تعليقة على معالم الاصول - ج ٤

السيّد علي الموسوي القزويني

تعليقة على معالم الاصول - ج ٤

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيد علي العلوي القزويني
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-535-1
الصفحات: ٨٦٤

ومنها : الفرق بين ما لو كان حصول الأكثر تدريجيّا فالواجب هو الأقلّ خاصّة لحصول الطبيعة المأمور بها في التخيير العقلي وأحد فردي الواجب في التخيير الشرعي ، وبه على التقديرين يحصل الامتثال ومعه لا معنى لوجوب الزائد ، وبين ما لو كان حصوله دفعيّا فالمتّصف بالوجوب هو الجميع لكونه فردا من الواجب.

نعم اختياره مستحبّ لكونه أكمل الأفراد ، والمراد بالتدريج هنا حصول الأقلّ عند الامتثال بالأكثر قبل حصول القدر الزائد.

ومنها : اعتبار القصد في ذلك ، فيجب الزائد مع قصد امتثال الأكمل ولا يجب مع قصد امتثال الأنقص ، عزاه في المناهج إلى طائفة منهم والده ، واختاره هو أيضا ولكن ضمّ إليه تفصيلا فقال ـ بعد حكاية القول المذكور ـ : « وهو الحقّ في العبادات إذا قصد أحدهما بخصوصه ، وأمّا إذا لم يقصده وفي غيرها فالواجب هو الأنقص خاصّة في التدريجي والأكمل في الدفعي ».

ويمكن أن يقال في دفع الإشكال : إنّ الوجوب أمر واقعيّ لا ينوط بتلك الاجتهادات المبتنية على الاعتبارات ، بل هو تابع للإيجاب لكونه أثرا حاصلا منه ، والإيجاب أمر راجع إلى ما في ضمير الآمر ، وهو في ترتّب أثره عليه مسبوق بما تحقّق في ضمير الآمر من ملاحظة متعلّق أثره ، ومتعلّق ذلك الأثر لا بدّ وأن يكون فعل المكلّف وهو في محلّ البحث إنّما هو طبيعة النزح والمسح والتسبيحة وغيرها ، والأقلّيّة والأكثريّة عرضان حاصلان عن اعتبار العدد في تشخيص تلك الطبيعة قائمان بها وليسا ممّا تعلّق بهما أثر الإيجاب ، ضرورة امتناع تعلّق الحكم بما ليس من مقولة الأفعال ، لكن الطبيعة في ضمير الآمر إذا لوحظت تارة مقيّدة بالعدد المحصّل للأقلّيّة واخرى بالعدد المحصّل للأكثريّة يحصل به طبيعتان ثانويّتان متقابلتان كلّ منهما بدل عن الآخر في عروض وصف الوجوب بهما ، فالأقلّ بما هو أقلّ ليس عنوانا تعلّق به وصف الوجوب بالخصوص ، ولا الأكثر بما هو أكثر عنوانا تعلّق به الوجوب بالخصوص ، بل العنوان في لحاظ الآمر إنّما هو الطبيعة بشرط هذا مع الطبيعة بشرط ذاك ، والتخيير واقع بينهما ، فيكون الواجب في نظر الآمر بالضابطة الّتي قرّرناها كلّ منهما حال عدم حصول الاخرى ، والّذي يجوز تركه كلّ منهما حال حصول الاخرى ، فالزائد لا مدخل له في المقام وليس ملحوظا في نظر الآمر بالخصوص ليكون منشأ للإشكال وينظر في حكمه من أنّه هل يجوز تركه ، لا إلى بدل أو

٦١

لا يجوز ، بل العبرة إنّما هي بالطبيعتين المقيّدتين.

ومن البيّن أنّه لا يجوز ترك شيء منهما لا إلى بدل ، وإنّما يجوز ترك كلّ منهما إلى بدل ، وهذا معنى قولنا : « إنّ كلاّ منهما حال عدم حصول الاخرى واجبة ، وكلّ منهما حال حصول الاخرى ليست بواجبة » والمعيار في الحصول وعدم الحصول إنّما هو وجود الصارف للمكلّف عن إيجاد إحدى الطبيعتين ، فإن كان له صارف عن إيجاد تلك الطبيعة لا يجوز له الإخلال بإيجاد الطبيعة الاخرى ، وإن كان له صارف عن إيجاد الطبيعة الاخرى لا يجوز له الإخلال بإيجاد تلك الطبيعة ، فإن أتى بكلّ منهما مع وجود الصارف عن الاخرى يكون ممتثلا ، وإن لم يأت بشيء منهما لوجود الصارف عنهما معا يكون عاصيا ، ولمّا كان إيجاد الصارف وتركه أمرا اختياريّا له فيحرم عليه إيجاد الصارفين معا ، ويحلّ إيجاد أحدهما مع ترك الآخر الملازم لإرادة إيجاد إحدى الطبيعتين ، ولمّا كان وجوب الشيء يقضي بوجوب مقدّمته ووجوب المقدّمة إنّما هو على حسب وجوب ذيها فهو في إيجاد الصارفين وترك الآخر أيضا مخيّر ، ووجوب إرادة إحدى الطبيعتين من باب المقدّمة أيضا تخييريّ ، فإن أوجد الصارف عن الطبيعة المقيّدة بالعدد الأكثر مع إرادته لإيجاد الطبيعة المقيّدة بالعدد الأقلّ له ذلك ، فإذا أتى بها حينئذ فإنّما أتى بعين الواجب ، وإن أوجد الصارف عن الطبيعة المقيّدة بالأقلّ مع إرادة إيجاد الطبيعة المقيّدة بالأكثر له ذلك ، فإذا أتى بها حينئذ فقد أدّى نفس الواجب وهو المجموع من الناقص والزائد ، لأنّ الناقص بما هو ناقص على هذا التقدير لم يكن له مدخل في لحاظ الآمر وعروض وصف الوجوب ، كما أنّ الزائد بما هو زائد لم يكن له على هذا التقدير مدخل في اللحاظ وعروض الوصف ، بل إنّما لوحظ كلّ منهما في اعتبار هذا التقييد بعنوان الجزئيّة ، من غير فرق في ذلك بين حصول الناقص قبل الزائد أو حصولهما معا.

فحصول الأوّل قبل حصول الثاني على تقدير وجود الصارف عن الطبيعة المقيّدة بالعدد الأقلّ لا يقضي بحصول الامتثال حتّى لا يعقل بقاء الوجوب بالنسبة إلى الزائد ، لعدم تعلّق الوجوب به بالخصوص بل وجوبه حينئذ لكونه جزءا من الواجب وجوب عرضي بالقياس إلى وجوب أصل الواجب أو مقدّمي باعتبار كون الجزء مقدّمة.

ومن البيّن أنّ امتثال الوجوب العرضي لا يقضي بامتثال الوجوب الذاتي ما لم يحصل الكلّ في الخارج ، كما أنّ امتثال الوجوب المقدّمي لا يقضي بامتثال الوجوب الأصلي

٦٢

النفسي ما لم يحصل ذو المقدّمة في الخارج ، ولا فرق أيضا بين العبادات وغيرها.

غاية الأمر أنّ العبادة مأخوذة في صحّتها قصد التقرّب ، وهو أمر آخر وراء الإرادة.

والفرق بينهما مع اشتراكهما في توقّف وجود الواجب عليهما أنّ الإرادة من المقدّمات العقليّة للوجود ، وهي لازمة لجميع الأفعال وإن لم تكن من العبادات بل كانت من المحرّمات ، وقصد التقرّب من المقدّمات الشرعيّة فلذا يختصّ بالعبادات مع كونه عبارة عن الداعي وهو مقدّم دائما على الإرادة الّتي هي من المقدّمات العقليّة ، لكونها عبارة عمّا يقارن حدوثها لإيجاد الفعل.

فما في كلام الفاضل النراقي من الاستدلال على ما ذكره من الفرق ، بأنّه : « لا بدّ في الامتثال في العبادات من نيّة الفعل والتقرّب به وممّا يميّزه عن غيره ، فلا يمتثل بالجزء إلاّ مع قصد كونه العبادة المعيّنة المطلوبة ، فإذا لم يقصده وقصد كونه جزء عبادة لا يوافق الأمر بالجزء ، بل الأمر التبعي الّذي دلّ عليه الأمر التخييري بالكلّ ، فلا يصحّ إلاّ إذا أتى بالزائد من غير فرق بين التدريجي والدفعي » ليس على ما ينبغي ، إذ قصد التقرّب لا يستدعي قصد الفعل بخصوصيّته المتعيّنة بل يكفي فيه مجرّد قصد امتثال الأمر المتعلّق به بأداء المأمور به ، وهو ممّا لا قضاء له بتمييز العبادة المطلوبة عن غيرها ، بل القاضي به إنّما هو الإرادة الّتي هي من المقدّمات العقليّة ، وهي كما أنّها لازمة للفعل في العبادات فكذلك لازمة له في غيرها ، وإذا تعلّقت هذه الإرادة بالجزء لا بعنوان كونه جزء حين وجود الصارف عن الكلّ بعنوان كونه كلاّ كان أداؤه على هذا التقدير أداء لنفس الواجب لا جزئه بملاحظة ما ذكرنا ، وإذا تعلّقت به بعنوان أن يكون جزء للكلّ حين وجود الصارف عنه لا بعنوان كونه جزءا كان أداؤه على هذا التقدير أداء لجزء الواجب لا نفسه ، فلا يمتثل إلاّ بأداء الجزء الآخر معه أو أدائه ثانيا بإرادة اخرى متعلّقة بها لا بعنوان أنّه جزء ، وإن لم يكن المقام من جملة العبادات ، على أنّ امتثال الأمر بأداء المأمور به لازم في كلّ من العبادة وغيرها.

غاية الأمر أنّ قصد الامتثال وقصد التقرّب به ليس بلازم في غير العبادة.

نعم يتفاوت الحال فيما ذكرنا فيما لو كان التخيير بين أفراد الكلّي المأمور به عقلا أو بين أفراد الواجب التخييري شرعا ، وإنّما يتمشّى ذلك في الثاني وهو العمدة في المقام.

وأمّا الأوّل فقد تبيّن حكمه في بحث المرّة والتكرار ، وصار البناء فيه على عدم وجوب القدر الزائد على المرّة ولو على المختار من تعلّق الأمر بالماهيّة ، فراجع. ولا حاجة إلى الإعادة.

٦٣

هذا ولكن يبقى في المقام إشكال آخر أمتن من الإشكال المذكور ، وهو : أنّ الأمر في حكم العقل كائنا ما كان تابع للمصلحة الكامنة في الشيء ، وقد عرفت أنّها في الواجب المخيّر لا بدّ وأن يشارك في الاشتمال عليها جميع أفراد ذلك الواجب ، بأن تكون قائمة في كلّ منها بانفراده على جهة سواء من غير مزّية ملزمة فيها لبعضها على الآخر ، وإلاّ تعيّن إيجاب ذلك البعض معيّنا أو مع ما يشاركه في الاشتمال على تلك المزيّة ، ويقبح عند العقل التخيير بينه وبين ما خلى عنها بالمرّة وإن اشتمل على حصّة من تلك المصلحة ، كما يقبح التخيير بين المشتمل على المصلحة وما خلى عنها بالمرّة ، بل الحصّة الموجودة فيه على هذا التقدير بالنسبة إلى مقام الإيجاب والإلزام يكون وجودها بمنزلة العدم.

فالزيادة المعتبرة في جانب الأكثر إن كان لها مدخل في تلك المصلحة بحيث لولاها لما كان الناقص مجديا في حصول المصلحة فكيف يجعل الأقلّ فردا من الواجب مع قصوره عن إفادة المصلحة المذكورة ، من جهة خلائه عن الزيادة الّتي ينوط بحصولها حصول المصلحة ، وإن لم يكن لها مدخل أصلا بحيث لولاها لما اختلّت المصلحة في حصولها بحصول الناقص فكيف يجعل كونها جزءا للواجب ، وموجبا فواته لاختلال الامتثال بذلك الواجب كما هو المفروض على القول بوجوب الكلّ.

على انّا نرى بالوجدان أنّ الطبيب في مقام المعالجة لو قام مصلحة علاجه للمريض بثلاثة مثاقيل من دواء خاصّ ليس له عقلا تخيير المريض بينه وبين مثقال أو مثقالين ، كما أنّه لو قامت المصلحة بمثقالين ليس له إيجاب الثلاثة بل ولا تجويز الزيادة إذا أوجبت فسادا في أصل المطلوب ، نعم له أن يخيّره بين الثلاثة ومثقالين من دواء آخر يترتّب عليه ما يترتّب على الأوّل من المصلحة ، والمقام ليس من ذلك في شيء.

ويمكن دفعه أيضا : بأنّ التعبديّات لا تقاس على العقليّات الصرفة ، والعقل قاصر في غالب مواردها عن إدراك ما فيها من المصالح والحكم ، ولذا صار مبنى الشريعة على الجمع بين المفترقات والتفريق بين المجتمعات ، فلم لا يجوز أن يكون في الناقص باعتبار نقصانه نحو خصوصيّة تكافؤ ما في الزائد باعتبار زيادته من هذا النحو من الخصوصيّة ، فلا حظهما الشارع الواقف على حقائق الأشياء متكافئين في الاشتمال على تلك الخصوصيّة المنوطة تارة بالنقصان واخرى بالزيادة ، فأمر بهما معا على جهة التخيير تحصيلا لتلك الخصوصيّة من المصلحة ، ولمّا كان النصّ بظاهره دلّ على إرادة ذلك فيجب علينا الأخذ بموجبه

٦٤

وإحالة تفصيله إلى علم الله سبحانه ، وليس علينا النظر في أنّ الزيادة هل له مدخليّة في ترتّب المصلحة أو لا؟ إذ لا معنى للاجتهاد في مقابلة النصّ ، ولا داعي إلى صرف الخطاب عن ظاهره لمجرّد ذلك أو شبهات اخر كما صنعه جماعة فحملوه بالنسبة إلى الزيادة على الاستحباب ، مع عدم تجويزهم للاستعمال في المعنى الحقيقي والمجازي معا ولا قاضي بالطلب إلاّ صيغة واحدة وهي عندهم حقيقة في الوجوب أو منصرفة إليه ، فمع استفادة الوجوب عنها أيّ شيء يؤدّيهم إلى الاستحباب في الزيادة؟ إلاّ مع الالتزام بكون المراد حينئذ مطلق الطلب ولو مجازا وخصوصيّة الوجوب في الناقص والاستحباب في الزائد تفهم من خارج ، كما في الخطاب بالصلاة المتناول لجميع أنحاء المكلّفين مع اختلافهم في الخصوصيّات الراجعة إليهم ، غير أنّه إخراج للخطاب إلى إيجاب تعيين إذ ليس ذلك معنى التخيير ، وهو كما ترى اجتهاد غير مقبول حيث لا يساعد عليه العقول.

الأمر الرابع : كما يتعلّق الأمر بشيئين متشاركين أو أشياء متشاركة في المصلحة على وجه التخيير ، فكذلك قد يتعلّق الأمر بالمتشاركين أو المتشاركة في المصلحة على سبيل الترتيب ، بأن يكون الأمر الثاني مرتّبا على الأمر الأوّل ومنوطا تعلّقه بعدم تمكّن امتثال الأوّل ، وقد أشار إليه في المنهاج وشرحه مع جعلهما له باعتبار حرمة الجمع كأكل المذكّى والميتة ، وإباحته كالوضوء والتيمّم ، وندبه كالإعتاق والإطعام والصوم في كفّارات الصوم على أقسام ثلاث.

وقد أشار إلى ذلك العلاّمة أيضا في التهذيب مع الإشارة إلى انقسام كلّ منهما إلى ثلاثة أقسام ، أمّا أمثلة أقسام الثاني فكما عرفت ، وأمّا أمثلة أقسام الأوّل فكالتزويج من كفوين في محرّم الجمع ، وستر العورة بثوبين في مباح الجمع ، وكفّارة الحنث في مندوب الجمع.

وظاهره كونهما قسمين للأمر بالشيئين أو الأشياء لا على سبيل الجمع كما نصّ به السيّد في المنية وقال : « واعلم أنّ الأمر بالشيئين أو الأشياء لا على سبيل الجمع قد يكون على الترتيب بمعنى كون الثاني غير مسقط للفرض مادام الأوّل مقدورا ، وقد يكون لا على الترتيب بل على البدل ، بمعنى كون كلّ منهما قائما مقام الآخر إلى آخره » وهو أعمّ من الأمر بالشيئين أو الأشياء على سبيل التخيير كما لا يخفى وقد يقع اسم التخيير على القسمين معا وهو تسامح جزما ، لعدم اندراج القسم الثاني في ضابطة الواجب التخييري ، بل هو في الحقيقة واجب تعييني في كلّ من المراتب كما صرّح به بعض الأفاضل وأخوه

٦٥

وهذا واضح ، وإنّما الكلام هنا في شيئين :

أحدهما : أنّ اعتبار الترتيب بين الشيئين أو الأشياء في مقام الأمر يلازم الاشتراط والتعليق ، وهو إنّما يصحّ من غير العالم بالعواقب وأمّا منه ـ فبناء على التحقيق ـ موضع إشكال ، بل الّذي يساعد عليه البرهان أن يخصّ الخطاب الأوّل بمن يتمكّن عن الشيء الأوّل الّذي هو المقدّم لمكان علمه تعالى بتمكّنه ، والخطاب الثاني بمن يتعذّر عليه ذلك ، فهو مكلّف به مطلقا كالأوّل لا أنّه مكلّف به بشرط أن لا يتمكّن من الأوّل ، كالاضطراريّات من أفراد الصلاة بالقياس إلى غير المتمكّنين من المكلّفين من الفرد الاختياري الجامع لشرائط الاختيار.

وثانيهما : أنّ ما ذكروه من الأحكام الثلاث لصور الجمع في كلّ من القسمين ممّا لا يتحقّق معناه ، فإن أرادوا أنّ الجمع من حيث إنّه مفهوم حاصل من انضمام كلّ واحد إلى الآخر في الإيجاد الخارجي فهو له حكم بنفسه ، بمعنى أنّه ممّا لا حظه الشارع بالخصوص وأثبت له تلك الأحكام ، فهو كلام سخيف لا ينبغي الالتفات إليه.

وإن أرادوا أنّ الانضمام له مدخليّة في ثبوت تلك الأحكام لما زاد على الواحد الّذي دخل في حيّز الوجود بحيث لولاه لما كان ذلك الزائد حراما ولا مباحا ولا مندوبا فأوضح فسادا من الأوّل ، ضرورة أنّ أكل الميتة مع التمكّن عن أكل المذكّى حرام سواء حصل الانضمام بينهما أم لم يحصل ، والتيمّم مع التمكّن عن الوضوء لو حصل الإتيان [ به ] لا بقصد التشريع [ بل ] لغرض معتدّ به فهو مباح سواء انضمّ إليه الوضوء أيضا أو لا ، ومع قصد التشريع يكون حراما ولو مع الانضمام ، وكذلك الكلام في خصال الكفّارات فإنّ ما زاد منها على الواحد الّذي أتى به لأجل الامتثال له في حدّ ذاته حكم استحبابي ثابت من غير جهة الانضمام ، فلو أوتي به من هذه الجهة كان امتثالا لذلك الحكم وإلاّ كان محرّما لأجل البدعة.

فالأولى أن يقال : إنّ ما بقي من معادلات الواجب المخيّر بعد حصول البعض يتبع في الحكم ما قبل تعلّق الخطاب التخييري إن مندوبا فمندوب وإن مباحا فمباح ولو بحكم الأصل ، لأنّ قضيّة ما قرّرناه من معنى التخيير انحلال القضيّة التخييريّة إلى عقدين إيجابيّ وسلبي ، فالّذي يبقى بعد حصول الامتثال بالبعض يدخل في العقد السلبي فيكون بلا مانع عن جريان ما ثبت لعنوانه الخاصّ من الحكم خصوصا أو عموما فيه ، فيجري مجرى المندوب أو المباح ما لم يلحقه نيّة الوجوب التخييري وإلاّ يحرم للتشريع ، كما أنّه قد

٦٦

يحرم أيضا بدخوله بسبب لحوقه بما حصل للامتثال في عنوان عامّ محكوم عليه شرعا بالحرمة كما في التزويج من الكفوين ، إذ لو لا دخول التزويج في عنوان تزويج ذات البعل لما كان محكوما عليه بالحرمة.

وعلى قياس ما ذكر ما بقي من الشيئين المأمور بهما على الترتيب إلاّ إذا كان من مقولة العبادة ولم يثبت له بعنوانه الخاصّ حكم إباحة ولا حكم ندب ، كالتيمّم فيمن أتى بالوضوء ، فإنّه لو أتى به لتحصيل الطهارة يكون بدعة محرّمة سواء نوى فيه الوجوب أو الندب ، ومثله الكلام في الأفراد الاضطراريّة للصلوات الواجبة فيمن تمكّن عن الفرد الاختياري.

الأمر الخامس : عن جماعة ـ على ما في كلام بعض الأفاضل ـ جواز اتّصاف أحد أفراد الواجب المخيّر بالاستحباب ، بأن يكون واجبا تخيّيريّا ومندوبا تعيينيّا ، وعزاه بعض الأعاظم إلى الأكثر ثمّ صار إليه ، وخالفهم الفاضل المذكور محتجّا بما تقرّر عندهم من تضادّ الأحكام واستحالة اجتماع المتضادّين في محلّ واحد.

وعن بعضهم الاحتجاج أيضا بعدم إمكان تعلّق الاستحباب بشيء من أفراد الواجب التخييري ، ولا يخفى ما فيه من المصادرة.

واعترض عليه بعض الأعاظم : بأنّ الحقّ جواز اجتماع الأحكام باختلاف الحيثيّات ، فهاهنا لو قيل بكون الواجب التخييري هو الكلّي لأمكن استحباب أحد الأفراد عينا ، فيستحبّ اختياره ويجوز تركه ولم يتّصف بالوجوب شرعا بل شرطا ، ولو قيل بكونه كلّ واحد على وجه البدليّة لأمكن الاجتماع بكون الاستحباب بنفسه والوجوب بملاحظة القيد كالوجوب الغيري والاستحباب النفسي ، فلا منافاة أصلا.

ثمّ قال : فظهر أنّ الأظهر هو القول الآخر ، ومن فروعه الاستنجاء بالماء مع التخيير بينه وبين الأحجار ، وصلاة الجمعة على القول بالتخيير إلى غير ذلك.

وقال الفاضل المتقدّم ـ بعد احتجاجه المذكور على المنع ـ : « وعلى القول بجواز تعلّق الأمر والنهي بشيء واحد من جهتين ، كما هو المختار عند جماعة من المتأخّرين فلا ريب في الجواز في المقام نظرا إلى اختلاف الجهتين ».

ثمّ قال : وقد يتخيّل جواز اجتماعهما في المقام بناءا على المنع من اجتماع الأمر والنهي أيضا ، ولذا ذهب إليه بعض من لا يقول بجواز اجتماعهما نظرا إلى منع مضادّة بين الاستحباب النفسي والوجوب التخييري ، كما أنّه لا مضادّة بين الاستحباب النفسي والوجوب

٦٧

الغيري ، لوجوبه حينئذ لنفسه نظرا إلى حصول القدر المشترك به واستحبابه بملاحظة خصوصيّة إضافيّ بالنظر إلى غيره.

ثمّ أورد عليه : « بأنّه إن اريد بجواز اجتماع الأمرين جواز الجمع بين الوجوب التخييري والندب المصطلح يعني ما يجوز تركه مطلقا فبيّن الفساد ، لوضوح أنّه ليس يجوز تركه كذلك وإلاّ لم يتّصف بالوجوب التخييري ، لما عرفت من حصول المنع من ترك كلّ واحد من الواجبين المخيّرين في الجملة ، فإنّ كلاّ منهما مطلوب للآمر على وجه المنع من تركه وترك ما يقوم مقامه ، وإن اريد بذلك جواز اجتماع الوجوب التخييري والندب بغير معناه المصطلح أعني ما يكون فعله راجحا بالنسبة إلى فعل غيره رجحانا غير مانع من النقيض ، نظير ما اعتبر في مكروه العبادة من مرجوحيّة فعلها بالنسبة إلى فعل غيرها كما يومي إليه قوله : « يكون استحبابه إضافيّا بالنسبة إلى غيره » فلا مجال لتوهّم مانع منه في المقام ولا يعتريه شبهة ولا إشكال ، والظاهر أنّ أحدا لا يقول بامتناعه » إلى آخره.

فقد تبيّن ممّا ذكر أنّهم متسالمون في جواز اجتماع الوجوب الغيري مع الاستحباب النفسي ، وظاهرهم أيضا كونهم متسالمين في عدم جواز اجتماع الوجوب والاستحباب النفسيّين ، وهو كما ترى فرق بلا فارق وتفكيك بلا وجه ، فإن أرادوا أنّ اجتماع النفسيّين إنّما يؤدّي إلى كون ترك المأمور به ممّا جوّزه الشارع ومنع عنه معا مضافا إلى لزوم اجتماع جواز الترك وعدم جوازه في محلّ واحد والأوّل خطاب سفهيّ محال صدوره عن الحكيم ، والثاني اجتماع للنقيضين في محلّ واحد فيمتنع معه الجمع بين النفسيّين ، ضرورة استلزام مناقضة الفصول لمناقضة الاصول. ففيه : أنّ الأمر في الغيري والنفسي أيضا كذلك ، ضرورة تضمّن الطلب الندبي للشيء لتجويز تركه وتضمّن الطلب الحتمي له للمنع عن تركه ، مع لزوم اجتماع جواز الترك وعدم جوازه فيلزم المحذوران جزما ، والاختلاف بينهما في ذلك في الغيريّة والنفسيّة لا يجدي في مفارقتهما عن النفسيّين ما لم يتعدّد فيهما موضوع الحكمين والمفروض خلافه ، ضرورة خروج الحكمة الباعثة على حدوث الحكم عن موضوع الحكم ، غاية الفرق بينهما أنّ النفسيّة جهة داخليّة لأنّ محصّل مفادها كون الداعي إلى الإيجاب الرجحان القائم بنفس الشيء ، والغيريّة جهة خارجيّة لأنّ مفادها كون الداعي إلى الإيجاب رجحان في الغير المرتبط حصوله بحصوله.

وإن أرادوا أنّ الوجوب الغيري إنّما يجتمع مع ما يقتضي الاستحباب النفسي ولا استحالة

٦٨

فيه ، لجواز أن يكون في ذات الشيء رجحان غير بالغ حدّ المنع عن الترك محصّل للاستحباب فطرأه من الخارج رجحان آخر بالغ حدّ المنع عن الترك ، فيكون مستحبّا لاشتماله على مقتضى الاستحباب وواجبا لاشتماله على طلب الإيجاب بخلاف النفسيّين ، فإنّ الشيء مع اشتماله لذاته على مقتضى الاستحباب لا يمكن اشتماله لذاته أيضا على مقتضى الإيجاب ، لأنّ ما بالذات لا يختلف ولا يتخلّف ، ففيه : أنّ ذلك ليس من اجتماع الاستحباب مع الوجوب في شيء من حيث أنّه عبارة عن الطلب المقرون بتجويز الترك ، وعروض الوجوب بمعنى الطلب المقرون بالمنع عن الترك مانع عن عروضه فهو واجب صرف ما لم يلحقه الامتثال ، ومع لحوقه ينقلب مستحبّا صرفا ، فهو في آن اتّصافه بالاستحباب حقيقة لا يتّصف بالوجوب إلاّ على سبيل المجاز بعلاقة الأول أو الكون ، وفي آن اتّصافه بالوجوب حقيقة لا يتّصف بالاستحباب إلاّ على سبيل المجاز أيضا بإحدى العلاقتين أو بعلاقة المشابهة.

وبالجملة الواجب الغيري ما لم يلحقه وجوبه للغير بعدم وجوب ذلك الغير يصحّ اتّصافه بالاستحباب حقيقة في بعض الأحيان ، فإذا لحقه الوجوب أوجب ارتفاع فصل الاستحباب ، وظاهر أنّ انتفاء الشيء لوجود مانعه كانتفائه لفقد مقتضيه في عدم ترتّب أحكام الوجود عليه ، وكما أنّ الشيء ينتفي بوجود مانع عن وجوده ابتداء فكذلك قد ينتفي بتحقّق رافع له ، كما قد ينتفي بعدم ما يقتضي وجوده ، والرافع قد يكون اختياريّا من قبل المكلّف كالامتثال وسلب القدرة عن نفسه ، وقد يكون اضطراريّا من قبل الغير كزوال قدرته قهرا ، ومنه طروّ الضدّ الوجودي كما هو الحال بالقياس إلى ما كان مباحا فطرئه الوجوب ، فهل يعقل القول فيه باجتماع الاباحة والوجوب ، ونظيره بعينه ما كان مستحبّا فطرئه الوجوب ، ولذا صرّح المحقّقون بأنّ الأحكام بأسرها ممّا يضادّ بعضها بعضا.

ومن هنا يتبيّن الحقّ في معقد المسألة بالنظر إلى ما قرّرناه في معنى الواجب التخييري ، من كون الواجب كلّ واحد حال عدم حصول الآخر ، فإذا كان الإطعام حال عدم حصول الصيام واجبا فكيف يعقل اتّصافه بالاستحباب العيني المتضمّن لتجويز تركه في كلّ من تقديري حصول الصيام وعدمه ، فإنّه يناقض المنع عن تركه حال عدم حصول الصيام ، إلاّ أن يجعل الاستحباب وصفا للإطعام بعد حصوله أو حال حصول الصيام أو بعد حصوله ، وهو كما ترى ليس من مسألة الاجتماع في شيء ، فإنّ موضوع الحكمين يتغاير

٦٩

على الأوّل بالزمان وعلى الأخيرين بالذات كما لا يخفى.

نعم على مذهب من يرى الواجب في المخيّر كلّيا وهو مفهوم « الأحد » لا مانع من اتّصاف البعض بالاستحباب ، بأن يكون متعلّق الوجوب هو الكلّي ومتعلّق الاستحباب هو الفرد كما في الصلاة في المسجد ، غير أنّه أيضا ليس من الاجتماع في شيء لتعدّد الموضوعين.

فإن قلت : إذا جاز اتّصاف الفرد بالاستحباب مع اتّصاف الكلّي بالوجوب من جهة تعدّد موضوعيهما فقد جاز اتّصافه بالحرمة مع اتّصاف كلّيه بالوجوب ، فيلزم اجتماع الأمر والنهي مع تعدّد الجهة لتعدّد موضوعيهما حسبما ذكروه في ثمرة الخلاف في الواجب المخيّر ، وهو اعتراف منك بخلاف ما ذكرته في منع تلك الثمرة.

قلت : إنّما منعنا عن ذلك ثمّة من جهة أنّ محصّله يرجع إلى أنّ الشارع إنّما تصوّر الحرام وغير الحرام وانتزع عنهما قدرا مشتركا وهو مفهوم « أحدهما » فأمر به ، وهو ممّا لا يتعقّل ولا يجري مثله في مفروض المقام ، إذ تصوّر المستحبّ وغير المستحبّ ثمّ الأمر بالقدر المشترك بينهما ممّا لا مانع عنه عقلا ، كما أنّ تصوّر المباحين ثمّ الأمر بالقدر المشترك بينهما ممّا لا مانع عنه.

نعم لا نضائق عن كون أحد فردي الواجب المخيّر أفضل من الآخر وثوابه أكثر ، كالإتمام في التخيير بينه وبين القصر في [ المواطن ] الأربع ، والاستنجاء بالماء في التخيير بينه وبين الأحجار ، ولا نظنّ فيه خلافا كما نفاه بعض الأعاظم ، ولكنّ الأفضليّة لا تستلزم الاستحباب بالمعنى الحقيقي.

الأمر السادس : لا إشكال في أنّ الواجب في المخيّر لا يتعيّن على المكلّف بقصد الشروع في واحد معيّن ، كما لا إشكال في أنّ الوجوب لا يسقط رأسا بالشروع فيه إلى أن يحصل الفراغ كما هو الشأن في سائر التكاليف ، ضرورة كون سقوط التكليف منوطا بحصول الفعل في الخارج حسبما اعتبره الشارع.

فهل يتعيّن الواجب بمجرّد الشروع في واحد معيّن فليس له العدول حينئذ إلى الفرد الآخر ومع عدوله لا يمتثل أو لا بل التخيير باق إلى أن يحصل الفراغ ، فلو عدل في الأثناء إلى الفرد الآخر كان ممتثلا ، فيه إشكال ، ينشأ من أنّ التخيير عبارة عن جعل الاختيار في تعيين ما يحصل به الامتثال من الأفراد المخيّر فيها للمكلّف ، أو عبارة عن جعل الاختيار في أداء ما يحصل به الامتثال من تلك الأفراد للمكلّف.

٧٠

ولا ريب أنّ عدول المكلّف عمّا شرع فيه إلى أداء الفرد الآخر اختيار منه لأداء ما يحصل به الامتثال ، كما كان إتيانه بما لم يعدل عمّا شرع فيه اختيارا لأداء ما يحصل به الامتثال ، وهذا هو الأقرب والأظهر من معنى التخيير بل هو من مقتضى المعنى الّذي استفدناه من العقل والنقل حسبما مرّ تفصيله بما لا مزيد عليه ، فإنّ الطلب إذا كان من أوّل الأمر متعلّقا بكلّ واحد لا على التعيين فأيّ شيء قضى باعتبار التعيين في الواحد الّذي شرع فيه ولو بعد القطع.

وإذا كان المكلّف به هو كلّ واحد حال عدم حصول الآخر في أصل وضع الخطاب التخييري ، فأيّ دليل دلّ على أنّ المكلّف به هو ما شرع فيه المكلّف ولو بعد قطعه مطلقا ، سواء حصل في مكانه الفرد الآخر أو لم يحصل ، مضافا إلى أنّ التخيير لو كان عبارة عن جعل اختيار التعيين للمكلّف الموجب لحصول التعيين بالشروع لقضى بحصوله أيضا بمجرّد القصد والنيّة وإن لم يشرع وهو ضروريّ البطلان.

فما يقال في وجه الأوّل : من أنّه مخيّر في اختيار أيّهما شاء فإذا اختار أحدهما زال التخيير ، وأيضا جواز العدول بعد الشروع في الفعل يتوقّف على قيام الدليل عليه وهو منتف ، ليس ممّا ينبغي الالتفات إليه كيف وأنّ الأوّل مع كونه مصادرة إنّما يتّجه على الاحتمال الّذي قد عرفت ضعفه ، وأنّه لا ملازمة بين عدم العدول وكون ما أوتي به بعد العدول مجزيا ، إذ ليس في المقام إلاّ توهّم المنع عن إبطال العمل وهو مع أنّه غير مطّرد مردود بأنّ الإبطال المعلوم كونه محرّما في الشرع لا يقدح في صحّة ما يؤتى ثانيا من الأفراد ، كما في أفراد الكلّي المأمور به في الواجب المعيّن فضلا عمّا لم يعلم بالمنع عنه شرعا ، والّذي يقول ببقاء التخيير يعترف بتحريم الإبطال فيما ثبت تحريمه بالخصوص ، كما في التخيير بين الظهر والجمعة حيث يحرم عليه الإبطال بعد الشروع في أحدهما ، وأمّا لو عصى فأبطل كان التخيير باقيا وله الإتيان بالآخر.

وربّما يستند على المختار إلى الاستصحاب ، فإنّه لو شرع في أحدهما جاز له العدول إلى الآخر استصحابا لما ثبت إلى أن يسقط التكليف بأدائه ، وكأنّ المراد به جواز العدول عن كلّ منهما إلى الآخر الثابت له قبل الشروع في أحدهما ، فإنّ جواز العدول عن ذلك إلى هذا وعن هذا إلى ذلك قبل الشروع في الفعل هو معنى البدليّة الثابتة في موضع التخيير فيستصحب بعد الشروع إلى أن يحصل الفراغ حيث لا علم بما يرفعه ، وهذا ممّا لا بأس به

٧١

غير أنّه ليس بعامّ الجريان حتّى فيما حرم إبطاله شرعا كما عرفت.

وإن كان الاستصحاب ولا بدّ وأن يتمسّك به في المقام فالأولى أن يقال : بأنّ ما لم يشرع فيه قبل الشروع في صاحبه كان قابلا للاجتزاء به فيستصحب ، مضافا إلى أصالة عدم طروّ ما يرفع القابليّة عنه وعدم خروجه عن حيّز الطلب التخييري وعدم لحوق اعتبار التعيين بصاحبه الّذي شرع فيه ، نظرا إلى كونه قبل الشروع مقطوعا بعدمه ، ويؤيّده أصل البراءة عن التعيين بناءا على جريانه في المقام كما قد يتوهّم.

الأمر السابع : لو أتى المكلّف في الواجب المخيّر بواحد من الأفراد واكتفى به امتثل جزما وليس عليه شيء بعد ذلك ، ولا يعقل معه امتثال ليجب تحصيله ، إذ لو اريد به ما كان بالنسبة إلى الأمر الأوّل الثابت بعنوان التخيير كان تحصيلا للحاصل ، بناء على ما قرّرناه من كون المكلّف به المستقرّ في ذمّة المكلّف واحدا دائما ، ولو اريد به ما كان بالنسبة إلى الأمر الآخر كان خلاف الفرض وإلاّ انقلب المخيّر معيّنا ، وحينئذ فلو أتى بالفرد الآخر بنيّة امتثال الأمر الإيجابي كان تشريعا محرّما ، وكذلك لو قصد به امتثال الأمر الاستحبابي إلاّ مع العلم باستحبابه بالخصوص أو رجحان الجمع بينهما الحاصل من الخارج ، ولا يكفي فيه مجرّد احتمال الاستحباب ، كما لا يكفي مجرّد احتمال الوجوب بناء في البدعة المحرّمة على تفسيرها الأعمّ.

وأمّا بناء على تفسيرها الأخصّ ـ كما هو الأظهر ـ اختصّ التحريم بما لو علم فيه بانتفاء الأمر بالمرّة استحبابيّا وإيجابيّا.

ولو أتى بالجميع أو بما زاد على الواحد دفعة واحدة فإن قصد الامتثال بواحد منها لا بعينه لا ريب في أنّه على تقدير حصوله يستند إلى واحد لا بعينه ، ولو ذهب وهم إلى منع حصوله حينئذ استنادا إلى أنّ الواحد لا بعينه مبهم فلا يعقل الامتثال به ، لدفعناه بمنع اقتضاء الامتثال بعد القطع بثبوت أصل التكليف محلاّ معيّنا كما هو الحال في صورة اشتباه الواجب بغيره ، فيأتي المكلّف بجميع أطراف الشبهة بقصد امتثال الوجوب المقطوع بثبوته إجمالا ، كيف وهو تابع لأصل الوجوب الثابت فكما أنّه في تعلّقه لا يقتضي محلاّ معيّنا حسبما قرّرناه في دفع شبهة من يجعل الواجب واحدا معيّنا فكذلك الامتثال في حصوله ، وربّما يتخيّل استناد حصول الامتثال حينئذ إلى ما هو من الأفراد أكثر ثوابا.

وفيه : أنّ مجرّد أكثريّة الثواب لا تقضي باختصاص الامتثال بذلك الواحد إلاّ على

٧٢

تقدير اختصاص الوجوب به ، وهو خلاف الفرض وإلاّ انقلب الواجب التخييري واجبا تعيينيّا وهو باطل.

وقد يتوهّم ـ كما عن الشيخ في العدّة ـ كون المثاب عليه المعاقب عليه [ و ] متعيّنا حينئذ في الواقع في علمه تعالى غير معيّن عندنا فيكون الواجب المبرئ للذمّة أيضا كذلك ، لأنّ ما يعلمه الله تعالى أنّه واجب لا يتغيّر عن كونه واجبا إذا فعله مع غيره فيثيبه عليه ثواب الواجب واستحقّ العقاب بترك ذلك.

وهذا كما ترى كلام لا يجري في المقام بل هو يتمشّى في الواجب المعيّن عند اشتباهه بغيره ، فيأتي المكلّف بهما معا تحصيلا للامتثال بما هو معيّن عليه في الواقع ، والواجب في المقام لا تعيّن فيه في الظاهر والواقع معا.

ويظهر من العلاّمة في التهذيب ـ كالمحكيّ عنه في النهاية ـ أنّ الامتثال يستند إلى كلّ واحد ، حيث قال ـ في ردّ استدلال من يرى الواجب معيّنا عند الله ـ : بأنّ المكلّف إذا فعل الجميع فإن سقط الفرض به كان الجميع واجبا ، وإن سقط بواحد لا بعينه كان المعيّن مستندا إلى المطلق. وهذا خلف ، وإن سقط بكلّ واحد لزم اجتماع العلل على معلول واحد ، فتعيّن المعيّن بأنّ هذه معرّفات.

ولا يخفى أنّه اختيار للشقّ الأخير ودفع للمحذور بأنّ هذه الامور ليست بعلل حقيقيّة بل هي معرّفات ولا يمتنع اجتماعها على أثر واحد ، ولكن كلامه مطلق بالنسبة إلى القصد وعدمه في واحد أو في كلّ واحد.

ويمكن توجيه كلامه على وجه لا ينافي ما ذكرناه ، وهو أن يقال : إنّ المراد باستناد الامتثال إلى كلّ واحد استناده على سبيل البدليّة لا على سبيل الاستقلال كأصل الوجوب ، فكما أنّه في تعلّقه بكلّ واحد حاصل على سبيل البدليّة فكذلك الامتثال فإنّه حاصل على سبيل البدليّة ، لأنّ استناده إلى واحد ليس بأولى من استناده إلى صاحبه حيث إنّ الجميع متّصف بالوجوب على سبيل التخيير.

ويؤيّده ما حكى عنه في النهاية ـ في جواب ما قرّره الخصم فيما إذا أتى بالجميع دفعة من أنّه هل يستحقّ الثواب بالجميع وأنّه هل ينوي الوجوب بالجميع؟ إلى آخره ـ من أنّه إنّما يستحقّ على فعل كلّ منها ثواب المخيّر لا المعيّن ، بمعنى أنّه يستحقّ الثواب على فعل امور كان يجوز له ترك كلّ واحد بشرط الإتيان بصاحبه لا ثواب فعل امور كان يجب عليه

٧٣

إتيان كلّ واحد منها بعينه ، إلى آخره.

ولكن ينبغي تنزيل إطلاق كلامه إلى صورة قصد الامتثال في واحد لا بعينه أو في كلّ واحد على البدل ، بناء على أنّ مفاد العبارتين شيء واحد لرجوع كلّ إلى الآخر كما تبيّن سابقا.

ويبقى في المقام بالنسبة إلى ما قرّرناه إشكال وهو : أنّ الواجب في المخيّر إذا كان كلّ واحد حال عدم حصول الآخر ـ على ما تقرّر ـ فكيف يقال بحصول الامتثال مع الإتيان بالجميع دفعة والشرط غير حاصل والقيد منتف لاقتران حصول كلّ بحصول الآخر وحصوله حال حصوله.

ويدفعه : أنّ حال المقارنة غير حال الحصول ، لأنّ المراد به هنا ما يسقط معه الطلب التخييري ويحصل به الامتثال ، ولا يتأتّى ذلك إلاّ مع سبق أحدهما في بروزه في الخارج ودخوله في حيّز الوجود بعنوان الامتثال ، فحينئذ لا يبقى طلب ليجب امتثاله في ضمن ما لم يحصل ، فيكون تركه جائزا وإلاّ لزم الامتثال عقيب الامتثال وهو غير معقول.

وقضيّة ذلك كون المراد بحال عدم الحصول الّذي هو المعيار في منع ترك كلّ بالقياس إليه في الآخر عدم سبق الدخول في حيّز الوجود الخارجي في شيء منهما على صاحبه.

ولا ريب أنّ هذا المعنى متحقّق في كلّ منهما حال المقارنة ، إذ يصدق على كلّ منهما أنّه لم يسبق على صاحبه في الوجود الخارجي حتّى يلزم عدم بقاء الطلب بالقياس إليه الموجب لعدم ترتّب الصحّة على أدائه الّتي هي فرع الأمر.

وبالجملة الواجب فيما بين الإطعام والصيام وإن كان هو المقيّد من كلّ منهما بحال عدم حصول الآخر ، ولكنّ المراد بحال عدم الحصول حال عدم سبق أحدهما في وجوده الخارجي على الآخر ، الموجب لعدم بقاء الطلب القاضي بعدم وجوبه بعد ، وهذا المعنى حاصل مع حصولهما دفعة حصوله مع حصول أحدهما دون الآخر ، ولمّا كان الواجب المستقرّ على ذمّة المكلّف واحدا على كلّ تقدير فأوجب أداءهما معا دفعة امتثالا واحدا دائرا بين هذا وذاك على جهة البدليّة كما كان الوجوب دائرا بينهما كذلك ، وهل يحسب ما عدا ذلك الواحد امتثالا للأمر الاستحبابي على تقدير كونه مستحبّا ، فيه وجه مبنيّ على كون الداعي إلى الجمع تحصيل امتثال الأمرين معا.

ولو نوى القربة المطلقة بأداء الجميع أمكن القول بامتثال الأمرين معا أيضا بناء على عدم وجوب قصد الوجه في امتثال الأوامر كما هو المحقّق أخذا بموجب القواعد ، وإن

٧٤

قصد امتثال الأمر الإيجابي بالجميع فلا ريب في تحريمه للتشريع ، وهل يوجب ذلك إخلالا في الصحّة بالنسبة إلى الواحد لا بعينه الّذي هو محلّ الوجوب أو لا؟

ولا يبعد التفصيل بين التعبّديّات فلا يمتثل أصلا إذ لم يأت بما هو وظيفته على وجهه وما أتى به لم يكن وظيفته ، وبين التوصّليّات فيمتثل لأنّ الغرض الأصلي من الأمر بها حصول المصلحة المعلومة وقد حصلت ، ولا يقدح قصد ما ليس من الوظيفة كما لا يخفى.

ـ تعليقة ـ

كما أنّ الواجب باعتبار الفعل ينقسم إلى تعييني وتخييري فكذلك باعتبار الفاعل ينقسم إلى فرض عين وفرض كفاية ، والشائع في لسانهم التعبير عنهما بـ « العيني » و « الكفائي » والأوّل خارج عن معقد الباب والثاني يعرّف تارة بما في تهذيب العلاّمة من أنّه : « كلّ فعل تعلّق غرض الشارع بإيقاعه لا من مباشر معيّن » ، واخرى : بما في زبدة البهائي من : « أنّه ما يسقط عن الكلّ بفعل البعض قطعا أو ظنّا شرعيّا » وثالثة بما في كلام بعض الأعلام من : « أنّه ما قصد به غرض يحصل بفعل البعض » ورابعة بما حكاه بعض الأفاضل من : « أنّه ما وجب على الجميع لا على سبيل الجمع » وفي معناه أيضا : « ما وجب على الكلّ على البدل ».

ويرد على الأوّل : البينونة بينه وبين المحدود ، حيث إنّ الملحوظ في الثاني الماهيّة ـ على ما هو شأن التحديدات ـ والمذكور في الحدّ الأفراد ، ولا ريب أنّها تبائن الماهيّة ، مضافا إلى خروجه بعدم صدق « كلّ فعل » على شيء من الأفراد غير منعكس ، مع أنّه لا يستقيم إلاّ على رأي من يجعل الوجوب على البعض الغير المعيّن ، لأنّ مفاد تعلّق التكليف بالكلّ لزوم مباشرة الكلّ ما لم يقم من يسقط التكليف بفعله عن الباقين ، وهو ملزوم لتعلّق الغرض بمباشرة المعيّن لمكان تعلّق التكليف بالقياس إلى كلّ بالمعيّن ، فنفي تعلّق الغرض بمباشرة المعيّن ملزوم لنفي تعلّق التكليف بالمعيّن وهو خلاف ما ذهب إليه المعرّف حيث يقول بتعلّق الوجوب بكلّ واحد.

ويرد على الثاني : انتقاضه في طرده بالواجب العيني التوصّلي كأداء الدين فيما إذا كان على كلّ واحد من المكلّفين فقام متبرّع وأدّاه عن الجميع ، فصدق عليه أنّه ما يسقط عن الكلّ بفعل البعض.

٧٥

ويرد على الثالث : أنّ الوصف في جملة « يحصل » إن اريد به ما كان متضمّنا لنفي الغير من باب قصر الصفة على الموصوف ، بمعنى كونه مخصّصا للغرض بما يحصّل بفعل البعض خاصّة كان الحدّ منتقضا في عكسه بالنسبة إلى ما يحصل من الغرض المقصود بفعل الكلّ ، كما لو قام الكلّ بأداء الواجب وإن كان في شأنه بحيث يسقط بفعل البعض أيضا ، بل لا يبقى حينئذ للمحدود مصداق نظرا إلى أنّ الغرض المقصود في جميع موارد الكفائي كما أنّ من شأنه أن يحصل بفعل البعض فكذا من شأنه أن يحصل بفعل الكلّ ، بل قد يكون بحيث لا يحصل إلاّ بفعل الكلّ وهو كفائيّ في حدّ ذاته.

وإن اريد به ما لا تعرّض له للنفي بل كان ذلك الغير مسكوتا عنه نفيا وإثباتا ، بمعنى كونه كاشفا عن حال أحد الفردين وهو ما يسقط بقيام البعض مع السكوت عن حال الفرد الآخر وهو ما يسقط بقيام الكلّ ، كان الحدّ قاصرا عن تأدية تمام الماهيّة ، وأيضا إن اريد بالبعض ما يكون معيّنا كان منافيا لما هو المأخوذ في ماهيّة الكفاية من عدم اعتبار تعيين الفاعل ومخالفا لجميع أقوال المسألة ، وإن اريد به ما يكون مبهما كان الحدّ منتقضا في طرده بجميع الواجبات العينيّة التوصليّة ، ضرورة أنّ ما يقصد بها من الغرض يحصل بفعل أيّ بعض كان وإن لم يكن هو المكلّف كأداء الدين وغسل النجس الواجبين على الأعيان حيث يحصل الغرض بهما بفعل المكلّف نفسه وبفعل غيره كائنا ما كان كما لا يخفى.

ويرد على الأخيرين : بأنّ القيدين لو اريد بهما ما يرجع إلى الوجوب باعتبار تعلّقه بالفاعل بمعنى تعلّقه بكلّ واحد على سبيل البدليّة ، فهو باطل على جميع المذاهب في الواجب الكفائي لو فرض تعلّقه بالأعيان كذلك وموافق للقول بكون الوجوب على البعض المبهم لو فرض تعلّقه أصالة بما يصدق على الأعيان كذلك وليس شيء منه تحديدا للواجب الكفائي على التحقيق ، ولو اريد بهما ما يرجع إلى الواجب باعتبار كونه معتبرا في صحّة الفعل بحيث لو أدّاه الجميع على الاجتماع لم يقع صحيحا فهو متّضح الفساد أيضا ، لما نبّهنا عليه إجمالا ويأتي تفصيل القول فيه من وقوعه على الوجه الصحيح لو قام الجميع بأدائه ، فاعتبار البدليّة قيدا للصحّة في الحدّ موجب لخروجه مبائنا لعدم كونه معتبرا في ماهيّة المحدود.

والأولى في تحديده أن يقال : « بأنّه ما له طلب عامّ لغرض يتساوى نسبته إلى الجميع » ولو أردنا تحديد الوجوب على الكفاية قلنا : « ما يعمّ الكلّ في تعلّقه لغرض

٧٦

يتساوى نسبته إلى الجميع » فخرج الواجب العيني تعبّديا كان أو توصّليا ، لكونه منوطا بمصلحة تعود إلى المكلّف نفسه ولا تضاف إلى غيره ، وإن كانت قد تتأدّى بفعل الغير فتوجب سقوط التكليف عمّن هي عائدة إليه كما في التوصّلي.

وبذلك يتبيّن أنّ كلاّ من التوصّلي والتعبّدي إذا كان بمعناه الأعمّ (١) لا مطلقا ينقسم إلى العيني والكفائي ، فالعيني التعبّدي يفارق الكفائي التوصّلي من جهتين والكفائي التعبّدي من جهة واحدة ، والمراد بالكفائي التوصّلي ما كان توصّليا صرفا وإلاّ فالتعبّدي منه أيضا توصّلي ولكنّه مشوب من جهة عروض الجهة التعبديّة له كالتوصّلي من العيني إذا كان مشوبا بتلك الجهة ، كالطهارة عن الحدث بخلاف الطهارة عن الخبث فإنّها توصّلية صرفة غير أنّها عينيّة لعود المصلحة المطلوبة منه إلى المكلّف نفسه ، فالتوصّلي والكفائي يتشاركان في كون الإيجاب لأجل التوصّل إلى مصلحة غير القربة داعية إليه ويتفارقان في عود تلك المصلحة إلى المكلّف نفسه كتفريغ ذمّته وتطهير ثيابه كما في الأوّل ، أو إلى ما يتساوى نسبته إليه وإلى غيره من المكلّفين كاحترام الميّت وتطهير المسجد كما في الثاني ، ولأجل ذلك صار التكليف في الأوّل عينيّا وإن سقط بفعل البعض أيضا وفي الثاني كفائيّا لأنّ في التعيين حينئذ ترجيحا من غير مرجّح.

وقضيّة ذلك كون الوجوب فيه متعلّقا بكلّ واحد مع سقوطه بفعل البعض إذا كان على قدر الكفاية ، لبطلان القول بتعلّقه بالمجموع من حيث المجموع والقول بتعلّقه بالبعض المبهم.

وتفصيل القول فيه : أنّه لو قال من له عبيد : « يا عبيدي أكرموا زيدا » أو قال : « أمرتكم بإكرام زيد » أو قال : « أوجبت عليكم اكرام زيد » وما أشبه ذلك ممّا يؤدّي هذا المؤدّى فهو في بادئ النظر محتمل لوجوه :

أوّلها : كون المراد منه إيجاب الفعل على كلّ واحد على جهة التعيين بحيث لولا حصول أدائه منه بنفسه لما ارتفع الطلب عنه ولو حصل الأداء من غيره.

وثانيها : كون المراد فيه إيجاب الفعل على كلّ واحد على جهة التعيين بحيث كان حصول الأداء من البعض كافيا في ارتفاع الطلب عن بعض آخر وإن لم يحصل المباشرة منه بنفسه.

__________________

(١) والمراد بالتعبّدي بالمعنى الأعمّ ما كان حصول الامتثال به منوطا بقصد القربة سواء كان الغرض الأصلي من إيجابه حصول القربة كما في الصلاة والصيام أو حصوله في الخارج كالطهارات الثلاث. ( منه عفي عنه ).

٧٧

وثالثها : كون المراد منه إيجاب الفعل على كلّ واحد على جهة البدليّة الموجبة لوحدة الطلب وسقوطه بفعل البعض أيضا.

ورابعها : كون المقصود بالأصالة منه إيجاب الفعل على المجموع من حيث هو ، الموجب لوحدة الطلب أيضا ولكن من جهة وحدة المكلّف وحدة إعتباريّة نظرا إلى كون المجموع ممّا نزّله الآمر منزلة مكلّف واحد ، لا وحدة المكلّف به كما في الوجه السابق.

وخامسها : كون المقصود بالأصالة منه إيجاب الفعل على بعض منهم لا بعينه.

وسادسها : كون المقصود منه إيجاب مطلق على البعض الغير المعيّن ومشروط على الكلّ مع كون شرطه عدم حصول الفعل من البعض.

ولا يذهب عليك أنّ هذا الوجه أردء الوجوه بل مقطوع بفساده ، من حيث أدائه إلى الاستعمال في المعنيين ، كما أنّ الوجه الأوّل أحسنها بل هو الظاهر المنساق من اللفظ في نظر العرف والعادة عند تجرّده من القرائن الخارجيّة ، ولذا يذمّ عند العقلاء من العبيد من ترك الفعل مع قيام غيره بأدائه معتذرا باحتمال كون حصوله في الجملة كافيا في ارتفاع الطلب عنه ، أو باحتمال كون الإيجاب على كلّ واحد على البدل أو على المجموع من حيث هو أو على البعض أو كونه مشروطا بالنسبة إلى الكلّ مع مصادفته لعدم حصول الشرط ، كما أنّه يذمّ لو تركه معتذرا باحتمال كونه للندب.

ومن هنا تبيّن أنّ ذلك ظهور ينحلّ عند التحقيق إلى ظهورات متعدّدة ، ظهور المباشرة الظاهرة في لزوم حصولها لا مجرّد لزومها وإن لم تحصل عند قيام ما احتمل كونه مسقطا ، وظهور التعدّد في الطلب والمطلوب والمطلوب منه ، وظهور التعيين في آحاد المطلوب منه على حسبما يساعد عليه التخاطب ، وظهور كون ذلك الطلب مطلقا.

أمّا الظهور الأوّل فهو من مقتضيات النسبة الّتي اعتبرها الآمر بين طرفي الخطاب ، فإنّ الإسناد في كلّ فعل مسند إلى فاعل ـ ولو في حيّز الإخبار ـ ظاهر في المباشرة ظهورا عرفيّا حتّى يتبيّن خلافه ، ولذا صار الإسناد إلى غير من هو له عندهم مجازا عقليّا ، فما يرى في التوصليّات من سقوط لزوم المباشرة بحصول الفعل من غير المكلّف فهو على خلاف الأصل.

وقضيّة ذلك كون حمل الأمر كائنا ما كان على ثاني الوجوه المذكورة مستلزما لطرح ظهور واحد وهو غير سائغ إلاّ مع دليل معتبر صارف عن هذا الظهور.

وأمّا الظهور الثاني وهو تعدّد الطلب المستلزم لتعدّد طرفيه فهو من مقتضيات كونه

٧٨

أمرا نسبيّا ، فإنّ الأمر النسبي كما أنّه يتبع منتسبيه في تعقّله وتحصّله فكذلك يتبعهما في كمّه وكيفه ، فإن تعدّد المطلوب لزم منه تعدّد الطلب وإن اتّحد الإنشاء ، لأنّه منشأ ووحدة الإنشاء لا يستلزم وحدة المنشأ ، كما أنّه لو تعدّد المطلوب منه لزم منه تعدّد الطلب أيضا على الوجه المذكور.

والفرق بين التعدّدين أنّ الأوّل لا يستلزم تعدّد المطلوب منه بخلاف الثاني ، فإنّ المطلوب يتعدّد مع تعدّد المطلوب منه لا محالة غير أنّه تعدّد في نوع واحد ، ولو تعدّد الطرفان في حدّ ذاتهما لزم منه بالقياس إلى الطلب تعدّد في تعدّد كما لا يخفى على المتأمّل.

ومفروض المقام أنّ المطلوب منه متعدّد لمكان التعبير عنه في مقام البيان بصيغة الجمع ، وهي بحسب الوضع تشمل الآحاد المجتمعة ويقتضي الحكم لواحد واحد بعينه لأنّها من المعارف ، والمعرفة ما دلّ على شيء بعينه.

وقضيّة ذلك أنّه لو حمل الأمر على ثالث الوجوه أو رابعها أو خامسها لزم منه طرح ظهور التعدّد في الطلب ناشئا عن طرح ظاهر أداة الخطاب ، فإنّ صيغة الجمع من الضمائر إذا كانت للآحاد المجتمعة على سبيل التعيين فإطلاقه على كلّ واحد على البدل أو على المفهوم الاعتباري المتولّد عن فرض المجموع من حيث هو بمنزلة مكلّف واحد أو على البعض المبهم تجوّز فيحتاج إلى قرينة إن صحّ أصل التجوّز في جميع هذه الصور.

وأمّا الظهور الأخير فوجهه واضح بملاحظة ما سبق في بحث المقدّمة.

ومن جميع ما تقرّر يتبيّن أيضا : أنّ الأصل في الواجب كونه عينيّا وأنّ الكفائي لا يصار إليه إلاّ بدليل ، من غير فرق في ذلك بين ما يأتي فيه من المذاهب لأنّه دائر بين ما عدا الوجه الأوّل من الوجوه المتقدّمة.

وقد عرفت أنّ كلاّ من ذلك على خلاف ظاهر الأمر ، فلو ورد أمر في الشريعة مجرّدا عن القرينة فهو منصرف في نظر العرف إلى العيني ، الظاهر في لزوم حصول المباشرة من المكلّف ، كما نصّ عليه غير واحد منهم بعض الأفاضل وبعض الأعاظم على ما سبق منهما في بحث المخيّر من العبارة المصرّحة بذلك ، وقضيّة ذلك أن لا يعدل عنه إلاّ بدليل منفصل قاض بإرادة الكفائي من إجماع ونحوه ، وهذا إذا ثبت وجوب الشيء بالأوامر اللفظيّة واضح لا إشكال فيه.

نعم يشكل الحال لو ثبت وجوبه بالدليل اللبّي حيث لا لفظ في البين حتّى يؤخذ

٧٩

بظاهره ، فلا مناص من الوقف في مقام الاجتهاد إن لم يقم من الشرع ما يقضي بتعيّن أحد القسمين ، وحصل الإجمال في مفاد ما قام من اللبّ ، كما أنّه لا مناص حينئذ من الرجوع إلى الاصول الشرعيّة المقرّرة للشاكّ فإذن يختلف الحكم من حيث معاملة العيني أو الكفائي بحسب اختلاف الموارد والصور ، فإن سبق على المكلّف اطّلاع على الخطاب أو سببه ثمّ حصلت المباشرة من غيره وشكّ في بقاء التكليف في ذمّته وارتفاعه يحكم بالبقاء استصحابا للحالة السابقة ، نظرا إلى أنّ حصول المباشرة من البعض يوجب سقوط الطلب من غيره إذا كان كفائيّا دون ما إذا كان عينيّا ، وإن لم يسبقه اطّلاع إلى أن حصلت المباشرة من البعض فاطّلع بعده بالخطاب وتحقّق سببه يحكم بعدم الوجوب عليه لأصالة البراءة مضافة إلى استصحابها ، نظرا إلى عود شكّه حينئذ إلى كونه في التكليف وتعلّق الخطاب به في آن تعلّقه بغيره الّذي حصلت المباشرة منه فيكون الأصلان المذكوران جاريين بلا إشكال.

لا يقال : إنّ لزوم المباشرة النفسيّة من مقتضيات توجّه الطلب إلى المكلّف ولا مدخل لخصوصيّة الأمر اللفظي فيه ، لكون الطلب ثابتا مع الأمر اللبّي ثبوته مع الأمر اللفظي.

وقد اعترفت أنّ سقوطها يحتاج إلى دليل ، وقضيّة ذلك جريان الأصل المذكور فيما ثبت وجوبه باللبّ أيضا فلا وجه لما حكمت به من الوقف اجتهادا والرجوع إلى الاصول الشرعيّة عملا ، لأنّ لزوم المباشرة وإن كان من مقتضيات الطلب إلاّ أنّ ثبوته على المكلّف فرع بقاء الطلب فيمن سبق اطّلاعه وتعلّقه فيمن تجدّد له الاطّلاع.

ولا ريب أنّ كلاّ من البقاء والتعلّق لا بدّ له من وسط يقتضيه من ظهور لفظي ونحوه وهو منتف ، إذ لا لفظ ليكون ظاهره حجّة وما انتهض من اللبّ على أصل الطلب في الجملة ساكت عن حكم ما بعد حصول المباشرة من البعض بقاء عند سبق الاطّلاع وتعلّقا عند تجدّده فلا مناص من الوقف اجتهادا والأخذ بموجب الأصلين عملا.

نعم يمكن أن يقرّر الأصل الاجتهادي على وجه يعمّ كلاّ من النوعين بناء على ما قرّرناه من ملاك الفرق بين الكفائي والعيني من عدم اختصاص المصلحة الداعية إلى الإيجاب واختصاصها ، بمعنى أنّ مصلحة الواجب إن كانت بحيث لا ترجع إلى المكلّف نفسه على جهة الاختصاص سواء رجعت إليه باعتبار كونه من الجملة أولا فالواجب كفائيّ وإلاّ فعينيّ ، بأن يقال : إنّ الطلب كائنا ما كان ممّا يتضمّن النسبة وإضافة المطلوب إلى المطلوب منه ، والإضافة ممّا يقتضي الاختصاص ولزوم المباشرة النفسيّة مع عود

٨٠