تعليقة على معالم الاصول - ج ٤

السيّد علي الموسوي القزويني

تعليقة على معالم الاصول - ج ٤

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيد علي العلوي القزويني
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-535-1
الصفحات: ٨٦٤

المكلّف من الخصوصيّات الّتي يدور الواجب بينها واحد منها دائما غير معيّن موكول تعيينه في الامتثال إلى اختيار المكلّف.

فيكون مرجع الاستدلالين إلى معنى واحد وإن كان تعبيرهم بـ « الأحد » يوهم إرادة وقوع الطلب بالمفهوم المنتزع مع قطع النظر عن ملاحظة الخصوصيّة ، وإنّما عبّروا بذلك ردّا على بعض المعتزلة في توهّم تعلّق الوجوب بالجميع مع سقوطه بفعل البعض وبعض آخر في دعوى تعلّقه بواحد معيّن عند الله على كلّ من المذهبين الآتيين.

فقضيّة ما ذكر تعيّن المعنى الثالث في كونه مرادا من كلمة « أو » وهذا هو المتبادر منها ، كما أنّ المتبادر من التصريح بذكر الخصال تعلّق الوجوب المستفاد من الهيئة بكلّ منها بالخصوص لا بالمفهوم المنتزع عنها وإلاّ لخرج في الكلام بلا معبّر وهو كما ترى ، ولا يمكن كونه مرادا من كلمة « أو » لعدم كونه من المعاني الحرفيّة مع عدم تحقّق اندراجه فيما هو الضابط في الحروف من عموم الوضع وخصوص الموضوع له.

ومحصّل مفاد التخيير يرجع إلى جعل الاختيار في أداء ما يحصل به الامتثال مع المكلّف وإنشاء الاكتفاء بالبعض لا على جهة التعيين ، ويلزمه إلغاء التعيين عن الخصوصيّات المتخيّرة للطلب ، فلا ينبغي أن يكون مفاد الآية إيجاب الجميع لمنافاته التعبير بـ « أو » ولا إيجاب البعض المعيّن لمنافاته التخيير الملازم لإلغاء جهة التعيين ، بل مفادها إنشاء مطلوبيّة كلّ بعض وممنوعيّة تركه حال عدم حصول الآخر وتركه ، وهذا التقييد من لوازم التخيير الملازم لإنشاء الاكتفاء بالبعض مع إلغاء جهة التعيين.

ولمّا كان القيد في كلّ مناقضا لقيد الآخر وقضيّة ذلك مناقضة المقيّدات فمتعلّق الطلب الإيجابي المستفاد من الهيئة واحد دائما وملحوظ بالخصوص ، وتعيينه في الامتثال موكول إلى اختيار المكلّف فبأيّها أتى فقد أتى بنفس الواجب لا ببدله ولا ما يسقط عنه ، إذ ليس الواجب معناه إلاّ ما كان مطلوبا فعله ومبغوضا تركه ، ولا ريب أنّ كلّ واحد من الخصال الثلاث حال عدم حصول الآخرين مطلوب فعله ومبغوض تركه أخذا بموجب الآية.

فالقول بأنّ الواجب في المخيّر مفهوم « أحد هما » كما نسب إلى جماعة من الخاصّة والعامّة إن اريد به المفهوم المنتزع ليس على ما ينبغي ، لمخالفته صريح الوجدان وظاهر الخطاب.

وقد يوجّه ذلك كما في كلام بعض الأفاضل « بإرادة الوجوب التبعي بالنسبة إلى المفهوم التابع للوجوب المتعلّق بالخصوصيّات على سبيل التخيير ، فيقال : إنّ كلاّ من الوجوب

٢١

بمعنى أنّه لا يجب الجميع ، ولا يجوز الإخلال بالجميع ، وأيّها فعل كان واجبا بالأصالة. وهو اختيار جمهور المعتزلة *.

_____________________________

التعييني والتخييري إمّا أن يكون أصليّا أو تبعيّا فالوجوه أربعة ، والأمر في الوجوب التعييني الأصلي ظاهر كالوجوب التخييري الأصلي كخصال الكفّارة ، وأمّا الوجوب التعييني التبعي فكمطلوبيّة أحد تلك الخصال على سبيل التعيين فإنّه تابع لتعلّق الخطاب بتلك الأفعال على سبيل التخيير ، فالوجوب التخييري التبعي كوجوب الإتيان بأفراد الطبيعة على سبيل التخيير عند تعلّق الأمر بها ، فكلّ واجب تخييري أصلي يلزمه وجوب تعييني تبعي ، كما أنّ كلّ واجب تعييني أصلي يلزمه وجوب تخييري تبعي إذا تعلّق الوجوب بطبيعة كلّية ، لا بأن يكون هناك تكليفان مستقلاّن يكون أحدهما تعيينيّا والآخر تخييريّا ، بل هناك تكليف واحد يختلف الحال فيه بحسب الاعتبارين المذكورين ، نظير ما يقال في الدلالة المطابقيّة والتضمّنيّة فإنّ هناك دلالة واحدة لها اعتباران يعدّ بالنسبة إلى أحدهما مطابقة وبالنسبة إلى الآخر تضمّنا فأحد هذين القسمين تابع للآخر من غير أن يكون هناك دلالتان متعدّدتان في الواقع تكون إحداهما تابعة للاخرى.

فنقول بمثل ذلك في المقام ، فإنّ الوجوب الحاصل هنا أيضا واحد يختلف الحال فيه بحسب الاعتبارين المذكورين ، حيث إنّه يتعلّق أصالة بكلّ من تلك الأفعال على وجه التخيير بينها ويتبعه صحّة اتّصاف أحدها بالوجوب التعييني التبعي من غير أن يكون هناك وجوبان ، وكذا الحال في اتّصاف الماهيّة بالوجوب التعييني فإنّه يتبعه وجوب أفرادها بالوجوب المتعلّق بالطبيعة لاتّحادها معها على سبيل التخيير.

فظهر بذلك أنّ الحال في الواجبات التخييريّة على عكس الواجبات التعيينيّة » انتهى.

ولا يخفى أنّ الوجوب التبعي بهذا المعنى اصطلاح آخر غير ما تقدّم تفسيره في بحث المقدّمة وإلاّ فهو منطبق على الوجوب العرضي الملحوظ بالنسبة إلى لوازم الواجب.

المقام الثالث

في ذكر أقوال المسألة والإشارة إلى أدلّتها

* وهذا أوّل الأقوال وقد جعله المصنّف مشهورا بين أصحابنا ثمّ عزاه إلى جمهور

٢٢

المعتزلة ، وعزاه في المنية إلى أصحابنا ومحقّقي المعتزلة وهو يومئ إلى إطباق أصحابنا عليه ، ومثله ما في كلام بعض الأعلام من نسبته إلى أصحابنا وجمهور المعتزلة.

وفي كلام بعض الأفاضل : « أنّه ما اختاره كثير من أصحابنا كالسيّد والشيخ والمحقّق والعلاّمة في بعض كتبه » وكأنّه إشارة إلى ما في التهذيب من اختياره ذلك ، ولكن العجب منه أنّه مع مصيره إليه هنا صرّح عند تحديد الواجب : « بما يذمّ تاركه » بكون الواجب في المخيّر هو الكلّي الّذي فسّره بعضهم بالصادق على الخصال المتعدّدة.

وربّما يشكل الحال في توجيه العبارة الواقعة في كلام هؤلاء عند تفسير قولهم : « بوجوب كلّ واحد على البدل » على وجه يخالف سائر الأقوال ، وإلاّ فهي بظاهرها لا تبائن القول بكون الواجب واحدا معيّنا عند الله وهو الّذي يفعله المكلّف الّذي يتبرّأ عنه كلّ من المعتزلة والأشاعرة ويسنده كلّ إلى صاحبه ، لأنّ هذا القائل يتسالمهم في دعوى المقدّمة الاولى وهو عدم وجوب الجميع ، بمعنى عدم وجوب كلّ واحد على التعيين لا مع الاجتماع ولا مع التفريق ، وكذلك في دعوى المقدّمة الثانية وهي عدم جواز الإخلال بالجميع بأن لا يأتي بشيء من الخصال ، ولا ريب أنّ المقدّمة الثالثة أيضا لا تنافي مقالته لجواز أن يقول : بأنّ كون ما يفعله المكلّف هو الواجب بالأصالة ، من جهة أنّ فعل المكلّف يكشف عن أنّ ما فعله هو الّذي عيّنه الله تعالى في حقّه ، وذلك يختلف باختلاف المكلّفين في الفعل.

ويمكن دفعه : بأنّ كون ما فعله المكلّف واجبا بالأصالة ليس من جهة أنّ فعله كاشف عن أنّ ما فعله هو الّذي عيّنه الله تعالى في حقّه ، بل من جهة أنّه ما أوجبه الله تعالى بالخصوص ولم يعتبر فيه تعيينا عليه ، وخيّر بينه وبين معادله الّذي أوجبه بالخصوص ولم يعتبر فيه تعيينا ، فكون الشيء واجبا بالأصالة يرد على معنيين ، أحدهما : ما اعتبر فيه التعيين مضافا إلى تعلّق الطلب به بالخصوص وثانيهما : ما تعلّق به الطلب بالخصوص وإن لم يعتبر فيه تعيين.

والقول المذكور يراد به المعنى الأوّل ومراد الجماعة من العبارة المذكورة هو المعنى الثاني ، فهما يشتركان في دعوى مدخليّة الخصوصيّة فيما يتّصف بالوجوب ، ويفترقان في دعوى اعتبار التعيين على المكلّف أيضا وعدم اعتباره فيما يتّصف بالوجوب ، وإنّما هو في مقام الامتثال موكول إلى اختيار المكلّف ومشيّته ، ولذا تراهم يوردون على القول المذكور بكونه منافيا للتخيير الّذي هو محلّ الكلام ، وقولهم : « أيّها فعل » في العبارة المذكورة بيان لهذا المعنى.

٢٣

ومحصّله : أنّ أيّا من الخصال اختاره المكلّف عند الامتثال على حسب ما ثبت له من التخيير الملازم لإلغاء التعيين وعدم اعتباره كان واجبا بالأصالة ، من جهة كونه ملحوظا بخصوصه وتعلّق الطلب به مع اعتبار قيد « الخصوصيّة » لا بأمر منتزع عنه مشترك بينه وبين معادله.

ويبقى الإشكال في تصوير هذا المعنى بحيث يكون كلّ متعلّقا للوجوب بالخصوص مع إلغاء جهة التعيين عن كلّ الّذي هو مفاد التخيير أو لازم له ، ويمكن دفعه أيضا بنحو ما قرّرناه سابقا.

وتوضيح ذلك : أنّ معنى قولهم : « لا يجب الجميع » أنّه ليس الجميع بحيث تعلّق به الوجوب على سبيل العامّ الاستغراقي حتّى يكون كلّ واجبا برأسه ويجتمع على المكلّف واجبات متعدّدة ، ولا على سبيل العامّ المجموعي حتّى يكون كلّ جزء للواجب.

ومعنى قولهم : « لا يجوز الإخلال بالجميع » أنّه ليس الجميع بحيث يكون ترك كلّ واحد جائزا في نظر الشارع حتّى ينافي تحقّق وصف الوجوب ، بل ترك الجميع على نحو العموم الاستغراقي مبغوض في نظره وممنوع عنه في خطابه ، وهو في معنى القول بأنّ ترك كلّ حال ترك الآخر مبغوض عنده وممنوع عنه في خطابه ، وقضيّة التوفيق بين هاتين المقدّمتين وجوب كلّ حال ترك الآخر ، لأنّ المنع عن ترك كلّ في تلك الحال ملازم لطلب كلّ في تلك الحال ، فجنس الوجوب مع فصله واردان على كلّ في تلك الحال ، فينتج أنّ الواجب فعل كلّ حال ترك الآخر ، وهذا مفهوم مقيّد صادق على كلّ واحد إذا قيس إلى حال ترك الآخر ، فيتحقّق في المقام مقيّدات فرضيّة والمكلّف مخيّر فيما بينهما فبأيّهما أتى يصدق عليه أنّه أتى بنفس الواجب ، لأنّه إتيان به حال ترك الآخر فيكون ما أتى به واجبا بالأصالة ، وهذا معنى قولهم : « أيّها فعل كان واجبا بالأصالة ».

وقضيّة ذلك كون الواجب المستقرّ في ذمّة المكلّف واحدا دائما ، لأنّ قضيّة مناقضة مقيّد كلّ لقيد الآخر مناقضة المقيّدات.

ومن البيّن استحالة التكليف بالامور المتناقضة ، فيستحيل من الله الحكيم إيجاب كلّ واحد من المقيّدات على سبيل العموم الاستغراقي ، بل الموافق للعدل والحكمة إيجاب كلّ واحد بالخصوص على طريق العموم البدلي ، وهذا هو مفاد التخيير المتضمّن لكون تعيين ما يحصل به الامتثال موكولا إلى اختيار المكلّف وهو واحد دائما ، فيكون هذا معنى قولهم : « كلّ واحد واجب على البدل ».

٢٤

وقالت الأشاعرة : الواجب واحد لا بعينه ، ويتعيّن بفعل المكلّف* (١).

__________________________________

ومما يرشد إلى ما قرّرناه ما رواه الشيخ في باب كيفيّة الصلاة من التهذيب عمّن ذكره عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : سألته عن الركعتين الأخيرتين ما أصنع فيهما؟ فقال : إن شئت فاقرأ فاتحة الكتاب وإن شئت فاذكر الله فهو سواء.

قال : قلت : فأيّ ذلك أفضل؟ فقال : هما والله سواء إن شئت سبّحت وإن شئت قرأت (١).

بتقريب : أنّ التعليق على المشيّة هو معنى التخيير والقضيّتان واردتان على حدّ الانفصال الحقيقي.

ومن البيّن أنّ المشيّة إذا تعلّقت فيما بين الأمرين بأداء أحدهما يمتنع تعلّقها بأداء الآخر ، لكونها ملزومة للصارف عن الآخر أو لمشيّة تركه وهما ملزومان للترك ، فيكون وجوب ما تعلّقت به المشيّة ثابتا له حال ترك الآخر ، لكون ما تعلّق به المشيّة ملزوما لترك ذلك الآخر ، والمفروض تعلّق الأمر في صريح اللفظ بكلّ منهما بالخصوص مقيّدا بأمر عدمي ملازم لإلغاء جهة التعيين بعد اعتبار الخصوصيّة وملاحظتها.

* وعبّر عنه بعض الأفاضل بمفهوم « أحدهما » وهو خطأ ، إذ لم نجد في كلام أحد من أصحاب هذا القول التعبير بذلك ، وكأنّه نشأ عمّا في كلام جماعة ـ منهم بعض الأعلام ـ من تفسير واحد لا بعينه بالكلّي فرقا بين هذه المقالة ومقالة المعتزلة وستعرف فساد ذلك أيضا.

وكيف كان فهذا القول عزاه الفاضل المشار إليه إلى جماعة من الخاصّة والعامّة ، وممّن ذكره منهم مضافا إلى ما نذكره العلاّمة في النهاية ونهج الحقّ والشهيد والمحقّق الكركي والمحقّق الخوانساري.

ثمّ قال : « وعن القاضي حكاية إجماع سلف الامّة عليه ، وحكاه في العدّة عن شيخنا المفيد وعزاه في نهج الحقّ إلى الإماميّة مؤذنا بإطباقهم عليه ». انتهى.

وعليه الحاجبي وغير واحد من شرّاح مختصره والبيضاوي في المنهاج وشارحه في معراج الوصول.

ومن أصحابنا الفاضل النراقي في المناهج ، قال : « الواجب في المخيّر هو الواحد لا بعينه ، لا الماهيّة في ضمن أيّ فرد شاء ، ولا كلّ واحد على البدل إلاّ بإرجاعهما إلى الأوّل ، ـ إلى

__________________

(١) تهذيب الأحكام ٢ : ٩٨.

٢٥

أن قال : ـ والفرق بين الماهيّة والواحد لا بعينه وعلى البدل أنّه لا يلاحظ في الأوّل تشخّص أصلا.

والثاني هو الماهيّة مع تشخّص مّا ، فهما مشتركان في الكلّية مختلفان في ضمّ التشخّص وعدمه.

والثالث هو الماهيّة مع التشخّص المعيّن ، بمعنى أنّ الخصوصيّة ملحوظة مع كلّ واحد ، فإذا تعلّق الوجوب بالأوّل يكون تعلّقه بالماهيّة أصالة وبالتشخّص المطلق والمعيّن تبعا ، وإن تعلّق بالثاني يكون تعلّقه بالأوّلين أصالة والثالث تبعا ، وإن تعلّق بالثالث يكون تعلّقه بالثلاثة أصالة ، فيكون هذا الفرد المعيّن مطلقا بدلا عن الآخر ». انتهى.

وكأنّ مراده بالماهيّة الّتي نفى كونها واجبة ما أشار إليه شيخنا البهائي حيث قال : « والواجب أحد الأبدال الصادق على أيّها شاء أو تحصيل الكلّي كالكفّارة فيما يشاء من جزئيّاته »

وفي جعله الواحد لا بعينه مقابلا لكلّ واحد على البدل الّذي نفاه أيضا تنبيه على أنّ ما اختاره يغاير مختار الأصحاب بل الأشاعرة أيضا ، بناء على رجوع واحد لا بعينه عند التحقيق إلى كلّ واحد على البدل كما ستعرفه ، ولا محصّل له إلاّ أن يكون مراده به المفهوم الكلّي الصادق على كلّ من الجزئيّات ، كما أنّ ظاهر البهائي من قوله : « أحد الأبدال الصادق على أيّها شاء » هو إرادة ذلك.

ويوافقه على هذا المعنى السيّد في المنية قال : « والحقّ أنّ المسقط للفرض شيء واحد وهو الأمر الكلّي الصادق على كلّ واحد من الأفراد ، ويكون المجموع أو كلّ واحد من أفراده مسقطا إنّما هو لاشتماله على ذلك الكلّي لا لخصوصيته ». انتهى.

ووجه موافقته : أنّ المسقط للفرض لا يغاير الفرض مغائرة تامّة ، بل هو إمّا نفس الفرض أو فرد منه إذا كان ولا يعقل العكس ، فإذا كان التقدير تقدير الكلّي مسقطا كان الفرض هو ذلك الكلّي وإلاّ لزم كونه مغايرا للمسقط أو فردا منه ، والأوّل خلاف الفرض والثاني ممّا لا سبيل إليه ، لأنّ الكلّي بما هو كلّي لا يعقل له وجود ، ووجوده في ضمن الفرد يغني عن فرضه مسقطا بعد كون الفرض هو الفرد لكونه بنفسه مسقطا ، هذا إذا كان مراده بالفرض هو الواجب.

وأمّا إذا كان المراد الوجوب فالموافقة أوضح ، لأنّ الكلّي لا يوجد بدون الفرد ومع

٢٦

قال العلاّمة رحمه الله ونعم ما قال : الظاهر أنّه لا خلاف بين القولين في المعنى* (١) ، لأنّ المراد بوجوب الكلّ على البدل أنّه لا يجوز للمكلّف الإخلال بها أجمع ، ولا يلزمه الجمع بينها ، وله الخيار في تعيين أيّها شاء. والقائلون بوجوب واحد لا بعينه عنوا به هذا ، فلا خلاف معنويّ بينهم. نعم هاهنا مذهب تبرّأ كلّ واحد من المعتزلة والأشاعرة منه ونسبه كلّ منهم إلى صاحبه واتّفقا على فساده ،

__________________________________

وجوده يكون أولى بنسبة الإسقاط إليه على تقدير كونه هو محلّ الفرض ، فنسبته إلى الكلّي تقضي بكون الكلّي هو محلّ الفرض.

فممّا قرّرنا تبيّن أنّ كون الواجب هو الكلّي الصادق على الجزئيّات قول محقّق ذهب إليه جماعة من أصحابنا ، والواحد لا بعينه في كلام الآخرين المنسوب إلى الأشاعرة أيضا لا ينطبق عليه ، لرجوعه إلى كلّ واحد على البدل الّذي نبّه النراقي على مغايرته بالواحد لا بعينه الّذي اختاره ، ولا محصّل له في مقابلة كلّ واحد على البدل إلاّ كونه كلّيّا.

وأمّا ما تقدّم في كلام البهائي من تجويز كون الواجب تحصيل الكلّي كالكفّارة فيما يشاء من جزئيّاته فهو مغاير للجميع ، ولم يعهد نقله عن أحد إلاّ ما عرفت في كلام النراقي.

ويظهر من البهائي ارتضاؤه بهذا المعنى فهو مجوّز لكونه فيما بين خصال الكفّارة أحد الأبدال وكونه نفس الكفّارة ، ولكن في كونها كلّيا بالقياس إلى الخصال كلام قد تقدّم وجهه ، وأداة الترديد تومئ إلى عدم جزمه بأحد الأمرين وإنّما يجوّز كلاّ منهما.

* والمراد بعدم الخلاف بين القولين أنّه كما أنّ الأوّلين يقولون بتعلّق الوجوب بكلّ واحد بالخصوص مع إلغاء جهة التعيين ، فكذلك الأشاعرة أيضا يعترفون بذلك ويعتبرون في متعلّق الوجوب قيد « الخصوصيّة » وإنّما يعبّرون عنه بواحد لا بعينه تنبيها على عدم تعلّقه بالجميع ليكون ردّا على بعض المعتزلة ، ولا بواحد معيّن عند الله غير معيّن عند المكلّف ليكون ردّا على من يقول به ، أو أنّ غرضهم بذلك التنبيه على أنّ ما يستقرّ في ذمّة المكلّف واحد دائما ولا تعيين فيه من جهة التخيير ، وهذا كما ترى ممّا لا سبيل للأوّلين إلى إنكاره كما عرفت ، فالحاصل : أنّ الوجوب لابدّ له من متعلّق وهو إمّا كلّ واحد من الخصال بقيد الخصوصيّة ومع اعتبار التعيين ، أو كلّ واحد بقيد الخصوصيّة لا مع اعتبار التعيين ، أو المفهوم المشترك بينها المنتزع عنها لا بقيد الخصوصيّة ومع عدم التعيين ، والأوّل باطل

٢٧

باتّفاق الفريقين والثاني مختار للأوّلين وهو الّذي تسلّمه الأشاعرة أيضا.

نعم يحصل المخالفة بينهما لو قالت الأشاعرة بالثالث ، كما قال به جملة من أصحابنا وهو باطل ، والّذي يدلّ عليه مضافا إلى ما قدّمنا ذكره امور :

منها : ما في شرح منهاج البيضاوي عند شرح كلام البيضاوي في هذا المقام من قوله : « قد عرفت أنّ الوجوب حكم متعلّق بفعل المكلّف ، فهذا المتعلّق لا يخلو من أن يكون معيّنا كالصلاة والصوم أو غير معيّن ، وغير المعيّن لا يخلو من أن يكون من بين امور معيّنة أو من بين امور غير معيّنة ، والثاني محال لامتناع التكليف والأوّل يسمّى بالواجب المخيّر كالخصال الثلاث في الكفّارة ».

وجه الدلالة : أنّه جعل متعلّق الوجوب فعل المكلّف كما هو الضابط في جميع الأحكام.

ولا ريب أنّ المفهوم المنتزع أمر اعتباري وليس من فعل المكلّف في شيء ليكون متعلّقا للوجوب عند هذا القائل.

ومنها : ما في كلام ذلك أيضا من قوله : « وعند المعتزلة الوجوب متعلّق بمجموع خصال الثلاث ، بمعنى أنّه لا يجوز للمكلّف ترك الجميع ولا يجب عليه أيضا الإتيان بالجميع ، بل لو فعل واحدا منها لتأدّى به الواجب وبه سقط التكليف عنه ، فعلى هذا لا خلاف في المعنى.

ووجه الدلالة : أنّه من الأشاعرة واعترف بعدم الخلاف بين مقالتهم لمقالة المعتزلة وإن اختلفتا في العبارة.

ومنها : ما في تهذيب العلاّمة من أنّه بعد ما اختار طريقة المعتزلة ذكر له مثالا بذكره الأشاعرة وإن شئت فلاحظ قوله : « والحقّ أنّ كلّ واحد منها واجب مخيّر فيه ، بمعنى أنّه لا يجب الجميع ولا يجوز الإخلال بالجميع وأيّما فعل كان واجبا بالأصالة ، لأنّه لا استبعاد في أن يقول السيّد لعبده : أوجبت عليك أحد هذين بحيث لا يحلّ لك تركهما ولا اوجبهما عليك فأيّهما شئت إفعل ».

ومنها : ما في كلام الحاجبي عند دفع اعتراض المعتزلة القائلة بوجوب الجميع على كون الواجب واحدا لا بعينه ، بلزوم أحد الأمرين من التخيير بين الواجب وغيره واجتماع التخيير والوجوب في شيء واحد ، لأنّ الواحد الّذي هو الواجب إمّا أن يكون هو الواحد المخيّر فيه فيلزم الثاني أو غيره فيلزم الأوّل ، من قوله : « والحقّ أنّ الّذي وجب لم يخيّر فيه

٢٨

والّذي خيّر فيه لم يجب لعدم التعيين والتعدّد يأبى كون المتعلّقين واحدا كما لو حرّم أو أوجب واحدا ».

ومحصّل الاعتراض : أنّ التخيير في الواجب المخيّر وصف للواجب فلا يصحّ فرضه بين الواجب وغير الواجب ، وهو ملزوم لتجويز الترك والواجب ملزوم لمنع الترك ، فإذا كان الواحد واجبا ومخيّرا فيه لزم اجتماع تجويز الترك ومنع الترك في شيء واحد وأنّه محال.

وملخّص الدفع : أنّ محلّ الوجوب والتخيير الملزومين لأمرين متناقضين هو الواحد ولكن باعتبار ما يلحقه من الاعتبارين المتضادّين ، فإن اعتبر في حال عدم حصوله معادله فهو واجب لا يجوز تركه وإن اعتبر في حال حصول معادله فليس بواجب ويجوز تركه ، فلم يلزم توارد المتناقضين على محلّ واحد.

وقوله : « لعدم التعيين » تعليل لعدم وجوب ما خيّر فيه ، يعني أنّ الواحد في اتّصافه بالوجوب لا تعيين فيه ، بمعنى أنّه ليس بمثابة يكون واجبا على تقدير حصول معادله وعلى تقدير عدم حصوله كما هو شأن كلّ واجب معيّن بالقياس إلى ما يقابله ، بل هو واجب على التقدير الثاني وغير واجب على التقدير الأوّل ، فما وجب غير ما جوّز تركه وما جوّز تركه غير ما وجب ، لكفاية التعدّد الاعتباري في اتّصاف المحلّ بوصفين متضادّين.

فقوله : « والتعدّد يأبى كون المتعلّقين واحدا » إشارة إلى هذا المعنى ، يعني أنّ التعدّد الّذي يطرأ الواحد من جهة ما يؤخذ من الاعتبارين المتقابلين يأبى عن كون محلّ الوصفين واحدا غير قابل لاجتماعهما فيه.

وقوله : « كما لو حرّم أو أوجب واحدا » يعني لو حرّم الشارع واحدا وأوجب آخر ، وهو استشهاد على عدم منافاة الواحد لتوارد الوصفين المتضادّين عليه من جهة ما يلحقه من التعدّد بعدم منافاته لتوارد التحريم والوجوب عليه من جهة ما لحقه من التعدّد ، ضرورة أنّه محرّم على تقدير حصول الآخر وواجب على تقدير عدم حصوله.

ولا ريب أنّ هذا الكلام على التوجيه المذكور لا ينطبق إلاّ على ما قرّرناه في توجيه كلام الأصحاب والمعتزلة ، ولازمه كون مرادهم بالواحد في تعلّق الوجوب ولحوق التخيير به مصداقه الّذي يعتبر فيه الخصوصيّة لا محالة ، لكون الاعتبارين ممّا يلحق المصداق دون المفهوم الملازم لإلغاء الخصوصيّة عنه ، والتعبير عنه بالواحد من جهة إفادة أنّ ما يستقرّ في الذمّة إنّما هو الواحد دون المتعدّد ، كما يزعمه بعض المعتزلة في قولهم بوجوب الجميع.

٢٩

وربّما يوجّه كلامه ـ كما في بيان المختصر ـ بما لا يرجع إلى محصّل ، وهو من وجهين ناشئين عن احتمالي رجوع قوله : « لعدم التعيين » إلى الّذي وجب أو إلى المخيّر فيه :

أحدهما : أنّ الّذي وجب غير متعيّن لأنّه واحد من الثلاثة من حيث هو واحد لا بعينه ، وهو أمر كلّي مشترك بينهما وهو غير مخيّر فيه ، والمخيّر فيه معيّن لأنّ المخيّر فيه هو كلّ واحد من الثلاثة على التعيين ، وهو غير واجب والمخيّر فيه ليس بواحد.

وثانيهما : أنّ الّذي وجب معيّن من حيث هو واحد لا تعدّد فيه ، والمخيّر فيه لا يكون معيّنا من حيث هو متعدّد.

وفيه أيضا : أنّ قوله : « والتعدّد » إشارة إلى دليل آخر على أنّ الواجب والمخيّر فيه لا يتّحدان ، توجيهه : أنّ الوجوب والمخيّر يتعدّدان وتعدّد المتعلّقين يأبى أن يكون المتعلّقان ـ أي الواجب والمخيّر فيه ـ واحدا كما لو حرّم الشارع واحدا وأوجب آخر ، فإنّ تعدّد الوجوب والحرمة يأبى أن يكون متعلّقهما أي الواجب والحرام واحدا.

ولا يخفى ما في الجميع من البعد ، مع عدم جدوى شيء من ذلك في دفع الاعتراض ، فإنّ الدفع لابدّ وأن يكون رافعا للاعتراض عن المورد الّذي هو محلّ سؤال الخصم.

ولا ريب أنّ الخصم إنّما سأل عن أنّ الواحد الّذي هو الواجب إن كان هو المخيّر فيه لزم اجتماع الوجوب والتخيير في محلّ واحد ، والكلام الوارد في دفعه مبنيّ على تسليم ذلك الشقّ ومنع الملازمة ، ولا يستقيم إلاّ بأن يقال : أنّ الواجب هو الواحد في أحد اعتباريه والمخيّر فيه أيضا هو ذلك الواحد في اعتباره الآخر ، وأوّل ما ذكر من الوجهين لا يطابق السؤال ، بل هو اختيار لشقّ ثالث من شقيّ الاعتراض مبنيّ على جعل الوجوب وصفا لشيء وهو الكلّي المشترك ، وجعل التخيير معتبرا بين امور اخرى غير ذلك الشيء وإن كان لها تعلّق به باعتبار كونها جزئيّاته ، وهو ليس بشيء ممّا ذكره المعترض في تقرير الاعتراض من الشقّين. ومثله الكلام في ثاني الوجهين لرجوعه إلى الأوّل في جعل الوجوب وصفا للكلّي والتخيير وصفا للأفراد ، إذ لا فرق بينهما إلاّ في جعل عدم التعيين تارة وصفا للواحد الواجب واخرى وصفا لما خيّر فيه من الأفراد.

وأمّا ما ذكره في توجيه قوله : « والتعدّد » فأوضح فسادا ، لأنّه إقرار باعتراض المعترض لا أنّه دفع للاعتراض ، ضرورة أنّه اعترض بلزوم اجتماع المتضادّين في محلّ واحد على أحد شقّي اعتراضه ، وهو في معنى القول بأنّ تعدّد الوجوب والتخيير يأبى عن

٣٠

اتّحاد متعلّقيهما فكيف يمكن فرضه متّحدا.

إلاّ أن يقال : بأنّ المراد دفع الاعتراض بطريق الإنّ ، بمعنى أنّا بملاحظة تعدّد المتعلّق ـ أعني الوصف ـ نستكشف عن تعدّد المتعلّق ـ أعني الموصوف ـ وإن لم نعلمه بالخصوص ، كما في الوجوب والحرمة ، ولكنّه بعيد عن سياق العبارة غاية البعد وما ذكرناه أظهر وأوفق وأسدّ.

ومنها : أنّ الأشاعرة في نقوضهم وإبراماتهم ـ على ما يشهد به التتبّع كما في مختصر الحاجبي وشروحه ومنهاج البيضاوي وشرحه ـ لم يتعرّضوا إلاّ لدفع كلام من يقول بوجوب الجميع ونقل احتجاجه ، وكلام من يقول بوجوب الواحد المعيّن عند الله ونقل استدلاله ، فلو كان القول بوجوب كلّ واحد على البدل مغايرا لمذهبهم تعرّضوا لدفعه ونقل الاحتجاج عليه.

ومنها : أنّ من الأشاعرة ـ كالحاجبي والعضدي ـ من يرى في الواجبات المعيّنة تعلّق الأوامر بالأفراد ، ومرادهم بها مفهوم « فرد مّا » فلو كان مرادهم بأحد الأفراد في المخيّر هو المفهوم لما كان بينه وبين المعيّن فرق ، مع أنّهم قالوا بالفرق ولم يعترض عليهم أحد من السلف بعدم الفرق ، فلابدّ وأن يكون مرادهم بأحد الأفراد هنا المصاديق دون المفهوم إلاّ أن يفرّق بينهما بما سنذكره وهو بعيد.

فما في كلام المصنّف من تصديق العلاّمة في دعوى عدم الخلاف بين القولين في المعنى في محلّه.

وبما قرّرناه تبيّن أنّه لا ينبغي الالتفات إلى ما أورد عليه المدقّق الشيرواني بقوله : « لعلّه أراد أنّه لا خلاف يترتّب عليه الثمرة وإلاّ فالفرق ظاهر ، فإنّ ظاهر القول بأنّ الواجب هو الواحد المبهم أنّ الطلب متعلّق به والخصوصيّات غير منظورة ولا مطلوبة وإن لم يمكن الانفكاك عن جميعها ، وظاهر القول بوجوب الجميع على الترديد والتخيير أنّ الغرض متعلّق بالخصوصيّات لكن على سبيل الترديد.

ولا يخفى أنّ تعلّق الطلب بالخصوصيّات مردّدا بينها لا يستلزم تعلّقه بالقدر المشترك ، إذ ربّما لا يتحقّق بينهما مشترك يصلح لتعلّق الغرض به.

ووافقه على ذلك الإيراد بعض الأعلام ، حيث قال : « فربّما قيل : انّ النزاع لفظيّ وليس كذلك ، ولكنّه قليل الفائدة في الفقه ».

ولأجل توّهم ذلك الفرق أشكل عليه الأمر وأشار إليه بقوله : « ولكن الإشكال في

٣١

تحقيق معنى التخيير على مذهب الأشاعرة من جهة أنّ الكلّي لا تعدّد فيه ولا تخيير فيه وإلاّ لزم التخيير بين فعل الواجب وعدمه » ثمّ تصدّى بدفعه فقال : « ويندفع بأنّ المراد المخيّر في أفراده فالوصف بحال المتعلّق » وكأنّه مأخوذ عمّا أشرنا إليه عن بيان المختصر من الوجهين في توجيه كلام الحاجبي وقد عرفت فساده.

ثمّ أورد على نفسه إشكالا آخر ، بناءا على ما ذكره في دفع الإشكال الأوّل بقوله : « ويشكل هذا بالواجبات العينيّة ، فإنّها أيضا كليّات مخيّر في أفرادها ».

فتعرض لدفعه بقوله : « ويمكن دفعه : بأنّ الكلّي في المخيّر جعليّ عقليّ منتزع من الأفراد تابع لها في الوجود كأحد الأبدال بخلافه في العينيّات ، فإنّه متأصّل وعلّة للأفراد وسابق عليها طبعا ، وقد يجتمع الاعتباران كالكفّارة بالنسبة إلى الخصال ، فالخطاب بالكفّارة عينيّ يستتبع التخيير في أفرادها ، والخطاب بأحد الخصال تخييريّ ».

وهو غير سديد لأنّ العمدة في المقام الفرق بين الواجبين باعتبار تعلّق وصف الوجوب بهما على حسبما اعتبره الشارع وجعله لا باعتبار المتعلّق ، وما ذكره من الفرق مع كونه إعتباريّا فرق بينهما باعتبار المتعلّق وهو لا يقضي بالفرق بينهما باعتبار الوصف المتعلّق ، على أنّ مثل ذلك الفرق إن كان مجديا وإن كان ولا بدّ لكان الأولى أن يفرّق بكون الأفراد في المخيّر مختلفات في الحقيقة لكونها طبائع متبائنة ، وفي المعيّن متّفقات في الحقيقة لكونها جزئيّات لطبيعة واحدة.

وقد يضاف إلى ما ذكر وجهان آخران :

أحدهما : أنّ الأفراد في الواجبات العينيّة متّفقة في الحقيقة وفي التخييريّة مختلفة.

وأورد عليه : التخيير في الصلاة بين القصر والإتمام والتخيير في التسبيحات بين واحدة وثلاث ، لاتّحادهما في الحقيقة في الجميع.

وردّ : بأنّ المراد بالحقيقة ما تعلّق بها الخطاب الشرعي عينا أو تخييرا ، وهي قد تكون جنسيّة وقد تكون نوعيّة وقد تكون صنفيّة ، فقوله تعالى ( أَقِيمُوا الصَّلاةَ ) ينحلّ باعتبار الاصناف إلى خطابات عديدة ، خطاب إلى الحاضر وخطاب إلى المسافر وخطاب إلى الصحيح وخطاب إلى المريض وهكذا ، ولا ريب أنّ الصلاة إذا اضيفت إلى هذه المذكورات تختلف ماهيّتها ولو بحسب الصنف ، فكلّ من القصر والإتمام ماهيّة على حدة بخلاف أفراد كلّ من القصر والإتمام فإنّها امور متّفقة في الحقيقة ، فكذلك التسبيحة الواحدة إذا

٣٢

لوحظت بشرط الوحدة والتسبيحات الثلاث إذا لوحظت بشرط الانضمام ، فإنّهما ماهيّتان مختلفتان صنفا ضرورة تباين الماهيّة بشرط لا والماهيّة بشرط شيء.

وثانيهما : أنّ التخيير في العينيّات عقليّ وفي التخييريّات شرعيّ.

وقد يستشكل في الفرق بين الواجب المخيّر على قول المعتزلة والواجب المعيّن على القول بتعلّق الأحكام بالأفراد ، إذ الوجوب كما أنّه يتعلّق في المخيّر بخصوص الأفراد كذلك في العينيّات.

ويدفعه : أنّ الوجوب على هذا القول يتعلّق بمفهوم فرد مّا وفي المخيّر ـ على قول المعتزلة ـ يتعلّق بكلّ واحد من أطراف التخيير بالخصوص على جهة البدليّة ، وبينهما بون بعيد.

ثمّ انّك بالتأمّل فيما نقلناه من العبارات تعرف أنّ القوم في ثمرة الفرق بين القولين بين مصرّح بنفيها وقائل بقلّتها.

ومن الفضلاء من قال ـ بعد الفراغ عن تحرير المذهبين وإبداء الفرق بينهما على نحو ما ذكروه واختياره مذهب المعتزلة والاستدلال عليه وعلى بطلان مذهب الأشاعرة ـ : « فقد اتّضح ممّا قرّرنا أنّ الواجب على القول المختار متعدّد وعلى القول الآخر لا تعدّد فيه.

فتظهر الثمرة بين القولين فيما لو نذر أن يأتي بواجبات متعدّدة في زمان أو مكان مخصوص ، فإنّ ذمّته تبرأ بما لو أتى بالخصال فيه على الأوّل دون الثاني ، وفي مبحث النيّة فإنّه يصحّ أن يتقرّب بالخصوصيّة على الأوّل دون الثاني ، وفي مسألة اجتماع الأمر والنهي فإنّه على ما قرّرنا يمتنع تعلّق النهي التعييني بأحد أفراد الواجب المخيّر.

وأمّا على ما قرّروه فيبتني جوازه وعدمه على كفاية تعدّد الجهة وعدمها ، ومن نفى ثمرة النزاع فكأنّه غفل عن ذلك ».

ومن الأعاظم من قال ـ في الفرق بين القولين وابداء الثمرة بينهما ـ : بأنّ أحدهما يجعل الأفراد واجبة بخلاف الآخر على ما زعمه ، فإنّه يجعل الواجب الكلّي الانتزاعي وهو مفهوم « أحدهما » وبذلك يختلف في الأحكام الأوّلية كاجتماع الأمر والنهي ، وكون الأفراد وجوبها من باب المقدّمة وعدمهما كما أنّ اختلاف الأحكام التعليقيّة في غاية الظهور.

ومن الأجلّة من قال : وأمّا الثمرة بين قول الإماميّة والأشاعرة فتظهر في قصد الوجه ، فعلى الأوّل لزم عند الامتثال قصد خصوصيّة كلّ من تلك الامور الّتي يريد الإتيان بها.

وعلى الثاني ينوي القدر المشترك الكلّي وهو مفهوم « أجدها » إن أوجبنا قصد الوجه.

٣٣

وتظهر أيضا في النذر فمن نذر أن يعطي درهما لمن أتى بواجب فأتى أحد بأحد الخصال على قصد الخصوصيّة في الامتثال فعلى قول الإماميّة يبرّ النذر بإعطاء الدرهم وعلى قول الأشاعرة لا.

وأيضا لو نذر أن يعطي درهما لمن أتى بثلاث طبائع من الواجبات الّتي ورد من الشارع أمر بها بخصوصها ، فصام أحد وأفطر في صيامه الواجب فأعتق عبدا ، ثمّ أفطر وأطعم المساكين ، ثمّ أفطر وصام شهرين ، فعلى قول الإماميّة يبرّ نذره باعطائه الدرهم ، لأنّه أتى بطبائع كلّ منها واجبة بخصوصها ، وعلى قول الأشاعرة لا لأنّه لم يأت إلاّ بطبيعة واحدة وهي كلّي « أحدها » بدفعات تدريجا ولم يتعلّق أمر من الشارع إلاّ بطبيعة واحدة وهي « أحدها » وإنّما هو أوجد طبيعة واحدة ثلاث مرّات لا أنّ ما وجد طبائع متعدّدة.

وتحقيق المقام : أنّ المسائل الاصوليّة هي القواعد الّتي يستنبط منها الأحكام الشرعيّة الفرعيّة ، وهذه القواعد لكونها نظريّة لابدّ في حصول المعرفة بها من تصوّرات وتصديقات.

ألا ترى أنّ قولنا : « الأمر حقيقة في الوجوب » أو « صيغة افعل حقيقة في الوجوب » ممّا لا يتأتّى التصديق به إلاّ بتصوّرات راجعة إلى موضوع القضيّة ومحمولها ومتعلّقاتهما ، وتصديقات راجعة إلى ما يوجب الانتقال إلى النسبة الخبريّة في ذلك التصديق والحكم بها ، ولأجل ذلك أوردوا في مفتتح كتبهم ـ زيادة على ما هو معلوم بالضرورة أو مذكور في سائر الفنون المدوّنة أو في تضاعيف مباحث نفس الفنّ ـ مقدّمة سمّوها بالمبادئ جريا على مصطلح أهل الميزان بعد ما قسّموها على نوعين لغويّة وأحكاميّة.

وظاهر أنّ ما يطلب في تلك المبادئ قد يكون ممّا يفيد شيئا من التصوّرات المذكورة كحدّي الحقيقة والمجاز وحدود أنواعهما وحدّي الوجوب والواجب وحدود أنواعهما وغيرها ممّا يعبّر عنها بالمبادئ التصوّريّة.

وقد يكون ممّا يفيد شيئا من التصديقات كإثبات أمارات الحقيقة والمجاز وإثبات بعض أنواعهما ، وإثبات إدراك العقل لحسن الأشياء وقبحها ، وحكمه بوجوب شكر المنعم ونحو ذلك ممّا يعبر عنها بالمبادئ التصديقيّة.

ومن المبادئ التصديقيّة ما يكون راجعا إلى أصل الحكم نفيا وإثباتا مع إحراز موضوع القضيّة ومحمولها أو السكوت عنهما أو فرض ثبوتهما ، وما يكون راجعا إلى تعيين محلّه من المحكوم عليه أو المحكوم به وغير ذلك من متعلّقاتهما زمانا ومكانا مع

٣٤

كون أصل الحكم مفروغا عنه أو مسكوتا عنه أو مفروض الثبوت.

ومن خواصّ الأوّل أنّه قاعدة من المبادئ التصديقيّة يستنبط منها قاعدة اخرى ممّا هو مندرج في المسائل الاصوليّة ، ومن جملة ذلك مسألة إدراك العقل لحسن الأشياء أو قبحها ، فإنّ حقيقة البحث فيها ترجع إلى إثبات ملزوم وهو حكم العقل في الأشياء في الجملة ، والنظر في ثبوت الملازمة بينه وبين حكم الشرع مسألة اصوليّة متفرّعة على المسألة الاولى ، ضرورة أنّ البحث عن الملازمة فرع ثبوت الملزوم.

ولأجل ذلك الفرق بين النوعين نجد فرقا بيّنا بين بحث الواجب الموسّع وبحثي المخيّر والكفائي مع كون الجميع من المبادئ التصديقيّة الأحكاميّة ، لعدم اندراجها في ضابطة المسائل الاصوليّة ، فإنّ البحث عن الأوّل في عنوان قولهم : « هل يجوز الأمر بالفعل في زمان يفضل عليه أو لا يجوز؟ » يرجع إلى اثبات أصل الحكم ونفيه بخلاف البحث عن الأخيرين ، فإنّ أصل الحكم فيهما محرز وإنّما التشكيك والإشكال حاصلان في موضوعه ، فحصل لهم في تعيينه آراء مختلفة.

ولذا ترى أنّ الأوّل ممّا يتفرّع عليه مسألة اخرى اصوليّة ، وهي أنّ الواجب الموسّع على فرض ثبوته هل له بدل بحسب أصل الشرع أو لا؟ وعلى تقديره فهل هو العزم على الفعل في كلّ جزء من الوقت اريد تركه فيه أو غيره من إيقاعاته الّتي تفرض بالقياس إلى أجزاء الوقت.

والوجه في كون ذلك مسألة اصوليّة دون ما هي مترتّبة عليه ما قدّمناه في بحث الضدّ من الضابط الكلّي بخلاف الأخيرين حيث لا يترتّب عليهما إلاّ حصول تصوّر الموضوع على جهة التفصيل في مواضع ذكر المخيّر والكفائي كما لا يخفى.

ونظير هذين البحثين من المبادئ اللغويّة ما وقع النزاع بينهم في تعيين واضع اللغات وأمثال ذلك ، فمن صرّح بنفي الثمرة بين القولين في الواجب المخير ، إنّما أراد به هذا المعنى ، ضرورة أنّه ليس في المقام مسألة اصوليّة تترتّب عليهما على جهة الاختصاص كما هو الشأن في ثمرات المسائل المختلف فيها ، حيث يراد منها ما يكون غاية مطلوبة من عقد المسألة ووضعها.

فما يقال في دفعه : بظهور الثمرة بينهما في قصد الوجه وجواز اجتماع الأمر والنهي وعدمه والأحكام التعليقيّة ليس على ما ينبغي ، ضرورة عدم كون المقصود من عقد تلك

٣٥

المسألة تفرّع هذه الامور عليها نفيا أو إثباتا بل هي ـ على فرض تسليم صحّتها ـ من الفوائد الّتي تترتّب على المسألة من باب البغت والاتّفاق ، مع أنّ لنا المنع عن تفرّعها عليها من هذه الجهة أيضا لو أرادوا من جعلها ثمرة هذا المعنى ، فإنّ النيّة والتقرّب يتبعان رجحان الشيء الناشئ عن المصلحة الواقعيّة الكامنة فيه ، ومعلوم بالوجدان أنّ الراجح في نظر الآمر في متن الواقع وما هو ذو مصلحة عنده بحسب اللبّ هو الخصوصيّة ، وإن علّق طلبه في الخطاب بما عرى عن الخصوصيّة فيكون التقرّب أو مصلحة اخرى حاصلا بالخصوصيّة لا بالمفهوم المنتزع ، كيف وهو ملحوظ تبعا وتعلّق به الطلب توسّعا.

وقضيّة ذلك حصول الامتثال لو نوى الخصوصيّة على القولين لكونه إطاعة له في إيجاد ما تعلّق به غرضه ، وما هو راجح في نظره ومحبوب عنده بحسب اللبّ ونفس الأمر ، واجتماع الأمر والنهي مع تعدّد الجهة ليس له مفهوم محصّل إلاّ أنّ الشارع تصوّر أمرين محرّمين عنده أو أحدهما محرّم والآخر محلّل ، ثمّ انتزع عنهما مفهوم « الأحد » وأمر به ، فكلّ منهما أو غير ما هو المحلّل منهما من حيث خصوصيّته محرّم ومنهيّ عنه ومن حيث كونه أحد الأمرين مأمور به ، فيكون امتثالا وعصيانا معا ، وهو كما ترى ممّا لا يكاد يتعقّل حتّى على القول بجواز الاجتماع مع تعدّد الجهة ، فإنّ انتزاع المفهوم عند إرادة الأمر به عن المتعدّد في حكمة الحكيم فرع المحبوبيّة القائمة بكلّ وتابع للمصلحة الموجودة في كلّ ، وإلاّ لكان المتّعين الأمر بما هو المحبوب وما هو ذو مصلحة كامنة.

ومن البيّن أنّ المبغوض لا يصير محبوبا وما فيه المفسدة لا يعقل كونه ذا مصلحة إذا فرضنا في عرض واحد بأن يؤثّر كلّ أثره ، وما يرى من اجتماعهما في الشيء على نحو السويّة المستدعية للتسوية فيه بين طرفي فعله وتركه ، أو على وجه يغلب معه المصلحة على المفسدة غلبة قاضية بالأمر به لا مدخل له في محلّ الكلام لعدم بقاء المفسدة المفروضة مؤثّرة لأثرها ، وهو اقتضاء النهي فيكون وجودها بمنزلة عدمها.

فإن قلت : فأيّ فرق بين الصورة المفروضة وبين الصلاة في الدار المغصوبة الّتي يصحّحها أصحاب القول بكفاية تعدّد الجهة في اجتماع الأمر والنهي ، ويقولون : بأنّها من حيث كونها صلاة مأمور بها ومن حيث كونها غصبا منهيّ عنها؟ قلت : الفرق بينهما أنّ المأمور به والمنهيّ عنه ثمّة في ملاحظة الشارع طبيعتان متمايزتان ، ولا مدخل لشيء منهما في الاخرى ولم يلاحظ شيء منهما حين ملاحظة الاخرى ، فطبيعة الصلاة في كونها

٣٦

مأمورا بها لا بشرط شيء كما أنّ طبيعة الغصب في كونها منهيّا عنها لا بشرط شيء ، فإذا أجمع بينهما المكلّف في شخص واحد كان إمتثالا من حيث إيجاده لطبيعة الصلاة وعصيانا من حيث إيجاده لطبيعة الغصب ، لأنّ المفروض تعلّق الأمر والنهي بهما لا بشرط شيء وما به تشخّص الفرد وهو إضافتهما إلى هذا المكان الخاصّ ليس بمأمور به ولا منهيّ عنه ، لعدم كونه من مقولة الأفعال ، كما أنّ المجموع منه ومن الطبيعتين المعبّر عنه بالفرد ليس بمأمور به ولا منهيّ عنه لعدم تعلّق الأحكام بالأفراد ، فلا يبقى في المقام إلاّ الطبيعتان والمفروض أنّه لا تداخل بينهما أصلا ، فلا يلزم كون المبغوض محبوبا والمحبوب مبغوضا ، كما لا يلزم اجتماع المصلحة والمفسدة في شيء واحد بخلاف محلّ الكلام ، فإنّ مفهوم « الأحد » لكونه منتزعا عن هذا وهذا لا يفارق الخصوصيّتين أصلا ، بل لكلّ من الخصوصيّتين مدخل في كونه مأمورا به ، إذ لو لا إحداهما لتعيّن الاخرى في كونها مأمورا بها ، فيكون في كونه مأمورا به في نظر الآمر بشرط شيء ، والأمر به على هذا الوجه ينافي مبغوضيّة الشرط وكونه منهيّا سواء فرضنا النهي في أحد الخصوصيّتين أو كلتيهما.

فيؤول مآل الأمر به على هذا التقدير إلى أن يقول الآمر : « اريد منك هذا الشيء حتما بشرط أن تؤخذه في ضمن ما هو مبغوض لي » وهو كما ترى كلام سفهيّ يمتنع صدوره من الغافل الحكيم.

فإن قلت : هذا مسلّم فيما لو كانت الخصوصيّتان محرّمتين ومع الاختلاف فلا ، إذ الاشتراط بالخصوصيّة المحرّمة حينئذ غير لازم ليلزم منه المحذور.

قلت : لا ريب أنّ مفهوم « الأحد » على إطلاقه غير مطلوب ، وإلاّ لزم الامتثال بغير هاتين الخصوصيّتين ، بل هو من حيث إضافته فلو اعتبر إضافته إلى المحلّل بالخصوص كان الواجب هو الواحد بعينه مع الاتّحاد وهو خلاف الفرض ، أو تعلّق الأمر بما لا يتحقّق في ضمن المنهيّ عنه وهو أيضا خلاف الفرض ، ولو اعتبر إضافته إليه وإلى المحرّم لزم المحذور ، لأنّ الإضافة لا يراد بهما إلاّ الاشتراط.

غاية الأمر كون المحرّم شرطا في الامتثال وقيدا للمأمور به على جهة البدليّة ، وهو مثل جعله كذلك على جهة التعيين في استلزامه لتقبيح قائله ورميه بالسفاهة.

وممّا قرّرناه سابقا في غير موضع يظهر فساد تفريع مسألة النذر حسبما فرضه بعض الفضلاء أيضا ، فإنّ الواجب من الخصال واحد دائما لكونه مقيّدا بما يمتنع معه تعلّق الوجوب

٣٧

وهو : أنّ الواجب واحد معيّن عند الله تعالى غير معيّن عندنا ، إلاّ انّ الله تعالى يعلم أنّ ما يختاره المكلّف هو ذلك المعيّن عنده تعالى*.

ثمّ إنّه أطال الكلام في البحث عن هذا القول. وحيث كان بهذه المثابة فلا فائدة لنا مهمّة في إطالة القول في توجيهه وردّه. ولقد أحسن المحقق رحمه الله حيث قال بعد نقل الخلاف في هذه المسألة : « وليست المسألة كثيرة الفائدة ».

__________________________________

بالمتعدّد ، فما في أوّل كلامه من التصريح بتعدّد الواجب على مذهب المعتزلة خبط عظيم.

ولو سلّم فكون الإتيان بالخصال الثلاث موجبا لبرّ النذر في حيّز المنع لانصراف الإطلاق إلى الواجبات المعيّنة ، فإنّ الواجب إن لم يكن حقيقة في خصوص المعيّن فلا أقلّ من كونه عند الإطلاق ظاهرا فيه خاصّة كما لا يخفى.

* وهذا هو أحد أقوال المسألة.

وقال في شرح المنهاج : أنّ كلاّ من الفريقين ينسب هذا القول إلى الآخر ويدفع عن نفسه ، وقضيّة هذا القول أن لا يعلم المكلّف قبل الاختيار بل قبل الفراغ عن العمل بما هو واجب عليه.

فمن مفاسده أن يتعذّر عليه قصد الوجه إن أوجبناه ، بل قصد الامتثال أيضا إن كان من مقولة العبادات إن جعل اختياره بل فعله علّة كاشفة عن الوجوب ، أو تعيين الواجب عليه كما هو قضيّة التقرير المذكور في العبارة من سبق الوجوب والتعيين على اختياره ، لسبق علمه تعالى بما يختاره على اختياره.

نعم لو جعل الاختيار علّة محدثة للتكليف أمكن له قصد الوجه والامتثال ، بدعوى : أنّ بمجرّد اختياره بعضا من الخصال يتعلّق به الوجوب ويتعيّن عليه ذلك المعيّن فيقصد الوجه والامتثال حين الشروع بالفعل.

وهذا ربّما يوهمه بعض العبائر كما في عبارة شارح المنهاج حيث أورد على نفسه في دفع ما أورده على هذا القول من الاعتراض.

وإن شئت تفصيل ذلك فلاحظ قوله : « وهذا القول مردود في الجملة لأنّ التعيين ينافي التخيير ، إذ لو كان معيّنا لا متنع ترك ذلك المعيّن لامتناع ترك الواجب ، فلو كان مخيّرا فيه لجاز تركه ، والتخيير وهو جواز أن يترك كلّ واحد منها على البدل ثابت في الكفّارة باتّفاق الفريقين فانتفى الأوّل وهو التعيين فلا يكون الواجب واحدا معيّنا عند الله تعالى.

٣٨

فإن قيل : لا نسلّم التنافي بين تعيين الواجب من الثلاث وبين التخيير فيه ، لجواز كون محلّ التعيين غير محل التخيير ، بأن يكون الواجب واحدا معيّنا والمكلّف مختار بين كلّ واحد ولكن يختار المكلّف المعيّن فيكون الواجب معيّنا واختاره المكلّف منها ، أو بأن يكون المكلّف مخيّرا بين كلّ واحد وإن اختار واحدا منها عيّنه الله تعالى ذلك الواحد المختار لأجله ، أو بأن يكون الواجب واحدا معيّنا ولكن يسقط ذلك الواجب بغيره إذا كان بدلا له ، فيكون المكلّف مخيّرا بين الواجب أمرا معيّنا وبدله ». انتهى.

ولكن يضعّفه : أنّ هذا الوجه خلاف ما يساعده أدلّة هذا القول الآتية ، وخصوص ما ذكر في الاحتجاج على هذا القول ـ على ما في بيان المختصر في توجيه الحجّة الّتي قرّرها الحاجبي ـ من أنّه : « علم الله تعالى ما يفعل المكلّف من الخصال الثلاث فيكون متعيّنا في علم الله تعالى ، والوجوب تعلّق به فيكون الواجب معيّنا وهو ما يفعله المكلّف » إلى آخره.

ولذا قال بعض المحقّقين في توجيهه ـ عند شرح العبارة ـ : « بأنّ المراد أنّ الواجب معيّن عنده تعالى سواء فعل المكلّف أم لا ، ولكن اختيار المكلّف وفعله على تقدير الامتثال يكون موافقا لما أوجبه الله عليه ، فيختلف الواجب بالنسبة إلى المكلّفين ، ولو لم يفعل المكلّف ولم يمتثل بقي ذلك المعيّن في ذمّته.

وقد يوهم بعض عبارات القوم أنّ الواجب معيّن عند الله تعالى وهو ما يفعله المكلّف ، بمعنى : أنّ تعيينه عنده تعالى بكونه ما يفعله المكلّف.

ويرد عليه : أنّه لو لم يفعل المكلّف شيئا منها يلزم أن لا يكون شيء واجبا معيّنا عنده تعالى » إلى آخره.

ولا يذهب عليك أنّ ما نقله ذلك المحقّق معنى آخر في توجيه هذا القول غير ما ذكرناه ونقلناه عن عبارة شارح المنهاج ، فإنّ ذلك مبنيّ على جعل اختيار المكلّف من شرائط حدوث التكليف حين حصول الاختيار بخلاف المعنى المذكور ، لابتنائه على جعل الوجوب تابعا لعلمه تعالى باختيار المكلّف وهو سابق على الاختيار ، فيكون الوجوب التابع له سابقا عليه.

وربّما يستفاد عن بعض العبائر معنى آخر لكون الواجب معيّنا عند الله ، وهو عدم مدخليّة اختيار المكلّف في إيجابه تعالى لا بعنوان الشرطيّة ولا بعنوان المتبوعيّة بالقياس إلى علمه تعالى ، بل هو معيّن عنده تعالى على حسبما اقتضته إرادته الحتميّة وهو أوفق بما نقلوه من أدلّة هذا القول كما ستعرفه ، غير أنّه لا يساعده أكثر العبائر ، وهو حينئذ بالنظر

٣٩

إلى موافقة اختيار المكلّف له محتمل لوجهين :

أحدهما : حصول الموافقة من باب البغت والاتّفاق.

وثانيهما : حصولهما بإجبار منه تعالى ، وهو في غاية البعد.

وقضيّة ذلك تعدّد الواجب عنده تعالى على جهة التعيين حسب تعدّد أطراف الاختلاف في اختيار المكلّفين ، غير أنّه ينافيه التقييد « بالواحد » في نقل هذا القول حيث يقال : انّ الواجب واحد معيّن ، إلاّ أن يراد به كونه واحدا بالنسبة إلى كلّ مكلّف لا بالنسبة إلى الجميع.

كما أنّ قضيّة ذلك بقاء الواجب في ذمّة من يعصي منهم ولا يأتي بشيء من الخصال واستحقاقه العقاب لذلك.

وبقي في المقام قولان آخران محكيّان عن المعتزلة أيضا :

أحدهما : ما تقدّم الإشارة إليه من أنّ الوجوب يتعلّق بالجميع ويسقط بفعل البعض.

وربّما يلوح عن بعضهم كما في شرح الشرح ذهاب بعض المعتزلة إلى أنّه يثاب ويعاقب على كلّ واحد ولو أتى بواحد سقط عنه الباقي.

ثمّ نقل قولا عن الإمام في البرهان أنّ أبا هاشم اعترف بأنّ تارك خصال الكفّارة لا يأثم إثم من ترك واجبات ، ومن أتى بها جميعا لم يثب ثواب واجبات لوقوع الامتثال بواحدة.

وثانيهما : أنّ الواجب واحد معيّن عند الله تعالى يسقط به وبالآخر ، وكأنّه مأخوذ عمّا ذكره شارح المنهاج احتمالا كما تقدّم في عبارته.

وينبغي الإشارة إلى أدلّة الأقوال وما أورد عليها من الأجوبة والاعتراضات.

فاحتجّوا على القول المختار بوجوه ذكرها بعض الأفاضل :

أوّلها : أنّه لا شكّ في أنّه قد يشترك أفعال عديدة في الاشتمال على مصلحة لازمة للمكلّف بحيث لا يجوز إهمالها في حكم العقل ، فإن كانت تلك المصلحة ممّا يدركها العقل يجب على المكلّف الإتيان بخصوص كلّ من تلك الأفعال لإحراز تلك المصلحة بحكم العقل ، وإلاّ لزم دلالة الشرع عليه كذلك نظرا إلى وجوب اللطف عليه.

وقضيّة ذلك وجوب كلّ من تلك الأفعال بخصوصه على وجه التخيير بينها ، فلا وجه حينئذ للقول بوجوب الجميع وإن سقط بفعل البعض لما عرفت من انتفاء المقتضي له ، وللقول بوجوب واحد منها دون الباقي لما عرفت من قيام المقتضي في كلّ منها على نحو واحد ، فلا يعقل ترجيح البعض في الإيجاب دون الباقي.

٤٠