تعليقة على معالم الاصول - ج ٤

السيّد علي الموسوي القزويني

تعليقة على معالم الاصول - ج ٤

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيد علي العلوي القزويني
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-535-1
الصفحات: ٨٦٤

إذا تقرّر ذلك. فاعلم : أنّ دليل الخصم لو تمّ ، لكان دالاّ على بقاء الاستحباب ، لا الجواز فقط ، كما هو المشهور على ألسنتهم* (١) ، يريدون به الإباحة. ولا الأعمّ منه ومن الاستحباب ، كما يوجد في كلام جماعة. ولا منهما ومن المكروه ، كما ذهب إليه بعض ، حتّى أنّهم لم ينقلوا القول ببقاء الاستحباب بخصوصه إلاّ عن شاذّ ، بل ربما ردّ ذلك بعضهم نافيا للقائل به ، مع أنّ دليلهم على البقاء كما رأيت ينادي بأنّ الباقي هو الاستحباب.

___________________________________

والشكّ وزمانيهما ولأجل ذلك يعتبر فيه بقاء الموضوع ، ولا ريب في اختلافهما هنا باعتبار المحمول أيضا ، لأنّ القضيّة المتيقّنة هو قولنا : « الشيء الفلاني كان واجبا » والقضيّة المشكوكة هو قولنا : « الشيء الفلاني هل هو جائز أو لا؟ ».

ولا ريب أنّهما لا تندرجان فيما ظاهره اتّحاد القضيّتين موضوعا ومحمولا وغيرهما.

وأمّا الثاني : فلأنّ معارضة أصالة عدم وجود القيد كما ذكره المصنّف ممّا لا مدفع له ، وما تقدّم في دفعها من دعوى اليقين بوجوده بعد النسخ تمسّكا بعدم جواز ارتفاع النقيضين وغيره لا يخلو عن مغالطة ، لعدم كون نقيض المنع من الترك الإذن في الترك لأنّهما وجوديّان وتقابلهما بالتضادّ لا بالإيجاب والسلب ، بل نقيضه عدم المنع من الترك وهو اللازم من رفع المنع من الترك لا الإذن في الترك الّذي يحتاج إلى جعل آخر ، والأصل وعدم المنع من الترك لا يستلزمه لأنّه أعمّ والأعمّ لا يستلزم الأخصّ ، خصوصا مع ملاحظة ما قدّمناه سابقا من أنّ نسخ الحكم الشرعي لا يقتضي بدليّة حكم آخر عن الحكم المنسوخ لجواز خلوّ الواقعة عن الحكم المجعول رأسا ، وحينئذ فاستصحاب الجواز مع خلوّ الواقعة عن قيدي المنع من الترك والإذن فيه وعدم إفادته يقينا ولا ظنّا بالجواز لا يفيد فائدة ولا يجدي نفعا في انعقاد حكم آخر مكان الوجوب ، وانعقاد الجواز المشكوك فيه بنفسه حكما شرعيّا من غير لحوق أحد قيود الأحكام الأربع به غير معقول ، ولذا قال بعض الأعلام في كلامه السابق : « ويبقى المورد بلا حكم » (١) فإنّه متين بل في كمال المتانة.

فتقرّر أنّ الأقوى عندنا بالنظر إلى الأصل والاعتبار هو القول بعدم البقاء.

(١) * وهذا حقّ لا سترة عليه ، لأنّه إذا صلح جواز الفعل لإبقائه بعد النسخ بالاستصحاب

__________________

(١) القوانين ١ : ١٢٩.

٤٨١

وتوضيحه : أنّ الوجوب لمّا كان مركّبا من الاذن في الفعل وكونه راجحا ممنوعا من تركه ، وكان رفع المنع من الترك كافيا في رفع حقيقة الوجوب ، لا جرم كان الباقي من مفهومه هو الإذن في الفعل مع رجحانه ؛ فاذا انضمّ إليه الإذن في الترك على ما اقتضاه الناسخ ، تكمّلت قيود الندب وكان الندب هو الباقي.

___________________________________

ـ لأنّ القدر المتيقّن ممّا ارتفع هو المنع من الترك لا جواز الفعل ـ لصلح رجحانه أيضا لابقائه بالاستصحاب ، لأنّ القدر المقطوع بزواله من الرجحان إنّما هو تأكّده لا تمامه وهو كاف في انعقاد الاستحباب.

خاتمة

لا يخفى عليك أنّ ما يثبت بعد النسخ من الاستحباب أو الاباحة أو الحكم المتردّد بينهما أو بين الثلاث حكم ظاهري وإن استند أحد جزئيه إلى دليل النسخ ، لاستناد جزئه الآخر إلى الأصل الّذي لولاه كان القول بعدم البقاء متّجها والنتيجة تتبع أخسّ مقدّمتيها ، فحينئذ لو قام دليل من الخارج على الحرمة كان العمل به متعيّنا من دون أن يعارضه الأصل المقتضي للحكم المذكور ، بخلاف ما لو كان مستند بقاء الجواز ظاهر الأمر المقتضي للمركّب فإنّه حينئذ مع الناسخ دليلان في حكم دليل واحد يثبت بهما الحكم المذكور ، فربّما يتأتّى المعارضة فيهما بالقياس إلى دليل الحرمة فتمسّ الحاجة إلى مراجعة قواعد الترجيح ، إلاّ أن يقال : إنّ دليل الحرمة حيثما ثبت ينهض قرينة كاشفة عن تعلّق النسخ بالمجموع المركّب من جزئي الوجوب ، ومعه لا يتأتّى التعارض إلاّ في بادئ النظر على قياس ما هو الحال في كلّ نصّ وارد على الظاهر.

ثمّ بالتأمّل في تضاعيف الكلمات السابقة يعلم أنّ ثمرة المسألة تظهر في انعقاد حكم آخر بعد نسخ الوجوب بمجرّد الجواز الّذي كان في ضمن الوجوب فلا حاجة لإثباته إلى دليل آخر ، وعدمه فلا بدّ لإثبات الحكم الآخر إلى الدليل.

وهذه ثمرة عظيمة غير أنّه في كلام جماعة عدم الوقوف على فرع للمسألة أو نفيه أو الحكم بقلّته.

نعم عن بعض الأصحاب أنّه فرّع عليه جواز الجمعة ندبا أو تخييرا بعد انتفاء وجوبها العيني بسبب فقد شرطه وهو حضور الإمام عليه‌السلام ، فعلى القول بعدم بقاء الجواز يحرم تشريعا.

٤٨٢

وفيه : أنّ انتفاء شرط الوجوب في الواجب المشروط ليس من مسألة نسخ الوجوب ولا أنّه نظيرها ، إذ لا وجوب معه فصلا وجنسا فلا جواز أصلا حتّى يتكلّم في بقائه وعدم بقائه.

والسرّ في ذلك ما ذكروه من اختصاص الوجوب في الواجبات المشروطة بواجدي الشرط وعدم دخول الفاقدين فيها أصلا ، فلم يتوجّه إليهم الأمر ولم يشملهم الخطاب أصلا ، فلا وجوب ولا جواز ، فيحتاج جواز الجمعة لهم ندبا أو تخييرا إلى الدليل ومع فقده تحرم تشريعا.

ومن الأعلام من ذكر للمسألة نظيرا بعد تصريحه بعدم وجدان فرع له وقال بكون النظير كثير الفروع عظيم الفائدة وهو ما اشتهر في ألسنتهم من أنّ بطلان الخاصّ لا يستلزم بطلان العامّ ، وقال : « بأنّ التحقيق فيه أيضا خلاف ذلك » ثمّ ذكر من فروعه تبعيّة القضاء للأداء وعدمها ، وكون الطهارة الوضوئيّة مجزية عن الطهارة الغسليّة فيمن وجب عليه الغسل ثمّ تعذّر وعدمه ، وكون العبد المأذون في التصرّف مأذونا فيه بعد بيعه أو عتقه وعدمه ، ووجوب اضحيّة حيوان آخر مكان ما لو نذر اضحيّته بالخصوص فمات وعدمه ، وصحّة النذر في إيقاع الصلاة في مكان لا رجحان فيه ، بناء على اشتراط الرجحان في انعقاد النذر وعدمها.

ثمّ قال : « والتحقيق أنّه لو نذر إيقاع صلاة الظهر أو نافلته مثلا في مكان لا رجحان فيه فلا ينعقد على القول باشتراط الرجحان في النذر ، وأمّا لو نذر إيقاع ركعتين مبتدئة في المكان المذكور فينعقد ، لا لأنّ عدم اعتبار الخاصّ لا يستلزم عدم العامّ فلا بدّ أن ينعقد ويفعلها ولو في غير هذا الموضع ، بل لأنّ مورد النذر هو ذلك الفرد وهو راجح باعتبار الكلّي الموجود فيه » (١) انتهى.

وقد خفي وجه الفرق بين المسألتين على كثير من الأنظار فأوردوا عليه : بأنّه تحكّم وفرق بلا فارق ، لأنّ الفرد في مسألة نذر إيقاع صلاة الظهر أو نافلته أيضا راجح باعتبار الكلّي الموجود فيه مع كون مورد النذر في المسألتين [ هو الفرد ] مع ابتناء انعقاده في المسألة الثانية على القول بعدم استلزام بطلان الخاصّ بطلان العامّ ، وهو مع أنّه يجري في المسألة الاولى يخالف مختاره وينافي قوله : « لا لأنّ عدم اعتبار الخاصّ » إلى آخره.

أقول : مورد النذر في المسألتين وإن كان هو الفرد ، إلاّ أنّ الوجه في عدم انعقاده في المسألة الاولى أنّ الفرد لا رجحان فيه ، والكلّي المأمور به ـ بمعنى طبيعة الصلاة ـ ليس موردا له فلا ينعقد في شيء منهما ، إلاّ على القول بعدم استلزام بطلان الخاصّ بطلان العامّ

__________________

(١) القوانين ١ : ١٢٩.

٤٨٣

البحث الثانى فى النواهي* (١)

___________________________________

وهو خلاف التحقيق.

وتوهّم كفاية رجحان الحصّة من الطبيعة الموجودة في الفرد في انعقاد النذر فيه.

يدفعه : أنّ مقصود الناذر كونه صلاة في هذا المكان لا كونه إيقاعا للصلاة ، والرجحان إنّما هو في الثاني وهو ليس موردا للنذر بالفرض.

بخلاف المسألة الثانية فإنّ الأمر بالنافلة المبتدئة اريد به التكرار لا الماهيّة كما في الفريضة والنافلة الراتبة ، فالفرد الّذي هو مورد النذر في المبتدئة بنفسه راجح ومطلوب ، لأنّه من جملة الأفراد المتكرّرة المتكثّرة الممكنة المطلوبة بمقتضى تكرار الأمر ، فمعنى قوله : « وهو راجح باعتبار الكلّي الموجود فيه » أنّه راجح باعتبار ماهيّة الصلاة المبتدئة الّتي جميع أفرادها الممكنة راجحة مطلوبة ومنها مورد النذر ، لا أنّ الماهيّة من حيث هي راجحة مطلوبة من غير رجحان ومطلوبيّة جميع أفرادها الّتي منها مورد النذر ، ولخفاء هذا الفرق سبق إلى الأنظار المتقدّم إليها الإشارة توهّم عدم الفرق فأوردوا عليه بنحو ما تقدّم ، والجهة الباعثة على خفاء الفرق قصور عبارة قوله : « وهو راجح باعتبار الكلّي الموجود فيه » عن إفادة حقيقة المقصود (١).

(١) * اعلم أنّ لفظ « النهي » باعتبار المادّة ضدّ للأمر بهذا الاعتبار ، فيشاركه في معناه الطلبي المختلف في تحديده حسبما ستعرفه وإن لم يشاركه في غيره ممّا تقدّم من معانيه كالفعل والشأن والشيء والحادثة وغيرها ، وقضيّة ذلك أن يجري فيه ضدّ الحدود المتقدّمة في الأمر كما أشار إليه الحاجبي بقوله : « وما قيل في حدّ الأمر من مزيّف وغيره فقد قيل

__________________

(١) وقد عدل عن هذا التوجيه في حاشية القوانين بقوله : « وفيه نظر ، لأنّه إن اريد من رجحان هذا الفرد رجحانه من حيث إنّه ركعتان مبتدئة فهو وإن كان مسلّما إلاّ أنّ النذر لم يرد عليه بهذه الحيثيّة الكليّة وإلاّ لوجب حصول الوفاء بأداء الفرد الآخر أيضا ، وإن اريد رجحانه من حيث وقوعه في المكان المذكور فهذه الحيثيّة لا رجحان فيها والنذر قد ورد عليها ، ورجحانه من حيث الصلوتيّة لا يستلزم رجحانه من حيث الخصوصيّة الحاصلة باعتبار المكان الزائدة على الخصوصيّة الحاصلة من حيث الوقت والزمان ، وتكرار الأمر بالركعتين مبتدئة إنّما يقتضي الرجحان في الأفراد المتعاقبة على حسب تعاقب أجزاء الوقت ، لأنّ المستحبّ إنّما هو إيقاع ركعتين مبتدئة في كلّ وقت يسعها لا الأفراد المتمايزة بخصوصيّات المكان ، لعدم ورود الأمر الاستحبابي على ركعتين مبتدئة في المكان ليكون هذا الفرد باعتبار وقوعه في هذا المكان الخاصّ من أفراد هذا العنوان ، وإلاّ بطل فرض كون مورد النذر مكانا لا رجحان فيه » [ راجع حاشية القوانين : ٨٩ ].

٤٨٤

في حدّ النهي » ، وفي معناه المحكيّ عن الآمدي في الإحكام قائلا : « اعلم أنّه لمّا كان النهي مقابلا للأمر فكلّما قيل في حدّ الأمر على اصولنا واصول المعتزلة من المزيّف والمختار فقد قيل مقابله في حدّ النهي ».

ونحوه ما ذكره العضدي من : « أنّ ما قيل في حدّ الأمر من مزيّف وغيره قيل مقابله في حدّ النهي ، مثل أنّه القول المقتضي طاعة المنهيّ بترك المنهيّ عنه ، أو قول القائل لمن دونه : « لا تفعل » مجرّدة عن القرائن الصارفة عن النهي ، أو صيغة « لا تفعل » بإرادات ثلاث : إرادة وجود اللفظ وإرادة دلالتها على النهي ، وإرادة الامتثال » انتهى.

وقضيّة ذلك كون لفظ « النهي » أيضا ممّا اتّفقوا على كونه باعتبار العرف واللغة موضوعا لشيء طلبي مردّد بين كونه قولا مخصوصا دالاّ على الطلب ، أو طلبا بالقول أو مطلقا من العالي ، أو مطلقا على سبيل الاستعلاء أو مطلقا ، وإن اختلفوا في تحديد هذا المعنى حسبما أشرنا إليه بكلمات الترديد ، وتفصيله أنّهم بين فريق جعلوه من مقولة القول بعبارات مختلفة ، فعن العدّة : « النهي هو قول القائل لمن دونه : « لا تفعل » وإنّما يكون قبيحا إذا كره المنهيّ عنه ».

وعن المعارج : « النهي هو قول القائل لغيره : « لا تفعل » أو ما جرى مجراه على سبيل الاستعلاء مع كراهة المنهيّ عنه ».

وعن المنتهى : « الحقّ أنّ النهي القول الدالّ على طلب الترك على جهة الاستعلاء ».

ونحوه ما في منية السيّد بعين تلك العبارة.

وقد تقدّم في عبارة العضدي حدود اخر على هذا التقدير.

وفريق آخرين جعلوه من مقولة المعنى المعبّر عنه بالطلب وفسّروه عند التحديد بعبارات مختلفة :

فمنهم من عرّفه : « بأنّه طلب ترك الفعل بقول من العالي على سبيل الاستعلاء » كبعض الأعلام على نحو ما ذكره في حدّ الأمر بلا فرق بينهما إلاّ في تبديل لفظ الفعل بترك الفعل.

ومنهم من عرّفه : « بأنّه طلب الترك بالقول على جهة الاستعلاء » كما عن نهاية العلاّمة.

ومنهم من عرّفه : « بأنّه طلب ترك بالقول استعلاء » كما أشار إليه البهائي في حاشية زبدته.

ومنهم من عرّفه : « بأنّه اقتضاء كفّ عن فعل على جهة الاستعلاء » كما في مختصر الحاجبي.

ومنهم من عرّفه : « بأنّه طلب كفّ عن فعل بالقول استعلاء » كما عن غاية المأمول

٤٨٥

والفاضل الجواد في شرحه للزبدة.

ومن الفضلاء من عرّفه : « بأنّه طلب العالي من الداني ترك الفعل على سبيل الإلزام ».

فتلخّص من جميع ذلك وقوع الخلاف بينهم في مقامات :

منها : ما يرجع إلى جنس الحدّ الدائر بين كونه من مقولة القول أو من مقولة الطلب.

ومنها : ما يرجع إلى الطلب على تقدير كونه جنسا من الإطلاق أو التقييد بالقول.

ومنها : ما يرجع إلى متعلّق ذلك الطلب من حيث كونه كفّا أو تركا ، وهذا مبنيّ على الخلاف الآتي فيما عنونه المصنّف وغيره من أنّ المطلوب بالنهي هل هو الكفّ أو نفس أن لا تفعل؟

ومنها : ما يرجع إلى اعتبار العلوّ وعدمه.

ومنها : ما يرجع إلى اعتبار الاستعلاء وعدمه.

وتحقيق الحال في تلك المقامات : أنّ القول مطلقا ممّا لا مدخل له عرفا ولا لغة في انعقاد ماهيّة النهي شطرا ولا شرطا ، وإطلاقه على القول المخصوص أو الصيغة المعهودة ـ كإطلاق الأمر عليهما ـ اصطلاح محدث لا يعبأ به في ترتيب الأحكام المترتّبة على المفاهيم العرفيّة ، لعدم كونه ممّا يساعد عليه شيء من إطلاقاته الجارية على لسان العرف ، ولو اتّفق إطلاقه في موضع صدور الصيغة المخصوصة فهو إطلاق له على ما تضمّنته تلك الصيغة من الطلب الإلزامي القائم بالنفس ، كيف وأنّه لا يتبادر منه حيثما اطلق مجرّدا عن القرائن إلاّ ذلك الطلب ويصحّ سلبه في جميع تصاريفه عرفا عن الصيغة ، ولا ينوط صدقه في متفاهم العرف بانعقاد الطلب بواسطة لفظ « النهي » ولا صيغته المخصوصة ، لعدم صحّة سلبه عمّا انعقد بنحو الإشارة أو الكتابة إذا جامع شرائطه من علوّ الطالب واقترانه بإرادة الحتم والإلزام.

وأمّا اشتراط كون متعلّقه الكفّ وعدمه فيأتي تحقيقه عند تعرّض المصنّف لتحقيقه ، فهو إذن حقيقة عرفا ولغة في معنى إجمالي تفصيله في ظرف التحليل : طلب العالي ترك الفعل على جهة الإلزام ، للتبادر وصحّة السلب عن طلب الداني بل المساوي أيضا ولو حتميّا ، وعن طلب الفعل ولو حتميّا من العالي ، وعن طلب العالي لا على جهة الإلزام ، ولا ينافيه إطلاقه في بعض الأحيان على ما يكون تنزيهيّا لأنّه إطلاق وارد على سبيل التجوّز كما يرشد إليه التزام التقييد في غالب إطلاقاته ، خلافا لثاني الشهيدين ـ فيما حكي عنه ـ من مصيره إلى كونه يطلق على المحرّم والمكروه تمسّكا بصحّة التقسيم باعتبار ما يستعمل فيه وتقديم الاشتراك المعنوي على الحقيقة والمجاز ، وضعفه واضح بعد ملاحظة ما قرّرناه

٤٨٦

من الحجّة المقتضية للمجاز في الكراهة.

وقد يستدلّ على ذلك بآيات كقوله تعالى : ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ ). ( وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ )(١) و ( أَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ )(٢)( وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا )(٣)( فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ )(٤) ونحو ذلك.

وفيه ما لا يخفى من عدم منافاة تلك الإطلاقات للاشتراك المعنوي عند القائل به بعد قيام القرينة المردّدة بين كونها مؤكّدة أو مفهمة ، مع أنّ الأصل هو الثاني كما لا يخفى.

وأمّا ما يقال : من أنّه حقيقة في التحريم تمسّكا بالتبادر ، وصحّة السلب عن العاري عنه ، وتحقّق المخالفة بالفعل ، وترتّب الذمّ بها عرفا إذا صدر ممّن يجب طاعته ، فلعلّ المراد به ما أخذ معه العلوّ وإن قصر إطلاق العبارة عن إفادته ، وإلاّ فلا يستريب أحد في أنّ التحريم بمعنى طلب الترك مع عدم الرضا بالفعل ممّا يتأتّى عن غير العالي أيضا.

وقد عرفت أنّه ما لا يصدق عليه النهي عرفا بعنوان الحقيقة ، كما لا يصدق الأمر على طلب غيره للفعل بعنوان الحقيقة ولو حتميّا.

ويندرج فيما ذكرناه من الحدّ ما لو قال العالي لمن دونه : « اترك الزنا » باعتبار معناه ، لأنّه طلب للترك من العالي على جهة الإلزام وإن صدق على لفظه الأمر بالصيغة ، إذ لا مدخليّة للفظ دون آخر في انعقاد هذا المعنى ، فإنّه مطلق والمفروض من أفراده ، واختصاص اللفظ بعنوان مستقلّ في الاصطلاح لا يوجب خروج المعنى عن عنوانه العامّ كما لا يخفى ؛ وأمّا مثل « كفّ أو اكفف عن الزنا » فهو أيضا نهي بهذا المعنى باعتبار أحد فرديه ، نظرا إلى أنّ الترك الّذي يتعلّق به الطلب في مفهوم النهي أعمّ ممّا حصل منه بعنوان الكفّ المأخوذ فيه زجر النفس عن فعل المنهيّ عنه أو بدونه على القول بعدم كون المطلوب بالنهي هو الكفّ.

نعم هو على القول الآخر نفس النهي ، بناء على ما قرّرناه من أنّه أمر معنوي نفسيّ لا تفاوت في انعقاده بين الألفاظ الكاشفة عنه ، فما في كلام بعض الأعلام من أنّه يدخل في الأمر من حيث ملاحظة الكفّ بالذات ، وأنّه فعل من الأفعال ، ونهي من حيث إنّه آلة لملاحظة فعل آخر وهو الزنا وحال من أحواله ، ليس بسديد ، كيف وأنّ الفعل المأخوذ في ماهيّة الأمر عبارة عمّا يصدر من الجوارح والكفّ وإن كان أمرا وجوديّا يعبّر عنه بإمساك الجوارح عن الفعل غير أنّه ليس فعلا بهذا المعنى ، بل هو أمر وجوديّ منشؤه شيء قائم

__________________

(١) المجادلة : ٨.

(٢) النساء : ١٦١.

(٣) الحشر : ٧. (٤) الأعراف : ١٦٦.

٤٨٧

بالنفس كما لا يخفى ، وليس مناط صدق النهي على المفروض اعتبار كون ذلك الأمر الوجودي آلة لملاحظة فعل آخر.

وإنّما يصدق عليه النهي باعتبار كونه طلبا للترك في ضمن أحد فرديه الّذي يتحقّق معه الكفّ وكان التعبير عنه بتلك المادّة من باب أخذ مدلول المادّة قرينة مفهمة لاعتبار الخصوصيّة.

ويظهر فائدة الفرق بينه وبين ما لو اطلق في طلب الترك في مدخليّة تحقّق الكفّ وعدمه في الامتثال كما لا يخفى.

إلاّ أن يقال : إنّ الكفّ في نحو هذه العبارة إنّما لوحظ آلة لملاحظة المطلوب وهو الترك باعتبار كون الكفّ حالا من أحواله ، لا على أنّ المطلوب هو الترك على وجه الكفّ بأن يكون للكفّ مدخليّة في المطلوب.

ويمكن أن يرجع إليه ما عرفته عن بعض الأعلام وإن قصر عبارته.

وأمّا مثل « لا تترك » فهو في الحقيقة طلب الفعل بعبارة ما هو لازم مساو له ، فيدخل في ماهيّة الأمر وإن كان لا ينصرف إليه اللفظ حيثما يطلق ، ويمكن إدراجه في النهي بناء على أنّ الترك المأخوذ فيه متعلّقا للطلب أعمّ ممّا كان متعلّقه الفعل الصادر من الجوارح أو تركه الّذي يصدق عليه عنوان الفعل أيضا باعتبار معناه الحدثي المصدري.

ثمّ بقي الكلام مع من يعتبر فيه الاستعلاء كبعض الأعلام وغيره ممّن تقدّم ذكرهم عند نقل حدودهم ، والتحقيق فيه أنّ الاستعلاء إن اريد به اظهار العلوّ على ما هو الظاهر المنساق منه.

ففيه : منع الملازمة بينه وبين تحقّق صدق النهي عرفا ، فإنّ العالي كثيرا مّا يطلب الترك حتما ويصدق عليه النهي عرفا وهو غير ملتفت إلى علوّه فضلا عن كونه قاصدا لإظهاره ، وإن اريد به ادّعاء العلوّ على حدّ ما قد يتّفق عن غير العالي فهو مع اعتبار العلوّ أجنبيّ عن المقام ، مضافا إلى كثرة ما يتّفق في موضع صدقه من الغفلة عن ذلك أيضا ، ومع عدم اعتباره لا ينفع في انعقاد صدق النهي ما لم يصادف العلوّ الواقعي ، ضرورة عدم صدقه على ما ينشأ من غير العالي ولو قارنه الاستعلاء بهذا المعنى ، إلاّ أن يكون مبنى اعتباره على اعتبار العلوّ بأن يقصد به غير العالي تنزيل نفسه منزلة العالي بأن يصير عاليا بالعلوّ الادّعائي ، فيرجع الكلام حينئذ إلى دعوى أنّ العلوّ المأخوذ في مفهوم النهي أعمّ من العلوّ الواقعي والعلوّ الادّعائي فإنّ هذا ليس ببعيد ، غير أنّ هذا التوجيه لا يتأتّى على كلام من يعتبره مضافا إلى اعتبار العلوّ كما هو واضح.

٤٨٨

أصل

اختلف الناس في مدلول صيغة النهي حقيقة ، على نحو اختلافهم في الأمر.* (١)

___________________________________

(١) * يحتمل كون الإضافة فيما بين الصيغة والنهي بيانيّة فيدلّ على أنّ بناء المصنّف في النهي على كونه من مقولة اللفظ ، وكونها لاميّة مرادا بها الصيغة الّتي تحصل بها النهي فيدلّ على أنّه عنده غير اللفظ ، ويحتمل وجه ثالث وهو عدم ورود هذا الإطلاق باعتبار معناه الإضافي ، بدعوى صيرورة هذا المركّب عندهم اسما لنوع خاصّ من الأفعال وهو « لا تفعل » وما بمعناه من الثلاثي والرباعي المزيد فيهما ، والمجرّد من الرباعي ، وهذا هو الأظهر بقرينة كونه مأخوذا في محلّ الخلاف هنا ، فإنّ النهي والصيغة المفيدة له ممّا لا يجري فيه هذا الخلاف كما لا يخفى.

وكيف كان فهذه الصيغة تستعمل في معان وهي على ما ضبطه جماعة سبعة :

التحريم كما في قوله تعالى : ( وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ )(١).

والكراهة كما في قوله تعالى : ( وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا )(٢).

والتحقير كما في قوله تعالى : ( وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا )(٣).

وبيان العاقبة كما في قوله تعالى : ( وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ غافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ )(٤).

والدعاء كما في قوله تعالى : ( لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا )(٥).

واليأس كما في قوله تعالى : ( لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ )(٦).

والإرشاد كما في قوله تعالى : ( لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ )(٧).

وأنت إذا تأمّلت في مجاري الاستعمالات العرفيّة تجدها مستعملة في معان اخر كثيرة غير المعاني المذكورة.

وقد أشار بعض الأفاضل (٨) إلى جملة منها ، ولم نعثر منهم على القول بكونها حقيقة في جميع تلك المعاني ، بل في كلام السيّد في المنية أنّها ليست حقيقة في الجميع إجماعا ، فيكون الخلاف راجعا إلى تعيين الحقيقة من تلك المعاني بعد الوفاق على مجازيّة جملة كثيرة منها ، ومقصود العبارة فيما تقدّم تشبيه الاختلاف هنا بالاختلاف في صيغة الأمر في

__________________

(١) الأنعام : ١٥١.

(٢) القصص : ٧٧.

(٣) طه : ١٣١. (٤) إبراهيم : ٤٢.

(٥) البقرة : ٢٨٦. (٦) التحريم : ٧.

(٧) المائدة : ١٠١. (٨) هداية المسترشدين ٣ : ٥ ـ ٦.

٤٨٩

والحقّ أنّها حقيقة في التحريم ، مجاز في غيره ؛ لأنّه المتبادر منها في العرف العامّ عند الإطلاق* (١) ؛ ولهذا يذمّ العبد على فعل ما نهاه المولى عنه بقوله : لا تفعله ، والأصل عدم النقل ؛ ولقوله تعالى : « وما نهيكم عنه فانتهوا » أوجب

___________________________________

الجملة وإلاّ فكثير من الأقوال المتقدّمة ثمّة لا يجري هنا جزما ، كالقول بالحقيقة في الإباحة أو التهديد أو الاشتراك بين أحدهما أو كلاهما مع الوجوب والاستحباب لفظا أو معنى.

ومحصّل الخلاف هنا يرجع إلى أقوال :

أوّلها : ما اختاره المصنّف ووافقه عليه غير واحد من فحول أصحابنا المتأخّرين وعليه العلاّمة في التهذيب بل عنه في النهاية والمبادي ، وعليه السيّد في المنية ، والبهائي في الزبدة ، والبيضاوي في المنهاج.

وعن الشيخ والمحقّق في العدّة والمعارج ، وعزي تارة إلى الأكثر واخرى إلى الأشهر.

وثانيها : ما عن بعضهم في محكيّ المعراج وشرح الزبدة للفاضل الجواد من كونها حقيقة في الكراهة.

وثالثها : ما عن ظاهر الذريعة والغنية من اشتراكها لفظا بين التحريم والكراهة.

وربّما يستظهر من الأخير أنّها مشتركة بين التحريم والتهديد والتوبيخ.

ورابعها : كونها حقيقة في القدر المشترك بينهما وهو طلب الترك مطلقا.

وعن النهاية أنّ من جعل الأمر للقدر المشترك بين الوجوب والندب جعل النهي مشتركا بين التحريم والكراهة ، وهؤلاء أيضا بين من أطلق في هذا القول وبين من أوجب حمل نواهي الشرع عند الإطلاق على التحريم لأدلّة خارجيّة كما اختاره التوني في الوافية (١).

ومن قال بانصراف الطلب المطلق عند الإطلاق إلى التحريم كما صرّح به بعض الأفاضل (٢) على حسبما هو مختاره في الأمر أيضا وتبعه بعض الفضلاء أيضا.

وخامسها : التوقّف حكاه جماعة منّا ومن العامّة وفي شرح منهاج البيضاوي ترديد هذا القول بكونه إمّا للاشتراك أو للجهل بحقيقته كما مرّ في الأمر.

(١) * وهذا التبادر ممّا لا ينبغي الاسترابة فيه ، فإنّ الصيغة من أيّ قائل صدرت ما لم ينضمّ إليها خارج يكشف عن الرضا النفساني بالفعل يتبادر منها الطلب الحتمي الّذي يؤول

__________________

(١) الوافية : ٨٩.

(٢) هداية المسترشدين ٣ : ٧.

٤٩٠

عند التحليل إلى إنشاء شيئين :

أحدهما : الطلب بوصف تعلّقه بالترك الكاشف عن رجحانه ومحبوبيّته في نظر القائل.

وثانيهما : المنع عن الفعل على معنى إظهار عدم الرضا به الكاشف عن مرجوحيّته ومبغوضيّته في نظره وهذا هو الحجّة في إثبات الحقيقة عرفا ، مضافا إلى أصالة عدم النقل في تعدية ذلك الحكم إلى الشرع واللغة كما يشير إليه المصنّف فيما بعد ذلك.

وممّا يكشف عن هذا التبادر ذمّ العقلاء للعبد الآتي بما نهي عنه بواسطة صيغة « لا تفعل » كما يشير إليه المصنّف أيضا.

واستند إليه غير واحد منهم السيّد في المنية حيث قرّره : بأنّ السيّد لو قال لعبده : « لا تركب الدابّة » فركب استحقّ الذمّ عرفا ، فلولا فهمهم التحريم من الصيغة المجرّدة لما كان لذلك وجه.

واحتمال استناد فهمهم إلى خارج من المولويّة ونحوها.

يدفعه : أنّ ما يستند إليه إنّما هو إقدامهم على الذمّ من حيث إنّه من لوازم مخالفة الداني للعالي لا أصل الفهم ، مع أنّ الأصل كاف في نفي هذا الاحتمال لو سلّمنا قيامه بالنسبة إلى أصل الفهم كما في غالب التبادرات المثبتة للوضع الكاشفة عن الحقيقة.

ولك أن تعتبر ذلك حجّة اخرى زيادة على ما قرّرناه أوّلا بناءا على جعل أحدهما تبادرا وجدانيّا ، والآخر تبادرا استقرائيّا ، فلا يلزم تكرار في الاحتجاج كما قد يسبق إلى الوهم.

ولكن ما في عبارة المصنّف لا يساعد على هذا المعنى ، بل هو ظاهر كالصريح في التعرّض لذكره لإقامة شاهد بما ادّعاه من التبادر.

وربّما يستدلّ أيضا بوجوه اخر ، منها : ما ستعرفه عن المصنّف.

ومنها : ما قرّر في المنية معتمدا عليه من أنّه لمّا لم يكن فرق بين الأمر والنهي إلاّ في متعلّق الطلب وكان الأمر دالاّ على الطلب الجازم ـ أعني المانع من نقيض المطلوب ـ كان النهي أيضا كذلك وهي معنى اقتضائه التحريم.

وفيه ما لا يخفى من رجوعه بالأخرة إلى المصادرة على المطلوب ، فإنّ انتفاء الفرق بين الأمر والنهي من جميع الجهات إلاّ في متعلّق الطلب دعوى يحتاج إلى الحجّة بل هو عين المسألة والعبارة خالية عنها ، ولو اريد إثباتها بمجرّد القياس لجامع الطلب فبطلانه أوضح.

ومنها : ما قرّره فيها أيضا وأشار إليه العلاّمة في التهذيب والتوني في الوافية ، من أنّ فاعل المنهيّ عنه عاص ، وكلّ عاص مستحقّ للعقاب ، ففاعل المنهيّ عنه مستحقّ للعقاب ،

٤٩١

سبحانه الانتهاء عمّا نهى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، عنه ؛ لما ثبت من أنّ الأمر حقيقة في الوجوب ، وما وجب الانتهاء عنه حرم فعله* (١).

___________________________________

وهو معنى كونه للتحريم.

وفيه : تسليم النتيجة مع المقدّمتين وعدم جدواه في إثبات المدّعى ، فإنّ الكلام إنّما هو في الصيغة والدليل جار في موضع انعقاد النهي ، فلم يلزم منه كونها بحسب الدلالة الوضعيّة موجبة لانعقاده كما لا يخفى.

وأورد عليه أيضا : بأنّ أقصى ما يثبت بذلك حمل النواهي الشرعيّة على التحريم وهو أعم من وضعها له شرعا فضلا عن الوضع له لغة ، ويظهر ضعفه بأدنى تأمّل فإنّ نظر المستدلّ في المقدّمة الاولى إلى دعوى كون فاعل المنهيّ عنه عاصيا في نظر العرف وهو كاشف عن الوضع لما يوجب استحقاق العقاب وهو التحريم.

ومنها : ما حكاه في المفاتيح والهداية من أنّ الأمر للوجوب فيلزم أن يكون النهي للتحريم لعدم القول بالفصل.

وفيه : أنّ عدم القول بالفصل ما لا يعبأ به في اللغات وإن أفاد الظنّ ، فإنّ مطلق الظنّ غير ثابت الحجّيّة فيها وإن اشتهر القول به فيما بينهم.

ومنها : ما اعتمد عليه في المنية أيضا وحكاه في الهداية عن غير واحد من العامّة من أنّ الصحابة تمسّكوا في تحريم أشياء بمجرّد النهي عنها ولم يخالف منهم أحد فكان إجماعا وإجماعهم حجّة.

وفيه : أنّ حجّيّة الإجماع من باب التعبّد كما عليه طريقة العامّة غير ثابتة في اللغات ومن باب الكشف غير نافعة فيها ، والكلام في حكاية الظنّ كما تقدّم.

نعم لو قرّر الاحتجاج بذلك بأنّ تمسّكهم بها ممّا يكشف عن فهمهم التحريم وهم من أهل اللسان فكان فهمهم حجّة كاشفا عن الوضع كان له وجه ، نظرا إلى أنّ التبادر قد يكون كشفيّا غايته افتقاره إلى ضمّ أصل إليه لنفي الاحتمال كما في التبادرات الوجدانيّة.

وقد يورد عليه أيضا بما لا وقع له من أنّ [ ذلك ] ممّا لم يوجد في كلام من يوثق به عندنا ، ومن الأفاضل من جعل الاولى في الجواب عن ذلك أن يقال : إنّ أقصى ما يفيده ذلك ظهور النهي في التحريم وهو أعمّ من وضعه له ، ويظهر دفعه بما أشرنا إليه.

(١) * حكي الاستدلال به بعبارات متقاربة عن جماعة كالنهاية والمبادئ والمعراج ، كما وجدناه

٤٩٢

وما يقال : من أن هذا مختصّ بمناهي الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وموضع النزاع هو الأعمّ ؛ فيمكن الجواب عنه : بأنّ تحريم ما نهى عنه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، يدلّ بالفحوى على تحريم ما نهى الله تعالى عنه. مع ما في احتمال الفصل من البعد ، هذا. واستعمال النهي في الكراهة شايع في أخبارنا المرويّة عن الأئمّة عليهم‌السلام ، على نحو ما قلناه في الأمر* (١).

___________________________________

أيضا كذلك في التهذيب والمنية والزبدة والوافية وشرح المنهاج ، وقد يقال في تقريب الاستدلال : إنّ الانتهاء عن الشيء هو تركه والاجتناب عنه ، ووجوب الاجتناب عن الفعل ولزوم تركه إنّما هو مفاد الحرمة.

والجواب عنه : يظهر بالتأمّل فيما قدّمنا الإشارة إليه في دفع الاحتجاج بما تقدّم من البرهان ، فإنّ أقصى مفاد الآية بتقريب ما ذكر في توجيه الاستدلال أنّ المنهيّ عنه محرّم يجب الاجتناب عنه ، وهو مسلّم ولا يلزم منه ثبوت المطلوب ، إذ كون ما ورد فيه الصيغة المتنازع فيها هنا مجرّدة عن القرائن منهيّا عنه ، أوّل الدعوى (١) فلعلّها بمجردها لا تفيد النهي اللازم للتحريم ليجري فيه الآية ، وكون الصيغة ممّا يصدق عليه النهي قد عرفت منعه.

وأورد عليه أيضا ـ مضافا إلى ما أشار إليه المصنّف ودفعه بوجوه اخر تعرّض لذكرها بعض الأفاضل مع أجوبتها ومن يطلبها فليراجع كلامه في الهداية.

(١) * وقضيّة العبارة كون النهي عنده كالأمر من المجازات الراجحة المساوي احتمالها لاحتمال الحقيقة ، فيندرج بذلك حينئذ في عنوان المجازات حيثما ورد مطلقا.

ولا يذهب عليك أنّ الأجوبة الّتي ذكروها في منع هذه الدعوى ثمّة جارية هنا ، وهي على ما تعرّض لذكره في المفاتيح امور :

__________________

(١) ومحصّل هذا الكلام : أنّ الآية الشريفة لا تجدي نفعا إلاّ في إحراز كبرى كلّية وهي وجوب الانتهاء عن كلّ ما يصدق عليه النهي ، وظاهر أنّ مجرّد الكبرى لا يكفي في ثبوت النتيجة ، بل لا بدّ معها من انضمام صغرى مشتملة على موضوع وهو صيغة « لا تفعل » ومحمول وهو النهي ، بأن يقال : صيغة « لا تفعل » نهي ، وكلّ نهي يجب الانتهاء فيه ، فصيغة « لا تفعل » يجب الانتهاء [ فيه ] وهذه الصغرى ممّا لا تكاد تحصل ، لأنّ النهي ما أخذ في مفهومه التحريم والصيغة مشكوك حالها من هذه الجهة ، وهذا الشكّ يوجب الشكّ في الصدق وكونها من مصاديق النهي ومعه لا يمكن حمل النهي عليها ، فإذا تعذّرت الصغرى خرجت الكبرى الكلّيّة غير نافعة في إثبات المطلب ، فليتدبّر إن شاء الله. ( منه عفي عنه ).

٤٩٣

أصل

واختلفوا في أنّ المطلوب بالنهي ما هو* (١)؟

___________________________________

منها : أنّ شيوع الاستعمال في الكراهة مع القرينة لا يستلزم تساوي الاحتمالين في المجرّد عن القرينة.

نعم إن ثبت شيوع الاستعمال بدون القرينة المقارنة بأن يكون استعمالهم فيه مطلقا وعلم بدليل منفصل أنّ مرادهم كان هو الندب فلا يبعد ما ذكر ، وكأنّ مراده هذا لكن إثبات مثل هذا الشيوع لا يخلو عن إشكال.

ومنها : أنّ الاطّلاع على مثل هذا الشيوع إنّما حصل بملاحظة الأخبار الكثيرة الواردة عنهم عليهم‌السلام ، وأمّا كلّ واحد من الرواة لم يكن مثلهم في الاطّلاع على الغلبة الناشئة عن تلفيق جميع الأخبار وضمّ بعضها مع بعض ، فكان اللازم عنده الحمل على الحقيقة ، والمعتبر فهم الراوي لأنّه المخاطب دون غيره.

ومنها : المنع من أنّ الغلبة تمنع من الحمل على الحقيقة ، فإنّ تخصيص العمومات قد شاع حتّى اشتهر « ما من عامّ إلاّ وقد خصّ » مع اتّفاق العلماء على وجوب حمل اللفظ على الحقيقة ، وفيه ما لا يخفى من الفساد.

ومنها : أنّ حمل أكثر الأخبار على المجاز لا يستلزم أكثريّته في عرف الأئمّة عليهم‌السلام ، فإنّ الحمل فيها عليه قد يكون باعتبار قيام القرينة على أنّه المراد ، وقد يكون باعتبار قصور الرواية عن الحجّيّة فيحمل عليه لأنّ التأويل أولى من الطرح ، وهذا لا يستلزم المجاز في الواقع.

فبالجملة الغلبة غير مسلّمة ، وعلى فرض الظنّ بها يتّجه المنع إلى أنّ الغلبة الظنّيّة [ لا ] تعارض أصالة الحقيقة.

ومنها : اتّفاق أصحابنا المتقدّمين والمتأخّرين على عدم الفرق بين النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في الأخبار المرويّة عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله وبين الأئمّة عليهم‌السلام في الأخبار المرويّة عنهم في وجوب الحمل على الحقيقة.

ثمّ لا يذهب عليك أنّ النهي الوارد عقيب الإيجاب كالأمر الوارد عقيب التحريم ، فكما أنّه بملاحظة المقام لمجرّد رفع المنع عن الفعل الملازم للاباحة بمعناها الأعمّ ، فكذلك النهي فإنّه لا يفيد سوى رفع المنع عن الترك الّذي هو أعمّ من التحريم ، فلا يعلم التحريم إلاّ مع القرينة الرافعة لأثر تلك القرينة كما يشهد به ملاحظة العرف وعليه غير واحد من أصحابنا.

(١) * قد تبيّن فيما تقدّم أنّ النهي مادّة وصيغة متضمّن للطلب ، وظاهر أنّ الطلب لا بدّ له

٤٩٤

فذهب الأكثرون إلى أنّه هو الكف عن الفعل المنهيّ عنه* (١) ، ومنهم العلاّمة رحمه الله في تهذيبه.

___________________________________

من متعلّق مسبوق تصوّره بحدوث الطلب وتعلّقه به ، وهو في لحاظ الطالب كما يمكن أن يكون أمرا عدميّا وهو مجرّد عدم الفعل الّذي يعبّر عنه في الترجمة الفارسيّة بـ « نكردن » فكذلك يمكن أن يكون أمرا وجوديّا وهو الكفّ الّذي يعبّر عنه في الترجمة الفارسيّة بـ « باز داشتن خود از كردن » فوقع الخلاف عندهم في أنّ ما اعتبره الطالب عنوانا في طلبه ومتعلّقا له هل هو المفهوم الأوّل فيكون المطلوب بالنهي نفس أن لا تفعل ، أو المفهوم الثاني فيكون المطلوب به الكفّ؟

ومن البيّن أنّ هذا الخلاف ليس راجعا إلى ما يقتضيه الوضع اللغوي أو العرفي ، إذ لا يستريب أحد في أنّ مقتضى الوضع اللغوي والعرفي في مثل : « لا تزن » ونحوه ليس إلاّ طلب الترك ومنع إدخال الماهيّة في الوجود ، لوضوح أنّ الفعل باعتبار الوضع المادّي لا يدلّ إلاّ على الماهيّة والأداة الداخلة عليه لا تقضي إلاّ بنفي تلك الماهيّة ، والصيغة المركّبة من الداخل والمدخول باعتبار وضعها النوعي للإنشاء لا تفيد إلاّ طلب نفي الماهيّة الّذي هو مجموع مدلولي الداخل والمدخول ، وإنّما الخلاف في أنّه هل هناك قرينة من العقل قضت بصرف اللفظ عمّا هو ظاهر فيه عن طلب نفي الفعل الّذي هو أمر عدمي إلى طلب غيره ممّا يكون وجوديّا أو لا؟ كما يفصح عن ذلك احتجاج أهل القول بمطلوبيّة الكفّ ، فإنّه على ما يأتي احتجاج بما يكون من قبيل القرائن العقليّة المقامة لصرف اللفظ عن ظاهره ، نظير احتجاج أهل القول بكون متعلّق الأحكام هو الأفراد بما يكون قرينة صارفة للخطاب عن ظاهره من تعلّق الأحكام بالطبائع بحسب الوضع.

(١) * وعن الأشاعرة أنّ المطلوب بالنهي فعل ضدّ المنهيّ عنه ، وربّما ينزّل فعل الضدّ هنا إلى إرادة الكفّ كما صنعه السيّد في المنية في تطبيق قول العلاّمة في التهذيب بالكفّ على ما حكاه عن الأشاعرة ، وكأنّه مبنيّ على حمل « الضدّ » هنا على الضدّ العامّ بأحد تفسيريه المتقدّم في بحث الضدّ ، وهو الّذي يقتضيه ما استظهره بعض الأعاظم عن المعظم من انحصار القول هنا في الترك والكفّ ، حاكيا عن بعض المحقّقين نفي البعد عن ادّعاء الإجماع المركّب على أنّ متعلّق التكليف في النهي إمّا العدم على رأي من رآه مقدورا ، أو الكفّ على رأي من لا يراه كذلك ، بل عن العبري نفي القول بغيرهما مستظهرا له عن المازندراني أيضا.

٤٩٥

وقال في النهاية : المطلوب بالنهي نفس أن لا تفعل. وحكى : أنّه قول جماعة كثيرة* (١). وهذا هو الأقوى.

___________________________________

ونقل عن ثاني الشهيدين أنّه قال : إنّ المطلوب بالنهي إنّما هو فعل ضدّ المنهيّ عنه ، فإذا قال : « لا تتحرّك » فمعناه اسكن ، لا التكليف بعدم الحركة لأنّ العدم غير مقدور عليه ، بل عن الغيث الهامع (١) أنّه عدّه من الأقوال بل عنه أنّه حكى ذلك عن الجمهور ، فعلى هذا يكون الأقوال في المسألة ثلاثيّة.

(١) * حكاه في المختصر عن أبي هاشم وكثير من الاصوليّين وعليه كافّة أصحابنا المتأخّرين.

وقيل : الفرق بين أن لا تفعل وبين الكفّ عن الفعل أنّ الأوّل يقارن الثاني قطعا ، بخلاف الثاني فإنّه لا يلزم أن يقارن الأوّل لجواز أن لا يفعل ولا يخطر بباله الكفّ.

وكيف كان فاضطربت عباراتهم في تفسير الكفّ ، فالمستفاد من بعض الأعلام هنا وفي بحث الضدّ أنّ المراد به ما يدخل في مفهومه الزجر والإكراه.

ويستفاد ذلك من غيره أيضا كما يستفاد عن محكيّ الفاضل الشيرازي في المفاتيح.

وقضيّة ذلك إمّا القول بعدم شمول النواهي لمن لا يتحقّق منه الكفّ بهذا المعنى كمن لا شوق له ولا ميل نفساني إلى فعل المنهيّ عنه ، فتكون النواهي كالأوامر المشروطة مشروطة على معنى اختصاصها بواجدي الشرط المذكور ، أو القول بأنّ النهي وإن كان مطلقا متناولا لجميع آحاد المكلّفين غير أنّه لو صادف الفاقد للشرط المذكور يجب عليه من باب المقدّمة تحصيله بالنظر في دواعي الشوق والأسباب المورثة للميل النفساني من تلذّذ وحظّ نفس أو انتفاع وكسب مال أو تشفّي قلب ، أو نحو ذلك ممّا يدعو الإنسان إلى الوقوع في المحرّمات ليتمكّن به عن الكفّ المطلوب منه حتما ، كما هو الحال في الأوامر بالنسبة إلى المقدّمات الوجوديّة لو صادفت من كان فاقدا لها حال التكليف.

وأنت خبير بما في كلّ من الوجهين من الوهن الفاحش ، لوروده على خلاف ضرورة العقل وسيرة العقلاء بل قاطبة الناس في جميع الامم وكافّة الأعصار والأمصار ، مع أنّ من الضروري توجّه التكليف بالنواهي إلى الأنبياء والأولياء والأئمّة المعصومين عليهم‌السلام ومن الممتنع

__________________

(١) قال في الذريعة ج ١٦ ، ص ٨٥ : « الغيث الهامع في ذكر أدباء الاقليم الرابع » من ديار العجم والبحرين والحجاز ومصر والعراق والشام ـ للشيخ على الحويزى ، م ١٠٥٣ توجد في برلن كما في فهرستها ج ٦ ، ص ٤٧١ الخ ـ الحاكي هو الكلباسي صاحب إشارات الاصول ص ١٠٠.

٤٩٦

بحكم العصمة أو العادة حصول الشرط في حقّهم ، فينبغي أن لا يكون لهم تكليف في ذلك بشيء من الوجهين ولا نظنّ أحدا يلتزم بذلك ، مع أنّ في غيرهم أيضا من آحاد المكلّفين من لا يتأتّى له ذلك الشرط أبدا حيثما لم يتحقّق له شيء من الدواعي الموجبة للوقوع في المحرّم لعدم غرض له في ذلك أصلا مع تمكّنه عن الفعل باجتماع شرائطه الوجوديّة بأسرها في حقّه ، فينبغي أن لا يكون له تكليف في ذلك أصلا ، فحينئذ لو فرض أنّه فعله وأتى به من غير غرض له في ذلك يلزم أن لا يكون فاعلا للمحرّم وأن لا يستحقّ العقاب بذلك لأنّه من فروع التكليف والمفروض انتفاؤه ، وهو كما ترى بل هو ممّا لا يتفوّه به جاهل فضلا عن العالم ، فحمل كلام أهل القول باعتبار الكفّ على إرادة هذا المعنى ممّا لا ينبغي.

ومن الأفاضل من ذكر في توجيهه : وأنّ المراد بالكفّ هو الميل عن الفعل والانصراف عنه إلى الترك عند تصوّر الطرفين ، سواء حصل له الرغبة إلى الفعل أو لا ، فإنّ العاقل إذا تصوّر الفعل والترك لا بدّ له من ميله إلى أحد الجانبين ، فالمراد بالكفّ هو ميله إلى جانب الترك ، ويجعل متعلّق الطلب الحاصل في النهي هو ذلك الميل ، نظرا إلى ما توهّم من عدم قابليّة نفس الترك لأن يتعلّق به الطلب بخلاف الإيجاد إذ لا مانع من تعلّق الطلب به فيكون الميل المذكور بالقياس إليه من جملة المقدّمات ، وحينئذ فلا فرق بين القولين المذكورين إلاّ بالاعتبار ، حيث يقول القائل بتعلق الطلب بالكفّ كون المكلّف به هو ميل النفس عن الفعل وانصرافه عنه ، ويقول القائل بتعلّقه بالترك كون المكلّف به نفس الترك المسبّب من ذلك الميل المتفرّع عليه (١).

وهذا كما ترى وإن كان أقلّ محذورا من التوجيه الأوّل غير أنّه خلاف ما يظهر عن أهل القول باعتبار الكفّ من تعبيرهم عنه في بعض عباراتهم بالفعل الظاهر فيما كان محلّه الجوارح.

وإن شئت فلاحظ عبارة الحاجبي الّذي هو منهم في عنوان تلك المسألة من قوله : « لا تكليف إلاّ بفعل فالمكلّف به في النهي كفّ النفس عن الفعل ». وعن أبي هاشم وكثير نفي الفعل.

واحتمال إرادة الأمر الوجوديّ من الفعل المتناول لمثل الميل والإرادة النفسانيّة بعيد عن الظاهر.

بل الأقرب في النظر القاصر حمل « الكفّ » في كلامهم على إمساك الجوارح عن الإتيان بالمنهيّ عنه فيشمله الفعل ، ضرورة كون الإمساك محلّه الجوارح وإن كان منشؤه الميل والإرادة

__________________

(١) هداية المسترشدين ٣ : ١٨.

٤٩٧

لنا : أنّ تارك المنهيّ عنه كالزنا ، مثلا ، يعدّ في العرف ممتثلا ، ويمدحه العقلاء على انّه لم يفعل ، من دون نظر إلى تحقّق الكفّ عنه ، بل لا يكاد يخطر الكفّ ببال أكثرهم* (١). وذلك دليل على أنّ متعلّق التكليف ليس هو الكفّ ، وإلاّ لم يصدق الامتثال ، ولا يحسن المدح على مجرّد الترك.

___________________________________

كسائر الأفعال الناشئة عن الجوارح ، وهذا كما ترى معنى أخصّ من الترك ومبائن للميل إليه.

أمّا الأوّل : فلأنّ الترك كثيرا مّا يحصل مع الذهول عن الفعل أو مع عدم التمكّن منه بانتفاء بعض شروط وقوعه أو مقارنة بعض موانعه ، بخلاف الإمساك فإنّه ما لا يتأتّى إلاّ وهو مسبوق بالالتفات إلى الفعل وتصوّره مع التمكّن منه حصل معه الشوق والميل النفساني إليه أو لا.

وأمّا الثاني : فلتأخّر رتبة الإمساك عن الميل إلى الترك ، فإنّ الترك في الحقيقة مترتّب على إمساك الجوارح عن الفعل وهو مترتّب حيثما يتحقّق على ميل الترك ، فالجزء الأخير من علّة الترك إنّما هو الإمساك ، كما أنّ الجزء الأخير من علّة الفعل عند التحقيق حمل الجوارح على الفعل وهو إيجاد الماهيّة في الخارج وإدخالها في الوجود ، فيرجع محصّل الخلاف بين الفريقين إلى أنّ متعلّق الطلب في النهي هل هو نفس الترك الّذي هوعدم صرف أومنشؤه الّذي هو الإمساك عن الفعل؟

وإلى ذلك ينظر ما قيل : من أنّ المذهبين متقاربان.

لا يقال : فيلزم من ذلك عود ذلك الخلاف لفظيّا ، لرجوع دعوى أهل القول بمطلوبيّة الترك إلى جعل المطلوب بالنهي إمساك الجوارح عن الفعل كما يشهد به ما ذكروه ـ في دفع توهّم أنّ العدم نفي محض فلا يصلح أثرا للقدرة ليتعلّق به التكليف ـ من أنّ أثر القدرة إنّما هو استمرار العدم وإبقاؤه كما يشير إليه المصنّف أيضا فيما بعد ذلك ، فإنّ إبقاء العدم واستمراره على وجه يرجع إلى كونه أثرا للقدرة لا يعقل له معنى محصّل إلاّ الإمساك المذكور.

لأنّا نقول : إنّ غرضهم بذلك إحراز ما يصحّ معه تعلّق التكليف بالعدم المفروض ، كما يفصح عنه التعليل في كلامهم بأنّ المقدور بالواسطة مقدور ، لا أنّهم أرادوا بذلك جعل نفس الاستمرار والإبقاء مطلوبا ليتّحد المذهبان أو يوافقا في دعوى تعلّق الطلب بالأمر الوجودي دون العدمي الصرف.

(١) * وهذه الحجّة حسبما عثرنا عليه مذكورة في كلام كلّ من جعل المطلوب في النهي

٤٩٨

مجرّد الترك ، وكأنّها مبنيّة على توهّم اعتبار الزجر والإكراه في مفهوم الكفّ المسبوقين على تحقّق الشوق والميل النفساني إلى الفعل ، نظرا إلى أنّ صدق الامتثال ولحوق مدح العقلاء إنّما يتأتّى من دون نظر منهم إلى أنّ هذا الترك هل سبقه الشوق والميل إلى الفعل ليقارنه الكفّ بهذا المعنى أو لا؟ فلو كان التكليف قد تعلّق بالكفّ بهذا المعنى لتوقّفوا في توجيه المدح والحكم بالامتثال على إحراز سبق الشوق والميل والتالي باطل.

وإلاّ فعلى ما وجّهنا الكفّ به يشكل التعلّق بها في إثبات المطلوب وإلزام الخصم ، وذلك لأنّ الامتثال ما لا يتأتّى صدقه كما أنّ المدح ممّا لا يلحقه إلاّ في موضع التكليف ، وظاهر أنّ التكليف ما لا يثبت إلاّ مع تفطّن المكلّف وتمكّنه عن الفعل المنهيّ باجتماع الشرائط ورفع الموانع ضرورة امتناع تكليف الغافل والغير المتمكّن.

ولا ريب أنّ الترك المتحقّق في موضع التمكّن والتفطّن متلازم الوجود مع الكفّ بمعنى إمساك الجوارح ، وإن لم يتحقّق معه الزجر والإكراه المتفرّعين على الشوق والميل إلى الفعل ، فلم يظهر منهم أنّ هذا المدح والحكم بالامتثال مستند إلى مجرّد الترك من غير نظر إلى ما قارنه من الكفّ ، بل ملاحظتهم [ الترك ] في [ موضع ] تحقّق التمكّن والتفطّن ـ لاعتبار هذين الأمرين ـ في معنى ملاحظة كون هذا الترك حاصلا عن إمساك لا لمجرّد عدم الدخول في الوجود كما هو مفاد الترك المجرّد عن الكفّ ، فللخصم أن يقول حينئذ : إنّ صدق الامتثال ولحوق المدح إنّما هو من جهة ما قارن الترك من الإمساك وهذا هو المراد بالكفّ.

نعم على تقدير كون المراد بالكفّ ما يدخل فيه الزجر والإكراه المتأخّرين عن الشوق والميل إلى الفعل اتّجه الوجه المذكور بتقريب ما قرّرناه ، غير أنّه قد عرفت الإشكال في حمله على هذا المعنى.

والأولى في الاحتجاج أن يقال : بأنّ المقتضي لتعلّق الطلب بالترك موجود والمانع عنه مفقود فيجب القول به.

أمّا الأوّل : فلوجهين :

أحدهما : الاعتبار الناشئ عن قضاء الوجدان ، فإنّ الطلب في جميع موارد ثبوته تابع للرجحان ومتفرّع عليه ، وهو وصف إضافيّ يلاحظ فيما بين طرفيه الراجح والمرجوح ، ونحن نجد من أنفسنا أنّ الّذي يلاحظه المولى ويتصوّره لاعتبار الرجحان فيه من الطرفين وإحراز كون أحدهما راجحا والآخر مرجوحا إنّما هو مجرّد الفعل والترك اللذين يعبّر

٤٩٩

عنهما في الفارسيّة : بـ « كردن ونكردن » من غير نظر منه إلى ما يقارنه ذلك الترك من الامور الوجوديّة ولا الامور العدميّة ، فإذا ثبت في نظره أنّ الراجح هو جانب الفعل كان ذلك مقتضيا لصحّة أن يطلبه إلاّ ما قام فيه مانع يمنعه عن ذلك من غفلة أو عدم تمكّن أو نحو ذلك ، وإذا ثبت عنده أنّ الراجح هو جانب الترك كان ذلك مقتضيا للطلب أيضا إلاّ أن يمنعه مانع من غفلة أو عدم تمكّن ، فالمقتضي لطلب الترك إذا كان راجحا موجودا في جميع صوره حتّى ما يحصل منه عن الغافل أو الغير المتمكّن عن الفعل غير أنّه قام المانع بالنسبة إليهما وأخرجهما عن موضوع الطلب.

وأمّا الباقي وهو التارك عن كفّ وإمساك بسبب تفطّنه وتمكّنه عن الفعل فخروجه عن موضوع ذلك ـ وعدم كونه من حيث إنّه تارك مطلوبا منه ، وعدم كون مجرّد الترك القائم به الّذي هو عبارة عن مجرّد عدم الفعل متعلّقا للطلب مع وجود مقتضى تعلّقه به لما هو المفروض من أنّه الراجح في نظر المولى ـ مبنيّ على قيام المانع أيضا وستعرف منعه.

وثانيهما : قضاء ظاهر اللفظ حسبما يقتضيه ما فيه من الأوضاع الشخصيّة والنوعيّة الإفراديّة والتركيبيّة ، فإنّ الطلب في مثل : « لا تفعل » و « لا تزن » إنّما هو مفاد لتلك الصيغة والهيئة التركيبيّة فيما بين الفعل والأداة.

وظاهر أنّ مدلول الصيغة على حسب ظاهر اللفظ إنّما يتعلّق بمدلول المادّة ، ولمّا كانت المادّة مركّبة من أداة النفي والفعل باعتبار وضعه المادّي كان المجموع من مدلوليهما مجرّد نفي الماهيّة وكان ذلك هو المطلوب ، إلاّ أن يقوم هناك صارف عمّا يقتضيه اللفظ بظاهره وستعرف منعه.

مع أنّ الكفّ بأيّ معنى يراد لو فرض متعلّقا للطلب ـ بعد الإغماض عن أنّه يوجب انقلاب مفاد أداة النفي ايجابا وهو خلاف وضعها الإفرادي الثابت لها ـ لا بدّ له من معبّر في الكلام وهو لكونه معنى إسميّا لا يصلح له الأداة لا بعنوان الحقيقة ولا بعنوان المجاز.

أمّا الأوّل : فلانتفاء الوضع.

وأمّا الثاني : فلانتفاء الرخصة.

والمفروض أنّه لا يصلح له الفعل باعتبار المادّة أيضا ، لأنّه لا يفيد بهذا الاعتبار أزيد من الماهيّة الّتي يعتبر الكفّ بالنسبة إليها ، ولا الهيئة التركيبيّة أيضا لقصورها عن إفادة ما زاد على الطلب ، كما هو الحال في كلّ صيغة موضوعة للطلب ، نظرا إلى أنّها لا تفيد إلاّ طلبا متعلّقا

٥٠٠