات في أُصول الفقه ٢ : ٣٥٤.

٣٥٠

متعلق النهي ، فيكون المنهي عنه في الحقيقة هو ذات الصلاة ، والتطوع أو التنفل ملحوظ على نحو العنوان المشير إلى ما هو المتعلق.

فعليه يكون النذر في المقام باطلاً من أصله ، لأن المفروض أن ذات المتعلق منهي عنه وحرام إما ذاتاً أو تشريعاً ، وإن كان الأول بعيداً جدّاً كما تقدم ، وكيف ما كان فمجرد الحرمة ولو كانت تشريعية كافية في عدم انعقاد النذر كما هو واضح.

ولكن هذا النحو من الأخذ خلاف ظواهر النصوص الناهية عن التطوع في وقت الفريضة ، لأن ظاهرها أن لعنوان التطوع مدخلاً في تعلق النهي كما لا يخفى.

الثاني : أن يكون للتطوع بما له من العنوان الواقعي دخل في تعلق النهي ، فيكون المنهي عنه عنوان ما هو تطوع وتنفّل بالفعل ، أي ذات الصلاة مع اتصافها فعلاً بكونها تطوعاً واقعاً.

وهذا الاحتمال كما ترى فاسد جزماً ، بل غير معقول في نفسه ، ضرورة أن فرض الاتصاف بالتنفل فعلاً مساوق لافتراض الرجحان والمحبوبية الفعلية ، فكيف يمكن أن يقع مع هذا الوصف العنواني مورداً للنهي الشرعي حتى بناءً على جواز اجتماع الأمر والنهي ، فان ما هو محبوب للمولى لا يمكن أن يكون منهياً عنه ، بداهة أن النهي عن المحبوب بما هو محبوب غير معقول ، فلا جرم يتعين الاحتمال [ الثالث ].

الثالث : وهو أن يكون المنهي عنه قصد عنوان التطوع ، لا ذات الصلاة ولا المركّب منها ومن التطوع الواقعي ، بل الحرام ما قصد به التطوع والتنفّل ، والعمل الذي يؤتى به خارجاً بهذا العنوان ، فيكون مفاد الروايات الناهية المنع عن الصلاة التي قصد بها التطوع في وقت الفريضة ، وهذا أمر ممكن في نفسه ولا ضير فيه ، بل هو الظاهر من قوله عليه‌السلام : « فلا تطوع » ، الوارد في نصوص الباب ، وبه يستكشف عدم تعلق الأمر بهذا العنوان.

٣٥١

[١٢٠٨] مسألة ١٨ : النافلة تنقسم إلى مرتّبة وغيرها ، والأُولى : هي النوافل اليومية التي مرّ بيان أوقاتها. والثانية : إمّا ذات السبب كصلاة الزيارة والاستخارة ، والصلوات المستحبة في الأيام والليالي المخصوصة ، وإما غير ذات السبب وتسمى بالمبتدئة. لا إشكال في عدم كراهة المرتّبة في أوقاتها وإن كان بعد صلاة العصر أو الصبح ، وكذا لا إشكال في عدم كراهة قضائها في وقت من الأوقات ، وكذا في الصلوات ذوات الأسباب (*) وأما النوافل المبتدأة التي لم يرد فيها نص بالخصوص ، وإنما يستحب الإتيان بها لأن الصلاة خير موضوع ، وقربان كل تقي ، ومعراج المؤمن ، فذكر جماعة أنه يكره الشروع فيها في خمسة أوقات (١) أحدها : بعد صلاة الصبح حتى تطلع الشمس. الثاني : بعد صلاة العصر حتى تغرب الشمس. الثالث : عند طلوع الشمس حتى تنبسط. الرابع : عند قيام الشمس حتى تزول. الخامس : عند غروب الشمس أي قبيل الغروب.

______________________________________________________

إذن فالمنقصة والحزازة مستندة إلى قصد هذا العنوان ، أما ذات الصلاة فهي باقية على ما هي عليه من الرجحان فإنها خير موضوع كما سبق ، فلا مانع من تعلق النذر بها بعد كونها مقدورة عقلاً وشرعاً ، فاذا تعلق وانعقد خرجت تكويناً لا تخصيصاً عن عنوان التطوع وانقلبت إلى الفريضة بقاءً ، وأصبحت خارجة عن موضوع تلك النصوص بطبيعة الحال ، فإنه تعلق بما لولاه كان تطوعاً لا بالصلاة المتصفة به بالفعل ، وقد عرفت أنّ هذا هو مراد الماتن قدس‌سره وإن كانت العبارة قاصرة وغير خالية عن سوء التأدية فلاحظ.

(١) بل نسب ذلك إلى المشهور ، بل ادعي عليه الإجماع ، وظاهر الأكثر عدم الفرق في النوافل بين المرتّبة وذوات الأسباب والمبتدأة.

__________________

(*) لا يبعد عدم الفرق بينها وبين غيرها.

٣٥٢

ولكن المحكي عن بعضهم تخصيص الكراهة بالأخيرة ، والسيد الماتن أنكر الكراهة في غيرها واستشكل فيها كما ستعرف.

ثم إن التحديد والتوقيت في الموارد الخمسة المذكورة في المتن يرجع تارة : إلى الفعل أعني الصلاة وهما الأولان ، ويختلف امتداد الكراهة حينئذ باختلاف المقدار الفاصل بين الصلاة المأتي بها وبين طلوع الشمس أو غروبها.

وأُخرى : إلى الزمان وهي الثلاثة الأخيرة ، فالكلام يقع في مقامين :

أما المقام الأول : أعني كراهة الصلاة بعد صلاتي الصبح والعصر ، فيستدل لها بجملة من الروايات.

الاولى : ما رواه الشيخ بإسناده عن محمد الحلبي عن أبي عبد الله عليه‌السلام « قال : لا صلاة بعد الفجر حتى تطلع الشمس فان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : إن الشمس تطلع بين قرني الشيطان ... ، وقال : لا صلاة بعد العصر حتى تصلى المغرب » (١).

الثانية : ما رواه أيضاً بإسناده عن معاوية بن عمار عن أبي عبد الله عليه‌السلام « قال : لا صلاة بعد العصر حتى تصلى المغرب ، ولا صلاة بعد الفجر حتى تطلع الشمس » (٢). فإنّهما وإن كانتا ظاهرتين في عدم المشروعية ، لكنهما تحملان على الكراهة جمعاً بينهما وبين النصوص المجوّزة.

وفيه : أنّ سندهما ضعيف وإن عبّر في الحدائق (٣) عن أُولاهما بالموثق ، لضعف طريق الشيخ إلى الطاطري بعلي بن محمد بن الزبير القرشي ، وأحمد بن عمرو بن كيسبة الهندي ، وأما محمد بن أبي حمزة الواقع في السند فهو ثقة على الأظهر وإن ضعّفه الشهيد الثاني (٤).

__________________

(١) الوسائل ٤ : ٢٣٤ / أبواب المواقيت ب ٣٨ ح ١.

(٢) الوسائل ٤ : ٢٣٥ / أبواب المواقيت ب ٣٨ ح ٢.

(٣) الحدائق ٦ : ٣٠٥.

(٤) [ لم نعثر عليه ].

٣٥٣

أضف إلى ذلك : أن التعليل الذي تضمنته الرواية الأُولى فيه ما لا يخفى.

الثالثة : ما رواه ابن إدريس في آخر السرائر نقلاً من جامع البزنطي عن علي بن سلمان عن محمد بن عبد الله بن زرارة ، عن محمد بن الفضيل عن أبي الحسن عليه‌السلام في حديث : « أنه صلى المغرب ليلةً فوق سطح من السطوح فقيل له : إن فلاناً كان يفتي عن آبائك عليهم‌السلام أنه لا بأس بالصلاة بعد طلوع الفجر إلى طلوع الشمس ، وبعد العصر إلى أن تغيب الشمس ، فقال : كذب ( لعنه الله ) على أبي أو قال : على آبائي » (١).

وفيه أولاً : أن السند ضعيف ، لجهالة طريق ابن إدريس إلى جامع البزنطي. ودعوى أن الطريق قد وصل إليه إما بالتواتر أو بخبر محفوف بقرينة قطعية ، لأنه لا يعمل بأخبار الآحاد قد تقدم (٢) ما فيها.

أضف إلى ذلك : أن البزنطي يرويها عن علي بن سلمان وأخيراً عن محمد بن الفضيل ، والأول مهمل والثاني ضعيف.

ولا يجدي في توثيق الأول رواية البزنطي عنه الذي هو من أصحاب الإجماع ، بل قيل إنه لا يروي إلا عن ثقة ، كما مرّ غير مرّة ، هذا.

وقد رواها في الحدائق (٣) بتغيير يسير غير مضر في المتن وتبديل في السند فذكر بدل سلمان « سليمان » ، ووصف محمد بن الفضيل بالبصري ، وكلاهما مجهول إلا إذا أُريد بالثاني محمد بن القاسم بن الفضيل البصري فإنه ثقة ، ولكنه لم يثبت.

وكيف ما كان فلا ينبغي الريب في ضعف السند حسبما عرفت.

وثانياً : أن الدلالة قابلة للمناقشة ، نظراً إلى أن ذكر صلاة المغرب في الصدر ربما تكون قرينة ولو بمناسبة الحكم والموضوع ، على أنها ناظرة سؤالاً وجواباً‌

__________________

(١) الوسائل ٤ : ٢٣٩ / أبواب المواقيت ب ٣٨ ح ١٤ ، السرائر ( المستطرفات ) ٣ : ٥٨٠.

(٢) في ص ٣٢٧.

(٣) الحدائق ٦ : ٣٠٦. [ والموجود فيه مطابق لما في السرائر المطبوع ].

٣٥٤

إلى الفريضة دون النافلة ، وأن الفرية المزعومة المردودة أشدّ الرد كانت حول توسعة وقت صلاتي الفجر والعصر ، بدعوى أن وقتهما ممتد إلى طلوع الشمس وغروبها مع تساوي أجزاء الوقت في مرتبة الفضل ، ومن ثمّ وقعت مورداً لأشد الطعن واللعن ، لما ورد عنهم من الحث البليغ والتأكيد الشديد في المبادرة إلى الفريضة أول وقتها ، وأن التأخير تضييع ، بل معدود من صلاة الصبيان كما جاء في الأخبار (١).

وربما يعضده أن السؤال في الرواية إنما هو عن الصلاة بعد طلوع الفجر لا بعد صلاة الفجر ، فعلى هذا تكون الرواية أجنبية عن محل الكلام بالكلية.

الرابعة : مكاتبة علي بن بلال قال : « كتبت إليه في قضاء النافلة من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس ، ومن بعد العصر إلى أن تغيب الشمس ، فكتب : لا يجوز ذلك إلا للمقتضي ، فأما لغيره فلا » (٢).

وهذه الرواية موردها قضاء النافلة ، ولا تكون شاملة لمطلق النوافل كما في سوابقها ، وعلى أيّ حال فهي معتبرة السند سواء أُريد بالراوي علي بن بلال بن أبي معاوية ، أم البغدادي الذي هو من أصحاب الجواد أو الهادي عليهما‌السلام ، إذ الأول وثقه النجاشي (٣) ، والثاني وثقه الشيخ (٤) ، وإن كان الثاني هو المتعين بقرينة رواية محمد بن عيسى عنه ، إذ الأول من مشايخ المفيد وابن عبدون فلا يمكن رواية محمد بن عيسى عمن هو متأخر عنه في الطبقة.

وقد اشتبه الأمر على ابن داود (٥) حيث وثق الثاني دون الأول مع أنّه موثق لتوثيق النجاشي كما سمعت ، وكم له من هذه الاشتباهات.

__________________

(١) الوسائل ٤ : ٢٠٩ / أبواب المواقيت ب ٢٧ ح ١ و ٢١٣ ب ٢٨ ح ٢.

(٢) الوسائل ٤ : ٢٣٥ / أبواب المواقيت ب ٣٨ ح ٣.

(٣) رجال النجاشي : ٢٦٥ / ٦٩٠.

(٤) رجال الطوسي : ٣٧٧ / ٥٥٧٨.

(٥) رجال ابن داود : ١٣٥.

٣٥٥

وكيف ما كان ، فلا ينبغي الشك في صحة السند وإن رمي بالضعف.

إلا أن الشأن في الدلالة فإنها قاصرة ، بل مجملة لعدم وضوح المراد من قوله : « إلا للمقتضي » فإنه إن أُريد به القاضي فهو لغو محض ، ضرورة أن السؤال إنما هو عن القاضي فلا معنى للإجابة بالنفي ثم استثناء القاضي ، بل ينبغي الإجابة حينئذ بمثل قوله عليه‌السلام : « نعم ».

على أن إطلاق المقتضي على القاضي غير معهود في الاستعمالات ، بل لعله من الأغلاط.

وإن أُريد به الموجب والسبب في مقابل النوافل المبتدأة ليرجع الجواب إلى التفصيل بينها وبين النوافل ذوات الأسباب كصلاة الزيارة ونحوها.

ففيه : أنّ هذا وإن كان ممكناً في حد نفسه إلا أنه لا يساعده التعبير ، للزوم التنكير حينئذ ، إذ لا موقع للام التعريف في قوله : « للمقتضي » بل ينبغي تبديله بقوله : « لمقتضٍ » ، كما لا يخفى ، فهو نظير قولنا : لا ينبغي الأمر الفلاني إلا لسبب ، ولا يقال إلا للسبب ، فالرواية مشوّشة ولعل فيها تحريفاً ، ولا تصلح للاستدلال بوجه.

والمتحصل مما تقدم : عدم ثبوت الكراهة في هذا القسم لعدم المقتضي لها ، إذ الأخبار المستدل بها عليها ضعيفة سنداً أو دلالة على سبيل منع الخلوّ ، إلا بناءً على قاعدة التسامح وتعميمها للكراهة ، ولكنا لا نقول بها في المستحبات فضلاً عن غيرها ، ومعه لا تصل النوبة إلى البحث عن المانع ، أعني ما يعارضها من الروايات.

ثم إنه مع الغض عما ذكر وتسليم جواز الاستدلال بهاتيك الأخبار على ثبوت الكراهة ، فلا شبهة في أن القدر المتيقن منها إنما هي النوافل المبتدأة ، وهل هي عامة لكافة النوافل من المرتّبة وقضائها وذوات الأسباب ، فلو زار أحد المشاهد المشرّفة أو طاف بالبيت طواف النافلة بعد صلاتي الفجر أو‌

٣٥٦

العصر وأراد أن يأتي بصلاة الزيارة أو الطواف فهل تكون أيضاً محكومة بالكراهة؟

أما ذوات الأسباب فلا ينبغي التأمل في كونها مشمولة لها ، وإن ذهب جماعة ومنهم السيد الماتن قدس‌سره إلى عدم شمولها أو استثنائها عنها ، إذ لم يتضح له أيّ وجه ، فان نسبة تلك النصوص التي منها قوله في رواية الحلبي : « لا صلاة بعد الفجر حتى تطلع الشمس .. » إلخ إلى الأدلة الدالة على مشروعية النوافل بالأسر نسبة الخاص إلى العام ، بل الحاكم إلى المحكوم ، حيث إنها ناظرة إليها ، ونافية للحكم بلسان نفي الموضوع ، وأن النافلة المشروعة محدودة بغير هذين الوقتين. إذن فلا قصور في شمولها لذوات الأسباب بوجه ، ونتيجة ذلك مرجوحية صلاة الزيارة أو صلاة الشكر ونحوهما في الوقتين المزبورين من دون فرق بينها وبين المبتدأة.

وأما قضاء النوافل المرتّبة فالظاهر عدم شمول الحكم لها ، وذلك لروايات ناطقة بالجواز ، وهي على طوائف ثلاث : إحداها مخدوشة سنداً ، والأُخرى دلالة ، والثالثة تامة من كلتا الجهتين ، وينبغي استعراض نبذ من كل منها.

فمن الطائفة الأُولى : رواية محمد بن يحيى بن ( عن ) حبيب قال : « كتبت إلى أبي الحسن الرضا عليه‌السلام تكون عليّ الصلوات النافلة متى أقضيها؟ فكتب عليه‌السلام : في أيّ ساعة شئت من ليل أو نهار » (١).

وهي كما ترى صريحة الدلالة ، غير أنّ السند ضعيف لتردد الراوي الأخير بين حبيب وبين محمد بن يحيى بن حبيب لأجل اختلاف النسخ ، فان كان الأصح هو الأول فهو مهمل ، وإن كان الثاني وهو المطابق لما في الحدائق (٢) فهو مجهول.

ومنها : رواية ابن أبي يعفور عن أبي عبد الله عليه‌السلام « في قضاء صلاة‌

__________________

(١) الوسائل ٤ : ٢٤٠ / أبواب المواقيت ب ٣٩ ح ٣.

(٢) الحدائق ٦ : ٣٠٩.

٣٥٧

الليل والوتر تفوت الرجل ، أيقضيها بعد صلاة الفجر وبعد العصر؟ فقال : لا بأس بذلك » (١).

وهي صريحة الدلالة ، غير أنّ في سندها عبد الله بن عون الشامي وهو مجهول.

ومنها : رواية سليمان بن هارون قال : « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن قضاء الصلاة بعد العصر ، قال : إنما هي النوافل فاقضها متى ما شئت » (٢). فان سليمان بن هارون مجهول.

ومنها : رواية نجية قال : « قلت لأبي جعفر عليه‌السلام : تدركني الصلاة ويدخل وقتها فأبدأ بالنافلة؟ قال فقال أبو جعفر عليه‌السلام : لا ، ولكن ابدأ بالمكتوبة واقض النافلة » (٣) ، فان معنى البدأة بالمكتوبة الإتيان بالنافلة بعدها بلا فصل معتد به ، ومقتضى الإطلاق وترك الاستفصال جواز الإتيان بالنافلة بعد صلاتي الصبح والعصر أيضاً ، فالدلالة ظاهرة ، لكن السند ضعيف لضعف طريق الشيخ إلى الطاطري كما تقدم.

ومن الطائفة الثانية : صحيحة زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام « أنه قال : أربع صلوات يصليها الرجل في كل ساعة : صلاة فاتتك فمتى ما ذكرتها أدّيتها ، وصلاة ركعتي طواف الفريضة ، وصلاة الكسوف ، والصلاة على الميت ، هذه يصلّيهنّ الرجل في الساعات كلها » (٤).

فإنها بالرغم من صحة سندها قاصرة الدلالة ، إذ هي ظاهرة في الفرائض وغير ناظرة إلى النوافل التي هي محل الكلام ، والمقصود منها تقسيم الصلوات الواجبة إلى نوعين : فقسم منها لها وقت محدود معيّن كالفرائض اليومية ، حيث‌

__________________

(١) الوسائل ٤ : ٢٤٢ / أبواب المواقيت ب ٣٩ ح ١٠.

(٢) الوسائل ٤ : ٢٤٣ / أبواب المواقيت ب ٣٩ ح ١١.

(٣) الوسائل ٤ : ٢٢٧ / أبواب المواقيت ب ٣٥ ح ٥.

(٤) الوسائل ٤ : ٢٤٠ / أبواب المواقيت ب ٣٩ ح ١.

٣٥٨

إنها لا يؤتى بها إلا في أوقاتها المقررة ، والقسم الآخر ليس لها وقت خاص معيّن ، بل يؤتى بها في جميع الساعات لدى تحقق أسبابها ، وهي الصلوات الأربع المشار إليها في الصحيحة ، فلا ربط ولا علاقة لها بالنوافل المبحوث عنها في المقام بوجه.

ومن الطائفة الثالثة : موثقة سماعة قال : « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل يأتي المسجد وقد صلى أهله ، أيبتدئ بالمكتوبة أو يتطوع؟ فقال : إن كان في وقت حسن فلا بأس بالتطوع قبل الفريضة ، وإن كان خاف الفوت من أجل ما مضى من الوقت فليبدأ بالفريضة وهو حق الله ، ثم ليتطوع ما شاء إلى أن قال : وليس بمحظور عليه أن يصلي النوافل من أول الوقت إلى قريب من آخر الوقت » (١).

وقد دلت صدراً وذيلاً على جواز الإتيان بالنافلة أدائية كانت أم قضائية بمقتضى الإطلاق بعد الفريضة.

ومقتضى إطلاقها الناشئ من ترك الاستفصال شمول الحكم لما بعد صلاتي الفجر والعصر أيضاً إلى طلوع الشمس أو غروبها.

ومنها : صحيحة حسان بن مهران قال : « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن قضاء النوافل ، قال : ما بين طلوع الشمس إلى غروبها » (٢).

أما السند فصحيح ، فان حساناً هذا هو أخو صفوان بن مهران وقد وثقه النجاشي (٣) ، بل رجحه على أخيه صفوان على ما هو عليه من الجلالة والشأن ، حيث قال : ثقة ثقة أصح من صفوان وأوجه.

كما أن الدلالة ظاهرة ، لتصريحها بتعميم الوقت وتوسعته إلى الغروب الشامل طبعاً لما بعد صلاة العصر.

__________________

(١) الوسائل ٤ : ٢٢٦ / أبواب المواقيت ب ٣٥ ح ١.

(٢) الوسائل ٤ : ٢٤٢ / أبواب المواقيت ب ٣٩ ح ٩.

(٣) رجال النجاشي : ١٤٧ / ٣٨١.

٣٥٩

ومنها : صحيحة الحسين بن أبي العلاء عن أبي عبد الله عليه‌السلام « قال : اقض صلاة النهار أيّ ساعةٍ شئت من ليل أو نهار ، كل ذلك سواء » (١).

فإن الدلالة ظاهرة بل صريحة في التسوية بين جميع الساعات بصيغة العموم ، كما أن السند صحيح ، إذ الحسين بن أبي العلاء وإن لم يصرّح بوثاقته في كتب الرجال ، إلا أنه يستفاد ذلك مضافاً إلى وقوعه في أسناد كامل الزيارات ، مما ذكره النجاشي في ترجمته حيث قال ما لفظه : وأخواه علي وعبد الحميد ... روى الجميع عن أبي عبد الله عليه‌السلام وكان الحسين أوجههم (٢) .. إلخ. وقد صرح في ترجمة عبد الحميد بأنه ثقة (٣) ، فإن الظاهر من الأوجه المذكور بعد قوله : روى الجميع ، هو الأوجهية في مقام الرواية. إذن فيكون توثيق أخيه (٤) عبد الحميد مستلزماً لتوثيقه بطريق أولى.

ومنها : صحيحة جميل بن دراج قال : « سألت أبا الحسن الأول عليه‌السلام عن قضاء صلاة الليل بعد طلوع الفجر إلى طلوع الشمس ، قال : نعم ، وبعد العصر إلى الليل فهو من سرّ آل محمد المخزون » (٥).

والتعبير بالسرّ لعله من أجل استنكار العامة التنفل في هذين الوقتين.

وكيف ما كان فهي صريحة الدلالة ، كما أنها صحيحة السند أو حسنته ، فان المراد بإبراهيم الواقع فيه بقرينة الراوي والمروي عنه هو إبراهيم بن هاشم ، وما في الوسائل من ذكر محمد بن عمر تحريف ، وصوابه محمد بن عمرو ، فإنه الذي يروي عنه إبراهيم ويروي هو عن جميل بن دراج دون الأول.

ومنها : موثقة ابن أبي يعفور قال : « سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول :

__________________

(١) الوسائل ٤ : ٢٤٣ / أبواب المواقيت ب ٣٩ ح ١٣.

(٢) رجال النجاشي : ٥٢ / ١١٧.

(٣) رجال النجاشي : ٢٤٦ / ٦٤٧.

(٤) ولكنه ( طاب ثراه ) ذكر في ترجمته في المعجم ٦ : ٢٠٠ / ٣٢٧٦ أنّه لم يكن أخاه وإنّما هو رجل آخر.

(٥) الوسائل ٤ : ٢٤٣ / أبواب المواقيت ب ٣٩ ح ١٤.

٣٦٠