تعليقة على معالم الاصول - ج ٤

السيّد علي الموسوي القزويني

تعليقة على معالم الاصول - ج ٤

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيد علي العلوي القزويني
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-535-1
الصفحات: ٨٦٤

المتعلّق لا يجدي مع التلازم ، إذ تعلّق النهي باللازم والأمر بالملزوم غير جائز ، ومطلق الكون من لوازم مطلق الخياطة ، والكون في المكان المخصوص من لوازم الخياطة فيه كالكون في الصلاة » ولكنّه لا يقدح في الجواب المذكور الوارد على من زعم كون المثال المذكور من اجتماع الأمر والنهي في محلّ واحد المقتضي للإطاعة والمعصية لجهتي الأمر والنهي.

ومرجع الجواب إلى دعوى خروجه عن موضوع المسألة لعدم اتّحاد المأمور به والمنهيّ عنه في الوجود وباعتبار الخارج.

ولا ريب أنّ الإشكال المذكور لا يدفع ذلك ولا يوجب كون المثال من جزئيّات موضوع المسألة ، لوضوح أنّ المنع من جواز اختلاف المتلازمين في الوجود الخارجي في الحكم بكون الملزوم مأمورا به واللازم منهيّا عنه استنادا إلى لزوم التكليف بما لا يطاق لتعذّر امتثال الأمر بالملزوم والنهي عن اللازم لا ينهض نقضا على من ردّ الاستدلال بالمثال المذكور على جواز اجتماع الأمر والنهي في محلّ واحد بمنع اتّحاد المتعلّق فيه لتعدّد موضوعي الحكمين باعتبار كون أحدهما الملزوم والآخر اللازم.

نعم يتوجّه إلى هذا الجواب أنّه مناقشة في المثال ، فللمستدلّ أن يفرض مثالا يتحد فيه المأمور به والمنهيّ عنه كما فرضه جماعة منهم السيّد صدر الدين ، وهو ما لو أمر السيّد عبده بالمشي في كلّ يوم خمسين خطوة ونهاه عن الدخول في الحرم فمشى الخمسين في الحرم ، فإنّه مطيع للعمل بمقتضى الأمر وعاص لمخالفته النهي.

وحينئذ فلا بدّ في دفع الاستدلال التشبّث بما ذكره المصنّف أخيرا بقوله : « سلّمنا لكن نمنع كونه مطيعا والحال هذه. ودعوى حصول القطع بذلك في حيّز المنع ، حيث لا يعلم إرادة الخياطة كيفما اتّفقت ».

والسرّ في توهّم حصول الإطاعة ما أشار إليه الفاضل التوني من : « أنّ غرض الأمر وفائدة الخياطة حاصلة على أيّ حال اتّفقت الخياطة فيها ، فيشتبه حصول الغرض بحصول الإطاعة » (١)

وتوضيح ذلك : أنّه فرق واضح بين الامتثال والأداء والإسقاط ، فإنّ الأوّل عبارة عن إتيان الفعل المأمور به بقصد الإطاعة والانقياد ويتحقّق ذلك في التعبّديّات والتوصّليّات ، والثاني عبارة عن إتيانه بالمأمور به بوصف أنّه مأمور به وإن لم يكن بقصد الإطاعة والانقياد ويختصّ بالتوصّليّات ، والثالث عبارة عن الإتيان بما يوجب [ حصول ] الغرض

__________________

(١) الوافية : ٩٣.

٥٨١

من المأمور به وإن لم يكن المأتّي [ به ] هو المأمور به أو كان الآتي غير المأمور وهذا أيضا يتحقّق في التوصّليّات ، وقد يكون من إسقاط الأمر انتفاء الموضوع كإلقاء الميّت في البحر أو إحراقه الموجب لسقوط وجوب تغسيله وتكفينه وتدفينه ويجري ذلك في التعبّديّات والتوصّليّات ، ومحلّ الاستدلال بالنسبة إلى الخياطة المأمور بها من باب القسم الأوّل من الإسقاط ، وقد اشتبه ذلك على المستدلّ فزعمه من باب الامتثال أو ما يعمّه والأداء الملازم لحصول المأمور به نفسه مع أنّه ليس من محلّ البحث ، ووجه الاشتباه اشتراك الجميع في استلزام حصول الغرض.

وبالتأمّل فيما ذكر مضافا إلى ما تقدّم في الوجه السابق من منع اتّحاد متعلّقي الأمر والنهي يتّضح الجواب عمّا ذكر في تأكيد الدليل أو تعميمه بعبارة اخرى أوضح.

وأمّا ما سمعته عن الفاضل الباغنوي ، فيدفعه : أنّ التخصيص أو التقييد مع قيام شاهد عقلي أو عرفي عليه بعنوان القطع ممّا لا محيص من التزامه ، فقوله : « لأنّه لم يقيّد أمره بالخياطة بأن لا يكون في الحرم » إن أراد به إنّه لم يصرّح في اللفظ بما يقيّده فهو مسلّم ولكن طريق التقييد لا ينحصر في المقيّد اللفظي ، وإن أراد به ما يعمّ حكم العقل فهو كذب ومكابرة للوجدان ، مع إمكان دعوى التقييد باللفظي لأنّ النهي عن الأخصّ في نظر العرف من قبيل المخصّص المنفصل ، كيف وكون المبغوض في نظر المولى بكشف نهيه عنه ممّا يستحيل عقلا بل عرفا كونه محبوبا ومطلوبا له ، فيكون ذلك ممّا يكشف عن عدم شمول أمره لهذا الفرد المبغوض ، فلا معنى لدعوى أولويّة إبقاء كلّ من الأمر والنهي في مقابلة تخصيص أحدهما ، وما نسب إلى المولى من أنّه يقول : « لكن يحصل ما هو مطلوبي بالأمر » فإن أراد به أنّه يحصل غرضي من المأمور به فهو حقّ لا سترة عليه ولكنّه لا دخل له بمحلّ البحث ، لما عرفت أنّه من باب حصول المسقط المحصّل للغرض وإن لم يحصل معه نفس المأمور به ، وإن أراد به أنّه يحصل متعلّق طلبه الّذي هو المأمور به فهو افتراء على المولى الحكيم لما فيه من مناقضته لمقتضى [ النهي ] وفرض المثال في خطاب غير الحكيم الّذي لا يبالي عن التناقض في كلامه خروج عن موضوع المسألة رأسا إذ لا كلام في خطاب غير الحكيم.

وبذلك يظهر ما في التصريح بقوله : « لأنّ مطلوبي بالأمر خياطة الثوب في مكان مّا أيّ مكان كان » فإنّ هذا الكلام من الحكيم غير صحيح عقلا وعرفا ، فلا معنى لقوله : « ولا يخفى أنّ هذا معنى صحيح غير مخالف للّغة ولا للعقل بل هو مخالف للعقل » والعرف الكاشف

٥٨٢

وعن الثاني : أنّ مفهوم الغصب* (١) ، وإن كان مغايرا لحقيقة الصلاة ، إلاّ أنّ

_______________________________

عن اللغة ، حيث إنّ مقتضى تركيب الكلام لغة طروّ التخصيص بواحد من الأمر أو بقرينة عقليّة أو عرفيّة فالإتيان بما ينافيه يخالف اللغة أيضا.

فإن قلت : إنّا نقطع في جميع الأمثلة المذكورة بأنّ العبد إنّما يستحقّ العقوبة لمخالفته النهي لا الأمر ، حتّى أنّه لو عاقبه المولى على مخالفة الأمر ذمّه العقلاء وهذا شاهد على حصول الإطاعة من جهة الأمر ، ولذا يصحّ للعبد أن يعتذر : « بأنّي إن عصيتك بالكون في المكان المخصوص فقد أدّيت مطلوبك من الأمر ».

قلت : لا ملازمة بين عدم صحّة العقوبة على الترك مع حصول الغرض وبين كونه من جهة حصول عنوان الإطاعة أو أداء المأمور به ، كما أنّه لا ملازمة بين حصول الغرض وكونه مترتّبا على الإطاعة أو أداء المأمور به بوصفه العنواني ، كما هو الحال في تطهير الثوب إذا حصل بغير فعل المكلّف من فعل المكلّف آخر أو غير مكلّف أو أسباب خارجيّة غير اختياريّة ، فإنّه لا يصحّ العقوبة على الترك في هذه الصور أيضا مع أنّه لم يقل أحد بحصول الإطاعة ولا أداء المأمور به.

والسرّ في عدم صحّة العقوبة في ذلك ونظرائه : أنّ الأمر فيها ليس إلاّ توصّليّا قصد به غرض يحصل بغير طريق الإطاعة والأداء ومع حصوله سقط الأمر لئلاّ يفضي بقاؤه إلى طلب الحاصل ، ومع سقوطه يقبح العقوبة على عدم الموافقة ، فدعوى كون عدم صحّتها في المقام من جهة الإطاعة أو حصول أداء المأمور به غير مسموعة.

(١) * واعلم أنّ كثيرا من فقرات العبارة من البداية إلى النهاية عندنا محلّ مناقشة كما يظهر وجهها بالتأمّل في كلماتنا السابقة.

والتحقيق في الجواب ما قرّرناه في تتميم الاستدلال بالوجه الأوّل ، وكذلك الكلام في الجواب عن فقرات كلام بعض الأعلام قد تقدّم ، وقد صار المحصّل : أنّه لا مفرّ لهم عن محذور اجتماع المتضادّين ولا يجديهم في التفصيّ عنه شيء ممّا ارتكبوه من التكلّفات والتمحّلات.

وبقي في المقام مطالب بها يتّضح الجواب عن استدلالهم بطريق النقض.

المطلب الأوّل

في تحقيق الحال في العبادات المكروهة

وهي العبادات الواجبة أو المندوبة الّتي نهي عنها بالنهي التنزيهي وهي على أنواع ، إذ

٥٨٣

الكون الّذي هو جزؤها بعض جزئيّاته ؛ إذ هو ممّا يتحقّق به. فاذا أوجد المكلّف الغصب بهذا الكون ، صار متعلّقا للنهى ، ضرورة أنّ الأحكام إنّما تتعلّق بالكلّيّات باعتبار وجودها [ في ضمن الأفراد ] ، فالفرد الّذي يتحقّق به الكلّيّ هو الّذي يتعلّق به الحكم حقيقة. وهكذا يقال في جهة الصلاة ، فانّ الكون المأمور به فيها وإن كان كلّيّا ، لكنه إنّما يراد باعتبار الوجود. فمتعلّق الأمر في الحقيقة إنّما هو الفرد الّذي يوجد منه ، ولو باعتبار الحصّة التي في ضمنه من الحقيقة الكلّية ، على أبعد الرأيين في وجود الكلّيّ الطبيعيّ.

وكما أنّ الصلاة الكلّيّة تتضمّن كونا كلّيّا ، فكذلك الصلاة الجزئيّة تتضمّن كونا جزئيّا ؛ فاذا اختار المكلّف إيجاد كلّيّ الصلاة بالجزئيّ المعيّن منها ، فقد اختار إيجاد كلّيّ الكون بالجزئى المعيّن منه الحاصل في ضمن الصلاة المعيّنة. وذلك يقتضي تعلّق الأمر به. فيجتمع فيه الأمر والنهي ، وهو شيء واحد قطعا.

فقوله : « وذلك لا يخرجهما عن حقيقتهما ، الخ » ، إن أراد به خروجهما عن الوصف بالصلاة والغصب ، فمسلّم ، ولا يجديه ؛ إذ لا نزاع في اجتماع الجهتين ، وتحقّق الاعتبارين ، وإن أراد أنّهما باقيان على المغايرة والتعدّد بحسب الواقع والحقيقة ، فهو غلط ظاهر ومكابرة محضة ، لا يرتاب فيها ذو مسكة.

وبالجملة فالحكم هنا واضح ، لا يكاد يلتبس على من راجع وجدانه ، ولم يطلق في ميدان الجدال والعصبيّة عنانه.

_______________________________

النهي إمّا يتعلّق بنفس العبادة أو بأمر خارج عنها كالكون في مواضع التهم.

وعلى الأوّل إمّا أن يكون المنهيّ عنه ممّا له بدل كالصلاة في الحمّام أو معاطن الإبل أو غيرها من المواضع المكروهة ، أو يكون ممّا لا بدل له كالتطوّع بالصلاة في الأوقات المكروهة وبالصوم في السفر ، فضابط الفرق بينهما : أنّ الأمر المفروض مع النهي في العبادة إن كان تخييريّا فهي ممّا له بدل وإن كان تعيينيّا فهي ممّا لا بدل له.

واختلفت كلمة الأصحاب في توجيه الكراهة فيها على وجه تسلم عن محذور

٥٨٤

إجتماع المتضادّين وغيره من محاذير اجتماع الأمر والنهي ، نظرا إلى أنّ الأمر فيها إيجابا أو ندبا يقتضي طلب الفعل مع رجحانه على الترك والنهي عنها تنزيها يقتضي طلب الترك مع رجحانه على الفعل والرجحان والمرجوحيّة متضادّان ، فالمجوّزون لاجتماع الأمر والنهي استراحوا فيها بما صاروا إليه في أصل المسألة من اعتبار تعدّد الجهة الموجب في زعمهم لتعدّد متعلّقي الحكمين.

قال السيّد الفاضل الشارح للوافية : « وإذا أمرنا بالصلاة مطلقا من غير تقييد ونهانا عن إيقاعها في الحمّام ، فعلى القول المنصور وهو أنّ الأمر يتعلّق بإيجاد الطبيعة فالظاهر جواز الصلاة وعدم مانع لاجتماع الوجوب والكراهة ـ بالمعنى المصطلح ـ لأنّ تعدّد المتعلّق ظاهر ، إذ متعلّق الأمر نفس الحقيقة الّتي يمكن وجودها في غير الحمّام ، والمنهيّ عنه الّذي اختاره المكلّف هو الإيقاع في الحمّام من حيث هو كذلك ، فمتعلّق الكراهة في الحقيقة هو الوصف أعني الهيئة العارضة للفعل باعتبار كون فاعله في هذا المكان ، على أنّه لا مانع من اتّصاف ذات الفعل من حيث هي هي بالوجوب واتّصافها مع الوصف بالكراهة ، وقوله : « لا تصلّ في الحمّام » نهي عن الفعل المقيّد أو عن القيد لا عن ذات الفعل في الحمّام.

ودعوى : أنّ العبادة يجب أن تقع راجحة من جميع الجهات وأن لا يكون فيها جهة مرجوحيّة ولو كانت قائمة بوصف عارض لها ، دعوى لا شاهد عليها. ولا احتياج لتصحيح العبادة إلى ارتكاب أنّ الكراهة ليست بمعناها المصطلح عليه بل بمعنى قلّة الثواب ، إذ لا مانع من أن يستحقّ المكلّف الثواب الكامل الّذي يكون عوضا عن إيقاع الصلاة ويستحقّ أيضا الشيء الّذي يستحقّه من يفعل المكروه ».

ثمّ أورد على نفسه بأنّه : « ما تقول في عبادة نهى عنها الشارع نهي تنزيه؟ وهي مستلزمة لوصف مرجوح لا ينفكّ عنها كالصلاة في الأوقات المكروهة تطوّعا ، والصيام في السفر كذلك ، لأنّ هذه الصلاة لا يمكن وقوعها في غير هذا الوقت وكذا الصيام ، لأنّ كلّ وقت يصحّ فيه التطوّع فهو وظيفته المختصّة به ولا يسع أن يقع فيه غيره ، وكذا الأوقات الحضريّة للصيام يكون صيامها وظيفتها لا تسع غيره ، فكيف تكون مثل هذه العبادة مع كونها عبادة متّصفة بالكراهة؟ إذ كونها عبادة يقتضي تعلّق الطلب به وكونه ملزوما لهذا الوصف يقتضي طلب تركها ولا يجوز للشارع العالم بالاستلزام أن يتعلّق طلبه بفعل مثل هذا الأمر وليس هناك حقيقة مأمور بها واخرى منهيّ عنها مع جواز الانفكاك بينهما ».

٥٨٥

فأجاب عنه بأنّه : « لا مانع عقلا من أن يترتّب على ماهيّة من حيث هي مصلحة لا تنفكّ عن فعلها في جميع الأوقات والأحوال ويفوت بتركها من حيث هو تركها ، وتترتّب على ما يلازمها من الأوصاف الحقيقيّة أو الإضافيّة مفسدة تفوت بتركه من حيث هو تركه ، فربّما كانت تلك المفسدة شرّا كثيرا بالنسبة إلى تلك المصلحة ولكنّها لا تبلغ حدّا يقتضي تحريم الفعل وقطع النظر عن المصلحة بالمرّة فلهذا نهى الشارع عنها تنزيها ، وفي الحقيقة تعلّق النهي بالوصف ولكنّه لمّا كان ترك الوصف تبعا لترك الموصوف يتراءى أنّ المطلوب ترك الموصوف.

ويظهر التبعيّة من قولنا : « ترك الصوم فلم يقع في السفر ، وترك الصلاة فلم يقع في الوقت المكروه ».

فظهر أنّ الراجح المثاب عليه هو فعل العبادة من حيث هو فعلها ويلزمه مرجوح وهو وقوع الوصف ، والمرجوح ترك العبادة من حيث هو ولا ثواب عليه ويلزمه راجح وعليه الثواب ، فالعبادة مندوبة مستلزمة لمكروه يكون وجوده تابعا لفعلها » انتهى.

فقد ظهر منه أنّه رحمه‌الله لا يفرّق في الحكم بالصحّة مع الكراهة المصطلحة بين ما له بدل من العبادات وما لا بدل له ، لزعمه تعدّد متعلّق الحكمين باعتبار ذات الموصوف ووصفها.

ومن الأعلام (١) من وافقه في هذا التكلّف مع مصيره إلى عدم الفرق أيضا ، غير أنّه فصّل فيما لا بدل له فجعل الأظهر في صيام السفر الكراهة وفي التطوّع في الأوقات المكروهة عدمها ، بعد ما أطلق في سابق كلامه في القول بترجيح جانب الكراهة وتغليبها على جانب الرجحان تعليلا بعدم خروج النهي خاليا عن الفائدة.

وستسمع ما في أصل التكلّف الّذي ارتكبه مع السيّد المذكور من الوهن والفساد ، مع إمكان المناقشة في تفصيله المذكور بكونه تحكّما وفرقا بلا فارق يعتمد عليه ، لأنّ المحافظة على النهي عن خروجه عن الفائدة في صيام السفر إن صلح وجها لترجيح الكراهة لجرى ذلك في التطوّع في الأوقات المكروهة أيضا ، والاعتذار عنه : بأنّ النهي هاهنا بعد ارتكاب التأويل فيه بالحمل على قلّة الثواب مثلا لا يخرج عن الفائدة ، يدفعه : المعارضة بإمكان هذا التأويل في نهي الصيام في السفر.

لا يقال : إنّ التزام التأويل هنا إنّما هو لقيام دليل من الخارج من إجماع ونحوه على صحّة التطوّع في الأوقات المكروهة مع فرض ورود هذا النهي ، بخلاف صيام السفر

__________________

(١) القوانين ١ : ١٤٥.

٥٨٦

فلا داعي إلى ارتكاب التأويل في نهيه ، لأنّه قدس‌سره ـ على ما يعطيه التدبّر في كلماته ـ قائل بالصحّة في كلا المقامين كما ربّما يساعد عليه أيضا أصله من جواز اجتماع الأمر والنهي حتّى الاستحباب والكراهة.

وأمّا أهل القول بعدم جواز الاجتماع فهم بين من حكم ببطلان العبادة رأسا صونا لها عن محذور اجتماع المتضادّين ونحوه ، وبين من التزم بالصحّة مع ارتكاب تأويل في وصف الكراهة المتعلّقة بها بأحد الوجوه المذكورة في الباب ، وإنّما دعاهم إلى ذلك ما وجدوه من الدليل الخاصّ على الصحّة من إجماع ونحوه مع وجود النهي ، ولك أن تجعلهما فريقا واحدا إذ لا مجال لأحد إلى إنكار الصحّة مع مساعدة الدليل عليها.

ولذا يظهر من الفاضل التوني الفرق في الصحّة والبطلان المنوط بمساعدة دليل عليها وعدمها بعد ما صرّح بامتناع الكراهة بمعناها المعروف في كلّ ممّا له بدل وما لا بدل له ، حيث قال :

« الرابعة : أن يتعلّق الأمر الإيجابي الحتمي والنهي التنزيهيّ بأمر واحد شخصي وهذا أيضا غير جائز لما مرّ.

الخامسة : أن يتعلّق الأمر الإيجابي التخييريّ والنهي التنزيهيّ بأمر واحد شخصيّ كالصلاة في الحمّام ونحوه من الأماكن المكروهة ، وهذا أيضا ممتنع إذا كان المكروه بمعناه المعروف وهو راجحيّة الترك ، فما تعلّق به هذا النهي من العبادات فالظاهر بطلانه ما لم يدلّ دليل على صحّته ، وما دلّ الدليل على صحّته يجب حمل الكراهة فيه على غير معناها الحقيقي ، فلهذا اشتهر أنّ متعلق الكراهة ليس نفس العبادة بل أمر آخر كالتعرّض للنجاسة أو لكشف العورة أو نحو ذلك في كراهة الصلاة في الحمّام فاختلف المتعلّق ، ويقولون : إنّ الحرمة غالبا يتعلّق بالذات والكراهة بالوصف ، وهذا خلاف النصوص الدالّة على تعلّق الكراهة بنفس الفعل مثل « لا تصلّ في الحمّام » ونحوه.

والحقّ : هو ما اشتهر من أنّ الكراهة في العبادات بمعنى كونها أقلّ ثوابا بنسبة خاصّة » (١). وأورد عليه السيّد الشارح : « بأنّه لا يدفع الإشكال ، لأنّ ما هو أقلّ ثوابا يكون مطلوب الترك للنهي عنه كما هو المفروض ، فيلزم طلب الفعل الواحد الشخصي وطلب تركه وهذا تكليف بالمحال ، واجتماع الرجحان والمرجوحيّة وهو اجتماع الضدّين » وتبعه في هذا الإيراد بعض الأعلام.

__________________

(١) الوافية : ٩٤.

٥٨٧

وأنت خبير بأنّ هذا غفلة عن فهم مراده من ارتكاب هذا التوجيه ، فإنّ غرضه هنالك إرجاع التأويل إلى النهي المفروض بصرفه عن معنى الطلب إلى حمله على الإرشاد وهو مجرّد بيان قلّة الثواب ، وهذا معنى آخر من معاني الصيغة أمرا ونهيا فيكون النهي المحمول على الإرشاد إلى أقلّيّة الثواب كالأمر الإرشادي لمجرّد بيان الواقع خاليا عن الطلب ، فالإيراد عليه بنحو ما ذكر ليس على ما ينبغي.

وأمّا شبهة اجتماع الضدّين فسيأتي ما يدفعها.

ثمّ إنّ للسيّد كلاما طارفا (١) أورده على القول بالبطلان الّذي صرّح به الفاضل المتقدّم ذكره ومن وافقه فيما لا دليل على صحّته وهو : « أنّ تعلّق النهي التنزيهي حقيقة بالعبادة مع القول ببطلانها ممّا لا معنى له ، لأنّ من قال بالبطلان إنّما قال به هربا من التكليف بالمحال واجتماع الرجحان والمرجوحيّة في فعل شخص واحد وفي تركه أيضا ، والقول بتعلّق النهي التنزيهيّ بها مستلزم للعود إلى المهروب عنه ، لأنّ معنى هذا النهي رجحان الترك مع جواز الفعل شرعا وعدم العقاب عليه ، وحينئذ ينتظم قياس هكذا : هذا الّذي نهي عنه تنزيها عبادة جائزة شرعا ـ أمّا كونه عبادة فللفرض وأمّا كونها جائزة فلكون النهي عنه تنزيها ـ وكلّ عبادة جائزة إمّا أن يثاب على فعلها ويعاقب على تركها ، أو يثاب على فعلها ولا يعاقب على تركها ، فهي إمّا واجبة أو مندوبة ، فتكون مطلوب الفعل والترك وراجحة ومرجوحة ، والقول بأنّها لا يثاب عليها قول بعدم كونها عبادة بل بدعة محرّمة » إلى آخره.

وهذا الكلام كما ترى وارد على سبيل المغالطة مبنيّ على الغفلة عن حقيقة الحال لتطرّق المنع إلى صغرى القياس ، فإنّ الجواز في كلّ شيء إنّما يعتبر على حسبما يقتضيه المقتضي للجواز فيه وهو في العبادات مشروط بورود أمر بها إيجابا أو ندبا ، والنهي التنزيهيّ إنّما يقتضي الجواز في متعلّقه إذا لم ينشأ منه ما يرفع المقتضي للجواز من لزوم التكليف بالمحال أو اجتماع المتضادّين أو غيره من المحاذير ، وهو في العبادات في زعم القائلين بالبطلان مستلزم لهذه المحاذير ، فعدم الجواز حينئذ ليس من مقتضى هذا النهي من حيث إنّه هذا النهي حتّى يقال : بأنّه تنزيهي لا ينافي الجواز بل هو مقتض له ، بل هو من مقتضى انتفاء المقتضي للجواز المستند إلى المحاذير الناشئة من النهي على تقدير بقاء ذلك المقتضي من الأمر الإيجابي أو الندبي ، وظاهر أنّ العبادة حيثما ارتفع عنها الأمر بكلا

__________________

(١) في التحرير الأوّل من التعليقة : « لطيفا » بدل « طارفا ».

٥٨٨

قسميه لا تكون جائزة ، لاندراجها حينئذ في التشريع القبيح والبدعة المحرّمة فتبطل ، وهذا هو معنى منع الصغرى المنتج للبطلان.

والعمدة في دفع القول بالبطلان منع إطلاق ما زعموه من استلزام النهي التنزيهي لما لا يمكن معه بقاء الأمر بالعبادة مطلقا حتّى فيما له بدل كما لو كان الأمر تخييريّا ، بأن يقال : إنّ ما زعمتم لزومه من النهي من جهة هذا النهي إمّا أن يكون هو التكليف بالمحال بدعوى تعذّر امتثال الأمر التخييري والنهي التنزيهي المذكورين من جهة تعذّر الجمع بين فعل العبادة وتركها ، أو يكون هو اجتماع المتضادّين نظرا إلى أنّ الأمر إذا كان إيجابيّا يقتضي باعتبار فصله المنع من الترك والنهي التنزيهي باعتبار جنسه يقتضي الإذن في الترك وهما ضدّان أو نقيضان يستحيل اجتماعهما في محلّ واحد ، أو يكون هو اتّصاف شيء واحد بوصفين متضادّين التفاتا إلى أنّ الأمر يقتضي رجحان الفعل المستلزم لمرجوحيّة الترك والنهي التنزيهي يستلزم رجحان الترك المستلزم لمرجوحيّة الفعل فيلزم بتواردهما على عبادة كون كلّ من فعلها وتركها راجحا ومرجوحا ، فيجب القول بارتفاع الأمر دفعا لهذه المحاذير ، والكلّ محلّ منع.

أمّا الأوّل : فلأنّ تكليف المحال بمعنى تعذّر الامتثال معناه تعذّر العمل بمقتضى الأمر والنهي معا وهو هنا غير متعذّر ، لأنّ الأمر إذا كان تخييريّا كما في الصلاة في الحمّام فمقتضاه جواز تركها إلى بدل ـ أي على تقدير الإتيان بها في غير الحمّام ـ والنهي التنزيهي عنها أيضا يقتضي جواز تركها فالعمل بمقتضاهما ممكن.

وأمّا الثاني : فلأنّ مقتضى الأمر على ما عرفت جواز الترك إلى بدل ومقتضى النهي التنزيهي أيضا جواز الترك وهما متوافقان لا أنّهما متنافيان.

وأمّا الثالث : فلإمكان رفع المضادّة عمّا بين الرجحان والمرجوحيّة بجعلهما من الصفات الإضافيّة الّتي يمكن اجتماع متقابلاتها عند تعدّد جهة الإضافة كالفوقيّة والتحتيّة لسقف البيت والكثرة والقلّة للعشرة بالإضافة إلى السماء وأرض البيت أو إلى ما تحت العشرة من الآحاد وما فوقها من الأعداد من غير تناف ولا تضادّ ، فإذا أمر الشارع بكلّي له أفراد إيجابا أو ندبا كشف ذلك الأمر عن رجحان فعله على تركه المطلق الّذي لا يتحقّق إلاّ بترك جميع أفراده ، ثمّ إذا نهي عن بعض أفراده فإن كان ذلك نهي تحريم كشف عن وجود مفسدة فيه ناشئة عمّا فيه من الخصوصيّة موجبة فيه لمرجوحيّة متأكّدة فائقة على

٥٨٩

رجحانه من جهة الحصّة من الماهيّة الموجودة فيه ، كما في نهي الحائض عن الصلاة أو نهي الصلاة في الدار المغصوبة ، فحينئذ لا إشكال في امتناع الصحّة على ما يأتي تحقيقه في البحث الآتي.

وإن كان نهي تنزيه كأمثلة المقام كشف عن مرجوحيّة فيه أيضا ناشئة عن الخصوصيّة غير بالغة حدّ المنع من الفعل لكن لا بالقياس إلى تركه المطلق بل بالقياس إلى الأفراد الاخر الخالية عن هذه الخصوصيّة ، فإيقاع الفعل في ضمن هذا الفرد المرجوح راجح بالإضافة إلى تركه المطلق ومرجوح بالإضافة إلى إيقاعاته الاخر لما فيها من مزيّة الرجحان أو عدم المنقصة الموجودة فيه ، فيكون تركه مرجوحا بالإضافة إليه وراجحا بالإضافة إلى تروكه الاخر اللاحقة لسائر إيقاعاته ، وظاهر أنّه لا امتناع في شيء من ذلك ، فلا داعي إذن إلى الحكم ببطلان العبادة لشبهة لزوم اتّصاف الفعل والترك بالرجحان والمرجوحيّة ، ولا إلى صرف النهي عن معنى الكراهة المصطلحة ، ولا إلى صرفه عن العبادة إلى ما هو خارج منها من الصفات المقارنة لها.

فإن قلت : بناء على ما اعترفت به من كشف النهي التنزيهي عن منقصة أوجبتها الخصوصيّة يلزم خروج الفعل باعتبار تلك الخصوصيّة عن وصف الوجوب ، لمصادمة هذه المنقصة رجحانه الذاتي الباعث فيه على الأمر الإيجابي الباعثة على ضعف هذا الرجحان فيصير قاصرا عن اقتضاء الوجوب ، وحينئذ فإمّا أن يقال : باتّصافه بالاستحباب أو بقائه بلا مقتضي للامتثال من أمر إيجاب أو ندب ، والأوّل باطل بالضرورة من جهة أنّ فرض الظهر مثلا لا يلحقه الاستحباب ، فتعيّن الثاني وهو المراد من بطلان العبادة.

قلت : كأنّك غافل عن تفاوت مراتب الرجحان واختلافها في الشدّة والضعف وكونه ممّا يتضاعف تارة ويتناقص اخرى ، كيف ولو لا ذلك لما حصل الفرق بين الواجبات والمندوبات ولا في الواجبات بين الأهمّ وغيره ، وما ذكرته إنّما يتّجه إذا علم بكون رجحان الفعل الباعث على إيجابه في أوّل مراتبه ، وأيّ سبيل إلى هذا العلم؟ ومع عدمه يجب العمل بالأدلّة المتلاحقة بقدر الإمكان ، ومفروض المقام من موارد الإمكان لعدم ثبوت منافاة بين الأمر الإيجابي التخييري والنهي التنزيهي هنا ، حيث إنّ الأمر كشف عن رجحان في الفعل والنهي عن مرجوحيّة اضافيّة وقضيّة العمل بهما الإذعان في الفعل ببقاء ما يكفي من رجحانه في انعقاد الوجوب ، وإلاّ كان اللازم ورود النهي تحريما حذرا عن الإغراء بالجهل.

٥٩٠

فإن قلت : لو كان اجتماع الرجحان والمرجوحيّة بالإضافة في شيء واحد كافيا في انعقاد الكراهة مع الوجوب أو الندب كانت الصلاة في البيت أيضا مكروهة ، بل يلزم ذلك فيما عدا الصلاة في المسجد الحرام ، لكون كلّ راجحا بالقياس إلى تركه المطلق ومرجوحا بالاضافة إلى فعل غيره ، وهذا مع بطلانه في نفسه وعدم قائل به لا يلائمه اختصاص النهي التنزيهي بما عدا هذه الأفراد وعدم وروده فيها.

قلت : العبادة إنّما يحكم عليها بالكراهة إذا استند مرجوحيّتها من جهة الخصوصيّة إلى منقصة ناشئة عن تلك الخصوصيّة بالقياس إلى أصل الماهيّة لا إلى عدم مزيّة في رجحانها من جهة فقد ما يوجب فيها تلك المزيّة ، فمكروه العبادة ما نقص رجحانه عن رجحان أصل الماهيّة لعروض مانع عن الكمال لا مطلقا.

وتوضيحه : أنّ نقصان الرجحان في الفرد قد يستند إلى فقد المقتضي للزيادة وقد يستند إلى وجود المانع عن اقتضاء المقتضي لكمال الرجحان ، كما أنّ زيادة الرجحان في الفرد قد يستند إلى وجود المقتضي للزيادة وقد يستند إلى فقد المانع عنها ، والباعث على الكراهة ليس مجرّد النقص ولو من جهة فقد ما يقتضي الزيادة ، بل النقص الحاصل بالعرض لأجل وجود مانع عن اقتضاء المقتضي وهو الطبيعة كمال مقتضاه ، فالكون في الحمّام نحو خصوصيّة إذا طرأت الماهيّة توجب نقصا في رجحانها فتكون مانعة عن اقتضائها ، كما أنّ الكون في المسجد نحو خصوصيّة إذا عرضت الماهيّة توجب زيادة في رجحانها فتكون مقتضية للزيادة بخلاف الكون في البيت فإنّه نحو خصوصيّة إذا لحقت الماهيّة لا توجب نقصا في رجحانها ولا زيادة فيه ، فلا تكون من قبيل المانع ولا المقتضي ، فنقص الصلاة في البيت بالإضافة إلى الصلاة في المسجد لم يحصل بواسطة وجود المانع الموجب للمنقصة لتكون مكروهة بل بواسطة فقد ما يوجب الزيادة ، فالصلاة في الحمّام على هذه القاعدة مكروهة وفي البيت مباحة وفي المسجد مندوبة ، وسبب النقص في الحمّام وجود المانع عن اقتضاء المقتضي ، وسبب النقص بالنسبة والزيادة بنسبة اخرى في البيت فقد المقتضي للزيادة وفقد المانع عن اقتضاء الماهيّة ، وسبب الزيادة في المسجد وجود المقتضي للزيادة ، والداعي إلى هذا الاختلاف بين هذه الأفراد ظواهر الأدلّة الحاكمة في بعضها بالاستحباب وفي البعض الآخر بالكراهة ، فيبقى ما لا دليل منها على استحبابه ولا على كراهته على رجحان أصل الماهيّة ، من غير زيادة ونقيصة هذا.

٥٩١

ولكنّ الإنصاف أنّ لزوم التكليف بما لا يطاق باجتماع الوجوب والكراهة بل الندب والكراهة وكذلك اجتماع المتضادّين في اجتماع الأوّلين ممّا لا مجال لأحد إلى إنكاره.

وما تقدّم من منع الملازمة فيهما معا خلاف التحقيق لفساد وضع سند المنع.

أمّا في الأوّل : فلأنّ محذور المقام في نظر القائلين بالبطلان إنّما هو لزوم التكليف بغير المقدور في مادّة اجتماع الحكمين لا في مادّة افتراقهما ، كما هو الحال في أصل المسألة بالقياس إلى الصلاة والغصب ونظائرهما ، وإلاّ فلا كلام لأحد في إمكان العمل بمقتضى الأمر التخييري والنهي التنزيهي في مادّة افتراقهما لحصول امتثالهما معا ، وهذا لا يجدي نفعا في جواز اجتماعهما وإلاّ لتوجّه إليه النقض بمثل الصلاة والغصب.

ولا ريب في تعذّر امتثال التكليفين في محلّ الاجتماع كالصلاة في الحمّام ونحوها ، فإنّ الأمر ولو تخييريّا أو ندبيّا يقتضي الامتثال بفعلها والنهي التنزيهي يقتضي الامتثال بتركها والجمع بينهما في آن واحد غير مقدور ، فيلزم من اجتماعهما مع بقاء الكراهة على معناها المعروف التكليف بغير المقدور.

وأمّا في الثاني فأوّلا : لأنّ مفاد الوجوب التخييري ينحلّ إلى قضيّتين : المنع عن ترك الصلاة في الحمّام وغيره على تقدير عدم الإتيان بها في غير الحمّام ، والإذن في تركها في الحمّام وغيره على تقدير الإتيان بها في غير الحمّام ، والنهي التنزيهي المتضمّن لطلب الترك يقتضي الإذن في تركها فيه على كلا التقديرين ، فهو وإن كان لا ينافي الأمر التخييري في القضيّة الثانية من مفاده ولكنّه ينافيه في القضيّة الاولى منه فهما ضدّان من هذه الجهة ، ولا يمكن تعرية الأمر عن أحد جزئي مفاده وهو القضيّة الاولى ، كما لا يمكن تعرية النهي عن الإذن في الترك في أحد التقديرين وهو تقدير الإتيان بالعبادة في ضمن غير المنهيّ عنه لأنّه خلاف مقتضاه.

وثانيا : لأنّ الأمر حسبما قرّرناه سابقا من تعلّق الأحكام بإيجاد الطبائع المجرّدة الغير المقيّدة بالوجود معيّنا وغير معيّن ولا غيره من التشخّصات اللازمة للوجود إنّما يتعلّق بإيجاد الماهيّة المطلقة ، فتكون الماهيّة المطلقة مطلوبا إيجادها وممنوعا عدم إيجادها ، والّذي يجوز تركه إلى بدل هو إيجاد تلك الماهيّة مقيّدة ببعض التشخّصات اللاحق بها باعتبار وقوعها في المكان المكروه كالحمّام أو المعاطن أو البطائح ، والإيجاد الّذي يضاف إلى الماهيّة في ذلك المكان مع قطع النظر عن هذه الإضافة إيجاد للماهيّة المطلقة الّتي

٥٩٢

تعلّق الأمر بها وإنّما تصير مقيّدة إن اخذت بقيد هذه الإضافة وبشرط تلك الخصوصيّة ، ولا ريب أنّه إيجاد واحد يلحقه إضافتان باعتبار الإطلاق والتقييد ، وهو مع قطع النظر عن الخصوصيّة الناشئة عن الإضافة إلى المكان إمّا أن يحصل بوصف الوجوب المتعلّق بالماهيّة المطلقة أو بوصف الكراهة أو بوصفيهما.

فإن قلت بالأوّل اتّجه عدم الكراهة بمعناها المعروف.

وإن قلت بالثاني اتّجه البطلان.

وإن قلت بالثالث اتّجه محذور اجتماع المتضادّين ، ضرورة أنّ الماهيّة المطلقة كانت ممنوعا تركها وقد صارت بالكراهة مأذونة في تركها.

لا يقال : هذا إنّما يتّجه لو قلنا بتعلّق الكراهة بالماهيّة المطلقة وهو خلاف الفرض لتعلّقها بإيجاد الماهيّة المقيّدة ، والّذي لا يجوز تركه هو إيجاد الماهيّة المطلقة ، ولا ريب أنّ إيجاد الماهيّة المطلقة وإيجاد الماهية المقيّدة موضوعان متغايران لا مانع من توارد الحكمين المتنافيين عليهما.

لأنّ هذا تغاير بينهما عند العقل ولا عبرة به ، لأنّ الحكم لا يتعلّق بما عند العقل بل بالإيجاد باعتبار الخارج وهو باعتباري الإطلاق والتقييد واحد لا يتعدّد بتعدّد الإضافة ، والإيجاد الواحد لا يقبل توارد المتنافيين عليه ، واعتبار التغاير نظرا إلى تعدّد الإضافة لا يوجب التغاير الواقعي كما أنّ التعدّد الذهني لا يوجب التعدّد الخارجي.

وبالتأمّل فيما قرّرناه يعلم أنّ اعتبار التعدّد بالنظر إلى الذات والوصف حسبما تقدّم في كلام شارح الوافية أيضا غير مجد ، لأنّ الوصف في الصلاة الواقعة في الحمّام مثلا لا يوجد بإيجاد آخر ممتاز عن إيجاد الذات بل الإيجاد المضاف إليهما واحد والموجود أيضا واحد.

غاية الأمر أنّ هذا الموجود الواحد ينحلّ عند العقل إلى ذات وهي الصلاة ووصف وهو وقوعها في الحمّام ، وهذا لا يصحّح تعلّق الوجوب بالذات والكراهة بالوصف ، لما ذكرناه مرارا من تعلّق الأحكام بإيجادات الطبائع مطلقة ومقيّدة كما صرّح هو به أيضا في أوّل [ كلامه ] وجعله القول المنصور ، وعلى هذا فبين كلامه هذا وسائر كلماته تهافت واضح.

ثمّ ينبغي التكلّم في تحقيق أحكام الأقسام الثلاث المتقدّمة للعبادات المكروهة من حيث إمكان تصحيحها مع بقاء الكراهة على معناها المصطلح عليه وعدمه ، ثمّ التعرّض لبيان ما ذكروه من توجيهات الكراهة حيث لا يمكن بقاؤها على معناها مع الصحّة ، فنقول :

٥٩٣

أمّا القسم الأوّل : وهو ما له بدل ممّا تعلّق النهي التنزيهيّ بنفس العبادة ، فقد عرفت من مطاوي الكلمات السابقة أنّ منشأ الإشكال في الصحّة مع بقاء الكراهة في الصلاة في الحمّام مثلا إمّا لزوم التكليف بغير المقدور من توارد الأمر التخييري والنهي التنزيهي على الصلاة المذكورة ، أو لزوم اجتماع المتضادّين في محلّ واحد ، أو لزوم اتّصاف الشيء الواحد بالرجحان والمرجوحيّة.

وطريق التفصّي عن الإشكال إمّا منع التوارد ، أو منع الملازمة ، أو منع بطلان اللازم ، وهذا الطريق الأخير وإن أمكن إجراؤه بالنسبة إلى الأخير بالتقريب المتقدّم من جواز اجتماع المرجوحيّة الإضافيّة مع الرجحان الذاتي في العبادة ، إلاّ أنّه لا سبيل إليه بالنسبة إلى الأوّلين بعد تسليم التوارد وتسليم الملازمة ، لأنّ استحالة اجتماع المتضادّين في محلّ واحد عقليّة ، وكذلك قبح التكليف بما لا يطاق عند القائلين بالتحسين والتقبيح العقليّين ، وكذلك الطريق الثاني أيضا بعد تسليم التوارد ممّا لا سبيل إليه كما بيّنّاه سابقا.

وأمّا الطريق الثالث ـ وهو منع التوارد ـ فالظاهر إمكانه بمنع ورود الأمر التخييري بهذه العبادة واجتماعه فيها مع الكراهة المصطلحة مع عدم لزوم البطلان من انتفاء الأمر مطلقا ، وسند المنع يعلم بمراجعة ما قرّرناه في بحث الضدّ عند دفع مقالة الشيخ البهائي من أنّ الأمر بالشيء يقتضي عدم الأمر بالضدّ الموسّع فيبطل إذا كان عبادة من هذه الجهة.

ومحصّل ما قرّرناه ثمّة هو : أنّ عدم الأمر بما يضادّ المأمور به المضيّق من أفراد الضدّ الموسّع وهو الكلّي المأمور به مسلّم ، لأنّ الأمر بالطبيعة الكلّية كالصلاة لا بأفرادها الّتي منها ما يضادّ المأمور به المضيّق كإزالة النجاسة عن المسجد ، فعدم الأمر بهذا الفرد مسلّم ولكنّ البطلان غير مسلّم ، لأنّ صحّة العبادة بمعنى موافقة الأمر أعمّ من الإتيان بنفس المأمور به كما إذا [ كان ] جزئيّا ، والإتيان بما ينطبق على المأمور به الكلّي كما إذا كان فردا من الطبيعة المأمور بها ، بل المدار في صحّة جميع العبادات على القول بتعلّق الأوامر بالطبائع المطلقة بسبب الإتيان بما هو من أفراد الطبيعة إنّما هو الانطباق ، فإنّ الفرد لاشتماله على الحصّة من الطبيعة المأمور بها منطبق عليها وهذا كاف في الصحّة بمعنى موافقة [ الأمر ] بناء على أنّ المراد بها حينئذ موافقة المأتيّ به للمأمور به الكلّي.

وبمثل ذلك يقال فيما نحن فيه أيضا ، فإنّ الصلاة في الحمّام من [ حيث ] إنّها هذا الفرد الخاصّ من طبيعة الصلاة المأمور بها من حيث هي لا تكون موردا للأمر حتّى التخييري

٥٩٤

منه ولكنّ الإتيان به مع ذلك يفيد الصحّة لمجرّد الانطباق المذكور ، ولا يقدح فيه النهي التنزيهي المتعلّق بها وإن حملناه على الكراهة المصطلحة.

وما تقدّم في تتميم الدليل المختار على منع اجتماع الأمر والنهي من إثبات التخييري بالقياس إلى أفراد الماهيّة المأمور بإيجادها أو بالقياس [ إلى ] الإيجاد الخاصّة المندرجة تحت الإيجاد الكلّي للماهيّة المطلقة ، يمكن منعه بأنّه ممّا لا شاهد عليه من عقل ولا شرع ولا عرف ، بل الّذي يستتبعه الأمر التعييني بإيجاد الماهيّة على حسبما في ضمير الآمر إنّما هو تجويز الإتيان بكلّ فرد منها على البدل ، نظرا إلى أنّ امتثال الأمر بالماهيّة لا يتأتّى إلاّ بإتيان الفرد ولا مرجّح لبعض الأفراد على البعض الآخر ، فاللازم للأمر التعييني بإيجاد الماهيّة على الوجه الكلّي هو هذا التجويز بمعنى الترخيص المعرّى عن الطلب ، وهو الّذي يدركه العقل من باب دلالة الإشارة لا غير ، وهو المراد من التخييري العقلي.

وما تقدّم أيضا من أنّ المنعقد في ضمير الآمر طلب واحد إلاّ أنّه بالاضافة إلى إيجاد الماهيّة تعييني وبالإضافة إلى إيجاداتها الخاصّة تخييري.

يدفعه : أنّ هذا الاعتبار لا يجدي نفعا في انعقاد الأمر بالقياس إلى الأفراد الّتي منها هذا الفرد الخاصّ الّذي هو مورد النهي التنزيهيّ ، لأنّ الإضافة الثانية ممّا تعتبر عند العقل على سبيل الإسناد العقلي المجازي ، ولا عبرة به في إثبات الوجوب التخييري زائدا على الوجوب التعييني بالقياس إلى أصل الماهيّة.

وإذا كان اللازم من الأمر بإيجاد الماهيّة هو تجويز الإتيان بهذا الفرد الخاصّ فمقتضى النهي التنزيهي المتعلّق به أيضا هو تجويز الإتيان به أيضا فهما لا يتنافيان ، فلم يجتمع الوجوب التخييري مع الكراهة المصطلحة في الصلاة في الحمّام ونظائره من الأمكنة المكروهة ، وحينئذ فإن اختار المكلّف الإتيان بما عدا هذا الفرد المكروه امتثل التكليفين ، أمّا الأمر فلأنّه أتى بما ينطبق على الماهيّة المأمور بها وأمّا النهي فلأنّه ترك المنهيّ عنه ، وإن اختار هذا الفرد المكروه امتثل أحد التكليفين وهو الأمر بالماهيّة لإتيانه بما ينطبق عليها وخالف التكليف الآخر لإتيانه بالمنهيّ عنه.

غاية الأمر أنّه فعل مكروها وحصل به امتثال الأمر بالماهيّة لمجرّد الانطباق المذكور من غير أن يكون ذلك المكروه بنفسه مأمورا به حتّى الأمر التخييريّ ، وهو المراد من إمكان تصحيح العبادات المكروهة ممّا له بدل مع بقاء الكراهة على معناها المعروف.

٥٩٥

فعلم بما قرّرناه أنّه لا حاجة في هذا القسم إلى صرف النهي التنزيهيّ عن ظاهره ، ولا إلى توجيه الكراهة بأحد الوجوه الآتية.

ولا يذهب عليك أنّه لا يجري البيان المذكور في منع استلزام الأمر التعيينيّ بالماهيّة للوجوب التخييريّ في أفرادها في الصلاة والغصب وغيرهما من أمثلة أصل المسألة ، لأنّ التجويز اللازم من الأمر بالماهيّة من حيث [ هي ] في مورد الاجتماع يناقض المنع منه الّذي كان يقتضيه النهي التحريمي باعتبار التكرار في ذلك النهي ، فيلزم كلّ من اجتماع المتنافيين في محلّ واحد والتكليف بما لا يطاق.

أمّا الأوّل : فواضح.

وأمّا الثاني : فلأنّ المنع المذكور بالنسبة إلى الفرد الخاصّ مانع شرعي عن الإتيان به بعنوان أنّه إتيان بما ينطبق على الماهيّة المأمور بها ، فحينئذ لا بدّ من إرجاع المورد إلى باب التراجيح المقتضي لأحد الأمرين من ترجيح إطلاق النهي على الأمر فيخصّص الماهيّة المأمور بها بما عدا ذلك الفرد ، أو ترجيح إطلاق الأمر على النهي فيخصّص الماهيّة المنهيّ عنها بما عدا هذا الفرد ، وسيأتي الكلام في تحقيق هذا المقام في ذيل المسألة.

وأمّا القسم الثاني : وهو ما لا بدل له ممّا تعلّق النهي التنزيهي بنفس العبادة كالتطوّع بالصلاة في الأوقات الخمس المعروفة ، وبالصوم في الأيّام المكروهة ، أو غيرها كصوم يوم عاشوراء ، وصوم يوم عرفة لمن يضعّفه عن قراءة الدعاء ، وصوم الضيف من دون إذن المضيف وبالعكس ، وصوم الولد بدون إذن الوالد بل الوالدين ، وصوم السفر عند جماعة بل الأكثر ، وإنّما صارت هذه العبادات ممّا لا بدل لها لأنّ الأمر الاستحبابي المفروض فيها مع الكراهة تعيينيّ ، لا بمعنى أنّه مستفاد من خطاب مستقلّ مختصّ بهذه الأفراد بل لثبوته بالعموم الأزماني المستفاد من عمومات التطوّع بالصلاة وعمومات التطوّع بالصيام المفيدتين لاستحباب كلّ ركعتين في كلّ وقت يسعهما واستحباب صوم كلّ يوم.

وإن شئت قلت : إنّ العموم الأزماني إنّما ثبت لكون الأمر الاستحبابي الوارد في المقامين مفيدا للتكرار ، على معنى استحباب كلّ فرد من الأفراد المتمايزة بخصوصيّات الأوقات أو الأيّام الّتي منها هذه الأوقات الخمس وهذه الأيّام المذكورة ، فيكون كلّ فرد موردا للأمر ومأمورا به بالاستقلال.

ومنشأ الإشكال هنا على تقدير الاجتماع وتوارد الأمر الاستحبابي التعييني مع

٥٩٦

الكراهة بالمعنى المعروف لزوم التكليف بغير المقدور لتعذّر امتثالهما بالجمع بين الفعل والترك ، بل لزوم هذا المحذور هنا أظهر منه في القسم الأوّل ، إذ لا مندوحة للمكلّف بواسطة كون الأمر تعيينيّا ، بل امتناع الاجتماع هنا ممّا ينبغي أن يتّفق الفريقان من مجوّزي اجتماع الأمر والنهي في أصل المسألة ونافيه ، لدخول المورد فيما لا مندوحة [ للمكلّف ] وكون الاجتماع على تقديره آمريّا لا مأموريّا.

وقد تقدّم منهم التصريح بخروجهما عن المتنازع لاتّفاق الفريقين على منع الاجتماع ، مضافا إلى ما يلزم هنا أيضا من اتّصاف كلّ من الفعل والترك بالرجحان والمرجوحيّة.

نعم لا مضادّة بين الاستحباب والكراهة بالذات لتعلّق الطلب في أحدهما بالفعل وفي الآخر بالترك ، فيتعدّد المتعلّق مع تضمّن كلّ تجويز كلّ من الفعل والترك.

وما يقال : من أنّ الأحكام بأسرها متضادّة ، ينبغي أن يراد به عدم إمكان اجتماع كلّ اثنين منها في محلّ واحد ولو لعارض كما في الندب والكراهة ، فإنّ عدم اجتماعهما لما لزمه من التكليف بما لا يطاق ، أو اتّصاف شيء واحد بالرجحان والمرجوحيّة إن لم يقبل التوجيه.

وحينئذ فالتفصّي عن الإشكال المذكور لا يتأتّى إلاّ بمنع التوارد الّذي مرجعه إلى منع اجتماعهما مع بقاء الكراهة على معناها المعروف ، وهذا المنع يتأتّى هنا تارة : بمنع شمول الأمر الاستحبابي لهذا الفرد المكروه ، ومرجعه إلى تخصيص عمومات الاستحباب ، وهذا هو الأصل اللفظي لكون دليل الكراهة خاصّا والخاصّ مقدّم طبعا على العامّ من حيث هو ، ومعنى تقدّمه عليه تخصيصه إيّاه عرفا وعقلا دفعا لمحذور التكليف بما لا يطاق والاتّصاف بالمتضادّين ، ومقتضاه البطلان لانتفاء الأمر الّذي عليه مدار صحّة العبادة ، ولا يتمشّى هنا ما تقدّم في القسم الأوّل من أنّ انتفاء الأمر عن الفرد لا يلازم البطلان ولا ينافي الصحّة لكفاية انطباقه على الماهيّة المأمور بها من حيث هي في الصحّة ، إذ ليس هنا ماهيّة مأمور بها ينطبق عليها الفرد لفرض تعلّق الحكم الاستحبابي بالأفراد ، وإن شئت تصوير حقيقة هذا التخصيص حسبما قرّرناه فافرض مكان النهي التنزيهي المتعلّق بالفرد النهي التحريمي كما في صوم يوم العيدين.

وتارة اخرى : بتوجيه الكراهة المفروضة مع الأمر الاستحبابي بإحدى الوجوه الآتية ولكن هذا إنّما يلتزم به إذا اعتضد عموم عمومات الصحّة بالقياس إلى المورد بدليل خاصّ يدلّ على الصحّة المبنيّة على شمول الاستحباب له بالخصوص من إجماع محصّل أو

٥٩٧

منقول أو نصّ خاصّ معتبر ، وحينئذ يقدّم عموم العامّ على ظهور الخاصّ المقتضي للكراهة فيؤوّل الخاصّ ويوجّه الكراهة بما ستعرفه عند الكلام في وجوه التوجيه الّتي ذكرها الأصحاب ، وأمّا التكلّم في وجود دليل خاصّ في هذه العبادات يعتضد به دلالة العمومات فتقدّم على دلالة الخاصّ فهو خارج عن وظيفة هذا الفنّ لكونه من وظائف الفقيه في الفروع ، وإن كان الأظهر عندنا في الجميع ما عدا صيام السفر ـ على ما حقّقناه في الفقه ـ هو الصحّة لقيام الدليل الخاصّ عليها.

وأمّا القسم الثالث : أعني ما تعلّق النهي التنزيهي بأمر خارج عن العبادة أعمّ منها من وجه ، فإنّه اشتهر التمثيل له بالصلاة فرضا أو ندبا والكون في مواضع التهم ، وهذا وإن أمكن المناقشة فيه بمثل ما مرّ في أمر السيّد بخياطة ثوب مّا ونهيه عن الكون في موضع مخصوص باعتبار أنّ الكون المنهيّ هنا ليس جزءا من مفهوم الصلاة بل هو من لوازم الجسم فلم يتّحد مع الصلاة في الوجود ، ولكنّه لا يجدي نفعا في دفع محذور التكليف بما لا يطاق ، لأنّ ما هو لازم للجسم لازم للصلاة الواقعة في موضع التهمة ، وحينئذ ففعل الملزوم امتثالا للأمر يستلزم فعل اللازم فيتعذّر امتثال النهي المتعلّق به ، كما أنّ ترك اللازم امتثالا للنهي يستلزم ترك الملزوم فيتعذّر امتثال الأمر المفروض بالنسبة إليه.

إلاّ أنّ دفع الإشكال هنا أيضا سهل بنحو ما بيّنّاه في القسم الأوّل من منع تعلّق أمر بهذه الصلاة مطلقا من جهة الأمر بالماهيّة من حيث هي ، مع حصول الصحّة لمجرّد انطباقها على الماهيّة المأمور بها من غير حاجة إلى دليل آخر على الصحّة ، ولا إلى تكلّف التوجيه إلى الكراهة ، غاية الأمر حصول الصحّة في ضمن عمل مكروه ولا ضير فيه أصلا.

فظهر ممّا ذكرنا هنا وفي القسم الأوّل أنّ مسيس الحاجة إلى التصرّف في النهي أو إلى توجيه الكراهة مقصور على القسم الثاني بعد مساعدة الدليل على الصحّة ، وقد ذكر القوم في هذا المقام وجوها :

منها : ما ذكره الفاضل التوني في عبارته المتقدّمة (١) واختاره وجعله مشتهرا من أنّ المراد بالكراهة كونه أقلّ ثوابا ، ونقله ثاني الشهيدين في تمهيد القواعد بعبارة : « ناقص الثواب » حيث قال ـ بعد تقسيم الحكم الشرعي إلى الخمسة المشهورة ـ : « ويرد على هذا التقسيم امور :

__________________

(١) الوافية : ٩٦.

٥٩٨

أحدها : مكروه العبادة كالصلاة في الأماكن والأوقات المكروهة ، فإنّ الفعل راجح بل مانع من النقيض مع وصفه بالكراهة المقتضية لرجحان الترك.

ومن ثمّ قالوا : إنّ المراد بمكروه العبادة ناقص الثواب خاصّة ، وهو اصطلاح مغائر لقاعدة الاصوليّين وموجب لانقسام المكروه إلى معنيين عامّ وخاصّ » إلى آخر ما ذكره.

وإلى هذا المعنى يرجع ما ذكره في المسالك في مسألة كراهة النافلة المبتدئة في الأوقات المكروهة بقوله : « ومعنى كراهة العبادة في هذه المواضع ونظائرها كونها خلاف الأولى فينقص ثوابها عن فعلها في غير هذه الأوقات لا الكراهة المتعارفة » انتهى. على معنى كونه بالقياس إلى أقلّيّة الثواب ونقصانه من باب التفسير باللازم كما يومئ إليه تفريعه.

والظاهر أنّ مرادهم بأقليّة الثواب في توجيه الكراهة ما يمكن معها حمل النهي المتعلّق بالعبادة على الارشاد إليها خاليا عن الطلب ، سواء ورد ذلك النهي بلفظ « لا ينبغي » أو بلفظ « لا تصلّ » و « لا تصم » أو بلفظ « لا صلاة » و « لا صيام » ومرجعه إلى بيان الواقع بصورة الطلب من غير طلب تنبيها للمكلّف على المنقصة اللازمة من الخصوصيّة الباعثة على قلّة الثواب لئلاّ يفوت عنه ما هو الأصلح بحاله في العاجل والآجل من ذي المزيّة الكاملة والعبادة الخالية عن نحو هذه المنقصة.

ولا ريب أنّ أقلّيّة ثواب هذه العبادة بالإضافة إلى غيرها تلازم مرجوحيّة فعلها بالإضافة إلى ذلك الغير ، وهذه المرجوحيّة ـ كما ذكرناه سابقا ـ لا تنافي رجحانها الذاتي ، كما أنّ أقليّة الثواب لا تنافي نوع الثواب المترتّب عليها.

فبذلك يندفع شبهة اتّصاف الشيء الواحد بالرجحان والمرجوحيّة على أنّا نقول : إنّ الرجحان والمرجوحيّة اللاحقين بالأفعال والتروك ليسا إلاّ من قبيل الصفات الاعتباريّة الانتزاعيّة ، فلو اتّصف بهما الشيء الواحد باعتبارين لم يلزم بذلك محال أصلا.

وتوضيحه : أنّ الأصل في الرجحان والمرجوحيّة ما يلحق إحدى كفّتي الميزان ، فالرجحان عبارة عن مزيّة كفّة الموزون وثقلها على كفّة العيار ، والمرجوحيّة عبارة عن نقصانها وخفّتها ، فهما ممّا يستحيل اتّصاف شيء واحد بهما لكونهما من الصفات الحقيقيّة المتضادّة ، فاتّصاف كفّة الموزون بهما اجتماع للمتضادّين في محلّ واحد وهو محال ، وقد غلبا على الأفعال والتروك باعتبار الاشتمال على المصلحة أو المفسدة والخلوّ عنهما تغليبا ناشئا عن انتزاع العقل ، فإنّ الفعل إذا اشتمل على مصلحة فالعقل ينتزع عنه باعتبار اشتماله

٥٩٩

عليها صفة يعبّر عنها بالرجحان ، وعن الترك باعتبار خلوّه عن مصلحة الفعل صفة يعبّر عنها بالمرجوحيّة ، وإذا اشتمل على مفسدة ينتزع عن الترك باعتبار خلوّه عن مفسدة الفعل صفة يعبّر عنها بالرجحان ، وعن الفعل باعتبار اشتماله على المفسدة صفة يعبّر عنها بالمرجوحيّة ، فليس في الفعل والترك مع قطع النظر عن الانتزاع العقلي إلاّ اشتمال الأوّل على المصلحة فيقال له : « الراجح » بهذا الاعتبار ، وخلوّ الثاني عن المصلحة فيقال له « المرجوح » بهذا الاعتبار ، أو اشتمال الأوّل على المفسدة فيقال له : « المرجوح » بهذا الاعتبار ، وخلوّ الثاني عن تلك المفسدة فيقال له : « الراجح » بهذا الاعتبار ، فمن الجائز عند العقل أن يشتمل فعل العبادة لذاتها على مصلحة مندرجة في الثواب الاخروي المعدّ لتلك الذات كالصلاة من حيث هي صلاة ، والصوم من حيث هو صوم ، ولوصفها أو لمقارنها على منقصة مندرجة في ضرر دنيوي من إصابة مرض أو عروض نسيان أو فقر أو نحو ذلك ، أو اخروي غير بالغ حدّ استحقاق الدخول في النار من غير أن يزاحم الثواب الّذي استحقّه المكلّف لأجل الذات كطول المكث في موقف الحساب ونحوه ، أو يكون هو مزاحمة للثواب بتقليله إيّاه ، فيتّصف بهذين الاعتبارين بالرجحان والمرجوحيّة من غير لزوم محال ، لأنّ مرجعه إلى الاشتمال على المصلحة والمنقصة المذكورتين.

وبالتأمّل في ذلك يندفع ما أورده بعض الأعلام (١) على القول بأنّ المرجوحيّة في الفعل إضافيّة وهي لا تنافي الرجحان الذاتي.

فأوّلا : « بأنّ المرجوحيّة الاضافيّة إن أوجبت منقصة في ذات ذلك الفرد بحيث يستحقّ الترك بالغلبة إلى ذاته فيعود المحذور ، وإلاّ فالغير الراجح بالقياس إليه إن كان بحيث يوازي أصل الطبيعة في الثواب فيصير ذلك الفرد مرجوحا بالنسبة إلى أصل الطبيعة أيضا فيستحقّ به الترك لما فيه من منقصة ذاتيّه ، وإن كان بحيث يزيد على أصل الطبيعة في الثواب فذلك الفرد إمّا أن يكون فعله مطلوبا أو يكون تركه مطلوبا أو يكون كلاهما مطلوبين.

فعلى الأوّل لا كراهة فيه ، وعلى الثاني لا استحباب ، وعلى الثالث يعود المحذور.

وثانيا : بأنّه لا فارق بين قولنا : « لا تصلّ في الدار المغصوبة » و « لا تصلّ في الحمّام » فإن صحّ قولك بعدم منافاة المرجوحيّة الإضافيّة للرجحان الذاتي لوجب أن لا تنافيه في المقامين وإلاّ فوجب أن لا يصحّ فيهما معا ، فأيّ شيء دعاك إلى الفرق بينهما » إلى آخر ما

__________________

(١) القوانين ١ : ١٤٦.

٦٠٠